عادة ما يكون مثل هذا السؤال نظريًا: ماذا سيكون شعورك وأنت تجد مدينتك، دولتك، وبلدتك، معزولة عن بقية العالم، مواطنيها محبوسين في منازلهم، لأن العدوى تنتشر، والآلاف منهم أصيبوا، وأُخضع آلاف آخرون للحجر الصحي؟ كيف ستتأقلم إذا خرّب الوباء الحياة اليومية، وأغلق المدارس، وملأ المستشفيات، ووضع التجمعات الاجتماعية، والأحداث الرياضية والحفلات الموسيقية، والمؤتمرات، والمهرجانات وخطط السفر رهن الاعتقال إلى أجل غير مسمّى؟
في عام 1947، عندما كان عمره 34 عامًا، قدّم ألبير كامو، الكاتب الفرنسي، الجزائري المولد (الذي سيفوز بجائزة نوبل للآداب بعد عشر سنوات، ويموت في حادث تحطم سيارة بعد ذلك بثلاث سنوات) إجابة تفصيلية مذهلة وثاقبة على هذه الأسئلة في روايته (الطاعون). يؤرخ الكتاب الوصول المفاجئ والرحيل البطيء لتفشٍّ خياليٍّ للطاعون الدُّمَّليّ في بلدة وهران الساحلية الجزائرية في شهر أبريل، في وقت ما في الأربعينيات. وبمجرد أن استقرّ الوباء هناك، تلكّأ معكّراً حيوات وعقول سكان البلدة حتى شهر فبراير التالي، حيث غادر سريعاً دون تفسير مثلما قدم، "منسلاًّ مرة أخرى إلى الجحر الغامض الذي خرج خلسة منه".
سواء كنت قد قرأت (الطاعون) أم لا، فالكتاب يتطلب القراءة، أو إعادة القراءة، في هذه اللحظة الوطنية والدولية المتوترة، حيث اكتسح الكرة الأرضية مرض جديد، COVID-19، تسبب به نوع غير مألوف من الفيروسات التاجية. منذ ظهور الفيروس التاجي الجديد في أواخر العام الماضي في مدينة ووهان الصينية (كانت المدينة مغلقة منذ يناير)، زحف الوباء بجحافله، مجتاحاً أكثر من مائة دولة، مرعباً السكان والأسواق المالية وواضعاً مدناً وأقاليم، وبلداً بأكامله، كإيطاليا، تحت الحجر الصحي. هذا الأسبوع، أغلقت أماكن العمل، والمدارس والكليات أو انتقلت إلى الإنترنت في العديد من المدن الأمريكية؛ المناسبات أُلغيت، والرحلات غير الضرورية حُظرت. الوباء تمّت ترقيته إلى جائحة. لعلك تجد لنفسك وقتًا للقراءة أكثر مما هو معتاد. رواية كامو تمتلك آصرة طريّة وملحاحة، ودروس لتقدّمها.
كن على ثقةٍ، قبل أن تتناول هذا الكتاب، بأنه مهما يكن الخوف من COVID، فإنه لن يكون مدمِّراً مثل طاعون كامو. في القرن الرابع عشر، فتك الطاعون الدُّمَّلي، المعروف أيضًا باسم "الموت الأسود"، بما يقارب ثلث الناس في قارة أوروبا. عندما عصف بلندن بين 1656 ـ 1657، قتل ربع السكّان تقريباً. في حال كونك لا تعلم، فما يزال الطاعون الدمّلي موجودًا اليوم، ليس فقط في جيوب آسيا وأفريقيا، ولكن أيضًا في الجنوب الغربي الأمريكي. إنه ينتقل عن طريق البراغيث من القوارض المصابة، ويتسبب بحمّى شديدة، وقيء، وتورّم مؤلم يدعى "الدُّمَّل" (ومن هنا جاءت تسمية "الدُّمَّلي"). وحتى عند علاجه بالمضادات الحيوية يكون معدل الوفيات فيه 10 في المائة؛ وفي حال عدم معالجته، يصل إلى 90 بالمائة. فيروس كورونا لا يشابه هذا، لا من بعيد ولا من قريب.
