تقديم:
هذه المقالة لبورخيس هي نواةُ قصته الأشهر (مكتبة بابل). ومن الواضح من خلالها تأثره بقصة الرياضي الألماني كورد لاسفيتز (المكتبة الكونية). بعض الأمثلة التي ضربها بورخيس هنا حول ما يمكن أن تحتويه المكتبة الكلية ذُكرت بالحرف في قصته مكتبة بابل. الملاحظات بين علامتي التنصيص من وضع بورخيس نفسه، بينما الملاحظات بين قوسين هي من وضع المترجم (يونس بن عمارة).
يرد في كتاب “سداسيات بابل ” وهي نصوص ومختارات بقلم بورخيس، وترجمة حسن ناصر التوضيح التالي حول ظروف كتابة هذا المقال( سداسيات بابل، بورخيس، ترجمة: حسن ناصر، ص281): “يروي الكاتب ألبرتو مانغويل الذي حظي برفقة الشيخ الأعمى (بورخيس) وكان يزوره بشكل منتظم ليقرأ له الكتب، أن بورخيس وبينما كان يخضع لضغوط العمل بمكتبة ببيونس ايرس واحتماله صفاقة زملائه كان يقرأ الكتب في العربة التي تقله ذهابا وإيابا بين البيت والمكتبة وأنه استطاع أن يجمع الملاحظات التي يدونها (كان هذا قبل عماه التام) خلال الرحلة اليومية ويكتب نصا عنوانه المكتبة الكلية نشره في مجلة سور Sur، ثم ليطور النص القصير إلى نص أطول قليلا أسماه مكتبة بابل ضمّنه مجموعته (القصصية) حديقة المسالك المتشعبة.”
هذا النص أي المقال وليس القصة بعنوان المكتبة الكلية هو الماثل بين أيديكم الآن:
المقال:
يحظى اغراء تخيل أو التصور اليوتوبي لمكتبة كلية “شاملة لكل شيء” بعدّة خصائص يسهلُ خلطها بيسر مع الفوائد والمزايا التي يمكن أن تحتوي عليها مثل هذه الفكرة.
وقبل أن نبدأ يمكن أن نتسائل كم استغرق النوع البشري من الزمن حتى يصل إلى هذه الفكرة. هنا سنجد بعض الأمثلة التي طرحها أرسطو ونسبها إلى ديموقريطس و لوقيبوس تتوخى بوضوح التفكير حول هذه المكتبة الكلية لكن يظهر أن مخترعها الأول ( المتأخر عنهم زمنياً) هو جوستاف ثيودور فخنر ونصيره الأول كورد لاسفيتز “بين ديموقريطس من أبديرا و فخنر من لايبزيغ يتدفق ببطء نهر مثقل من أربع وعشرين قرنا من التاريخ الأوروبي” كانت رسائله معروفة جيدا ومتنوعة للغاية ما بين النظرية الذرية والتحليل التوفيقي والطباعة والحظ. في كتابه ” السباق مع السلحفاة “برلين، 1919″، يقترح الدكتور تيودور وولف أن فكرة المكتبة الكلية فكرة مستوحاة أو لنقل : محاكاة ساخرة لآلة التفكير التي تخيلها ووضعها ريموند لول ؛ وأود أن أضيف أنها نسخة حروفية من عقيدة العود الأبدي ، هذه النظرية التي تبناها الرواقيون وأتباع بلانكي والفيثاغوريين و حتى نيتشه. وأقدم لمحة عن الأمر كانت في الكتاب الأول من ميتافيزيقا أرسطو. وأنا أشير هنا إلى الفقرة التي تعرض فكرة لوقيبوس عن نشأة الكون والتي تنص على أن الكون تكون عبر تشكيلات عشوائية من الذرات. ولاحظ الكاتب هنا أن هذه الذرات التي تتكلم عنها هذه الفرضية ذاتُ طبيعة متماثلة والاختلافات تكمن في التموضع أوالترتيب أو الشكل فقط. وليوضح هذه الفروق ، أضاف الكاتب: “(أ) يختلف عن (ن) في الشكل؛ (أ،ن) يختلف عن (ن،أ) في الترتيب، بينما يختلف (ز) عن (ن) في الوضعية. ” و في مقالته عن ‘ الكون والفساد’ حاول الكاتب أن يوفق بين الاختلافات