(مقارنة بين إشكالية الحداثة عند الأديب و المفكر نبيل عودة و مفكرين آخرين)
(رد على من يعتقدون أن الإسلام يشكل عائقا للإنخراط في الحداثة )
( الأفغاني دعا إلى حوار الحداثة مع إبعاد الإسلام عن"الغربنة" )
حقيقة ما يزال موضوع الحداثة كما يقول الأديب نبيل عودة يشغل بال المثقفين والمفكرين في العالم العربي و قد أسالت هذه الإشكالية حبرا كثيرا في مقالات جادة وعقلانية طرحها باحثون و مفكرون في مختلف جوانبها الفلسفية والحضارية، لكن الملاحظة التي قدمها الأديب نبيل عودة هي أن الكثيرين من أصحاب الرأي والفكر حصروا نصوصهم في إطار العلاقة بين الحداثة والأدب و لم يربطوا الحداثة بالدين و السياسة مثلا ، حتى و لو كانت علاقة ما تربطهما و لا يمكن باي حال من الأحوال فسخها، سؤال وجيه طرحه الأديب نبيل عودة حول ما إذا أمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية و فكرية بدون مساواة و تعددية ثقافية؟ و هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات و رقابة و استقلال السلطات عن بعضها البعض؟ و هو بذلك ينطلق من الرأي القائم على فكر هيغل Hegel القائل بأن الغرب هو النموذج للعالم، و هذا الرأي يعكس فرضية ياسبرس الذي تحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أنه تبقى الحداثة الغربية هي الأكثر تطورا بفضل قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة عن طريق التقنية و تطور القوى الإنتاجية و قوى الإتصالات
يقول الأديب نبيل عودة في مقال مطول له تناول فيه إشكالية "الحداثة" و جاء تحت عنوان: " فكر الحداثة و تسخيره لثقافة ماضوية" نشر في صحيفة المثقف أن الحداثة بجوهرها عند أصحاب فكر الحداثة العرب الذين ولدوا وتثقفوا بإطارها، لم تبدأ كظاهرة أدبية، بل توسعت إلى حد أضحت تشكل عالمهم الفكري وقاعدة وعيهم الاجتماعي، إذ يرى أنه لا يوجد في الثقافة العربية اتفاق على تحديد مفهوم الحداثة، و أن ما جاء من تعريفات، فهي تعريفات لغوية تفتقد للمعرفة، و لم تأخذ بالإعتبار جوهر الحداثة و ما أحدثته من تغييرات عميقة في المجتمع البشري وفي التربية والتعليم، والرقي الحضاري بكل اتساعه الثقافي التقني والعلمي، حتى التفسيرات التي قدمها بعض المثقفين العرب لمفهوم الحداثة كانت سطحية أو شكلية إن صح التعبير، فقد أراد نبيل عودة أن يقول بأن المثقفين العرب وقعوا في كثير من الأخطاء عندما حاولوا أن يقرنوا مفاهيم فكرية فلسفية بعناصر من عالم الأدب، دون التطرق للجذور التاريخية للحداثة من اجل فهم القاعدة المادية والفكرية التي نشأت عليها، و لعل السبب الذي جعلهم لا يضعونه لها الإطار المعرفي الكامل، لأن هذا المفهوم و إن تمكن من فرض نفسه بقوة على مجتمع شبه قبلي، أو قبلي تماما، مجتمع ما تزال تسيطر عليه "الماضوية"، و لم يستطيعوا التخلص منها، فهي تعيق انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية جديدة، بعيدة عن مظاهر التطرف والعنف الدموي، ثم أن الأديب نبيل عودة لم يحدد مفهوم "الماضوية " في مختلف جوانبها التاريخية، العقائدية ، الفكرية و السياسية، هل الماضوية هي ترك كل ما هو قديم و التوقف عن اجترار الماضي، أي التخلي عن التراث، و أن لا تكون هناك استمرارية أو تعايش فكري أو أي اتصال روحي مع الآخر.