عندما كتب كامو هذه الرواية، لم يكن هناك وباء الطاعون في وهران. ومع ذلك، فقد دمّر الوباء هذه المدينة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. (كان ثمة تفشٍّ لمدة شهر في وهران عام 2003)، لكن في حين أن الطاعون ينقل أعراضَ وبلاءَ هذا المرض حرفيّاً وسريريّاً، فإن العُصيَّة تحت عدسة المؤلف ليست فسيولوجية بقدر ما هي سوسيولوجية وفلسفية. وبالرغم من أن روايته تتتبّع تطوّر وباء معين في مدينة معينة، وبلد معين، وإطار زمنيّ معين، فإن موضوع كامو الحقيقي يقع خارج الزمان والمكان.
كان قصده مجازيّاً: أن يعالج أيّة عدوى قد تصيب أيّ مجتمع. من مرض كالكوليرا مثلاً، أو الإنفلونزا الإسبانية، أو الإيدز، أو السارس، أو، نعم، حتى COVID-19، وصولاً إلى إيديولوجيات التآكل، كالفاشية أو الشمولية، التي يمكن أن تعدي شعبًا بأكمله. لقد شاهد كامو النازيين وهم يجتاحون باريس عام 1940 خلال الحرب العالمية الثانية. عندما كان يكتب (الطاعون)، كان رئيساً لتحرير مجلة "المعركة"، المجلة السرّية للمقاومة الفرنسية، التي كان من بين مساهميها أندريه مالرو، جان بول سارتر، وريموند آرون. لقد أبصر العلاقة بين التلّوث الجسدي والنفسي، التي كان كتابه يخيطهما معاً.
مع بداية القصة، تتسرب الفئران من ظلال وهران، الواحدة تلو الأخرى، ثم في "دفعات"، والتي تتلاشى بشكل مروع أثناء الهبوط أو في الشارع. أول من واجه هذه الظاهرة هو طبيب محلّي يدعى ريو، الذي يستدعي بوّابه ميشيل، ليتعامل مع مصدر الإزعاج، وأصبح مندهشاً عندما أضحى ميشيل "غاضبًا" بدلاً من شعوره بالاشمئزاز. كان ميشيل مقتنعاً بأن الفتيان "الأوغاد" لابد أنهم غرسوا الهوام في رواقه كمزحة. مثل ميشيل، كان معظم مواطني وهران يسيئون تفسير "النُّذُر المحيِّرة" المبكّرة، مضيّعين مغزاها الكبير. لبرهة من الوقت، كان الإجراء الوحيد الذي اتخذوه هو إدانة إدارة الصرف الصحي المحلية والشكوى من السلطات. "في هذا الصدد، كان سكان بلدتنا مثل أيّ شخص آخر، منطوين على أنفسهم"، يفكّر الراوي، "لقد كانوا إنسانيين: كفروا بالطاعون الدمّلي". يرينا كامو كم من السهل إبدال الوباء بالانزعاج.
ولكن بعدها سقط ميشيل مريضاً ومات. عندما عالجه ريو، كان يتعرّف على علامات الطاعون المُنذِرة، لكنه في البداية كان يُقنع نفسه، "يجب أن لا يُقلِق الجمهور، وهذا ما لن يفعله على الإطلاق." يوافق بيروقراطيو وهران على ذلك. الحاكم (مثل العمدة أو المحافظ في الجزائر الاستعمارية) "كان مقتنعاً شخصياً بأنه إنذار كاذب." يصرّ ريتشارد، وهو بيروقراطي من مستوى منخفض، على أن المرض يجب عدم تحديده رسميًا على أنه طاعون، ولكن يتوجب الإشارة إليه على أنه مجرد "نوع خاص من الحمّى". لكن مع تزايد وتيرة الوفيات، يرفض ريو التعبير الملطَّف، فيُجبَر قادة المدينة على القيام بإجراءات.
السلطات هي المسؤولة عن تقليل خطر الوباء، كما يشير كامو، إلى أن يصبح الدليل مؤكّداً بأن ردّ الفعل الأقلّ حدّة أشدّ خطورة من ردّ الفعل المفرَط. أغلب الناس يتشاركون في هذه النزعة، كما يكتب، إنها هشاشة إنسانية عالمية: "الجميع يعرف أن الأوبئة لها طريقة للتكرار في العالم. ومع ذلك، فبطريقة ما نجد أنه من الصعب أن نصدق تلك النوازل التي تتهشم على رؤوسنا من السماء الزرقاء".