والفروقات الكثيرة للأشياء التي نراها في الواقع وبين بساطة الذرات وتماثلها، فقدم حجته المتمثلة في أن التراجيديا لديها نفس العناصر التي تحتوي عليها الكوميديا وهذه العناصر هي: أربع وعشرون حرفا. مضت ثلاثمئة سنة، ليؤلف ماركوس توليوس شيشرون حوارا ساخرا متشككا عنونه [في طبيعة الآلهة]. De natura deorum وفي الباب الثاني من هذا الكتاب حاجج أحد المحاورين بالحجة التالية:” لا أتعجب من شخص تمكن من اقناع نفسه أن بعض الجسيمات الفردية الصلبة تلاطمت بفعل قوة الجاذبية وهذا التصادم العشوائي لهذه الجسيمات أنتج لنا هذا الكون الجميل الذي نراه الآن. فمن يعتقد أن هذا ممكن من السهل عليه أن يقتنع أيضاً أنه لو كان هناك عدد لا يحصى من الحروف الذهبية المنفصلة يمثل كل واحد منها حرفا من أحد وعشرين حرفا من الحروف الأبجدية ثم رميت هذه الحروف بطريقة عشوائية على الأرض يمكن أن تنتج لنا حوليات إينيوس. بالكاد – أعتقد- أن مثل هكذا حظ لا يمكنه حتى أن يكوّن لنا جملة واحدة يمكن قرائتها.” ” لا أملك النسخة الأصلية لهذا نسخت هذه الفقرة من النسخة الاسبانية لميرينديز اِي بيلاو ( الأعمال الكاملة لماركوس توليوس شيشرون III, 88) تحدث ديوسن وماوثنر عن أكياس من الحروف لكنهم لم يقولوا أنها مصنوعة من الذهب، مع أنه ليس محالا لهذا المكتبي الألمعي الشهير أن يدرج الذهب ويستبعد الكيس! ” وهذه الفكرة الحروفية لشيشرون عمرت طويلا في الفكر الغربي. وبالمرور إلى منتصف القرن السابع عشر، ظهرت هذه الفكرة في الكتابات الأكاديمية لباسكال وسويفت. ففي مطلع القرن الثامن عشر أكد سويفت على هذه الفكرة في المقدمة التي كتبها لمنتقديه في رسالته ” مقالة مقتضبة حول مَلَكات الروح” والتي هي عبارة عن معرضٍ متنوع لملاحظات ضئيلة متفرقة تشبه ما سيكتبه فلوبير لاحقا في كتابه ” قاموسُ الأفكار الواردة”. ثم بعد قرن ونصف، دعم ثلاثة رجال دعوى ديموقريطس ودحضوا شيشرون. وطبعا بعد مضي مثل هذه المدة من الزمن، حتى مفردات وتشبيهات الجدل حول هذه الفكرة ستتغير بشكل كبير. هكسلي (والذي يمثل أحد أولئك الرجال ) لا يقول أن “الأحرف الذهبية” يمكنها فعلا أن تشكل بيتا شعريا لاتينيا في حال قمنا برميها بعدد كافٍ ؛ بل قدم هذه الفرضية التي تقول أن نصف دزينة من القرود مع آلات كاتبة يمكنها خلال عدة حقب من الزمان أن تنتج كل الكتب التي توجد في المتحف البريطاني “بكلمات أكثر دقة : قرد واحد خالد سيكون كافياً..” بينما لويس كارول “أيضاً أحد أولئك الثلاثة الذي رفضوا حجة شيشرون” قدم ملاحظة في الجزء الثاني من روايته الرائعة الحالمة سيلفي وبرونو -العام 1893-أن عدد الكلمات في أي لغة محدود، هذا ما يعني أن تركيباتها المحتملة محدود أيضاً كذلك عدد الكتب المحتملة الناجمة عن مزج هذه الكلمات. “قريبا”، قال كارول، ” لن يسأل رجال الأدب أنفسهم ، ما هو الكتاب الذي سأكتبه “. بل ” أيُّ كتاب سأكتبه ” ثم أتى لاسفيتز متأثرا بفخنر ليتخيل المكتبة الكُليّة. ونشر قصته هذه في مجلد للقصص الخيالية بعنوان ” حلم كريستالي ” وفكرة لاسفيتز الأساسية هي نفسها فكرة كارول، لكن عناصر