و لو وقفنا مع ما جاءت به بعض البحوث، نقول أن الحداثة هي تجربة تاريخية و منطلقا حضاريا، الدافع الرئيسي الذي يدفع المفكرين و المثقفين إلى إعادة النظر في التراث قصد بناء المجتمع العربي، لأن التراث هو ماضي الأمة العريق و هو ضارب في الأعماق، لدرجة أن مفهوم التراث اصبح من أكثر المصطلحات تداولا على ألسنة المشتغلين بالفكر العربي، و قد اعتمده الفكر العربي المعاصر بدءًا من تشكل المصطلح و المفهوم مع بداية النهضة العربية إلى الوقت الراهن إطارا مرجعيا في بلورة القضايا و الإجابة عن أوضاعه السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية، و هكذا كان موضوع التواصل المعرفي موضع صراع بين الدارسين في مختلف العصور، و من خلال هذا الصراع لاحظوا أن الجديد يقتل القديم، و لا يولد الجديد إلا من رحم القديم، و كل قديم في عصره جليل، فقد تحدثت بعض الكتابات عن الأصمعي و كيف كان ينتصر لبشار بن برد الذي كان آنذاك من المجددين على مروان بن أبي حفص، و هذا مثال له دلالة كبيرة على أن التراث هو سجل شامل ورثته الأجيال عن طريق المدونات الشفهية، و بالنظر إلى التكامل المتراص بات من الضروري دراسة هذا التكامل دراسة علمية بحتة حتى يتحقق ما يسمى بالتعايش بين القديم و الجديد، و من هذا المنطلق لا يمكن البحث عن الحداثة التراثية من خلال الحوار الثقافي مع الآخر و بين الأجيال.
لقد انشغل المهتمون بالدراسات اللسانية الحديثة بالتراث و الحداثة و معايير توظيفهما في الإبداع العربي، و هل يمكن البحث عن مشروع حداثي معاصر وفق مستلزمات الوضع العربي الراهن؟ و هل يمكن علاج الثقافة العربية إذن بطريقة حداثية؟، إذا قلنا أن الحداثة تقاس بين فكر سياسي و ظروف اجتماعية و معرفية تنتج في ظروف تاريخية أخرى، كظهور التكنولوجية و المعلوماتة ( مواقع التواصل الإجتماعي)، ثم أن الخطاب العربي المعاصر كما يقول المختصون انقسم إلى ثلاثة تيارات فكرية في تحدثد إشكالية الحداثة و هي : ( التيار الديني، الإصلاحي، الليبرالي و الإشتراكي) على اعتبار أن لكل تيار خطابا و مشروعا اجتماعيا في عملية التحديث، و هو ما اشار إليه باحث جزائري و هو الدكتور مشري بن خليفة من جامعة ورقلة الجزائر، الذي طرح إشكالة أخرى تتعلق بالإسلام و الحداثة، للرد على بعض خصون الإسلام الذين يعتقدون أن الإسلام يشكل عائقا للإنخراط في الحداثة، ودعا إلى إمكانية التنظير لحداثة تتأسس من رؤية الإسلام ليخرجها من الرؤية الإيديولوجية إلى فضاء السؤال و المعرفة المنهجية التي تجيب علميا عن هذا السؤال؟.
