محمد داني - العنونة والنص جدلية كاريكاتورية قراءة للقصة القصيرة جدا عند الأديب العراقي عدي المختار

الأديب عدي المختار ، المبدع العراقي المغرد، يدخلنا عالمه السردي، من خلال القصة القصيرة جدا...لقد أبدع نصوصا قصصية بينت أنه يمتلك ناصية هذا اللون الأدبي الحديث... خاصة وأنه يغرف في كتاباته من واقع يرى تناقضاته تتكالب يوما بعد يوم.. ويعيش مفارقاته... وهو يرى فيه واقعا متخما بالمفارقات اليومية الساخرة...والدامية...ومجالات الحياة المختلفة... لذا يتحول إلى عين لاقطة لهذه الصور... ولهذه المشاهدات... ينقلها لنا بكاريكاتورية مغرقة في السخرية، والنقد اللاذع...والحسرة...هذا يدفعنا إلى الوقوف إلى بعض قصصه القصيرة جدا، والتي لفتت الانتباه إليه ...والتي نحددها في أربع، وهي:مارينز1- مارينز2- عنوان- هدهدة...وعندما نتمعن في هذه القصص القصيرة جدا التي اخترناها، نجد أن خيطا رفيعا يجمعها..
- أولها:ميزة القصر أو الكم الجملي... حيث إن كل قصة تتكون من مجموعة من الكلمات، بعد إحصائها نحصل على المعطى التالي:
- مارينز1، تتكون من 85 كلمة.
- مارينز 2، تتكون من 73 كلمة.
- عنوان. تتكون من 27 كلمة.
- هدهدة. تتكون من 62 كلمة.
- ثانيها: العناوين الدالة، والمثيرة.. أي أنها تقوم بعملية الاستثارة، وتلعب دور المثير والمنبه.. يتغيى عدي المختار منها حدوث استجابة إشراطية...ولذا هي مثير un stimulus....قوي...لأنها إحالات إلى نصوصها التي من خلال قراءتها وولوج عالمها،يسترجع القارئ أو الداخل إلى جوانيتها مشاهد ورؤى أثثت فضاء العالم العربي عامة والعراق خاصة في فترات قريبة...
- ثالثها: العناوين المكونة من كلمة واحدة مفردة...
- رابعها: حضور العنوان في هذه القصص القصيرة جدا نكرة.. مجردا من أي تعريف.. وهذا مقصود من الكاتب لأنه يريد أن يعبر من خلالها عن فداحة المضمون.. ودلالاتها.. وخطورة الموضوع المتطرق إليه.
- خامسها: أن القصص المختارة تعرض في صورتها الإنسان العربي عامة والعراقي خاصة..ورؤيته وتفاعله مع الاحداث التي عرفتها بلاده...وما تعرض إليها من تحولاته، ومسوخاته القهرية، والتي أحشر فيها رغما عنه.
- سادسها: أنها تعرض حالات ومواقف شاذة.. تعتبر من الجروح البليغة في الجسد العربي، والتي لن تندمل رغم الجبر المعتمد في علاجها...
- سابعها: أنها نصوص صادمة.. ومخيبة لأي توقع.. فالمتلقي/ القارئ بولوجه عالم القصة تنبني دهشته، على تمثلات، وتوقعات وانتظارات،لكن نهاية القصة وقفلتها نجدها صادمة لهذا الانتظار، ومخيبة له..لأنه يصدم بنهاية غير منتظرة منه...
أول ما يشد انتباهنا هو اهتمام عدي المختار بعالم العلاقات الإنسانية والتي تفسخت في عالمنا المادي والذي طغت فيه التقانة بمختلف ألوانها...وحولت العلاقة إلى شيء ثانوي، وجعت الإنسان أمامها يتحول من إنسانيته إلى نوع من الروبوتية un être robotisé...
حيث يزول منها الإنساني والمقدس، ليطغى فيها المادي، والمصلحة، والأنانية الفاحشة....
ويصبح هذا الإنسان الذي يمارس عليه نوع من الغسل الإيديولوجي، والقهر السياسي والاستعماري، ويسلب في إرادته واختياراته، لا يجد إلا أمرين لا محيد له عنهما: إما المقاومة، أو الاستسلام والرضا بما قسمه الله... لكن الشخصية تعاني الأمرين.. فهو لا يرضى بأن تكون بلاده تحت وطأة دخيل.. حصره في (مارينز).. أو اليانكي الكوبوي القادم من الغرب...لذا يمارس عملية الكتابة ، ونعرف ما للكتابة في علم النفس.. فهو يجد فيها إفراغا لغضبه وثورته وحنقه... كما انه يدون من خلالها يوميات هذا الاحتلال وانطباعه حوله...لكن الغريب أو من المفارقات العجيبة هو أن هذه الكتابة تحولت إلى نوع من المسخ، تغيرت فيها حتى الأغنية المحلية القديمة... والجميلة بأغنية مستوردة أمريكية ، هي أغنية الراب...