لعبته كانت الرموز الإملائية العالمية، وليس كلمات اللغة. فقد اختزل عدد هذه الحروف-العناصر، المسافات، الأقواس، علامات الجمل الاعتراضية، والأرقام ، ولم يكتف بالاختزال الأول فحسب بل ذهب في اختزالها حتى أكثر من ذلك. فمثلا يمكن للأبجدية أن تتخلى عن حرف q ( والذي هو أصلا حرف غير ضروري )و حرف x ( والذي هو اختصار لحرفين ) وكل الحروف الإستهلالية الكبيرة. كما يمكن استبعاد نظام العد في النظام العشري واختزاله إلى رقمين فقط، ( نظام العد الثنائي) كما فعل لايبنتز ويمكن اختزال علامات الترقيم إلى الفاصلة والمسافة. ولن يكون هناك أي علامات نبر كما يوجد في اللاتينية. وبعدة طرق مماثلة من التبسيط تمكن لاسفيتز من الوصول إلى خمس وعشرين رمزا ” اثنين وعشرين حرفا، المسافة، النقطة، والفاصلة” وهكذا من خلال تجميعهم واعادة تشكيلهم وتكرار ذلك يمكن أن تشمل المكتبة وتمثل كل شيء يحتمل التعبير عنه في كل اللغات. مجموع هذه الاحتمالات من المتغيرات من شأنه أن يشكل مكتبة كلية بحجم فلكي ( خيالي). حثّ لاسفيتز البشرية على بناء مثل هذه المكتبة اللاإنسانية، التي ما من شيء يستطيع تنظيمها والتي من شانها أيضا أن تقضي على الذكاء. ” شرح وولف في كتابه السباق مع السلحفاة تنفيذ مثل هذا المشروع والأبعاد التي يمكن أن تأخذها مثل هذه المكتبة المستحيلة ” ستحتوي كتبها المضللة على كل شيء يمكن أن يوجد. كل شيء: التاريخ المفصل لما سيحدث في المستقبل، كتاب “المصريين” لأسخيلوس، الرقم الدقيق لعدد المرات التي عكست فيه مياه نهر الغانج رفرفة أجنحة صقر ما، الإسم السري والحقيقي لروما، دائرة معارف نافاليس ستكون معدة وكاملة هناك، أحلامي ونصف أحلامي التي رأيتها في فجر يوم 14أغسطس 1934، برهان نظرية بيير فيرما (برهنت العام 1994)، الفصول غير المكتوبة لإدوين درود. وترجمة هذه الفصول إلى اللغة التي يتحدث بها الجرمنتيون (شعب بائد يعتبر أسلافا لشعب الطوارق) والمفارقات التي وضعها بيركلي حول الزمن والتي لم تنشر من قبل، كتب يورزن الحديدية، المسودات الأولية لستيفن ديدالوس، والتي ستظل بلا معنى حتى يمر ألف عام، انجيل باسيليدس الغنوصي، أغاني الحوريات، الفهرس العام للمكتبة، و فهرس آخر يبرهن على أخطاء الفهرس السابق. ستحتوي هذه المكتبة على كل شيء لكن في مقابل كل سطر صحيح أو جملة دقيقة سيكون هناك ملايين السطور من الأخطاء الاملائية والكلمات عديمة المعنى و الفوضى اللغوية والهراء.
تحتوي هذه المكتبة على كل شيء، لكن يبدو أن أجيال البشرية كلها ستفنى قبل أن تحن عليهم هذه الرفوف المتراكمة من الكتب التي ستستولي على كل وقتهم، -والتي يسكن الخواء والفوضى بين طياتها – بصفحة واحدة ذات معنى.
أحد عادات العقل البشري هي اختلاق خيالاتٍ مروعة. اختلق العقل الحجيم، واختلق القضاء المبرم بدخوله، واختلق الأفكار الأفلاطونية، وكائن الكمير، والعنقاء، والأعداد فوق-نهائية الشاذة “التي تنص أحد خصائصها على أن اجزائها ليست أقل أو أصغر من مجموعها!” والأقنعة والمرايا والأوبرا والثالوث المشوه: الأب، الإبن، والشبح المعقد، متراكبة معاً في كائن واحد.
