عرف التاريخ البشري منذ القديم ظهور الأوبئة والجوائح في الكثير من البلدان والحضارات، واعتبرها الإنسان، بحسب وعيه وفهمه لهذه الظاهرة، من الكوارث والآفات وبلاء يبتلى به البشر ولا مقدور لهم في مواجهته والاحتماء من عواقبه.
وكان من أشهر هذه الأوبئة قديما وباء الطاعون الذي ذكره الكثير من المؤرخين وصوروا بإسهاب ما قاسته الشعوب والبلدان من ويلات ومآس فظيعة. وفي العصور الحديثة الأنفلونزا الإسبانية والكوليرا اللتان ذهبتا بأرواح الملايين من البشر، ومؤخرا فيروس كورونا الذي يبدو أنه خلق حالة من الفزع والهلع لدى البشر.
لم يهتم المؤرخون والعلماء وحدهم بالأوبئة، بل كان للأدب نصيب وافر في اتخاذها موضوعا للكتابة بطريقته الخاصة، إما باعتبارها رمزا كما هو الشأن عند الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته «الطاعون»، أو الروائي البرتغالي جوزي ساراماغو الذي ابتكر وباء غير موجود في أرض الواقع سمّاه وباء العمى، حيث جعل منه موضوعا للتأمّل الفكري في المصير الإنساني بحثا عن نوع آخر من الرؤية أبعد من البصر وأقرب ما يكون من البصيرة، في حين اختار الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز أن يكتب «الحب في زمن الكوليرا»، وهي رواية حب يشكّل وباء الكوليرا خلفية للأحداث وأحيانا معادلا موضوعيا لها. أمّا عميد الأدب العربي طه حسين فلم يفته أن يشير، في سيرته الذاتية «الأيام»، إلى وقائع وباء الكوليرا في مصر انطلاقا مما سجلته ذاكرة طفولته عن فقدان أسرته الصغيرة لأحد إخوته الذي ذهب ضحية هذا الوباء المروع.
ألبير كامو: الطاعون الوباء والطاعون الرمز
تتخذ رواية «الطاعون» لألبير كامو من مدينة وهران في الجزائر، أيام الاستعمار الفرنسي، المكان الذي تجري فيه الأحداث. يجمع الكثير من النقاد على اعتبار هذا الوباء المتخيل رمزا مباشرا للحرب العالمية الثانية وانتشار الفاشية والنازية في ربوع أوروبا:
خرج الدكتور برنار ريو صباح 17 أبريل من عيادته فعثر بجرذ ميّت في وسط سطيحة الدرج. فأزاحه على التوّ من غير أن يكترث له، وهبط السلم. ولكنه إذ بلغ الشارع وقرّ في ذهنه أنّ هذا الجرذ لم يكن في محلّه، فعاد أدراجه لينبئ البوّاب. وإزاء ردّ فعل السيد ميشال العجوز، زاد شعوره بما كان في اكتشافه من غرابة. فبينما بدا له ظهور هذا الجرذ الميّت أمرا غريبا فقط، فقد كان يشكّل للبواب فضيحة. والحق أنّ موقف هذا الأخير كان حاسما: فإنّه لم يكن في البيت جرذان. وعبثا حاول الطبيب التأكيد له أنّ ثمّة جرذا على سطيحة درج الطابق الأوّل، وهو ميّت على الأرجح، فقد ظلّ اقتناع السيد ميشال لا يتزعزع. لم يكن في البيت جرذان، ولابدّ أن يكون هذا الجرذ قد نقل من الخارج. وبالاختصار، فإنّها قضية مزاح أو دعابة.