المسؤولية هنا تقع على دور المجامع العربية في تحقيق هذا المشروع كالمجمع العراقي، فقد وجه هذا المجمع اجتهاداته لصيانة التراث العربي، و نظر إلى اللغة العربية كباعث للهوية من زاوية القدسية، فضلا عن الدور الذي لعبه المجمع العربي بدمشق و القاهرة، و في الحديث عن هذه المجامع فقد لعبت المخيلة الفنيّة الجزائرية الحديثة كعينة دورا جليا، جعلتها في منأى عن الأزمات المفتعلة بين القديم و الجديد التي اندلعت في الأدب العربي الحديث، هذه المخيلة كما يقول اهل الإختصاص كانت تنمو و تتطور داخل فضاء فنّي شمولي بين القديم و الحديث، و لإرتباطهما بالهوية في الذاكرة الجماعية، تحقق هذا التعايش بين الأنماط الإبداعية بنسبة عالية في الساحة الأدبية الوطنية، لقد كان للتراث أثر كبير في النص الشعري الجزائري الحديث، كون الشعر كما يقول أحد الباحثين في الأدب العربي من أكثر المحاولات الإبداعية انتماءً للماضي، و هذا يعني أن منطلقات النص الشعري الجزائري كانت إصلاحية محافظة، فعادة ما يعود الشعراء المعاصرين إلى التراث العربي و ينتقون منه رموزه، فيدخلونها في صميم أعمالهم الشعرية، و نفس الشيئ بالنسبة للرواية الجزائرية الحديثة كرواية نوار اللوز لواسيني الأعرج، فهي تشير إلى حضور التراث العربي الإسلامي، كذلك رواية "ألف عام من الحنين" لرشيد بوجدرة و هكذا..، اين يتداخل النص الخرافي و الأسطوري بالنصوص التراثية الأخرى، و كما يقول المختصون فنظرة كل كاتب للتراث و طريقة توظيفه، فالأديب سواء كان كاتبا أو شاعرا أو روائيا أو قاصا أو حتى ناقدا ينظر إلى التراث نظرة شمولية في إطار الصراع بين سلطة المركز و ثورة الهامش
لهذه الأسباب تأخر العالم العربي علميا و تقنيا
و بالعودة إلى بداية ظهور الحداثة، يقول الأديب نبيل عودة أن جذورها التاريخية تقود إلى عصر التنوير الأوروبي ..، زمن يفصل عن مفاهيم التنوير و الحداثة، و هو بذلك ينتقد العالم العربي الذي وصفه بالمتأخر، لأنه ما زال يعيش في جهله، بدليل أنه فشل في إصلاح منظومته التربوية و لم يضبط برنامج تعليمي صحيح و دائم، مجتمع مازال يعتمد على الآخر ( الأجنبي) في إنشاء مشاريعه، و لم يعمد إلى تكوين تكنوقراطيين و باحثين و علماء في مختلف العلوم و الأبحاث مقدما في ذلك السعودية كنموذج، و لا نظن أن أحدا يختلف معه حين قال أن مجتمعاتنا العربية تفتقد لأول شروط الحداثة ، من هذه الشروط التنوير و الديمقراطية، التعددية الثقافية و الدينية و السياسية، و قال أن جزء من الحداثة يتعلق بموضوع المصارحة و المكاشفة، و تقبل الحداثة في نظره هو أن نكون صريحين مع الآخر، و متقبلين للآخر المختلف، كما لا يختلف أحد مع الأديب نبيل عودة في القول أن الخطأ في مفهوم الحداثة في العالم العربي جرى حصره بإطار الأدب فقط، لأنه تيار فني و ليس تيار فكري و فلسفي و لذا ظلت الحداثة بمفهومها الإجتماعي و السياسي مستبعدة و غير قادرة على اختراق المجتمعات العربية، بسبب وقوف المحافظين ( المتعنتين كما قال هو) في وجه الحداثيين و محاربتهم للحداثة و للتغيرات الإجتماعية و الثقافية و يدعون إلى التمسك بالأصالة و التراث و التقاليد، قد يفهم البعض أن الأديب نبيل عودة يطلق قنابله على التيار الإسلاموي المتشدد الذي يقف ضد الحداثة و ليس المعتدل، ليوضح أن لكل عصر ميزاته الإجتماعية و الحضارية، و الحضارة لا تتوقف في مكان ما مكتفية بما انجزته، و التوقف يعني التخلف عن الحضارات الأخرى، لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو كالتالي: هل يمكن أن نربط الحضارة بالحداثة؟، و إذا حافظنا على الحضارات القديمة يعني اننا نحافظ على تراثنا، و لكل أمّة حضارتها.