أُنهي المقال محاولا ألا أنسى رعبا أدنى آخر وهو : كبر حجم المكتبة، وتناقضها. حيث أن هذه التلال البرية الكثيرة من الكتب تتغير بشكل مستمر ومتواصل إلى كتب أخرى مما يؤكد، ينقض، ويشوش كل شيء موجود مثل وجود ربٍّ متحيّر.
1939
http://mqalh.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A…/
هذه المقالة لبورخيس هي نواةُ قصته الأشهر (مكتبة بابل). ومن الواضح من خلالها تأثره بقصة الرياضي الألماني كورد لاسفيتز (المكتبة الكونية). بعض الأمثلة التي ضربها بورخيس هنا حول ما يمكن أن تحتويه المكتبة الكلية ذُكرت بالحرف في قصته مكتبة بابل. الملاحظات بين علامتي التنصيص من وضع بورخيس نفسه، بينما الملاحظات بين قوسين هي من وضع المترجم (يونس بن عمارة).
يرد في كتاب “سداسيات بابل ” وهي نصوص ومختارات بقلم بورخيس، وترجمة حسن ناصر التوضيح التالي حول ظروف كتابة هذا المقال( سداسيات بابل، بورخيس، ترجمة: حسن ناصر، ص281): “يروي الكاتب ألبرتو مانغويل الذي حظي برفقة الشيخ الأعمى (بورخيس) وكان يزوره بشكل منتظم ليقرأ له الكتب، أن بورخيس وبينما كان يخضع لضغوط العمل بمكتبة ببيونس ايرس واحتماله صفاقة زملائه كان يقرأ الكتب في العربة التي تقله ذهابا وإيابا بين البيت والمكتبة وأنه استطاع أن يجمع الملاحظات التي يدونها (كان هذا قبل عماه التام) خلال الرحلة اليومية ويكتب نصا عنوانه المكتبة الكلية نشره في مجلة سور Sur، ثم ليطور النص القصير إلى نص أطول قليلا أسماه مكتبة بابل ضمّنه مجموعته (القصصية) حديقة المسالك المتشعبة.”
هذا النص أي المقال وليس القصة بعنوان المكتبة الكلية هو الماثل بين أيديكم الآن:
المقال:
يحظى اغراء تخيل أو التصور اليوتوبي لمكتبة كلية “شاملة لكل شيء” بعدّة خصائص يسهلُ خلطها بيسر مع الفوائد والمزايا التي يمكن أن تحتوي عليها مثل هذه الفكرة.
وقبل أن نبدأ يمكن أن نتسائل كم استغرق النوع البشري من الزمن حتى يصل إلى هذه الفكرة. هنا سنجد بعض الأمثلة التي طرحها أرسطو ونسبها إلى ديموقريطس و لوقيبوس تتوخى بوضوح التفكير حول هذه المكتبة الكلية لكن يظهر أن مخترعها الأول ( المتأخر عنهم زمنياً) هو جوستاف ثيودور فخنر ونصيره الأول كورد لاسفيتز “بين ديموقريطس من أبديرا و فخنر من لايبزيغ يتدفق ببطء نهر مثقل من أربع وعشرين قرنا من التاريخ الأوروبي” كانت رسائله معروفة جيدا ومتنوعة للغاية ما بين النظرية الذرية والتحليل التوفيقي والطباعة والحظ. في كتابه ” السباق مع السلحفاة “برلين، 1919″، يقترح الدكتور تيودور وولف أن فكرة المكتبة الكلية فكرة مستوحاة أو لنقل : محاكاة ساخرة لآلة التفكير التي تخيلها ووضعها ريموند لول ؛ وأود أن أضيف أنها نسخة حروفية من عقيدة العود الأبدي ، هذه النظرية التي تبناها الرواقيون وأتباع بلانكي والفيثاغوريين و حتى نيتشه. وأقدم لمحة عن الأمر كانت في الكتاب الأول من ميتافيزيقا أرسطو. وأنا أشير هنا إلى الفقرة التي تعرض فكرة لوقيبوس عن نشأة الكون والتي تنص على أن الكون تكون عبر تشكيلات عشوائية من الذرات. ولاحظ الكاتب هنا أن هذه الذرات التي تتكلم