“زهرة النرجس” عمل روائي جديد لحسن إمامي، فما الذي تحمله هذه الرواية من جديد للقارئ؟ سواء على مستوى الموضوع والرؤية السردية أو على مستوى اللغة والبناء؟
نستطيع أن نصف رواية “زهرة النرجس” بالرواية / الإدانة، الكاشفة عن صور الانحرافات في التصور والسلوك، تلك الانحرافات التي أفرزت ظواهر الإرهاب، رواية تحفر في السياقات والخلفيات الاجتماعية والثقافية المسؤولة عن إنتاج التطرف، تلك السياقات التي يتحكم فيها الجهل وتفرخ فيها الأمية، وتترعرع في أكواخها صور تعاطي المخدرات والدعارة والخيانة.. وتمهد السبيل للوصوليين والانهازيين.
تتابع الرواية صعود فؤاد – البطل- من القاع إلى القمة، شخص فاشل تائه:
“…كنت أهذي وأعبر الطرقات حافي القدمين بثياب رثة، بلحية وشعر أشعثين، أمشي كالمجذوب الذي تفجر بركان طففولة محرومة، داخل عيني وحش تحضر للجريمة.” ص84
فؤاد يتعاطى المخدرات، شخص مهمش، لم يتابع تعليمه:
“…قد ترتعش يدا فؤاد وهو يحاول المسك على كلامه بقبضة أنامله فلا يستطيع.. حاول استعمال عبارات تقربه من الأنثى. أخفق مرات ونجح أخرى.” ص7.
صعد فؤاد في ظروف غير طبيعية السلم الاجتماعي ودون مؤهلات، لقد تم نقله من السجن – مع إدانة ضمنية لواقع السجن الذي صار يحول في الغالب المجرمين الصغار إلى مجرمين كبار- ليكون وسيلة تحقق أغراضا معينة، صار نجما اجتماعيا وفاعلا اقتصاديا، يسافر إلى تركيا ويقيم في الفنادق المصنفة.
تجوس بك رواية “زهرة النرجس”خريطة مكانية شاسعة عبر أكثر من 15 مدينة، تشكل الدار البيضاء ومكناس وأنطاكية المثلث الرئيسي لمسار الأحداث، ولحركة الشخصيات وتولد انفعالاتها ومواقفها.
تصور الرواية تشكل المخططات السياسية والدسائس، والغايات الإقليمية والدولية، وتحرك الجماعات الدينية، وتحرك التهريب وغسل الأموال، وتوريد السلاح والمقاتلين لجبهات القتال، وتنقل المجاهدات في جهاد النكاح إلى ساحات القتال، وتكشف كيف يبنى اقتصاد وهمي يتم إسناد إحدى مؤسساته لفؤاد، حيث الاقتصاد ما هو سوى غطاء لأفعال أخرى:
“سيهمني كثيرا أن أرسل لك شبابا وأشخاصا تطوعوا لخدمة عملية الجهاد في سوريا والشام. مهمتنا معا أن نؤمن لهم الوصول إلى مخيمات التدريب والانخراط في الجماعات المسلحة شمال سوريا..”ص97.
القارئ له الخيار طبعا في تبني زاوية الرؤية التي اعتمدها الراوي كمعطى يفسر به سياقات المشكل، والأطراف المسؤولة على نشوء المتواليات المنتجة لظاهرة داعش، ففي الأول والأخير، رؤية السارد رؤية ورقية، لأنه تكوين ورقي، والعمل الروائي فضاء تخييلي، هكذا فمقولات السارد احتمال من الاحتمالات.. خصوصا حين يتم اختيار صوت السارد المهيمن (ينظر سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي – المركز الثقافي العربي – ط1/ 1989. ص286) العليم بكل الوقائع المخبر عن التفاصيل .
رواية “زهرة النرجس” تكاد تكون رواية شخصية (فؤاد)، فهو الخيط الرابط بين جميع مكونات سردية الرواية، وهو محل التقاطعات والامتدادات، وحتى عندما يغيب، نشعر بوجوده في نسق الأحداث المقدمة من خلال الشخصيات الأخرى:
جاء على الواجهة الثانية للغلاف: ” زهرة النرجس، رواية تعالج قدر الحياة الفردية داخل شباك القدريات البشرية العامة”.
لحسن إمامي قدرة جيدة على تلوين الوصف بإيحاءات تشعل التشويق في ذات القارئ، يقطر الأحداث بالمخاتلات السردية وإن حافظت اللغة السردية على نسق واحد من التوتر، وتسربت بعض الألفاظ الغريبة إلى النسق السردي (سيعزمها ص4، المعزومة ص 163 وصفحات أخرى، مواعدته ص16 ..). غير أن فقرات تفوح بزكي العبق مثل: “يكسر صوت مفاجئ وغريب على فؤاد هدوء جلسته وحوارها. كان زقاء طاووس يبدو أن أنثاه قد ابتعدت مسافة عنه ليلا. بدا مزركشا لريشه في حلة بهية الألوان، امتزجت بدرج مدخل الفيلا مع فسيفسائه..” ص50.
