علجية عيش - قراءة و ملاحظات في كتاب "الفنّ في حوار الأديان الأزليّ"

(أو عندما تتجاوز المخيلة البشرية حدود المنطق أو المعقول)
صدر مؤخرا للكاتب و الإعلامي العراقي عبد الرحمن جعفر الكناني


هل يمكن أن نؤسس حوار أديان بواسطة الصورة و الرسم؟ في ظلّ الخلافات المحتدمة بين أتباع الديانات السماوية، و بالتالي لن نكون في حاجة إلى موائد مستديرة أو مؤتمرات أومناظرات؟ هذا إذا كان هناك فعلا حوار أديان، أو حوار حضارات أو حوار ثقافات؟، لأنه لا يعقل أن تحاور جماعة لا تقر بعقيدتك، فكيف لك أن تحاورها عن طريق الصورة ، خاصة و قد حكم على حوار الأديان بالفشل و وصفه البعض بمضيعة للوقت، أما تجسيد الإله و الأنبياء في صور من طرف فنانين تشكيليين أو رسامين لا نعرف عقيدتهم و لا مذهبهم فهذا يدعوا علماء الدين و المفتين إلى إعادة النظر في هذه الرسومات، بعدما تحولت عند البعض إلى طقوس تمارس بمناسبة و بدون مناسبة، ثم أليست صورة صلب اليسوع عند المسيحيين أو صورة مقتل الحسين بن علي عند الشيعة تدعو إلى الصراع المستمر، حتى لا نقول إلى الإنتقام، أي إلى العنف؟ فما فائدة حوار الأديان إذن؟


هو كتاب صدر مؤخرا للكاتب و الإعلامي عبد الرحمن جعفر الكناني عراقي مقيم بالجزائر، يشرح كيف تجتمع الرّوح بالمادّة عن طريق الصّورة حاول من خلالها الفنان أن يجسد الألهة و الأنبياء و حتى الصحابة في صورة و يعطيها بعدا روحيا قدسيا و يستمد منها مضامينها الرمزية و هي عادة الفنانين التجريديين لكي يعيش الإنسان الحاي عصرا غير عصره و يبعد عنه بأزمنة طويلة، فالفنان التجريدي خصّ في أعماله الفنية الأسماء التي تحمل صفة القداسة كالأنبياء و الرسل و حتى الألهة كما نراه عند المسيحيين، و قد أورد المؤلف صورا مختلفة و متنوعة تمثلت في رسوم هندسية بأشكال متداخلة و صور أخرى لأشخاص حاول من خلالها أن يقدم تعريفا للفن في عقائد الأديان و كيف ارتقت الرؤية البصرية للفنان إلى تجسيد المضمون المقدس في شكل فنّي رمزي كما يقول هو، الملاحظ أن الكاتب جعفر الكناني حصر هذا النوع من الفنون في جانب الصورة فقط التي تعتمد على الرؤية بالعين المجردة فقط، و لم يتطرق إلى فن "النحت" و ما ابدعته أنامل النحاتين المبدعين من تماثيل ، لاسيما و أن فن النحت يجمع بين الصورة كرمز و بين المادة المنحوتة التي يمكن لمسها باليد.
فتجسيد الأسماء كما جاء في الكتاب تمثل في رموز و أيقونات و منمنمات، و لعل أول الأعمال بدأت برسم صورة آدم و حواء و كيف اكتشفت عوراتهما و هم يأكلان من الشجرة، و قد لعبت المخيلة البشرية دورا هاما في رسم الأيقونة ، و هي تعريب لكلمة يونانية و هي تعني الصورة بأشكال مختلفة و بألأوان مغرية تستقطب المتأمل فيها و تؤثر فيه بل تجعله أسيرا لها خاصة بالنسبة للجماعات الدينية، السؤال الذي يمكن طرحه هنا هو: هل عاش الفنان تلك الفترة و وقف على شكل الأنبياء و تقاسيم وجوههم مثلا، أو بنيتهم الجسدية و ماذا كانوا يلبسون؟ حتى لو كان هذا الفنان من خيرة القوم و من الزعماء الدينيين، و السؤال يطرح نفسه بنفسه ، من أجاز له نقل صورا من مخيلته تعبر عن اسماء لها صفة القداسة، و الأيقونة عادة ما تقترنُ بموقفٍ دينيٍّ، و لهذا استلهمت الطوائف الدينية من فن التصوير بمختلف أبعاده صورا تعبر عن أشياء مقدسة ، بحيث لا يمكن الجدل فيها، قد تدعو لعبادتها كما نراه عند المسيحيين و جعلهم عيسى إلها يُعْبَدُ لأنه ابن الله، أو للتبجيل كما نراه عند المسلمين من "الشيعة" الذين رسموا صورة الإمام المقبل، و صورة مقتل علي و ابنه الحسين، و كأنهم عاشوا تلك الحقبة و عايشوا أهلها، الهدف طبعا هو إبراز المراحل التاريخية لحياة بعض القديسين.