يقول في قصته (مارينز2):"بعد أن احتل الصمت المكان ، وأرخى ليل الأزيز سدوله ، وهجع للتو العويل والنحيب، وجفت آخر دمعة على سهل وجنتيه وأعلنت موتها في كوة تجاعيد وجهه البركانية، جلس على نور الشمع الخافت يراجع ما تبقى من مذكراته، وفي نهاية مرحلة المجون المراهق، أعلن الضوء استسلامه للظلمة، فتم ظلام موج الخطايا المنتهية الصلاحية، فأخرج من درج مكتبه آخر شمعة أحرقها الظلام بعد خمس توان من دخول المارينز ساحة الفردوس...
في هذه القصة نكتشف التحول الخطير الذي أصبح عليه الإنسان العربي، العراقي... وبالتالي علاقاته وسلوكاته...فقد خلد إلى الصمت... والعويل.. في ظل ما تعرفه بلاده من خرق، ونهب، وتجويع وتقتيل.. وتدمير ممنهج...ولم يجد بدا من الاستسلام لهذه الظلمة الخانقة التي غلفت بلده...كل الضوء الذي كان يأمله انطفأ مع أول دخول لهذا المارينز الذي لا يعرف غير التدمير والقتل...إنها قصة ترشح بالتلميح والترميز والإشارة لما تعرفه العراق وما عرفته من تدخل امريكي سافر نتج عنه تدمير لكل مكوناتها الحيوية...
إن عدي المختار يبني قصته هذه على المفارقة...لأن مجرياتها تبين المفارقة العجيبة التي بينت الجلوس إلى الشمعة يراجع على ضوئها ما تبقى من مذكراته... وبين انطفاء آخر شمعة عند دخول المارينز ساحة الفردوس... وهي إشارة من الكاتب لما عرفته بغداد من حصار، وتنتكيل وقطع للماء والكهرباء.. وتضييق للحريات... وما عرفته ساحتها الرئيسية من تدمير للشخصية العراقية،
ويستمر في تصوير العلاقات الإنسانية، وما يشوبها من تحول..مسوخي في أصله...وثناياه، لنراه في قصة (عنوان) والتي يقول فيها: شاعر كبير ومتمرس.. كتب قصيدة عصماء عن ساحة التحرير. انتهى منها وفي الصباح مزقها، لانه لم يستدل طوال الليل لعنوان لها.. يليق بالساحة.. والتحرير.."في هذه القصة القصيرة جدا نصاب بالفزع.. بعدما كنا نتابع سرد كاتبنا بهدوء واسترخاء...وإذا بنا نهتز هزات:
الأولى :تمزيقه لهذه القصيدة التي قضى في كتابتها ردحا من الليل...
ثانيا: عدم الرضا الذي تسرب إلى ذاته.. و اليأس الذي انتابه والشعور بأنه يكذب على نفسه عندما يسمي ساحته بالتحرير وهي تعج بالمارينز.. فكيف يستقيم الوصف بالواقع ما دام الواقع يكذب كل التخيلات...والخيالات..إنه بتمزيقه لهذه القصيدة فهو يعلن رفضه القاطع للمماراة والكذب ... والتمزيق هو نوع من الرفض والتمرد... وعدم الرضا...إنه التحول الكاسح لكل شيء، والذي يأكل الأماني... والإرادات.. فالتوقع منا كمتلقين كان يضع عنوانا لقصيدتهن ويقوم بتدوينها او قراءتها او نشرها.. لا ان يمزقها...لكن الرؤية الأولية تتحول إلى شيء أكبر من الهول..وذلك أن شعوره بأن عدم توصله إلى إيجاد عنوان يليق بالساحة دفعه إلى تمزيق القصيدة، وهذا يحمل في طياته إشارة إلى رفض المواطن العراقي لهذا النوع من الاحتلال المبطن...
الهزة الثانية، هي قفلة القصة ونهايتها...والتي جاءت صادمة بقوة...وجاءت عنيفة لما تحمله من مشاهد ودلالات...