سرعان ما تُغلق بوابات المدينة ويُفرض الحجر الصحي، عازلة سكان وهران عن بعضهم البعض وعن العالم الخارجي. "أوّل شيء جلبه الطاعون إلى بلدتنا كان المنفى"، يقول الراوي. ثمة صحفي يدعى رامبير، عَلِق في وهران بعد إغلاق البوابات، يلتمس من ريو الحصول على شهادة صحّية كي يتمكن من العودة إلى زوجته في باريس، لكن ريو لا يمكنه مساعدته. "يوجد آلاف من الأشخاص محجوزين مثلك في هذه البلدة"، كما يقول له. ومثل رامبير، سرعان ما يحسّ المواطنون بعدم جدوى المكوث في محنهم الشخصية، لأن الطاعون يمحو "تفرّد حياة كل إنسان" حتى وإن كان يزيد من إدراك كل شخص بعدم حصانته وعجزه عن التخطيط للمستقبل.
هذه الكارثة كانت جماعية: "الشعور الطبيعي للإنسان كفرد، مثل ألم الانفصال عن أولئك الذين يحبهم، أصبح فجأة شعورًا يتقاسمه الجميع على حد سواء"، يكتب كامو. هذا الألم، إلى جانب الخوف، يصير "أعظم محن فترة المنفى الطويلة التي تنتظرنا". يمكن لأي شخص اضطر مؤخرًا إلى إلغاء رحلة عمل، حصّة دراسية، حفلة، مأدبة، إجازة، أو لمّ شمل مع شخص محبوب، أن يشعر بعدالة تشديد كامو على التداعيات العاطفية في زمن الطاعون: مشاعر العزلة، والخوف، وفقدان السلطة. إنه "التأريخ الذي يتجاوزه المؤرِّخ العادي"، ذلك الذي تسجّله روايته، والذي تحفره الآن الفيروسات التاجية الجديدة على الحياة المدنية الحالية.
إذا كنت قد قرأت (الطاعون) منذ فترة طويلة، ربما من أجل حصّة دراسية في الجامعة، فمن المرجح أن تكون قد تأثرت أكثر بالعذابات الجسدية التي يصفها راوي كامو بحيادية، ولكن بشكل عميق. لعلك أوليت اهتمامًا للدمامل والحُفَر الجِيريّة أكثر من الاهتمام بتصوير الراوي لـ "التمجيد العالي" للناس العاديين المحاصرين في فقاعة الوباء، الذين حاربوا شعورهم بالعزلة من خلال ارتداء الملابس، متجولين بلا هدف على امتداد شوارع وهران؛ منفقين بسخاء في المطاعم، ومتأهبين للفرار إذا ما سقط أحد المرتادين مريضاً، عالقين في "الرغبة المحمومة بالحياة التي تزدهر في قلب كل كارثة كبيرة": طمأنينة الجماعة. لم يكن لدى سكان بلدة وهران الملاذ الذي يمتلكه مواطنو العالم اليوم في أية بلدة كانت: البحث عن جماعة في الواقع الافتراضي. وتدريجيّاً، مع استقرار الوباء الحالي وتلكؤه في هذا العصر الرقمي، فإنه يضع مصفاةً ناصعة جديدة على رؤية كامو الثاقبة لخلفية العدوى العاطفية.
اليوم، يكتسب المنفى والعزلة في (الطاعون 2.0) تظليلاتهما الخاصة، وصبغتهما الخاصة، معيدين تلوين لوحة كامو. وفيما نحن نسير على امتداد شوارعنا، ذاهبين إلى البقالة، نتبنى تلقائياً العادات الوقائية التي توصي بها وسائل التواصل الاجتماعي: نغسل أيدينا؛ نستبدل، متأسفين ومبتسمين، المصافحات بهزّات الكتف؛ مطبّقين "التباعد الاجتماعي". بإمكاننا القيام بعملنا عن بعد لتجنّب العدوى أو إصابة الآخرين. يمكننا تجنب الحفلات، الاحتفالات الموسيقية والمطاعم، وأن نوصي ببضائعنا من مكاتب التوصيل. لكن إلى متى؟ كامو عرف الجواب: لا نستطيع أن نعرف.
