توفي مصطفى عائشة في الثالث من فبراير من السنة الحاليةِ 2008. لكن أصداءَ موسيقاه لا تزال تتردد في العقول والنفوس. وبالعودة إلى النظر في حياته وتأملِ أجواء عملِه الخاصة، تتبادر إلى الذهن أهميةُ عنصر المكانِ الأثيرِ
لديه والذي احتل عنده منـزلةً نوعيةً حميمة.
والحقيقة أنهما مكانان أساسيان في حياته: البيت والمعهد الموسيقي. وكنتَ إذا لم تجد مصطفى عائشة في بيته تجده حتماً في معهد الموسيقى وبالذات في قسمه الذي أصبح اليومَ يسمى باسمه. لذا ما كان لك لتتعبَ في العثور عليه إن أردته في أي وقت أو أية مناسبة. قسمه مكان عملي بالدرجة الأولى؛ كان فيه ينكب دوماً على تأليف أعماله الموسيقية وتدوينها، ويعزف باستمرار على البيانو، وينصرف إلى تدريس التلاميذ، ويلتقي أصدقاءَه أساتذةَ الموسيقى في المعهد، ويقوم بتداريبه على بعض عروض أعماله. فيه التقى كثيراً من الشخصيات الموسيقية؛ من عازفين، ومؤلفين، وباحثين، ومغنين. وفي هذا القسم أيضاً درس على يديه أجيالٌ من التلاميذ وقد كنت من بينهم، وفي هذا المكان جمعتني مع أستاذي ذكرياتٌ عدة. فيه علمني طوال سنواتٍ مادتي "التكوين الموسيقي" و"الهارمونية"، وفيه شهدتُ وسمعتُ مناقشاتٍ وحواراتٍ حول أساطين الموسيقى وأهميتِها، وضرورتِها، ومشاكلِها، وعوائقِها وتاريخها، وفلسفتها. ومن ذلك المكان أيضاً انبثقتْ مناقشاتي مع مصطفى عائشة حول أول مقالٍ نشرته في حياتي سنة.1997 وقد كان عن شريطه "الأندلس – ذكريات"، ثم انبثقتْ أيضاً البَذرةُ الأولى لكتابي عنه الذي أشتغل به راهناً بهذا العنوانِ المؤقت: "العائش في النغم". وللأسف الشديد لم يُكتبْ لمصطفى عائشة أن يقرأه كاملاً، لكن عزائي في أن تقرأَه زوجتُه المحترمةُ وأسرتُه الكريمةُ وكلُّ من أحبه من قريب أو بعيد.
لم أعرفْ أستاذي إلا وهو يعمل بتلك الغرفة وقد أُقفل بابُها على أنغام وألحان تتعارك فيما بينها. وربما كان أبرزَ مكان درَّس فيه أطولَ مدة في حياته التعليمية. والأكيد أنه لم يغادرْه حتى آخرَ أيام حياته. وفي ذلك القسم عايشتُ في أوائل هذا الموسم الدراسي أولى علامات المرض التي ألمت بأستاذي فجأةً فظننتُ أنها حالة عابرةٌ ستمضي بسرعة وسيعود إلى حالته الأولى قوياً معافى كعادته. لكن الأمر لم يكن كذلك. ثم خبا الضوء الذي كان يترآى دوماً من زجاج باب غرفته وتحول إلى ظلام أنبـأنا أن صاحبها برح مكانه من غير عودة.
كان الجميع يعلم أن مصطفى عائشة يقضِّي جل وقته بالمعهد الموسيقي، أو لنقل إنه قضى به نصف حياته. أما النصف الثاني منها فقد عاشه في بيته العائلي، وكان آخرُ بيت قطنه بحيّ زيانة حيث شجرةُ العبقريةِ التي تظلله، وحيث زوجتُه، ومكتبته الخاصة التي تضم روائع الأدب والفن العالميين، ومؤلفاتِه، وأشرطتَه الموسيقيةَ، وآلة البيانو، وتمثالَ بيتهوفن، وجوَّ الأسرة المضمخ بالدفء والنظام وسحر الفن.
ومامن شك في أن أهمية المكان في حياة مصطفى عائشة قد انعكست على أعماله؛ فمؤلفاته مليئة بأسماء الأماكن من قبيل : نهر الدارُّو، وإسپانيا، ورياضِ العشاق، وحدائقِ الأندلس، و المناطقِ الجبليةِ، وحيِّ العيون، ووادِ المحنش، وفارسوفيا. أما تطوانُ فلها مكانة خاصة لديه حيث يتكرر اسمها في أكثرَ من عمل. كيف لا وقد أمدته المدينةُ البيضاءُ بالأنغام الجبلية، والموسيقى الأندلسيةِ، والإيقاعاتِ الشعبية التطوانية، والأنواعِ الموسيقية الإسپانية التي سادت في سنوات الخمسينات. ولقد تأكدتْ لي أهميةُ المكان لدى أستاذي عندما حدثني في أواخر أيام حياته عن أحد مؤلفاته التي صاغها حول فصل من فصول كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار. ويعد هذا الكتاب من كلاسيكيات البحث في فلسفة المكان بمقارباته الإبداعية الشاملة.