أما أن نقول أن من مميزات الحداثة هو قدرتها على نقد ذاتها بعد كل مرحلة و تصويب الخطأ و مواصلة الإنطلاقة، و أن مشكلة العرب هي رفضهم لمصادر الحداثة، أي حركة التنوير الأوروبية التي استفادت في وقته من الفكر العربي و قادت المجتمعات الأوروبية إلى نقلة نوعية في كل مجالات الحياة و التقدم بهذا ما لا يتفق معه البعض، لأن التصور الأوروبي للحداثة أصبح ينتقد الحداثة نفسها ( أي ينتقد نفسه و مشاريعه)، و يطرح إشكالية ما بعد الحداثة، الأمر طبعا مرتبط بالقناعات، و لكل مجتمع قناعاته، خاصة المجتمعات الدينية ( الأصوليون) التي ترفض التسييس الجوهري لجميع ظروف الحياة في عمليات التحديث و ذلك حفاظا على هويتها، و لا يعني ذلك أن هذه الجماعات هي جماعات مغلقة بل تريد العيش في سلام على الطريقة التي تريدها هي، و لا تفرض مفاهيم مطلقة على من يحيطون بها ، و هذا ما يسعى إليه التيار السلفي المعتدل، الغربيون يضربون المثل بعائلة يودر الآميشية Amisch Yoder Family، التي تحدث عنها مارتين مارتي Martin Martyإذ يرىد أفرادها فرض مفاهيم مطلقة للخير و الشر على الرأي العام و قد يستخدمون العنف لتحقيق هذا الغرض ( أنظر كتاب صراع الأصوليات لهاينريش فيلهلم شيفر)، و هذا ينطبق حسب الدراسة على الحركة الخمسينية في فترة الحداثة التي شهتها أمريكا اللاتينية و الصراع الذي دار بين الحركات الدينية، اتبع بعضها استراتيجيات سلطة سياسية و اقتصادية عدوانية.
تشير نفس الدراسة أن الحداثة جاءت إلى الثقافات الإسلامية في صورة الإستعمار الفرنسي و البريطاني و قد كانت ساعة ميلادها في الشرق الأوسط في عام 1798 في المعركة التي دارت رحاها أمام الأهرامات و ارتبط اسمها بنابليون، ثم اتسعت و تطورت بتأثير بريطاني، ثم معركة التل الكبير عام 1882 ، و في الهند أطلق سيد أحمد خان حركة عليكرة Aligargh من اجل النهوض بالقوة الإسلامية عن طريق الثقافة الغربية، و لتحقيق هدفه ابتعد عن الأمّة من منظورها التراثيي، و دعا إلى التنوير الأوروبي و فصل الدين عن السياسة، و لكن حركته واجهت ردا عنيفا من البريطانيين فكانت نهايتها الفشل، في المقابل نقرأ عن الأفغاني الذي دعا إلى حوار الحداثة مع إبعاد الإسلام عن"الغربنة" أي دون أن يصبح الإسلام غربيا، عكس "الوهابية" التي نظرت إلى الحداثة بمنظار تكفيري عدائي، و في سعيها للحفاظ على النظام الثيوقراطي أي الحكم الديني ، تلجأ عادة إلى التراث الديني و تحاول فرضه على المسلمين حتى لو كان لام يعد يتماشى مع التطورات الحديثة.
سؤال وجيه طرحه الأديب نبيل عودة حول ما إذا أمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية و فكرية بدون مساواة و تعددية ثقافية؟ و هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات و رقابة و استقلال السلطات عن بعضها البعض؟ ، كانت الإجابة التي قدمها الأديب نبيل عودة بالنفي ( السلب) عندما أشار بأن أهل الشرق أي العرب و المسلمون مازالوا متخلفين بـ: 200 أو 300 سنة على الأقل عن عصر التنوير و على حد قوله هو فكل صراع أهل الشرق حول التراث و الحضارة لا يخرج عن حدود التمويه للحقيقة و خداع للنفس و هو بذلك ينطلق مع الرأي القائم على فكر هيغل Hegel القائل بأن الغرب هو النموذج للعالم، و هذا الرأي يعكس فرضية ياسبرس الذي تحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أنه تبقى الحداثة الغربية هي الأكثر تطورا بفضل قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة عن طريق التقنية و تطور القوى الإنتاجية و قوى الإتصالات.