وفي المساء نفسه، كان برنار ريو واقفا في ممرّ البناية يأخذ مفاتيحه قبل أن يصعد إلى منزله، فرأى جرذا كبيرا يطفو من جوف الممرّ المظلم، بمشية متردّدة وشعر مبتلّ. ثم وقف، وبدا أنّه يلتمس التوازن، ثم مضى نحو الطبيب، وتوقف مرّة أخرى ثمّ استدار على نفسه بصيحة قصيرة وسقط أخيرا وهو يرسل الدم من شفتيه المفتوحتين. وتأمّله الطبيب هنيهة ثم صعد إلى منزله…
وأيّاً ما كان، فإنّ مواطنينا بدؤوا في تلك الحقبة يقلقون. ذلك أن المصانع والمخازن غصّت… بمئات الجثث من الجرذان. وقد اضطروا في بعض الحالات إلى الإجهاز على التي كان احتضارها يطول أكثر ما ينبغي. ومن الأحياء الخارجية حتى وسط المدينة، في كلّ مكان كان يمرّ فيه الدكتور ريو، وفي كل مكان كان يتجمّع فيه مواطنونا، كانت الجرذان تنتظر ملقاة أكواما في الصناديق أو صفوفا طويلة في السواقي. ومنذ ذلك اليوم، تناولت صحف المساء القضية وتساءلت عمّا إذا كانت البلدية ستعمل أم لا، وما هي التدابير السريعة التي واجهتها لتصون رعاياها من هذه الغارة الكريهة. والواقع أن البلدية لم تكن قد قررت شيئا، ولم تكن قد واجهت شيئا على الإطلاق، ولكنها بدأت تلتئم للتشاور. وقد أعطي الأمر لدائرة مكافحة الجرذان بأن تجمع الجرذان الميّتة عند فجر كلّ يوم، حتى إذا ما تمّ الجمع، تولّت سيارتان من الدائرة نقلها إلى مصنع ترميد الأقذار لحرقها.
على أنّ الحالة تفاقمت خطرا في الأيام التالية. فقد تزايد عدد القواضم المجموعة وتضاعف الحصاد يوما بعد يوم. ومنذ اليوم الرابع، بدأت الجرذان تخرج لتموت جماعات، وكانت تنفر في صفوف مترنّحة من الثقوب والأقبية والسراديب والبواليع فتتهادى متمايلة في النور، وتستدير حول نفسها لتموت على مقربة من البشر. وكانت صيحات احتضارها الصغيرة تسمع واضحة ليلا في الممرات والأزقة.
ص 8 ص 16
جوزي ساراماغو بين العمى الأبيض والعمى الأسود
«العمى» رواية الكاتب البرتغالي جوزي ساراماغو (1922-2010) من أشهر أعماله الروائية التي قادته إلى نيل جائزة نوبل للآداب سنة 1998. هذه الرواية تنتمي هي الأخرى إلى الواقعية السحرية، أو بتعبير ساراماغو: «إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع قارئي مفاده هو أن ما يهمنا بحق هو التطور المنطقي للفكرة حتى وإن كانت الفكرة ذاتها منافية للعقل، فالفكرة هي نقطة الانطلاق التي يلزمها عرض منطقي وواقعي». في الرواية تتعرض مدينة إلى وباء غريب يصيب الناس فجأة بالعمى، فيحجز المصابون في الحجر الصحي وتعلن حالة الطوارئ قي البلاد وتعم الفوضى كل الأرجاء… إن العمى هنا كناية عن انتفاء القيم الإنسانية التي تقود حتما إلى العمى الفكري:
أضاءت الشارة الكهرمانية. أسرعت اثنتان من السيارات التي في المقدمة قبل أن تضيء الشارة الحمراء. أضاءت الشارة الخضراء عند ممرّ المشاة وبدأ المارة الذين كانوا ينتظرونها يعبرون الشارع فوق الخطوط البيضاء المرسومة فوق الإسفلت الأسود. تلك الخطوط التي تشبه حمار الوحش إلى حدّ كبير، وعلى أيّ حال هكذا كانت تسمّى. أبقى السائقون أقدامهم المتعجلة فوق «الدبرياج» تاركين سياراتهم على أهبة الاستعداد، تتقدم وتتراجع كأحصنة تشعر بالسوط الذي يوشك أن يسوطها. عبر المارة جميعا إلا أن الشارة الخضراء لانطلاق السيارات ستتأخر بضع ثوان… ويتضاعف هذا التأخير رغم عدم أهميته الواضحة، كما يؤكد البعض، بفعل آلاف شارات المرور الموجودة في شوارع المدينة، وبفعل تغيّر ألوانها الثلاثة المتعاقبة الذي يخلق واحدا من أكثر أسباب ازدحام المرور جدّية، أو الاختناقات المرورية، إذا استخدمنا التعبير السائد.