أمّا "المنمنمة" كونها تصور إسلامي، فهي صورة مزخرفة في مخطوط كما يقول صاحب الكتاب و هي حسبه تختلف عن الأيقونة من الناحية الوظيفية، لكنهما يتقاطعان في مسألة التوحيد الإبراهيمي الذي تنتسب إليه الديانات الثلاث، ما يمكن الإشارة إليه هنا ، هو أن المختصون أعطوا للمنمنمات أسماء عديدة تختلف من مكان لأخر، فالبابليون أطلقوا عليها اسم "كتاب الروح"، و فنانو أثينا سموا الأيقونة بـ: "الكتابة المقدسة"، و إذا وقفنا مع تعريف الأستاذ عبد الرحمن جعفر الكناني نرى أن الأيقونة كفنٌّ لاهوتيٌّ، يؤدي الفنان طقوس الصلاة وهو يرسمها تؤدي وظائف العبادة ، و هنا نتساءل: هل كل فنان هو مؤمن متعبد حتى لو كان النظر إليها يرتقي بظَنٍّ، أي مجرد الظن بالإرتقاء من دنس الحياة الأرضية إلى قدسية الروح في السماء العلا، و الظن في مفهومه يعني شيئ ما قد يكون وقد لا يكون.
إن قراءة لهذين المفهومين ( الأيقونة و المنمنمة) تجعلنا نقف على الفرق بينهما، الأولى لها طابع القداسة كما نراه في صورة سيدنا عيسى عليه السلام و مريم العذراء، أو صور الإمام المنتظر عند الشيعة، و الثانية لها وظائف دنيوية، و قد قدم صاحب الكتاب عينة بصورة الفنان جيلالي قرين و هو يرسم هلال العيد في طقس يغمره الفرح بقدوم العيد، الملاحظة الثانية التي يمكن أن تتحول إلى سؤال هي أن الأستاذ جعفر الكناني لم يوضح على أي مدرسة اعتمد هذا الفنان منمنمته؟ فهل توجد مدرسة جزائرية في فن المنمنمات نستطيع أن نميزها عن باقي المدارس الأخر ، كالمدرسة البغدادية، التركية، الهندية، الصفوية ( الإيرانية) التي اشتهرت بفنها الإسلامي من خلال التصاميم الزخرفية و الهندسية و و الفنية التطبيقية، و الملاحظ أيضا أن الأديان تعرف برموزها، و قد تحدث جعفر الكناني عن هذه الرموز ( الهلال عند المسلمين، الصليب عند المسيحيين و النجمة السداسية عند اليهود و كذلك الشمعدان)، علما أن النجمة السداسية تعني درع داود و تكتب بالعبرية " ماجين داويد" .
نجمة داوود هل هي يهودية أم إسلامية؟
حسب الكناني فإن النجمة مقدسة عند اليهود و تعتبر من أهم رموز الدين اليهودي، و لو أن هناك دراسات تؤكد أن نجمة داوود إسلامية ، فقد أثبتت الاكتشافات الأثرية فى سيناء أن النجمة السداسية التى اتخذها اليهود شعارًا لهم وأطلقوا عليها نجمة داوود لا علاقة لها باليهود، و أنه لا أثر للنجمة السداسية فى أسفار العهد القديم، و أن النجمة وجدت على طبق من الخزف له بريق معدنى ينتمى إلى العصر الفاطمى لكن اليهود اتخذوها شعارا لهم، و لم تصبح رمزاً لهم بشكل ملموس إلا فى القرن التاسع عشر، المهم أن كل هذه الأشياء هي تعبير جمالي يسعى من خلالها الفنان إلى تقريب الإنسان من دينه في إطار ما يسمى بفلسفة الجمال أو علم الجمال، بحيث يصب الفنان على لوحاته صبغة دينية، ما يلفت للإنتباه أيضا هو أن صاحب الكتاب أراد أن يحذر عامة الناس من بعض السلوكات أو الممارسات، عندما تحدث عن استغلال المشعوذين لهذه الرموز في ممارستهم السحر و الشعوذة لإيهام السذج بأن هناك روحا شريرة سكنتهم و وجب إخراجها، و هذا ما دعا ببعض الفقهاء إلى تجنب هذا النوع من الفنون ، خوفا من ان يقود صاحبه إلى الجهل و الكفر، فهل راى الفنان مايكل انجلو سيدنا آدم و حواء ليرسمهما في سقيفة سيستين الفاتيكان؟ و هل رأى الرسام غوستاف الشيطان حتى يرسم له تلك الصورة البشعة؟ و هل رأى الشيعة صورة عليّ بن ابي طالب و ابنه الحسين حتى يجسدانهما في لوحة فنية ؟ فكل هذه الأمور قفز عليها المخيال البشري من باب النديّة، ثم هل كان هؤلاء في مستوى هذا الجمال أو أكثر، و هل جميعهم كانوا في مستوى جمال سيدنا يوسف عليه السلام كما ورد في القرآن الكريم لدرجة أن السيدة زليخة وقعت في عشقه و نساء الملوك قطعن أيدهنّ لما رأوا جماله ، هل للإنسان العادي حتى لو كان فنانا القدرة على تخيل أشخاص كانوا محاطين بالجاه و القداسة؟