علجية عيش
(رد على من يعتقدون أن الإسلام يشكل عائقا للإنخراط في الحداثة )
( الأفغاني دعا إلى حوار الحداثة مع إبعاد الإسلام عن"الغربنة" )
حقيقة ما يزال موضوع الحداثة كما يقول الأديب نبيل عودة يشغل بال المثقفين والمفكرين في العالم العربي و قد أسالت هذه الإشكالية حبرا كثيرا في مقالات جادة وعقلانية طرحها باحثون و مفكرون في مختلف جوانبها الفلسفية والحضارية، لكن الملاحظة التي قدمها الأديب نبيل عودة هي أن الكثيرين من أصحاب الرأي والفكر حصروا نصوصهم في إطار العلاقة بين الحداثة والأدب و لم يربطوا الحداثة بالدين و السياسة مثلا ، حتى و لو كانت علاقة ما تربطهما و لا يمكن باي حال من الأحوال فسخها، سؤال وجيه طرحه الأديب نبيل عودة حول ما إذا أمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية و فكرية بدون مساواة و تعددية ثقافية؟ و هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات و رقابة و استقلال السلطات عن بعضها البعض؟ و هو بذلك ينطلق من الرأي القائم على فكر هيغل Hegel القائل بأن الغرب هو النموذج للعالم، و هذا الرأي يعكس فرضية ياسبرس الذي تحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أنه تبقى الحداثة الغربية هي الأكثر تطورا بفضل قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة عن طريق التقنية و تطور القوى الإنتاجية و قوى الإتصالات
يقول الأديب نبيل عودة في مقال مطول له تناول فيه إشكالية "الحداثة" و جاء تحت عنوان: " فكر الحداثة و تسخيره لثقافة ماضوية" نشر في صحيفة المثقف أن الحداثة بجوهرها عند أصحاب فكر الحداثة العرب الذين ولدوا وتثقفوا بإطارها، لم تبدأ كظاهرة أدبية، بل توسعت إلى حد أضحت تشكل عالمهم الفكري وقاعدة وعيهم الاجتماعي، إذ يرى أنه لا يوجد في الثقافة العربية اتفاق على تحديد مفهوم الحداثة، و أن ما جاء من تعريفات، فهي تعريفات لغوية تفتقد للمعرفة، و لم تأخذ بالإعتبار جوهر الحداثة و ما أحدثته من تغييرات عميقة في المجتمع البشري وفي التربية والتعليم، والرقي الحضاري بكل اتساعه الثقافي التقني والعلمي، حتى التفسيرات التي قدمها بعض المثقفين العرب لمفهوم الحداثة كانت سطحية أو شكلية إن صح التعبير، فقد أراد نبيل عودة أن يقول بأن المثقفين العرب وقعوا في كثير من الأخطاء عندما حاولوا أن يقرنوا مفاهيم فكرية فلسفية بعناصر من عالم الأدب، دون التطرق للجذور التاريخية للحداثة من اجل فهم القاعدة المادية والفكرية التي نشأت عليها، و لعل السبب الذي جعلهم لا يضعونه لها الإطار المعرفي الكامل، لأن هذا المفهوم و إن تمكن من فرض نفسه بقوة على مجتمع شبه قبلي، أو قبلي تماما، مجتمع ما تزال تسيطر عليه "الماضوية"، و لم يستطيعوا التخلص منها، فهي تعيق انطلاقة المجتمعات العربية نحو آفاق حضارية جديدة، بعيدة عن مظاهر التطرف والعنف الدموي، ثم أن الأديب نبيل عودة لم يحدد مفهوم "الماضوية " في مختلف جوانبها التاريخية، العقائدية ، الفكرية و السياسية، هل الماضوية هي ترك كل ما هو قديم و التوقف عن اجترار الماضي، أي التخلي عن التراث، و أن لا تكون هناك استمرارية أو تعايش فكري أو أي اتصال روحي مع الآخر.