رواية “زهرة النرجس “رواية الراهن، لأنها تسرد الزمن الذي لم يوغل في الماضي ولم يصبح جامدا في ردهات التاريخ، بل أثره ما يزال يتوالد ويتفاعل، تسرد هذه الرواية أحداثا متصلة بعقد لم نغادره بعد، فأحداث داعش ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا والقضية السورية، ووضع اللاجئين وحيثيات ما تلى ذلك من إغلاق مدارس (غولن)..كل ذلك من السياقات الراهنة.
رواية “زهرة النرجس” تختار بعض الأساليب ذات التأثير النفسي المجدي، لإراحة القارئ وجذبه لمتابعة القراءة، وذلك بتقسيم ساقية السرد إلى 36 دفقة متفاوتة الحجم، أغلبها ينتهي ببياض نصف صفحة تتلوها أيقونة عبارة عن رسم لزهرة النرجس.
الحديث عن العتبات يكون في مستهل الدراسة أو المقاربة، لكن أقول: إن العتبات موجودة عند الباب والباب للدخول والخروج، وربما أفهم العتبات الآن أفضل مما لو كنت حدثتكم عنها قبل هذا السفر النقدي.
الغلاف: الوجه الأول أرضية زهرية، ومربع يوحي بالنافذة أو الشرفة ( انظر ص171) التي يفيض على جنباتها زهر النرجس ووسطه، أو يتفتق عنه عنوان الرواية.
العنوان مخاتل وخادع، يوحي برواية في العشق، وهي لا تخلو منه ولكن ليس المكون الرئيس. زهرة النرجس وتسميتها بهذا الاسم يحيل إلى أسطورة يونانية معروفة، جعلت من زهرة النرجس رمزاً للغرور والأنانية، لذلك لا يحبّذ أن تقدم هذه الزهرة هدية لأحد لأنها ربما أومأت له بهذا المفهوم، وهنا الإيحاء الذي يكتنزه العنوان، حيث نلمس هذا المعنى في نسق الأحداث وأفعال الشخصيات.
الوجه الثاني: فقرة مقتطفة من الرواية، فوقها عنوان، وكأن الكاتب يرشدنا إلى عنوان آخر للرواية يكثف الدلالة التي يقصدها: ” تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن” (انظر إيحاءات بعنوانين آخرين في ص152- الوحش النائم – وافؤاداه).
هامش:
_ (زهرة النرجس :ط1-2017)
أمجد مجدوب رشيد
نستطيع أن نصف رواية “زهرة النرجس” بالرواية / الإدانة، الكاشفة عن صور الانحرافات في التصور والسلوك، تلك الانحرافات التي أفرزت ظواهر الإرهاب، رواية تحفر في السياقات والخلفيات الاجتماعية والثقافية المسؤولة عن إنتاج التطرف، تلك السياقات التي يتحكم فيها الجهل وتفرخ فيها الأمية، وتترعرع في أكواخها صور تعاطي المخدرات والدعارة والخيانة.. وتمهد السبيل للوصوليين والانهازيين.
تتابع الرواية صعود فؤاد – البطل- من القاع إلى القمة، شخص فاشل تائه:
“…كنت أهذي وأعبر الطرقات حافي القدمين بثياب رثة، بلحية وشعر أشعثين، أمشي كالمجذوب الذي تفجر بركان طففولة محرومة، داخل عيني وحش تحضر للجريمة.” ص84
فؤاد يتعاطى المخدرات، شخص مهمش، لم يتابع تعليمه:
“…قد ترتعش يدا فؤاد وهو يحاول المسك على كلامه بقبضة أنامله فلا يستطيع.. حاول استعمال عبارات تقربه من الأنثى. أخفق مرات ونجح أخرى.” ص7.
صعد فؤاد في ظروف غير طبيعية السلم الاجتماعي ودون مؤهلات، لقد تم نقله من السجن – مع إدانة ضمنية لواقع السجن الذي صار يحول في الغالب المجرمين الصغار إلى مجرمين كبار- ليكون وسيلة تحقق أغراضا معينة، صار نجما اجتماعيا وفاعلا اقتصاديا، يسافر إلى تركيا ويقيم في الفنادق المصنفة.
تجوس بك رواية “زهرة النرجس”خريطة مكانية شاسعة عبر أكثر من 15 مدينة، تشكل الدار البيضاء ومكناس وأنطاكية المثلث الرئيسي لمسار الأحداث، ولحركة الشخصيات وتولد انفعالاتها ومواقفها.
