قصيدة و أغنية سعاد أنقار - مصطفى عائشة بين العبقرية والتواضع

لم يمت مصطفى عائشة الرحماني، فأعماله لاتزال شاهدة على حياته، وشاهدة على استمراره وخلوده. لقد كان المرحوم مبدعا عبقريا، وفيا لفنه، صادقا في نغماته، مخلصا لكل علامة موسيقية دونها، إلى أن أصبحت علامات كونية وإنسانية يحق للأجيال المقبلة أن تفتخر بها وتجعلها صورا موسيقية لأشخاص ضحوا وبذلوا كل الجهد في سبيل إيصال إبداع ملتزم وأصيل.

عندما أتذكر أستاذي مصطفى عائشة تتبادر إلى ذهني صور متباينة الأطراف:
الشخصية الخجول المتواضعة إلى أبعد حد، وهي الصورة المنطبعة في أذهان جميع طلبته ومعارفه من أساتذة وفنانين وعازفين من دون استثناء.

ثم صورة المثقف القارئ المنفتح على أنواع من ثقافات مختلفة تشمل المسرح والقصة والرسم والمقالة والترجمة والشعر وغيرها، باللغتين العربية والإسبانية.

وأخيرا، صورة الموسيقي الطموح ذي النظرة الإنسانية والكونية العميقة التي لا تنحصر في قوالب فنية جاهزة، وإنما هي نظرة واسعة تسعى إلى الانفتاح والتجديد ومعانقة عوالم الموسيقى بمختلف امتداداتها وتشكلاتها الجمالية.

وبين حدي هذه الثنائية: الشخصية المتواضعة والشخصية المنفتحة على الثقافة والمواهب يعرف الناسُ مصطفى عائشة المؤلف الموسيقي الذي رسخ حياته للموسيقى وليس إلا للموسيقى، فاشتغل أستاذا لها وصرف المال الكثير في شراء كتبها، ومجلاتها، وأشرطتها، واستنساخ مدوناتها وكل ما يتعلق بها. بل إنه على الرغم من مواهبه الشعرية والقصصية والمسرحية وغيرها لم يشأ أن ينعت بصفة أخرى غير صفة المؤلف الموسيقي، حتى إنه كان يقضي كل وقته بالمعهد الموسيقي في قسمه الذي يعتبره بيته الثاني والذي كنت تجده فيه دائما منكبا على العزف على آلة البيانو ، أو جالسا فوق مكتبه يدون ويكتب موسيقاه، أو بين تلاميذه يشرح لهم دروس النظرية أوالهارمونية. وفي هذا القسم وبالضبط فوق آلة البيانو علقت صورة وحيدة للمؤلف الموسيقي لودفيج فان بيتهوفن؛ وكأن هذه الصورة كانت تؤنس مصطفى عائشة وتلهمه الألحان عندما ينصرف كل الناس من حوله فيخلد إلى التأليف وإلى الغوص في بحر النغمات الموسيقية التي ألف فيها مئات الأعمال الحاملة لسمات ومكونات خاصة لا نجدها عند مؤلف موسيقي آخر غيره.