و لو وقفنا مع ما جاءت به بعض البحوث، نقول أن الحداثة هي تجربة تاريخية و منطلقا حضاريا، الدافع الرئيسي الذي يدفع المفكرين و المثقفين إلى إعادة النظر في التراث قصد بناء المجتمع العربي، لأن التراث هو ماضي الأمة العريق و هو ضارب في الأعماق، لدرجة أن مفهوم التراث اصبح من أكثر المصطلحات تداولا على ألسنة المشتغلين بالفكر العربي، و قد اعتمده الفكر العربي المعاصر بدءًا من تشكل المصطلح و المفهوم مع بداية النهضة العربية إلى الوقت الراهن إطارا مرجعيا في بلورة القضايا و الإجابة عن أوضاعه السياسية، الإقتصادية، الإجتماعية والثقافية، و هكذا كان موضوع التواصل المعرفي موضع صراع بين الدارسين في مختلف العصور، و من خلال هذا الصراع لاحظوا أن الجديد يقتل القديم، و لا يولد الجديد إلا من رحم القديم، و كل قديم في عصره جليل، فقد تحدثت بعض الكتابات عن الأصمعي و كيف كان ينتصر لبشار بن برد الذي كان آنذاك من المجددين على مروان بن أبي حفص، و هذا مثال له دلالة كبيرة على أن التراث هو سجل شامل ورثته الأجيال عن طريق المدونات الشفهية، و بالنظر إلى التكامل المتراص بات من الضروري دراسة هذا التكامل دراسة علمية بحتة حتى يتحقق ما يسمى بالتعايش بين القديم و الجديد، و من هذا المنطلق لا يمكن البحث عن الحداثة التراثية من خلال الحوار الثقافي مع الآخر و بين الأجيال.
لقد انشغل المهتمون بالدراسات اللسانية الحديثة بالتراث و الحداثة و معايير توظيفهما في الإبداع العربي، و هل يمكن البحث عن مشروع حداثي معاصر وفق مستلزمات الوضع العربي الراهن؟ و هل يمكن علاج الثقافة العربية إذن بطريقة حداثية؟، إذا قلنا أن الحداثة تقاس بين فكر سياسي و ظروف اجتماعية و معرفية تنتج في ظروف تاريخية أخرى، كظهور التكنولوجية و المعلوماتة ( مواقع التواصل الإجتماعي)، ثم أن الخطاب العربي المعاصر كما يقول المختصون انقسم إلى ثلاثة تيارات فكرية في تحدثد إشكالية الحداثة و هي : ( التيار الديني، الإصلاحي، الليبرالي و الإشتراكي) على اعتبار أن لكل تيار خطابا و مشروعا اجتماعيا في عملية التحديث، و هو ما اشار إليه باحث جزائري و هو الدكتور مشري بن خليفة من جامعة ورقلة الجزائر، الذي طرح إشكالة أخرى تتعلق بالإسلام و الحداثة، للرد على بعض خصون الإسلام الذين يعتقدون أن الإسلام يشكل عائقا للإنخراط في الحداثة، ودعا إلى إمكانية التنظير لحداثة تتأسس من رؤية الإسلام ليخرجها من الرؤية الإيديولوجية إلى فضاء السؤال و المعرفة المنهجية التي تجيب علميا عن هذا السؤال؟.