الحقيقة أن الأستاذ جعفر الكناني حاول في كتابه أن يسلط الضوء على إشكالية لم يتطرق إليها الباحثون في دراساتهم، خاصة العلاقة بين هذه الفنون و علم النفس بالإعتماد على النظرية الفرويدية من جهة و علم مقارنة الأديان من جهة أخرى، و إذا ما كان رسم هذه الأسماء جائز أم محرمٌ؟، و من هم الشخاص الذين يحق لهم القيام بهذه الأعمال افبداعية؟ أمّا ما تعلق بالرمزية و كيف انتقلت من الدين إلى الفنّ و الأدب و أضحت لها مدارسها، كانت الإنطلاقة حسبه من فرنسا و بلجيكا إلى العالم الأوروبي بداية من عام 1870، و كيف استخدمت الرموز في تجسيد الأفكار و المشاعر، فمن وجهة نظر الكاتب فالفن لا يعرف الصدفة و العفوية كما أنه لا حدود له، فالشكل و تدرجات اللون لها بعد رمزي مستوحى من الكتب المقدسة و الأسفار و الأساطير و هي تتماثل مع مكونات الطبيعة، فقد وضعت الديانات و الكتب المقدسة الرموز فكانت مرجعا للشعوب، فكانت الميثولوجيا (الأسطورة) القاعدة التي بنت عليها البشرية معتقداتها باعتبارها الوحيدة التي تتحكم بمصيرها و منها يعرف الخير و الشر، حتى أصبحت الأسطورة كتابا مقدسا و مرجعا موحدا في إقامة الطقوس الدينية، و هذا يدعو إلى التشكيك في حقيقة هذه الصور لكونها تتنافى مع الدين الإسلامي لأن الله يوم الحساب يقول لهم أحيوا ما خلقتم (فيما معناه) كون الصورة الذهنية نابعة من المخيلة البشرية و مع مرور الوقت أعطيت لها صفة القداسة و أصبح الناس يعبدونها و وضعوها في مصف الألهة، كما أن بعض الرسامين أعطيت لهم صفة القداسة كما نقرأ عن الرسام الروسي أندريه روبليف الذي تحدث عنه صاحب الكتاب.
و باختصار جدا الكتاب يعد عمل إبداعي تتوحد فيه القداسة بالألوان، حيث قدم جعفر الكناني الفنان الواسطي مؤسس المدرسة البغدادية في العصر العباسي كأنموذج، فقد ترجم الواسطي الصور الذهنية إلى واقع مرئي، كما قدم نموذج للميثولوجيا عند الفنان محمد راسم الجزائري الذي رسم ملحمة تاريخ الإسلام في رسم تزويقي مصغر مجسدا وقائعه منذ نزول الوحي الإلهي المعظم في آية قدسية، كشف فيها عن ولادة حضارة إسلامية ازدهرت فيها العلوم و الأداب و الفنون، إلا أن الأستاذ جعفر الكناني يرى أن الفضل في إغناء الحركة التشكيلية العالمية و ظهور المذاهب الفنية يعود إلى النخبة اليهودية بداية من القرن التاسع عشر، فقد غيرت النخبة اليهودية مسار الفن الجمالي في العالم، فكان الرسامون يتنافسون حول من يقدم أجمل لوحة إبداعية يتباهى بها امام الملوك و الحكام ، ليأتي الفاتيكان الذي كاد أن يحتكر الحركة التشكيلية في العالم بعدما خطط مسارها في اتجاه ديني، حيث جذب إليه كبار الفنانين التشكيليين في إيطاليا و ألزمهم بمحاكاة قصص الكتاب المقدس، للبحث عن دلائل مادية لما يؤمن به، و قد أراد الفاتيكان بذلك أن يُغَلِّبَ الصورة على النص اللغوي كونه لا يؤدي وظيفة التواصل بين العالم الروحي و العالم المادي كما ينبغي.
علجية عيش

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...