أضاءت الشارة الخضراء أخيرا، فانطلقت السيارات بسرعة، تبيّن في ما بعد أنّها ليست على القدر نفسه من السرعة، فالسيارة الأمامية في منتصف المضمار لا تزال واقفة. لابدّ أن هناك عطلا ميكانيكيا… عطلا في دواسة البنزين أو مبدّل السرعة… أو الكوابح… عطلا في الدارة الكهربائية، هذا إن لم يكن وقودها قد نفد، وليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها أمر كهذا. رأت مجموعة المارة الجدد الذين احتشدوا عند ممرّ المشاة سائق السيارة المتوقفة خلف سيارته تطلق العنان لأبواقها الغاضبة. خرج بعض السائقين من سيارتهم وقد استعدوا لدفع السيارة الجانحة إلى مكان لا تعوق فيه حركة المرور. خبطوا غاضبين على زجاج نوافذها المغلقة، والرجل في داخل السيارة يتلفت برأسه ذات اليمين وذات الشمال. من الواضح أنّه كان يصرخ بشيء ما، ومن حركة شفتيه بدا أنّه يكرّر بضع كلمات، كلمتين تحديدا، أنا أعمى، كما اتضح لاحقا عندما نجح شخص ما بفتح السيارة أخيرا…
أنا أعمى، أنا أعمى، كان يردّد يائسا وهم يساعدونه على الخروج من السيارة والدموع الطافرة من عينيه اللتين يدّعي مواتهما جعلتهما تظهران أكثر تألقا. تحدث أمور كهذه، أزمة وتمرّ. يحدث ذلك لأسباب عصبية أحيانا، قالت امرأة…
رفع الرجل الأعمى يديه إلى عينيه وأومأ، لا شيء، يبدو أنّي غطست في ضباب أو سقطت في بحر حليبي. لكنّ العمى مختلف عمّا تقول، قال الشخص الآخر، يقولون إنّ العمى أسود. حسن لكني أرى كل شيء أبيض، الأرجح أنّ تلك المرأة الصغيرة كانت على صواب، قد تكون مسألة أعصاب.
ص 7 ص 8 ص 9
«الحب في زمن الكوليرا»: لأنّ الحشمة إحدى فضائلنا أمام المصائب
نشر غابريال غارسيا ماركيز (1927-2014) رواية «الحب في زمن الكوليرا» سنة 1985، وأراد من خلالها أن يكتب رواية حب بأسلوب غير معتاد في الرواية العالمية، وبأسلوبه الذي اشتهر به الواقعية السحرية أو الجمع بين الواقع الحقيقي والخيال السحري. جعل ماركيز الأحداث تدور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تشكل الحروب الأهلية ووباء الكوليرا في منطقة الكاريبي إطارا لقصة حب حزينة دامت لأكثر من سبعة عقود. ويعدّ كثير من النقاد رواية «الحب في زمن الكوليرا» أفضل أعمال ماركيز بعد رائعته «مائة عام من العزلة»:
… في الأسبوعين الأولين للكوليرا فاضت المقبرة. ولم يكن هناك من مكان للدفن في الكنائس، رغم أنّهم نقلوا إلى مستودع العظام العام الرفات المتآكل لعدد كبير من الأعيان الذين ضاعت أسماؤهم. ولقد اختلط هواء الكتدرائية بأبخرة سراديب الدفن غير المحكمة الإغلاق. مما اضطرهم إلى عدم فتح أبواب الكتدرائية إلّا بعد ثلاث سنوات، في الحقبة التي رأت فيها فيرمينا داثا لأول مرة عن قرب فلورينتينو أريثا في صلاة الفجر. وامتلأ رواق دير سانتا كلارا بالقبور التي وصلت إلى الممرات بين أشجار الحور في الأسبوع الثالث، وكان لابد من تحويل بستان الدير، الذي كان أوسع من الرواق بمرتين، إلى مقبرة. وحفروا هناك قبورا عميقة ليدفنوا فيها على ثلاثة مستويات، على عجل وبلا توابيت، ولكنهم اضطروا إلى التخلي عنها لأن الأرض الطافحة أصبحت مثل إسفنجة ترشح تحت وطأة الأقدام دما فاسدا كريه الرائحة. عندئذ تقرر متابعة عمليات الدفن في لامانو دي ديوس، وهي مزرعة لتسمين الأبقار على بعد أقل من فرسخ واحد عن المدينة، والتي كرست في ما بعد باسم المقبرة الكونية.