ففي قصة(هدهدة).. عندما نقرأ سطورها ن نقف إلى الصورة الجميلة التي تحملها... وهي صورة الام المسالمة، المسكينة ، والتي تهدهد صغيرها كي ينام.. لا تفكر إلا في ابنها الصغير تناغيه ن وتغنيه كلمات رقيقة تنبع حنانا..لكن تهزنا نهايتها هزا عندما نعلم أن هذا العدو الخارجي الذي استوطن هذه الساحة يتربص بها ، ويتقنصها ببندقيته ورشاشه الاوتوماتيكي ...لكن .. تكون الصدمة.. ويخيب توقعنا وانتظارنا، عندما نكتشف ان هذا العدو لا يرحم لا صغيرا ولا أما وشيخا.. لا يعرف إلا شيئا واحدا : قتل العربي كيفما كان نوعه...هنا يتماثل أمامنا النقيض، النقيض بين التوجسات والوساوس والظنون، وبين الواقع والحقيقة...وندرك أن هناك اختلافا بينا بين الحقيقة والخيال، بين الوهم والواقع، بين المثال والمادة...
فنتساءل لم كل هذه السوداوية وهذا الحزن المبطن؟...
هل هو ضعف منه؟..
عندما نعود إلى ذاكرتنا الثقافية ونقارن النهاية بها، نجد مشاهد كثيرة تشابه هذه النهاية... في تراثنا وواقعنا العربي، وفي التراث العالمي......فيتم استدعاء اليابان واستسلامها، وألمانيا واندحارها...وفلسطين واغتصابها...وبالتالي العراق ودكها...وأمام هذه المشهد الختامي يتبادر إلى ذهننا سؤال:
ماذا لو غيرت الشخصية الأحداث والصور والتواريخ و النهايات؟...
- ما العلاقة بين العنوان والنص...؟
- هل هناك توافق وتطابق بين العنوان ومضمون النص؟.
- هل تتوافق برانية النص بجوانيته؟..
- هل كان عدي المختار موفقا في اختاره لهذا العنوان؟..
- هل هذا العنوان يختزل النص، ويحتويه، أو لا.؟..عندما نتمعن في هذه القصص، نجدها حابلة بالسخرية الهادفة..والرمز والتلميح والإشارة... وتعطينا صورة كاريكاتورية للمشهد السياسي العربي، وموقف العربي من احداث العراق والقضايا العربية، والذي يضيع فيه يمينه ويساره ووسطيته.....كما نستشف إدانته لأولئك الذين يتخذون من السياسة وسيلة لبيع الأحلام، وشراء الذمم... فيتقدمون للانتخابات ببرامج طوباوية لا تقدم ولا تؤخر...يضيع فيها المواطن، وتضيع فيها مصالحه...ولا تفرخ إلا الشذوذ...
- ما هي المقومات الفنية والجمالية التي تختزنها هذه القصص القصيرة جدا؟..
لو عدنا إلى هذه الومضات القصصية التي استعرناها من أديبنا سي عدي المختار، لوجدنا أنها تختزن في تمفصلاتها تركيبا قصصيا ينم عن فنية ، وجمالية... إذ اعتمد فيها على الجملة الفعلية البسيطة... فمثلا في :
- مارينز1: نجدها تتكون من 13 فعلا، 10 منها ماضية...
- مارينز2: تتكون من 12 فعلا. منها 11 فعلا ماضيا.
- عنوان. تتكون من 4 أفعال، منها 3 ماضية.
- هدهدة. تتكون من 10 أفعال. منها 8 مضارعة.
وهي جمل كما قلت بسيطة لأنها تتركب من الفعل وعامله... وأحيانا بعض مكملات الجملة...
وهذه الجمل الفعلية ميزت كتابته... وشحنتها بنوع من التكثيف، وأعطتها حركية، وديناميكية... وهذه الحركية طورت أو على الأصح صعدت من درامية النص القصصي، وعملت على تسريع الزمان فيها..كما أن الحبكة تأثرت بهذه التقنيات مجتمعة... الشيء الذي عمل على تطويرها،فجاءت سرديتها تحمل مقومات قصصية نحصرها في:
- المدخل ، والنهاية أو القفلة، والموضوع ، واختيار العنوان.. والرؤية الفنية.
وأصبحت تشي بالجو العام السائد في القصة.. وبالموقف الذي تنبني عليه... ومن هنا تلاءم العنوان مع مضمون النص، بل احتواه، وتضمنه.. ومن ثمة أصبحت علاقة التضمين واضحة في كل قصصه القصيرة جدا...من هنا نقول بأن ثوب القصاص ، خرج عدي المختار... واستطاع أن يبدع في القصة القصيرة جدا،... وأتمنى أن يلتفت النقد إلى الجانب القصصي عند الأديب العراقي :عدي المختار...







*
د. محمد داني - روائي وناقد – المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...