ولأنه مؤلف موسيقي متواضع وخجول لم تنشر أعماله بالطريقة التي كان يجب عليها أن تظهر، ولذلك فإن أغلبها لم يسمع ولم يتم تداوله بيننا. إن كثيرا من مؤلفاته تظل مجرد صور. عندما نتأمل عناوينها ترد على التو صور ذهنية ذات بعد أسطوري كما في باليه "اختطاف بروسيربينا" ، أو بعد شعبي كما في سمفونية "عاشوراء" أوسمفونية "قدور وقنديشة"، أو بعد مكاني كما في "ثلاث مقطوعات فلكلورية جبلية" لآلة البيانو أو مقطوعة " لحظات حب على ضفاف نهر الدارو" لآلة القيثارة، أو في مقطوعة "تطاون سويت" للقيثارة، أو مقطوعة "إسبانيا في ذاكرتي" لآلة البيانو. إنها صور عميقة لمقطوعات لم يكتب لأغلبها أن يسمع أو ينشر أو يعزف. لذلك يظل المطلع على عناوين أعمال مصطفى عائشة متشوقا إلى سماعها حتى يُتم تركيب صوره وينقلها من مستوى ذهني إلى آخر سمعي، أو بالأحرى حتى ينتقل من الطابع المتواضع لشخصيته إلى رتبة الانفتاح. هذا إن لم تكن قد استمعت إلى أعمال مصطفى عائشة واطلعت فقط على عناوينها. أما إذا قمت فعلا بالاستماع إليها – وأعماله التي سمعت قليلة جدا بالمقارنة مع ما ألف – فإنه يجعلك تتعامل بطريقة خاصة مع صورها الموسيقية؛ فالتأمل الموسيقي يُفْرَضُ على المستمع، وانفتاح فكره على أخيلة ممتدة الحدود هي تحصيل حاصل. كما أن إعادة الاستماع مرات ومرات إلى نغماته أمر ضروري وإلا فلن تفهم لغتها ولا صورتها الكلية التي تتوخى إيصالها.

لقد أراد مصطفى عائشة أن يكون متفردا ومتميزا في أعماله. إنه موسيقي مغربي اتبع طريق الموسيقى الكلاسية العالمية في تآليفه فتأثر بكلاسية بيتهوفن، ورومانسية شوبان، ودوديكافونية شومبرغ. كما أنه ألف في قوالب الكانطاطا، والسيريناطا، والسيمفونية، والسوناطة، واللييد، وكتب ألحانه للكلافسان، والترومبيت، والفيولونصيل، والهارب، والبيانو والقيثارة وغيرها. بذلك جاءت ألحانه ذات خطاب نغمي صعب المنال، يتطلب مستمعا فوق العادي. ومع أنه نحا هذا الاتجاه العالمي إلا أننا بتأملنا موسيقاه لا نلبث أن نستنبط من خلالها صورا ذات سمات مغربية أصيلة كما في مقطوعاته "ثلاث رقصات كناوية" لآلة البيانو، أو مقطوعة "أغاني شعبية تطوانية" للبيانو، أو مقطوعة "رقصات بربرية" للبيانو، أو مقطوعة "سويت جبلية" للقيثارة، أو مقطوعة "غراميات في حدائق الأندلس" للبيانو والساكسوفون سي بيمول، التي تعكس بوضوح ملامح الموسيقى الأندلسية المغربية، أو في بعض الأزجال التي صاغها في قالب اللييد وغيرها من المقطوعات والأعمال التي نلمس فيها تشبث المؤلف بقوميته ومغربيته ومدينته تطوان. بذلك كان موسيقارا ذا نهج تصويري، ثائرا على القوالب الجاهزة، جريئا في صياغة أفكاره الموسيقية حتى وإن لم يتقبلها جمهوره في لحظتها الراهنة، ولم يعطها حقها الكافي من العناية والاهتمام والإعلام.

إنه موسيقي نادر، قلما يجود علينا الزمن بمثله. ومن اتبع طريق تأليف الموسيقى الكلاسية في عالمنا العربي واختلف بفنه وشخصه قليل أيضا. وأنغامه لا تعرف بيننا كما تعرف أصوات ونغمات المطربين الحاليين. وفي هذ السياق نتساءل: هل عُرفت أسماء من قبيل وليد الحجار، وزايد الجابري، وضياء السكري، وصلحي الوادي، وعزيز الشوان، وأحمد الصياد، ونبيل بن عبد الجليل وغيرهم الانتشار الإعلامي الذي كانوا يستحقونه ؟. إن لكل واحد منهم صورا موسيقية جميلة، وتشكيلات نغمية عميقة، وعوالم قومية وعالمية متداخلة الحدود. وبهذه المناسبة نحلم بأن تنفتح مجتمعاتنا العربية على نغمات هؤلاء وأن تُعطي لهم حقهم الإعلامي الكافي حتى يكون للفن والإبداع الجيد صورته المشرقة والمضيئة في حياتنا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...