منذ أذيع بلاغ الكوليرا، بدأ حصن الحامية المحلية بإطلاق قذيفة مدفع كل ربع ساعة، في الليل والنهار، إيمانا بالخرافة الحضارية القائلة إنّ البارود يطهر الجو. لقد كانت الكوليرا أشدّ فتكا بين السكان الزنوج، لأنهم الأكثر عددا وفقرا، ولكنها في الحقيقة لم تكن تأخذ اللون أو الأصل بعين الاعتبار. وتوقفت فجأة كما بدأت، دون أن يعرف عدد ضحاياها، ليس لأن حصرهم كان مستحيلا، وإنما لأن إحدى فضائلنا السائدة هي الحشمة أمام المصائب الخاصة.
… صارت الكوليرا هي هاجسه. لم يكن يعرف عنها شيئا أكثر مما يتعلمه بشكل روتيني في دورة هامشية، لم يكن ليصدق بأن هذا المرض قد سبب منذ ثلاثين سنة فقط في فرنسا، بما في ذلك باريس أكثر من مائة وأربعين ألف وفاة. أمّا بعد وفاة أبيه فقد تعلم كل ما يمكن أن يتعلمه حول مختلف أشكال الكوليرا، بشكل أشبه بعقاب النفس لتهدئة ذاكرته، وكان طالبا من طلاب أبرز علماء الأوبئة في ذلك الزمان، ومبدع الأحزمة الصحية، البروفيسور أدريان بروست، والد الروائي الكبير. وبهذا فإنّه لدى عودته إلى وطنه، وإحساسه مذ كان في البحر برائحة السوق النتنة، ثم رؤيته الجرذان في المجاري المكشوفة والأطفال الذين يتمرغون عراة في مستنقعات الشوارع. لم يدرك أنّ الكارثة وقعت بالفعل فقط، بل وأيقن أنّها ستتكرر في أية لحظة.
ص 104
طه حسين: كان الصيف منكرا هذه السنة
… كان هذا اليوم يوم 21 غشت من سنة 1902. وكان الصيف منكرا في هذه السنة. وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا: دمّر مدنا وقرى، ومحا أسرا كاملة… وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة… وكانت أمّ الصبي في هلع مستمر، وكان لها ابن في الثامنة عشرة… كان أنجب الأسرة وأذكاها… وكان قد ظفر بشهادة البكالوريا وانتسب إلى مدرسة الطب وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة. فلما كان هذا الوباء، اتّصل بطبيب المدينة وأخذ يرافقه ويقول: إنّه يتمرّن على صناعته حتى كان يوم 20 غشت.
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسما، فلاطف أمّه وداعبها وهدّأ من روعها وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة وقد أخذت وطأة الوباء تخفّ، ولكنه مع ذلك شكا من بعض الغثيان… وكانت الدار هادئة مغرقة في النوم عندما انتصف الليل. ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ… وكان مصدر هذا كله صوت هذا الفتى وهو يعالج القيء، وكان الفتى قد قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقيء مجتهدا ألا يوقظ أحدا.
إذا فقد أصيب الشاب ووجد الوباء طريقه إلى الدار، وعرفت أمّ الفتى بأيّ أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقا بالإعجاب حقا. كان هادئا رزينا مروّعا مع ذلك، ولكنه يملك نفسه وكان في صوته شيء يدل على أنّ قلبه مفطور، وعلى أنّه مع ذلك جلد مستعد لاحتمال النازلة. آوى ابنه إلى حجرته وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته، وخرج مسرعا فدعا جارين من جيرانه، وما هي إلا ساعة حتى عاد ومعه الطبيب. وفي أثناء ذلك كانت أم الفتى مروّعة جلدة مؤمنة تعنى بابنها، حتى إذا أمهله القيء خرجت إلى الدهليز فرفعت يدها إلى السماء وفنيت في الدعاء والصلاة، حتى تسمع حشرجة القيء فتسرع إلى ابنها تسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها، ولسانها مع ذلك لا يكفّ عن الدعاء والابتهال.
ص 105 ص 108
وكان من أشهر هذه الأوبئة قديما وباء الطاعون الذي ذكره الكثير من المؤرخين وصوروا بإسهاب ما قاسته الشعوب والبلدان من ويلات ومآس فظيعة. وفي العصور الحديثة الأنفلونزا الإسبانية والكوليرا اللتان ذهبتا بأرواح الملايين من البشر، ومؤخرا فيروس كورونا الذي يبدو أنه خلق حالة من الفزع والهلع لدى البشر.