مثل بقية الرجال والنساء الذين عاشوا في زمن الاضطراب قبل قرن تقريباً، والذين يعيد كامو تخيّلهم لرسم ثيمته غير القابلة للمحو، كل ما يمكننا معرفته هو أن هذا الاضطراب لن يدوم إلى الأبد. سوف يرحل الوباء "دونما تفسير" عندما يشعر بالرضا. وذات يوم، ستظهر أوبئة أخرى. وعندما تفعل ذلك، كما حذّرت روايته منذ وقت طويل وكشفت لنا بشكل أكثر وضوحاً الآن، ينبغي أن نحرص على قراءة "النُّذُر المحيِّرة" بشكل صحيح. "كان هناك العديد من الطواعين بقدر الحروب على مدى التاريخ"، يكتب كامو. "ومع ذلك، فإن الأوبئة والحروب دائمًا ما تفاجئ الناس على حد سوء
https://www.facebook.com/jamal.vilnius/posts/768314120242104
في عام 1947، عندما كان عمره 34 عامًا، قدّم ألبير كامو، الكاتب الفرنسي، الجزائري المولد (الذي سيفوز بجائزة نوبل للآداب بعد عشر سنوات، ويموت في حادث تحطم سيارة بعد ذلك بثلاث سنوات) إجابة تفصيلية مذهلة وثاقبة على هذه الأسئلة في روايته (الطاعون). يؤرخ الكتاب الوصول المفاجئ والرحيل البطيء لتفشٍّ خياليٍّ للطاعون الدُّمَّليّ في بلدة وهران الساحلية الجزائرية في شهر أبريل، في وقت ما في الأربعينيات. وبمجرد أن استقرّ الوباء هناك، تلكّأ معكّراً حيوات وعقول سكان البلدة حتى شهر فبراير التالي، حيث غادر سريعاً دون تفسير مثلما قدم، "منسلاًّ مرة أخرى إلى الجحر الغامض الذي خرج خلسة منه".
سواء كنت قد قرأت (الطاعون) أم لا، فالكتاب يتطلب القراءة، أو إعادة القراءة، في هذه اللحظة الوطنية والدولية المتوترة، حيث اكتسح الكرة الأرضية مرض جديد، COVID-19، تسبب به نوع غير مألوف من الفيروسات التاجية. منذ ظهور الفيروس التاجي الجديد في أواخر العام الماضي في مدينة ووهان الصينية (كانت المدينة مغلقة منذ يناير)، زحف الوباء بجحافله، مجتاحاً أكثر من مائة دولة، مرعباً السكان والأسواق المالية وواضعاً مدناً وأقاليم، وبلداً بأكامله، كإيطاليا، تحت الحجر الصحي. هذا الأسبوع، أغلقت أماكن العمل، والمدارس والكليات أو انتقلت إلى الإنترنت في العديد من المدن الأمريكية؛ المناسبات أُلغيت، والرحلات غير الضرورية حُظرت. الوباء تمّت ترقيته إلى جائحة. لعلك تجد لنفسك وقتًا للقراءة أكثر مما هو معتاد. رواية كامو تمتلك آصرة طريّة وملحاحة، ودروس لتقدّمها.
كن على ثقةٍ، قبل أن تتناول هذا الكتاب، بأنه مهما يكن الخوف من COVID، فإنه لن يكون مدمِّراً مثل طاعون كامو. في القرن الرابع عشر، فتك الطاعون الدُّمَّلي، المعروف أيضًا باسم "الموت الأسود"، بما يقارب ثلث الناس في قارة أوروبا. عندما عصف بلندن بين 1656 ـ 1657، قتل ربع السكّان تقريباً. في حال كونك لا تعلم، فما يزال الطاعون الدمّلي موجودًا اليوم، ليس فقط في جيوب آسيا وأفريقيا، ولكن أيضًا في الجنوب الغربي الأمريكي. إنه ينتقل عن طريق البراغيث من القوارض المصابة، ويتسبب بحمّى شديدة، وقيء، وتورّم مؤلم يدعى "الدُّمَّل" (ومن هنا جاءت تسمية "الدُّمَّلي"). وحتى عند علاجه بالمضادات الحيوية يكون معدل الوفيات فيه 10 في المائة؛ وفي حال عدم معالجته، يصل إلى 90 بالمائة. فيروس كورونا لا يشابه هذا، لا من بعيد ولا من قريب.
عندما كتب كامو هذه الرواية، لم يكن هناك وباء الطاعون في وهران. ومع ذلك، فقد دمّر الوباء هذه المدينة في القرنين السادس عشر والسابع عشر. (كان ثمة تفشٍّ لمدة شهر في وهران عام 2003)، لكن في حين أن الطاعون ينقل أعراضَ وبلاءَ هذا المرض حرفيّاً وسريريّاً، فإن العُصيَّة تحت عدسة المؤلف ليست فسيولوجية بقدر ما هي سوسيولوجية وفلسفية. وبالرغم من أن روايته تتتبّع تطوّر وباء معين في مدينة معينة، وبلد معين، وإطار زمنيّ معين، فإن موضوع كامو الحقيقي يقع خارج الزمان والمكان.