ولأن مصطفى عائشة كان يعتبر نفسه موسيقياً كونياً غيرَ محدود الرؤية؛ لم يكن الإحساس المكانيُّ لديه محلياً فحسب، وإنما كان منطلقاً إلى ما هو أرحب من ذلك. فقد استلهمه في أكثرَ من عمل؛ ومنه استمد تلك النغمات الموسيقيةَ التراثيةَ والشعبيةَ المنتشرةَ في بيئته وحولها حسب مصطلح فيرديناند دي سوسير إلى بنية، ثم طورها شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت عملاً فنياً ينهَل مما هو محلي، ثم ينطلق بعد ذلك إلى قوالب التأليف الموسيقي العالمي فيوظف آلياتِه وأشكالَه وتقنياتِه. إنه موسيقي قوميٌّ وفي نفس الوقت موسيقي عالمي وكوني. متشبث بمكانه وهُويته وذاته، ولكنه كان يصبو أيضاً إلى الانفتاح على الكون الشامل.
إذا كان مصطفى عائشة قد أعطى للأمكنة كلَّ هذا الاهتمام، وإذا كان قد اعترف كذلك بعوالمها وتفاصيلها فسجلها ودونها ثم خلدها في أعماله؛ فهل اعترف المكان الذي عاش فيه مصطفى عائشة بقيمة أعماله، وهل اعترف بمدى تضحياته في تحقيق حلم مؤلِّف موسيقي مغربي كلاسي أصيل؟.
توفي مصطفى عائشة وهو غير راض عن الوضع الموسيقي الذي كان يحياه؛ فجمهوره محدود ومعدود، وعازفو أعماله قلةٌ قليلة، والمحتفون بدراسة روائعه دراسةً نقدية وفنيةً شبهُ معدومين. فما الذي أعطاه المكان بعد كلِّ هذا لمصطفى عائشة في حياته؟. وهل سيُلتفت
إليه بعد مماته؟. إن هذين السؤالين يحتاجان إلى وقت حتى نستطيعَ الإجابةَ عنهما. وإلى ذلك الحين سأظل بكل الأمل الإخلاص متطلعةً إلى اليوم الذي ستُعزف فيه مؤلفات مصطفى عائشة في كل بقعة ومكان. وسأظل أجتهد صحبةَ عائلته وأصدقائه من أجل التعريف بهذا العبقريِّ العظيم.
د. سعاد أنقار
لديه والذي احتل عنده منـزلةً نوعيةً حميمة.
والحقيقة أنهما مكانان أساسيان في حياته: البيت والمعهد الموسيقي. وكنتَ إذا لم تجد مصطفى عائشة في بيته تجده حتماً في معهد الموسيقى وبالذات في قسمه الذي أصبح اليومَ يسمى باسمه. لذا ما كان لك لتتعبَ في العثور عليه إن أردته في أي وقت أو أية مناسبة. قسمه مكان عملي بالدرجة الأولى؛ كان فيه ينكب دوماً على تأليف أعماله الموسيقية وتدوينها، ويعزف باستمرار على البيانو، وينصرف إلى تدريس التلاميذ، ويلتقي أصدقاءَه أساتذةَ الموسيقى في المعهد، ويقوم بتداريبه على بعض عروض أعماله. فيه التقى كثيراً من الشخصيات الموسيقية؛ من عازفين، ومؤلفين، وباحثين، ومغنين. وفي هذا القسم أيضاً درس على يديه أجيالٌ من التلاميذ وقد كنت من بينهم، وفي هذا المكان جمعتني مع أستاذي ذكرياتٌ عدة. فيه علمني طوال سنواتٍ مادتي "التكوين الموسيقي" و"الهارمونية"، وفيه شهدتُ وسمعتُ مناقشاتٍ وحواراتٍ حول أساطين الموسيقى وأهميتِها، وضرورتِها، ومشاكلِها، وعوائقِها وتاريخها، وفلسفتها. ومن ذلك المكان أيضاً انبثقتْ مناقشاتي مع مصطفى عائشة حول أول مقالٍ نشرته في حياتي سنة.1997 وقد كان عن شريطه "الأندلس – ذكريات"، ثم انبثقتْ أيضاً البَذرةُ الأولى لكتابي عنه الذي أشتغل به راهناً بهذا العنوانِ المؤقت: "العائش في النغم". وللأسف الشديد لم يُكتبْ لمصطفى عائشة أن يقرأه كاملاً، لكن عزائي في أن تقرأَه زوجتُه المحترمةُ وأسرتُه الكريمةُ وكلُّ من أحبه من قريب أو بعيد.