لم يهتم المؤرخون والعلماء وحدهم بالأوبئة، بل كان للأدب نصيب وافر في اتخاذها موضوعا للكتابة بطريقته الخاصة، إما باعتبارها رمزا كما هو الشأن عند الروائي الفرنسي ألبير كامو في روايته «الطاعون»، أو الروائي البرتغالي جوزي ساراماغو الذي ابتكر وباء غير موجود في أرض الواقع سمّاه وباء العمى، حيث جعل منه موضوعا للتأمّل الفكري في المصير الإنساني بحثا عن نوع آخر من الرؤية أبعد من البصر وأقرب ما يكون من البصيرة، في حين اختار الروائي الكولومبي غابريال غارسيا ماركيز أن يكتب «الحب في زمن الكوليرا»، وهي رواية حب يشكّل وباء الكوليرا خلفية للأحداث وأحيانا معادلا موضوعيا لها. أمّا عميد الأدب العربي طه حسين فلم يفته أن يشير، في سيرته الذاتية «الأيام»، إلى وقائع وباء الكوليرا في مصر انطلاقا مما سجلته ذاكرة طفولته عن فقدان أسرته الصغيرة لأحد إخوته الذي ذهب ضحية هذا الوباء المروع.
ألبير كامو: الطاعون الوباء والطاعون الرمز
تتخذ رواية «الطاعون» لألبير كامو من مدينة وهران في الجزائر، أيام الاستعمار الفرنسي، المكان الذي تجري فيه الأحداث. يجمع الكثير من النقاد على اعتبار هذا الوباء المتخيل رمزا مباشرا للحرب العالمية الثانية وانتشار الفاشية والنازية في ربوع أوروبا:
خرج الدكتور برنار ريو صباح 17 أبريل من عيادته فعثر بجرذ ميّت في وسط سطيحة الدرج. فأزاحه على التوّ من غير أن يكترث له، وهبط السلم. ولكنه إذ بلغ الشارع وقرّ في ذهنه أنّ هذا الجرذ لم يكن في محلّه، فعاد أدراجه لينبئ البوّاب. وإزاء ردّ فعل السيد ميشال العجوز، زاد شعوره بما كان في اكتشافه من غرابة. فبينما بدا له ظهور هذا الجرذ الميّت أمرا غريبا فقط، فقد كان يشكّل للبواب فضيحة. والحق أنّ موقف هذا الأخير كان حاسما: فإنّه لم يكن في البيت جرذان. وعبثا حاول الطبيب التأكيد له أنّ ثمّة جرذا على سطيحة درج الطابق الأوّل، وهو ميّت على الأرجح، فقد ظلّ اقتناع السيد ميشال لا يتزعزع. لم يكن في البيت جرذان، ولابدّ أن يكون هذا الجرذ قد نقل من الخارج. وبالاختصار، فإنّها قضية مزاح أو دعابة.
وفي المساء نفسه، كان برنار ريو واقفا في ممرّ البناية يأخذ مفاتيحه قبل أن يصعد إلى منزله، فرأى جرذا كبيرا يطفو من جوف الممرّ المظلم، بمشية متردّدة وشعر مبتلّ. ثم وقف، وبدا أنّه يلتمس التوازن، ثم مضى نحو الطبيب، وتوقف مرّة أخرى ثمّ استدار على نفسه بصيحة قصيرة وسقط أخيرا وهو يرسل الدم من شفتيه المفتوحتين. وتأمّله الطبيب هنيهة ثم صعد إلى منزله…
وأيّاً ما كان، فإنّ مواطنينا بدؤوا في تلك الحقبة يقلقون. ذلك أن المصانع والمخازن غصّت… بمئات الجثث من الجرذان. وقد اضطروا في بعض الحالات إلى الإجهاز على التي كان احتضارها يطول أكثر ما ينبغي. ومن الأحياء الخارجية حتى وسط المدينة، في كلّ مكان كان يمرّ فيه الدكتور ريو، وفي كل مكان كان يتجمّع فيه مواطنونا، كانت الجرذان تنتظر ملقاة أكواما في الصناديق أو صفوفا طويلة في السواقي. ومنذ ذلك اليوم، تناولت صحف المساء القضية وتساءلت عمّا إذا كانت البلدية ستعمل أم لا، وما هي التدابير السريعة التي واجهتها لتصون رعاياها من هذه الغارة الكريهة. والواقع أن البلدية لم تكن قد قررت شيئا، ولم تكن قد واجهت شيئا على الإطلاق، ولكنها بدأت تلتئم للتشاور. وقد أعطي الأمر لدائرة مكافحة الجرذان بأن تجمع الجرذان الميّتة عند فجر كلّ يوم، حتى إذا ما تمّ الجمع، تولّت سيارتان من الدائرة نقلها إلى مصنع ترميد الأقذار لحرقها.