كان قصده مجازيّاً: أن يعالج أيّة عدوى قد تصيب أيّ مجتمع. من مرض كالكوليرا مثلاً، أو الإنفلونزا الإسبانية، أو الإيدز، أو السارس، أو، نعم، حتى COVID-19، وصولاً إلى إيديولوجيات التآكل، كالفاشية أو الشمولية، التي يمكن أن تعدي شعبًا بأكمله. لقد شاهد كامو النازيين وهم يجتاحون باريس عام 1940 خلال الحرب العالمية الثانية. عندما كان يكتب (الطاعون)، كان رئيساً لتحرير مجلة "المعركة"، المجلة السرّية للمقاومة الفرنسية، التي كان من بين مساهميها أندريه مالرو، جان بول سارتر، وريموند آرون. لقد أبصر العلاقة بين التلّوث الجسدي والنفسي، التي كان كتابه يخيطهما معاً.
مع بداية القصة، تتسرب الفئران من ظلال وهران، الواحدة تلو الأخرى، ثم في "دفعات"، والتي تتلاشى بشكل مروع أثناء الهبوط أو في الشارع. أول من واجه هذه الظاهرة هو طبيب محلّي يدعى ريو، الذي يستدعي بوّابه ميشيل، ليتعامل مع مصدر الإزعاج، وأصبح مندهشاً عندما أضحى ميشيل "غاضبًا" بدلاً من شعوره بالاشمئزاز. كان ميشيل مقتنعاً بأن الفتيان "الأوغاد" لابد أنهم غرسوا الهوام في رواقه كمزحة. مثل ميشيل، كان معظم مواطني وهران يسيئون تفسير "النُّذُر المحيِّرة" المبكّرة، مضيّعين مغزاها الكبير. لبرهة من الوقت، كان الإجراء الوحيد الذي اتخذوه هو إدانة إدارة الصرف الصحي المحلية والشكوى من السلطات. "في هذا الصدد، كان سكان بلدتنا مثل أيّ شخص آخر، منطوين على أنفسهم"، يفكّر الراوي، "لقد كانوا إنسانيين: كفروا بالطاعون الدمّلي". يرينا كامو كم من السهل إبدال الوباء بالانزعاج.
ولكن بعدها سقط ميشيل مريضاً ومات. عندما عالجه ريو، كان يتعرّف على علامات الطاعون المُنذِرة، لكنه في البداية كان يُقنع نفسه، "يجب أن لا يُقلِق الجمهور، وهذا ما لن يفعله على الإطلاق." يوافق بيروقراطيو وهران على ذلك. الحاكم (مثل العمدة أو المحافظ في الجزائر الاستعمارية) "كان مقتنعاً شخصياً بأنه إنذار كاذب." يصرّ ريتشارد، وهو بيروقراطي من مستوى منخفض، على أن المرض يجب عدم تحديده رسميًا على أنه طاعون، ولكن يتوجب الإشارة إليه على أنه مجرد "نوع خاص من الحمّى". لكن مع تزايد وتيرة الوفيات، يرفض ريو التعبير الملطَّف، فيُجبَر قادة المدينة على القيام بإجراءات.
السلطات هي المسؤولة عن تقليل خطر الوباء، كما يشير كامو، إلى أن يصبح الدليل مؤكّداً بأن ردّ الفعل الأقلّ حدّة أشدّ خطورة من ردّ الفعل المفرَط. أغلب الناس يتشاركون في هذه النزعة، كما يكتب، إنها هشاشة إنسانية عالمية: "الجميع يعرف أن الأوبئة لها طريقة للتكرار في العالم. ومع ذلك، فبطريقة ما نجد أنه من الصعب أن نصدق تلك النوازل التي تتهشم على رؤوسنا من السماء الزرقاء".
سرعان ما تُغلق بوابات المدينة ويُفرض الحجر الصحي، عازلة سكان وهران عن بعضهم البعض وعن العالم الخارجي. "أوّل شيء جلبه الطاعون إلى بلدتنا كان المنفى"، يقول الراوي. ثمة صحفي يدعى رامبير، عَلِق في وهران بعد إغلاق البوابات، يلتمس من ريو الحصول على شهادة صحّية كي يتمكن من العودة إلى زوجته في باريس، لكن ريو لا يمكنه مساعدته. "يوجد آلاف من الأشخاص محجوزين مثلك في هذه البلدة"، كما يقول له. ومثل رامبير، سرعان ما يحسّ المواطنون بعدم جدوى المكوث في محنهم الشخصية، لأن الطاعون يمحو "تفرّد حياة كل إنسان" حتى وإن كان يزيد من إدراك كل شخص بعدم حصانته وعجزه عن التخطيط للمستقبل.
