محمد بشكار - شكراً لصراحة الوباء!

كما حُوصِر الإنسان في بيته بين الجدران لتطويق الوباء ومنْعِه من التَّفشِّي، حُوصر أيضاً عقله في فكرةٍ واحدة هي فيروس كورونا، لكنني لن أستسلم لهذا المأزق المؤرِّق الذي أخْلى الشوارع منا وجعلنا عالما بدون بشر، لن أدع السنة تستثني من الفصول أجملها، وتححب عن بصري شقائق النعمان المشرئبَّة بأعناقها على سطح الحشائش تبتسم من الأعماق، وتنادي بعطرها كفتاةٍ تُغازل حبيباً بوجْنتين يحفُّهُما أرجوان الخجل، ولكن الخوف الذي يحرسه الحذر من كل جانب، جعل القلب أضعف من أن يتحرَّش بوردة أو يُجيبَ نداءَها ولو بالوجيب!
لن أستسلم لفكرة الموت في قنوات التطرف الإعلامي التي تجني الأموال على حساب كآبتي، وكل ما حولي خارج أسوار المدن على امتداد الحقول والغيطان، يدعوني لأكبر صفقة مُدِرَّة للأرواح وتجعلني بأكثر من حياة، لن أستسلم لأصوات سيارات الإغاثة تُروِّع الساكنة ليل نهار، وعلى مرمى خطاي يحُطُّ من الطير غير الأبابيل، سربٌ ويُحلِّق آخر بالتناوب، ترافقني بالأغاريد كما تصحب جوقةٌ موسيقية ملكا في المواكب!
أنا في الربيع وأبصره بأعين خضراء، وأعلم أن العتمة التي بثَّها الوباء في العالم، جعله ربيعا أسود في كل العيون، أعلم أن الجميع مُنْشغلٌ بِفَرْكِ الأكفِّ بالصابون، لذلك لا أحد ينتبه لعبور هذا الفصل الجميل، لأن من يتدفق مع الماء هلوعاً في المجاري لم يستطع الوصول بالتعقيم لقلبه ليعزله عن قارعة الجحيم، وما زال لا يُدرك أن الفيروس الأشد فتكاً يكمن متربصا داخلنا وليس في الخارج !
لن أستسلم للنهاية وكل ما حولي بعد طول بِذَار يتفتَّقُ مزهرا بأينع البدايات، ولكن من أين لأنفس أصبحت مقهورة بالوسواس لفرط حيطة تطوق كل الأماكن خشية تفشي الوباء، أن تستمتع بما تقترحه الطبيعة في فصلها المُهرَّب من الجنة بحشائشه وليس حشيشه، صار الشخص في حركاته الميكانيكية، أشبه بجسْمٍ ينطوي على آلة استشعار الخطر من بعيد فاقداً للحواس !
اغلقوا المساجد فالله أكبر في كل مكان، اغلقوا المدارس فالتعليم منذ كان عن قرب لم يَزِدْ الأجيال المتوالية بالبلد إلا بُعدا عن تحقيق آمالنا في علم ينفع، وها السِّباق اليوم محموماً على أشده بين مختبرات الدول من يَخرج الأول على البشرية بلقاح لفيروس كورونا، لكن من يُوجِده لن يُقدم عُصارة أدمغة علمائه صدقةً مجانية للشعوب المُتضرِّرة، بل سيحْتكِره لمآرب سياسية وتجارية لمن يدْفع أكثر، أما نحن فما علينا إلا الانتظار في طابور يصِل في طوله للحلقوم، وقد ننقص لا قدَّر الله بسبب الجائحة يوما عن يوم وكُلُّنا أمل في إبرة قصيرة تصل لأحد العروق بقطرة ترياق، كُلنا أملٌ أن نتعلَّم من هذه المحنة التي تعتبر من درجة الطامة الكبرى، أنه على أسُس الاستثمار في تنمية العقول تنبني الاقتصاديات القادمة بسيطرتها على العالم، اغلقوا كل شيء.. إلا الوردة تعلَّموا أنَّ بانفتاحها على الكون يكتمل الربيع !
اغلقوا المقاهي فما عدنا نحتسي الفنجان إلا مقلوبا بسبب شعورنا المرِّ بالانكفاء، اغلقوا المطارات فالسماء مفتوحة ولا نعرف أي هواء مسموم تضخ في رئاتنا، وقد نحتاج غدا بعد أن بدأ زمن الحرب الجرثومية أقنعة أوكسجين بأثمنة باهظة الأنفاس، اغلقوا الموانئ فالبحر ما عاد على طبيعته بكل الألوان، ألم تصبح أعماقه حقلا لتجارب نووية نشرب إشعاعاتها مع المياه الخاضعة للتحلية، ولطالما تساءلت ما لأعيننا هذه الأيام أصبحت بنظرات السمك، غدا ينفجر هذا البحر غيظا ولا تستطيع قوةٌ لمده صدّاً، اغلقوا كل شيء.. كل شيءٍ لأول مرة يتجسد انغلاقنا الذي أوصد العقول ملموساً على أرض الواقع، لأول مرة أنتم واقعيون معنا ولا يستحق الشكر إلا الوباء لأنه الدافع الوحيد لدعم البنية الصحية في بلدي، شكرا لوفادته التي جعلت شوارعنا معقمة نظيفة، وأجبرنا على التعامل برقي كما هو جار بسلوكه في الحضارات المتقدمة، صار الفرد غير مكتظ في عقليته المنتعشة جسديا وروحيا بالزحام، يحترم المسافة التي بينه وبين الآخر ولو كان في الحقيقة لا يحترم إلا شبح الموت الذي زجره بالهلع، شكرا للوباء.. لصراحته التي آلمت الجميع وهو يترك المستشفيات مفتوحة وجعل كل العالم مريضا!


(افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليومه الخميس 19 مارس 2020)


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...