على أنّ الحالة تفاقمت خطرا في الأيام التالية. فقد تزايد عدد القواضم المجموعة وتضاعف الحصاد يوما بعد يوم. ومنذ اليوم الرابع، بدأت الجرذان تخرج لتموت جماعات، وكانت تنفر في صفوف مترنّحة من الثقوب والأقبية والسراديب والبواليع فتتهادى متمايلة في النور، وتستدير حول نفسها لتموت على مقربة من البشر. وكانت صيحات احتضارها الصغيرة تسمع واضحة ليلا في الممرات والأزقة.
ص 8 ص 16
جوزي ساراماغو بين العمى الأبيض والعمى الأسود
«العمى» رواية الكاتب البرتغالي جوزي ساراماغو (1922-2010) من أشهر أعماله الروائية التي قادته إلى نيل جائزة نوبل للآداب سنة 1998. هذه الرواية تنتمي هي الأخرى إلى الواقعية السحرية، أو بتعبير ساراماغو: «إن أعمالي تتعرض لإمكانية حدوث ما هو مستحيل بطبيعته، وكأني أعقد اتفاقا ضمنيا مع قارئي مفاده هو أن ما يهمنا بحق هو التطور المنطقي للفكرة حتى وإن كانت الفكرة ذاتها منافية للعقل، فالفكرة هي نقطة الانطلاق التي يلزمها عرض منطقي وواقعي». في الرواية تتعرض مدينة إلى وباء غريب يصيب الناس فجأة بالعمى، فيحجز المصابون في الحجر الصحي وتعلن حالة الطوارئ قي البلاد وتعم الفوضى كل الأرجاء… إن العمى هنا كناية عن انتفاء القيم الإنسانية التي تقود حتما إلى العمى الفكري:
أضاءت الشارة الكهرمانية. أسرعت اثنتان من السيارات التي في المقدمة قبل أن تضيء الشارة الحمراء. أضاءت الشارة الخضراء عند ممرّ المشاة وبدأ المارة الذين كانوا ينتظرونها يعبرون الشارع فوق الخطوط البيضاء المرسومة فوق الإسفلت الأسود. تلك الخطوط التي تشبه حمار الوحش إلى حدّ كبير، وعلى أيّ حال هكذا كانت تسمّى. أبقى السائقون أقدامهم المتعجلة فوق «الدبرياج» تاركين سياراتهم على أهبة الاستعداد، تتقدم وتتراجع كأحصنة تشعر بالسوط الذي يوشك أن يسوطها. عبر المارة جميعا إلا أن الشارة الخضراء لانطلاق السيارات ستتأخر بضع ثوان… ويتضاعف هذا التأخير رغم عدم أهميته الواضحة، كما يؤكد البعض، بفعل آلاف شارات المرور الموجودة في شوارع المدينة، وبفعل تغيّر ألوانها الثلاثة المتعاقبة الذي يخلق واحدا من أكثر أسباب ازدحام المرور جدّية، أو الاختناقات المرورية، إذا استخدمنا التعبير السائد.