المسؤولية هنا تقع على دور المجامع العربية في تحقيق هذا المشروع كالمجمع العراقي، فقد وجه هذا المجمع اجتهاداته لصيانة التراث العربي، و نظر إلى اللغة العربية كباعث للهوية من زاوية القدسية، فضلا عن الدور الذي لعبه المجمع العربي بدمشق و القاهرة، و في الحديث عن هذه المجامع فقد لعبت المخيلة الفنيّة الجزائرية الحديثة كعينة دورا جليا، جعلتها في منأى عن الأزمات المفتعلة بين القديم و الجديد التي اندلعت في الأدب العربي الحديث، هذه المخيلة كما يقول اهل الإختصاص كانت تنمو و تتطور داخل فضاء فنّي شمولي بين القديم و الحديث، و لإرتباطهما بالهوية في الذاكرة الجماعية، تحقق هذا التعايش بين الأنماط الإبداعية بنسبة عالية في الساحة الأدبية الوطنية، لقد كان للتراث أثر كبير في النص الشعري الجزائري الحديث، كون الشعر كما يقول أحد الباحثين في الأدب العربي من أكثر المحاولات الإبداعية انتماءً للماضي، و هذا يعني أن منطلقات النص الشعري الجزائري كانت إصلاحية محافظة، فعادة ما يعود الشعراء المعاصرين إلى التراث العربي و ينتقون منه رموزه، فيدخلونها في صميم أعمالهم الشعرية، و نفس الشيئ بالنسبة للرواية الجزائرية الحديثة كرواية نوار اللوز لواسيني الأعرج، فهي تشير إلى حضور التراث العربي الإسلامي، كذلك رواية "ألف عام من الحنين" لرشيد بوجدرة و هكذا..، اين يتداخل النص الخرافي و الأسطوري بالنصوص التراثية الأخرى، و كما يقول المختصون فنظرة كل كاتب للتراث و طريقة توظيفه، فالأديب سواء كان كاتبا أو شاعرا أو روائيا أو قاصا أو حتى ناقدا ينظر إلى التراث نظرة شمولية في إطار الصراع بين سلطة المركز و ثورة الهامش
لهذه الأسباب تأخر العالم العربي علميا و تقنيا
و بالعودة إلى بداية ظهور الحداثة، يقول الأديب نبيل عودة أن جذورها التاريخية تقود إلى عصر التنوير الأوروبي ..، زمن يفصل عن مفاهيم التنوير و الحداثة، و هو بذلك ينتقد العالم العربي الذي وصفه بالمتأخر، لأنه ما زال يعيش في جهله، بدليل أنه فشل في إصلاح منظومته التربوية و لم يضبط برنامج تعليمي صحيح و دائم، مجتمع مازال يعتمد على الآخر ( الأجنبي) في إنشاء مشاريعه، و لم يعمد إلى تكوين تكنوقراطيين و باحثين و علماء في مختلف العلوم و الأبحاث مقدما في ذلك السعودية كنموذج، و لا نظن أن أحدا يختلف معه حين قال أن مجتمعاتنا العربية تفتقد لأول شروط الحداثة ، من هذه الشروط التنوير و الديمقراطية، التعددية الثقافية و الدينية و السياسية، و قال أن جزء من الحداثة يتعلق بموضوع المصارحة و المكاشفة، و تقبل الحداثة في نظره هو أن نكون صريحين مع الآخر، و متقبلين للآخر المختلف، كما لا يختلف أحد مع الأديب نبيل عودة في القول أن الخطأ في مفهوم الحداثة في العالم العربي جرى حصره بإطار الأدب فقط، لأنه تيار فني و ليس تيار فكري و فلسفي و لذا ظلت الحداثة بمفهومها الإجتماعي و السياسي مستبعدة و غير قادرة على اختراق المجتمعات العربية، بسبب وقوف المحافظين ( المتعنتين كما قال هو) في وجه الحداثيين و محاربتهم للحداثة و للتغيرات الإجتماعية و الثقافية و يدعون إلى التمسك بالأصالة و التراث و التقاليد، قد يفهم البعض أن الأديب نبيل عودة يطلق قنابله على التيار الإسلاموي المتشدد الذي يقف ضد الحداثة و ليس المعتدل، ليوضح أن لكل عصر ميزاته الإجتماعية و الحضارية، و الحضارة لا تتوقف في مكان ما مكتفية بما انجزته، و التوقف يعني التخلف عن الحضارات الأخرى، لكن السؤال الذي يمكن أن يطرح هنا هو كالتالي: هل يمكن أن نربط الحضارة بالحداثة؟، و إذا حافظنا على الحضارات القديمة يعني اننا نحافظ على تراثنا، و لكل أمّة حضارتها.