هذه الكارثة كانت جماعية: "الشعور الطبيعي للإنسان كفرد، مثل ألم الانفصال عن أولئك الذين يحبهم، أصبح فجأة شعورًا يتقاسمه الجميع على حد سواء"، يكتب كامو. هذا الألم، إلى جانب الخوف، يصير "أعظم محن فترة المنفى الطويلة التي تنتظرنا". يمكن لأي شخص اضطر مؤخرًا إلى إلغاء رحلة عمل، حصّة دراسية، حفلة، مأدبة، إجازة، أو لمّ شمل مع شخص محبوب، أن يشعر بعدالة تشديد كامو على التداعيات العاطفية في زمن الطاعون: مشاعر العزلة، والخوف، وفقدان السلطة. إنه "التأريخ الذي يتجاوزه المؤرِّخ العادي"، ذلك الذي تسجّله روايته، والذي تحفره الآن الفيروسات التاجية الجديدة على الحياة المدنية الحالية.
إذا كنت قد قرأت (الطاعون) منذ فترة طويلة، ربما من أجل حصّة دراسية في الجامعة، فمن المرجح أن تكون قد تأثرت أكثر بالعذابات الجسدية التي يصفها راوي كامو بحيادية، ولكن بشكل عميق. لعلك أوليت اهتمامًا للدمامل والحُفَر الجِيريّة أكثر من الاهتمام بتصوير الراوي لـ "التمجيد العالي" للناس العاديين المحاصرين في فقاعة الوباء، الذين حاربوا شعورهم بالعزلة من خلال ارتداء الملابس، متجولين بلا هدف على امتداد شوارع وهران؛ منفقين بسخاء في المطاعم، ومتأهبين للفرار إذا ما سقط أحد المرتادين مريضاً، عالقين في "الرغبة المحمومة بالحياة التي تزدهر في قلب كل كارثة كبيرة": طمأنينة الجماعة. لم يكن لدى سكان بلدة وهران الملاذ الذي يمتلكه مواطنو العالم اليوم في أية بلدة كانت: البحث عن جماعة في الواقع الافتراضي. وتدريجيّاً، مع استقرار الوباء الحالي وتلكؤه في هذا العصر الرقمي، فإنه يضع مصفاةً ناصعة جديدة على رؤية كامو الثاقبة لخلفية العدوى العاطفية.
اليوم، يكتسب المنفى والعزلة في (الطاعون 2.0) تظليلاتهما الخاصة، وصبغتهما الخاصة، معيدين تلوين لوحة كامو. وفيما نحن نسير على امتداد شوارعنا، ذاهبين إلى البقالة، نتبنى تلقائياً العادات الوقائية التي توصي بها وسائل التواصل الاجتماعي: نغسل أيدينا؛ نستبدل، متأسفين ومبتسمين، المصافحات بهزّات الكتف؛ مطبّقين "التباعد الاجتماعي". بإمكاننا القيام بعملنا عن بعد لتجنّب العدوى أو إصابة الآخرين. يمكننا تجنب الحفلات، الاحتفالات الموسيقية والمطاعم، وأن نوصي ببضائعنا من مكاتب التوصيل. لكن إلى متى؟ كامو عرف الجواب: لا نستطيع أن نعرف.
مثل بقية الرجال والنساء الذين عاشوا في زمن الاضطراب قبل قرن تقريباً، والذين يعيد كامو تخيّلهم لرسم ثيمته غير القابلة للمحو، كل ما يمكننا معرفته هو أن هذا الاضطراب لن يدوم إلى الأبد. سوف يرحل الوباء "دونما تفسير" عندما يشعر بالرضا. وذات يوم، ستظهر أوبئة أخرى. وعندما تفعل ذلك، كما حذّرت روايته منذ وقت طويل وكشفت لنا بشكل أكثر وضوحاً الآن، ينبغي أن نحرص على قراءة "النُّذُر المحيِّرة" بشكل صحيح. "كان هناك العديد من الطواعين بقدر الحروب على مدى التاريخ"، يكتب كامو. "ومع ذلك، فإن الأوبئة والحروب دائمًا ما تفاجئ الناس على حد سوء
https://www.facebook.com/jamal.vilnius/posts/768314120242104