أضاءت الشارة الخضراء أخيرا، فانطلقت السيارات بسرعة، تبيّن في ما بعد أنّها ليست على القدر نفسه من السرعة، فالسيارة الأمامية في منتصف المضمار لا تزال واقفة. لابدّ أن هناك عطلا ميكانيكيا… عطلا في دواسة البنزين أو مبدّل السرعة… أو الكوابح… عطلا في الدارة الكهربائية، هذا إن لم يكن وقودها قد نفد، وليست هذه المرة الأولى التي يحدث فيها أمر كهذا. رأت مجموعة المارة الجدد الذين احتشدوا عند ممرّ المشاة سائق السيارة المتوقفة خلف سيارته تطلق العنان لأبواقها الغاضبة. خرج بعض السائقين من سيارتهم وقد استعدوا لدفع السيارة الجانحة إلى مكان لا تعوق فيه حركة المرور. خبطوا غاضبين على زجاج نوافذها المغلقة، والرجل في داخل السيارة يتلفت برأسه ذات اليمين وذات الشمال. من الواضح أنّه كان يصرخ بشيء ما، ومن حركة شفتيه بدا أنّه يكرّر بضع كلمات، كلمتين تحديدا، أنا أعمى، كما اتضح لاحقا عندما نجح شخص ما بفتح السيارة أخيرا…
أنا أعمى، أنا أعمى، كان يردّد يائسا وهم يساعدونه على الخروج من السيارة والدموع الطافرة من عينيه اللتين يدّعي مواتهما جعلتهما تظهران أكثر تألقا. تحدث أمور كهذه، أزمة وتمرّ. يحدث ذلك لأسباب عصبية أحيانا، قالت امرأة…
رفع الرجل الأعمى يديه إلى عينيه وأومأ، لا شيء، يبدو أنّي غطست في ضباب أو سقطت في بحر حليبي. لكنّ العمى مختلف عمّا تقول، قال الشخص الآخر، يقولون إنّ العمى أسود. حسن لكني أرى كل شيء أبيض، الأرجح أنّ تلك المرأة الصغيرة كانت على صواب، قد تكون مسألة أعصاب.
ص 7 ص 8 ص 9
«الحب في زمن الكوليرا»: لأنّ الحشمة إحدى فضائلنا أمام المصائب
نشر غابريال غارسيا ماركيز (1927-2014) رواية «الحب في زمن الكوليرا» سنة 1985، وأراد من خلالها أن يكتب رواية حب بأسلوب غير معتاد في الرواية العالمية، وبأسلوبه الذي اشتهر به الواقعية السحرية أو الجمع بين الواقع الحقيقي والخيال السحري. جعل ماركيز الأحداث تدور في نهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، تشكل الحروب الأهلية ووباء الكوليرا في منطقة الكاريبي إطارا لقصة حب حزينة دامت لأكثر من سبعة عقود. ويعدّ كثير من النقاد رواية «الحب في زمن الكوليرا» أفضل أعمال ماركيز بعد رائعته «مائة عام من العزلة»:
… في الأسبوعين الأولين للكوليرا فاضت المقبرة. ولم يكن هناك من مكان للدفن في الكنائس، رغم أنّهم نقلوا إلى مستودع العظام العام الرفات المتآكل لعدد كبير من الأعيان الذين ضاعت أسماؤهم. ولقد اختلط هواء الكتدرائية بأبخرة سراديب الدفن غير المحكمة الإغلاق. مما اضطرهم إلى عدم فتح أبواب الكتدرائية إلّا بعد ثلاث سنوات، في الحقبة التي رأت فيها فيرمينا داثا لأول مرة عن قرب فلورينتينو أريثا في صلاة الفجر. وامتلأ رواق دير سانتا كلارا بالقبور التي وصلت إلى الممرات بين أشجار الحور في الأسبوع الثالث، وكان لابد من تحويل بستان الدير، الذي كان أوسع من الرواق بمرتين، إلى مقبرة. وحفروا هناك قبورا عميقة ليدفنوا فيها على ثلاثة مستويات، على عجل وبلا توابيت، ولكنهم اضطروا إلى التخلي عنها لأن الأرض الطافحة أصبحت مثل إسفنجة ترشح تحت وطأة الأقدام دما فاسدا كريه الرائحة. عندئذ تقرر متابعة عمليات الدفن في لامانو دي ديوس، وهي مزرعة لتسمين الأبقار على بعد أقل من فرسخ واحد عن المدينة، والتي كرست في ما بعد باسم المقبرة الكونية.
منذ أذيع بلاغ الكوليرا، بدأ حصن الحامية المحلية بإطلاق قذيفة مدفع كل ربع ساعة، في الليل والنهار، إيمانا بالخرافة الحضارية القائلة إنّ البارود يطهر الجو. لقد كانت الكوليرا أشدّ فتكا بين السكان الزنوج، لأنهم الأكثر عددا وفقرا، ولكنها في الحقيقة لم تكن تأخذ اللون أو الأصل بعين الاعتبار. وتوقفت فجأة كما بدأت، دون أن يعرف عدد ضحاياها، ليس لأن حصرهم كان مستحيلا، وإنما لأن إحدى فضائلنا السائدة هي الحشمة أمام المصائب الخاصة.