أما أن نقول أن من مميزات الحداثة هو قدرتها على نقد ذاتها بعد كل مرحلة و تصويب الخطأ و مواصلة الإنطلاقة، و أن مشكلة العرب هي رفضهم لمصادر الحداثة، أي حركة التنوير الأوروبية التي استفادت في وقته من الفكر العربي و قادت المجتمعات الأوروبية إلى نقلة نوعية في كل مجالات الحياة و التقدم بهذا ما لا يتفق معه البعض، لأن التصور الأوروبي للحداثة أصبح ينتقد الحداثة نفسها ( أي ينتقد نفسه و مشاريعه)، و يطرح إشكالية ما بعد الحداثة، الأمر طبعا مرتبط بالقناعات، و لكل مجتمع قناعاته، خاصة المجتمعات الدينية ( الأصوليون) التي ترفض التسييس الجوهري لجميع ظروف الحياة في عمليات التحديث و ذلك حفاظا على هويتها، و لا يعني ذلك أن هذه الجماعات هي جماعات مغلقة بل تريد العيش في سلام على الطريقة التي تريدها هي، و لا تفرض مفاهيم مطلقة على من يحيطون بها ، و هذا ما يسعى إليه التيار السلفي المعتدل، الغربيون يضربون المثل بعائلة يودر الآميشية Amisch Yoder Family، التي تحدث عنها مارتين مارتي Martin Martyإذ يرىد أفرادها فرض مفاهيم مطلقة للخير و الشر على الرأي العام و قد يستخدمون العنف لتحقيق هذا الغرض ( أنظر كتاب صراع الأصوليات لهاينريش فيلهلم شيفر)، و هذا ينطبق حسب الدراسة على الحركة الخمسينية في فترة الحداثة التي شهتها أمريكا اللاتينية و الصراع الذي دار بين الحركات الدينية، اتبع بعضها استراتيجيات سلطة سياسية و اقتصادية عدوانية.
تشير نفس الدراسة أن الحداثة جاءت إلى الثقافات الإسلامية في صورة الإستعمار الفرنسي و البريطاني و قد كانت ساعة ميلادها في الشرق الأوسط في عام 1798 في المعركة التي دارت رحاها أمام الأهرامات و ارتبط اسمها بنابليون، ثم اتسعت و تطورت بتأثير بريطاني، ثم معركة التل الكبير عام 1882 ، و في الهند أطلق سيد أحمد خان حركة عليكرة Aligargh من اجل النهوض بالقوة الإسلامية عن طريق الثقافة الغربية، و لتحقيق هدفه ابتعد عن الأمّة من منظورها التراثيي، و دعا إلى التنوير الأوروبي و فصل الدين عن السياسة، و لكن حركته واجهت ردا عنيفا من البريطانيين فكانت نهايتها الفشل، في المقابل نقرأ عن الأفغاني الذي دعا إلى حوار الحداثة مع إبعاد الإسلام عن"الغربنة" أي دون أن يصبح الإسلام غربيا، عكس "الوهابية" التي نظرت إلى الحداثة بمنظار تكفيري عدائي، و في سعيها للحفاظ على النظام الثيوقراطي أي الحكم الديني ، تلجأ عادة إلى التراث الديني و تحاول فرضه على المسلمين حتى لو كان لام يعد يتماشى مع التطورات الحديثة.
سؤال وجيه طرحه الأديب نبيل عودة حول ما إذا أمكن تحقيق الحداثة بدون حرية اجتماعية و فكرية بدون مساواة و تعددية ثقافية؟ و هل يمكن تحقيق الحداثة بدون دولة مؤسسات و رقابة و استقلال السلطات عن بعضها البعض؟ ، كانت الإجابة التي قدمها الأديب نبيل عودة بالنفي ( السلب) عندما أشار بأن أهل الشرق أي العرب و المسلمون مازالوا متخلفين بـ: 200 أو 300 سنة على الأقل عن عصر التنوير و على حد قوله هو فكل صراع أهل الشرق حول التراث و الحضارة لا يخرج عن حدود التمويه للحقيقة و خداع للنفس و هو بذلك ينطلق مع الرأي القائم على فكر هيغل Hegel القائل بأن الغرب هو النموذج للعالم، و هذا الرأي يعكس فرضية ياسبرس الذي تحدث عن وجود حداثات متعددة، إلا أنه تبقى الحداثة الغربية هي الأكثر تطورا بفضل قدرتها الفائقة على السيطرة على الطبيعة عن طريق التقنية و تطور القوى الإنتاجية و قوى الإتصالات.
علجية عيش