تصور الرواية تشكل المخططات السياسية والدسائس، والغايات الإقليمية والدولية، وتحرك الجماعات الدينية، وتحرك التهريب وغسل الأموال، وتوريد السلاح والمقاتلين لجبهات القتال، وتنقل المجاهدات في جهاد النكاح إلى ساحات القتال، وتكشف كيف يبنى اقتصاد وهمي يتم إسناد إحدى مؤسساته لفؤاد، حيث الاقتصاد ما هو سوى غطاء لأفعال أخرى:
“سيهمني كثيرا أن أرسل لك شبابا وأشخاصا تطوعوا لخدمة عملية الجهاد في سوريا والشام. مهمتنا معا أن نؤمن لهم الوصول إلى مخيمات التدريب والانخراط في الجماعات المسلحة شمال سوريا..”ص97.
القارئ له الخيار طبعا في تبني زاوية الرؤية التي اعتمدها الراوي كمعطى يفسر به سياقات المشكل، والأطراف المسؤولة على نشوء المتواليات المنتجة لظاهرة داعش، ففي الأول والأخير، رؤية السارد رؤية ورقية، لأنه تكوين ورقي، والعمل الروائي فضاء تخييلي، هكذا فمقولات السارد احتمال من الاحتمالات.. خصوصا حين يتم اختيار صوت السارد المهيمن (ينظر سعيد يقطين: تحليل الخطاب الروائي – المركز الثقافي العربي – ط1/ 1989. ص286) العليم بكل الوقائع المخبر عن التفاصيل .
رواية “زهرة النرجس” تكاد تكون رواية شخصية (فؤاد)، فهو الخيط الرابط بين جميع مكونات سردية الرواية، وهو محل التقاطعات والامتدادات، وحتى عندما يغيب، نشعر بوجوده في نسق الأحداث المقدمة من خلال الشخصيات الأخرى:
جاء على الواجهة الثانية للغلاف: ” زهرة النرجس، رواية تعالج قدر الحياة الفردية داخل شباك القدريات البشرية العامة”.
لحسن إمامي قدرة جيدة على تلوين الوصف بإيحاءات تشعل التشويق في ذات القارئ، يقطر الأحداث بالمخاتلات السردية وإن حافظت اللغة السردية على نسق واحد من التوتر، وتسربت بعض الألفاظ الغريبة إلى النسق السردي (سيعزمها ص4، المعزومة ص 163 وصفحات أخرى، مواعدته ص16 ..). غير أن فقرات تفوح بزكي العبق مثل: “يكسر صوت مفاجئ وغريب على فؤاد هدوء جلسته وحوارها. كان زقاء طاووس يبدو أن أنثاه قد ابتعدت مسافة عنه ليلا. بدا مزركشا لريشه في حلة بهية الألوان، امتزجت بدرج مدخل الفيلا مع فسيفسائه..” ص50.
رواية “زهرة النرجس “رواية الراهن، لأنها تسرد الزمن الذي لم يوغل في الماضي ولم يصبح جامدا في ردهات التاريخ، بل أثره ما يزال يتوالد ويتفاعل، تسرد هذه الرواية أحداثا متصلة بعقد لم نغادره بعد، فأحداث داعش ومحاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا والقضية السورية، ووضع اللاجئين وحيثيات ما تلى ذلك من إغلاق مدارس (غولن)..كل ذلك من السياقات الراهنة.
رواية “زهرة النرجس” تختار بعض الأساليب ذات التأثير النفسي المجدي، لإراحة القارئ وجذبه لمتابعة القراءة، وذلك بتقسيم ساقية السرد إلى 36 دفقة متفاوتة الحجم، أغلبها ينتهي ببياض نصف صفحة تتلوها أيقونة عبارة عن رسم لزهرة النرجس.
الحديث عن العتبات يكون في مستهل الدراسة أو المقاربة، لكن أقول: إن العتبات موجودة عند الباب والباب للدخول والخروج، وربما أفهم العتبات الآن أفضل مما لو كنت حدثتكم عنها قبل هذا السفر النقدي.
الغلاف: الوجه الأول أرضية زهرية، ومربع يوحي بالنافذة أو الشرفة ( انظر ص171) التي يفيض على جنباتها زهر النرجس ووسطه، أو يتفتق عنه عنوان الرواية.
العنوان مخاتل وخادع، يوحي برواية في العشق، وهي لا تخلو منه ولكن ليس المكون الرئيس. زهرة النرجس وتسميتها بهذا الاسم يحيل إلى أسطورة يونانية معروفة، جعلت من زهرة النرجس رمزاً للغرور والأنانية، لذلك لا يحبّذ أن تقدم هذه الزهرة هدية لأحد لأنها ربما أومأت له بهذا المفهوم، وهنا الإيحاء الذي يكتنزه العنوان، حيث نلمس هذا المعنى في نسق الأحداث وأفعال الشخصيات.
الوجه الثاني: فقرة مقتطفة من الرواية، فوقها عنوان، وكأن الكاتب يرشدنا إلى عنوان آخر للرواية يكثف الدلالة التي يقصدها: ” تأتي الرياح بما لا تشتهي السفن” (انظر إيحاءات بعنوانين آخرين في ص152- الوحش النائم – وافؤاداه).
هامش:
_ (زهرة النرجس :ط1-2017)
أمجد مجدوب رشيد