… صارت الكوليرا هي هاجسه. لم يكن يعرف عنها شيئا أكثر مما يتعلمه بشكل روتيني في دورة هامشية، لم يكن ليصدق بأن هذا المرض قد سبب منذ ثلاثين سنة فقط في فرنسا، بما في ذلك باريس أكثر من مائة وأربعين ألف وفاة. أمّا بعد وفاة أبيه فقد تعلم كل ما يمكن أن يتعلمه حول مختلف أشكال الكوليرا، بشكل أشبه بعقاب النفس لتهدئة ذاكرته، وكان طالبا من طلاب أبرز علماء الأوبئة في ذلك الزمان، ومبدع الأحزمة الصحية، البروفيسور أدريان بروست، والد الروائي الكبير. وبهذا فإنّه لدى عودته إلى وطنه، وإحساسه مذ كان في البحر برائحة السوق النتنة، ثم رؤيته الجرذان في المجاري المكشوفة والأطفال الذين يتمرغون عراة في مستنقعات الشوارع. لم يدرك أنّ الكارثة وقعت بالفعل فقط، بل وأيقن أنّها ستتكرر في أية لحظة.
ص 104
طه حسين: كان الصيف منكرا هذه السنة
… كان هذا اليوم يوم 21 غشت من سنة 1902. وكان الصيف منكرا في هذه السنة. وكان وباء الكوليرا قد هبط إلى مصر ففتك بأهلها فتكا ذريعا: دمّر مدنا وقرى، ومحا أسرا كاملة… وكانت المدارس والكتاتيب قد أقفلت، وكان الأطباء ورسل مصلحة الصحة قد انبثوا في الأرض ومعهم أدواتهم وخيامهم يحجزون فيها المرضى، وكان الهلع قد ملأ النفوس واستأثر بالقلوب، وكانت الحياة قد هانت على الناس، وكانت كل أسرة تتحدث بما أصاب الأسر الأخرى وتنتظر حظها من المصيبة… وكانت أمّ الصبي في هلع مستمر، وكان لها ابن في الثامنة عشرة… كان أنجب الأسرة وأذكاها… وكان قد ظفر بشهادة البكالوريا وانتسب إلى مدرسة الطب وأخذ ينتظر آخر الصيف ليذهب إلى القاهرة. فلما كان هذا الوباء، اتّصل بطبيب المدينة وأخذ يرافقه ويقول: إنّه يتمرّن على صناعته حتى كان يوم 20 غشت.
أقبل الشاب آخر هذا اليوم كعادته باسما، فلاطف أمّه وداعبها وهدّأ من روعها وقال: لم تصب المدينة اليوم بأكثر من عشرين إصابة وقد أخذت وطأة الوباء تخفّ، ولكنه مع ذلك شكا من بعض الغثيان… وكانت الدار هادئة مغرقة في النوم عندما انتصف الليل. ولكن صيحة غريبة ملأت هذا الجو الهادئ… وكان مصدر هذا كله صوت هذا الفتى وهو يعالج القيء، وكان الفتى قد قضى ساعة أو ساعتين يخرج من الحجرة على أطراف قدميه ويمضي إلى الخلاء ليقيء مجتهدا ألا يوقظ أحدا.
إذا فقد أصيب الشاب ووجد الوباء طريقه إلى الدار، وعرفت أمّ الفتى بأيّ أبنائها تنزل النازلة. لقد كان الشيخ في تلك الليلة خليقا بالإعجاب حقا. كان هادئا رزينا مروّعا مع ذلك، ولكنه يملك نفسه وكان في صوته شيء يدل على أنّ قلبه مفطور، وعلى أنّه مع ذلك جلد مستعد لاحتمال النازلة. آوى ابنه إلى حجرته وأمر بالفصل بينه وبين بقية إخوته، وخرج مسرعا فدعا جارين من جيرانه، وما هي إلا ساعة حتى عاد ومعه الطبيب. وفي أثناء ذلك كانت أم الفتى مروّعة جلدة مؤمنة تعنى بابنها، حتى إذا أمهله القيء خرجت إلى الدهليز فرفعت يدها إلى السماء وفنيت في الدعاء والصلاة، حتى تسمع حشرجة القيء فتسرع إلى ابنها تسنده إلى صدرها وتأخذ رأسه بين يديها، ولسانها مع ذلك لا يكفّ عن الدعاء والابتهال.
ص 105 ص 108