لم أعرفْ أستاذي إلا وهو يعمل بتلك الغرفة وقد أُقفل بابُها على أنغام وألحان تتعارك فيما بينها. وربما كان أبرزَ مكان درَّس فيه أطولَ مدة في حياته التعليمية. والأكيد أنه لم يغادرْه حتى آخرَ أيام حياته. وفي ذلك القسم عايشتُ في أوائل هذا الموسم الدراسي أولى علامات المرض التي ألمت بأستاذي فجأةً فظننتُ أنها حالة عابرةٌ ستمضي بسرعة وسيعود إلى حالته الأولى قوياً معافى كعادته. لكن الأمر لم يكن كذلك. ثم خبا الضوء الذي كان يترآى دوماً من زجاج باب غرفته وتحول إلى ظلام أنبـأنا أن صاحبها برح مكانه من غير عودة.
كان الجميع يعلم أن مصطفى عائشة يقضِّي جل وقته بالمعهد الموسيقي، أو لنقل إنه قضى به نصف حياته. أما النصف الثاني منها فقد عاشه في بيته العائلي، وكان آخرُ بيت قطنه بحيّ زيانة حيث شجرةُ العبقريةِ التي تظلله، وحيث زوجتُه، ومكتبته الخاصة التي تضم روائع الأدب والفن العالميين، ومؤلفاتِه، وأشرطتَه الموسيقيةَ، وآلة البيانو، وتمثالَ بيتهوفن، وجوَّ الأسرة المضمخ بالدفء والنظام وسحر الفن.
ومامن شك في أن أهمية المكان في حياة مصطفى عائشة قد انعكست على أعماله؛ فمؤلفاته مليئة بأسماء الأماكن من قبيل : نهر الدارُّو، وإسپانيا، ورياضِ العشاق، وحدائقِ الأندلس، و المناطقِ الجبليةِ، وحيِّ العيون، ووادِ المحنش، وفارسوفيا. أما تطوانُ فلها مكانة خاصة لديه حيث يتكرر اسمها في أكثرَ من عمل. كيف لا وقد أمدته المدينةُ البيضاءُ بالأنغام الجبلية، والموسيقى الأندلسيةِ، والإيقاعاتِ الشعبية التطوانية، والأنواعِ الموسيقية الإسپانية التي سادت في سنوات الخمسينات. ولقد تأكدتْ لي أهميةُ المكان لدى أستاذي عندما حدثني في أواخر أيام حياته عن أحد مؤلفاته التي صاغها حول فصل من فصول كتاب "جماليات المكان" لغاستون باشلار. ويعد هذا الكتاب من كلاسيكيات البحث في فلسفة المكان بمقارباته الإبداعية الشاملة.
ولأن مصطفى عائشة كان يعتبر نفسه موسيقياً كونياً غيرَ محدود الرؤية؛ لم يكن الإحساس المكانيُّ لديه محلياً فحسب، وإنما كان منطلقاً إلى ما هو أرحب من ذلك. فقد استلهمه في أكثرَ من عمل؛ ومنه استمد تلك النغمات الموسيقيةَ التراثيةَ والشعبيةَ المنتشرةَ في بيئته وحولها حسب مصطلح فيرديناند دي سوسير إلى بنية، ثم طورها شيئاً فشيئاً إلى أن أصبحت عملاً فنياً ينهَل مما هو محلي، ثم ينطلق بعد ذلك إلى قوالب التأليف الموسيقي العالمي فيوظف آلياتِه وأشكالَه وتقنياتِه. إنه موسيقي قوميٌّ وفي نفس الوقت موسيقي عالمي وكوني. متشبث بمكانه وهُويته وذاته، ولكنه كان يصبو أيضاً إلى الانفتاح على الكون الشامل.
إذا كان مصطفى عائشة قد أعطى للأمكنة كلَّ هذا الاهتمام، وإذا كان قد اعترف كذلك بعوالمها وتفاصيلها فسجلها ودونها ثم خلدها في أعماله؛ فهل اعترف المكان الذي عاش فيه مصطفى عائشة بقيمة أعماله، وهل اعترف بمدى تضحياته في تحقيق حلم مؤلِّف موسيقي مغربي كلاسي أصيل؟.
توفي مصطفى عائشة وهو غير راض عن الوضع الموسيقي الذي كان يحياه؛ فجمهوره محدود ومعدود، وعازفو أعماله قلةٌ قليلة، والمحتفون بدراسة روائعه دراسةً نقدية وفنيةً شبهُ معدومين. فما الذي أعطاه المكان بعد كلِّ هذا لمصطفى عائشة في حياته؟. وهل سيُلتفت
إليه بعد مماته؟. إن هذين السؤالين يحتاجان إلى وقت حتى نستطيعَ الإجابةَ عنهما. وإلى ذلك الحين سأظل بكل الأمل الإخلاص متطلعةً إلى اليوم الذي ستُعزف فيه مؤلفات مصطفى عائشة في كل بقعة ومكان. وسأظل أجتهد صحبةَ عائلته وأصدقائه من أجل التعريف بهذا العبقريِّ العظيم.
د. سعاد أنقار