عنها هذه الفرضية ذاتُ طبيعة متماثلة والاختلافات تكمن في التموضع أوالترتيب أو الشكل فقط. وليوضح هذه الفروق ، أضاف الكاتب: “(أ) يختلف عن (ن) في الشكل؛ (أ،ن) يختلف عن (ن،أ) في الترتيب، بينما يختلف (ز) عن (ن) في الوضعية. ” و في مقالته عن ‘ الكون والفساد’ حاول الكاتب أن يوفق بين الاختلافات والفروقات الكثيرة للأشياء التي نراها في الواقع وبين بساطة الذرات وتماثلها، فقدم حجته المتمثلة في أن التراجيديا لديها نفس العناصر التي تحتوي عليها الكوميديا وهذه العناصر هي: أربع وعشرون حرفا. مضت ثلاثمئة سنة، ليؤلف ماركوس توليوس شيشرون حوارا ساخرا متشككا عنونه [في طبيعة الآلهة]. De natura deorum وفي الباب الثاني من هذا الكتاب حاجج أحد المحاورين بالحجة التالية:” لا أتعجب من شخص تمكن من اقناع نفسه أن بعض الجسيمات الفردية الصلبة تلاطمت بفعل قوة الجاذبية وهذا التصادم العشوائي لهذه الجسيمات أنتج لنا هذا الكون الجميل الذي نراه الآن. فمن يعتقد أن هذا ممكن من السهل عليه أن يقتنع أيضاً أنه لو كان هناك عدد لا يحصى من الحروف الذهبية المنفصلة يمثل كل واحد منها حرفا من أحد وعشرين حرفا من الحروف الأبجدية ثم رميت هذه الحروف بطريقة عشوائية على الأرض يمكن أن تنتج لنا حوليات إينيوس. بالكاد – أعتقد- أن مثل هكذا حظ لا يمكنه حتى أن يكوّن لنا جملة واحدة يمكن قرائتها.” ” لا أملك النسخة الأصلية لهذا نسخت هذه الفقرة من النسخة الاسبانية لميرينديز اِي بيلاو ( الأعمال الكاملة لماركوس توليوس شيشرون III, 88) تحدث ديوسن وماوثنر عن أكياس من الحروف لكنهم لم يقولوا أنها مصنوعة من الذهب، مع أنه ليس محالا لهذا المكتبي الألمعي الشهير أن يدرج الذهب ويستبعد الكيس! ” وهذه الفكرة الحروفية لشيشرون عمرت طويلا في الفكر الغربي. وبالمرور إلى منتصف القرن السابع عشر، ظهرت هذه الفكرة في الكتابات الأكاديمية لباسكال وسويفت. ففي مطلع القرن الثامن عشر أكد سويفت على هذه الفكرة في المقدمة التي كتبها لمنتقديه في رسالته ” مقالة مقتضبة حول مَلَكات الروح” والتي هي عبارة عن معرضٍ متنوع لملاحظات ضئيلة متفرقة تشبه ما سيكتبه فلوبير لاحقا في كتابه ” قاموسُ الأفكار الواردة”. ثم بعد قرن ونصف، دعم ثلاثة رجال دعوى ديموقريطس ودحضوا شيشرون. وطبعا بعد مضي مثل هذه المدة من الزمن، حتى مفردات وتشبيهات الجدل حول هذه الفكرة ستتغير بشكل كبير. هكسلي (والذي يمثل أحد أولئك الرجال ) لا يقول أن “الأحرف الذهبية” يمكنها فعلا أن تشكل بيتا شعريا لاتينيا في حال قمنا برميها بعدد كافٍ ؛ بل قدم هذه الفرضية التي تقول أن نصف دزينة من القرود مع آلات كاتبة يمكنها خلال عدة حقب من الزمان أن تنتج كل الكتب التي توجد في المتحف البريطاني “بكلمات أكثر دقة : قرد واحد خالد سيكون كافياً..” بينما لويس كارول “أيضاً أحد أولئك الثلاثة الذي رفضوا حجة شيشرون” قدم ملاحظة في الجزء الثاني من روايته الرائعة الحالمة سيلفي وبرونو -العام 1893-أن عدد الكلمات في أي لغة محدود، هذا ما يعني أن تركيباتها المحتملة محدود أيضاً كذلك عدد الكتب المحتملة الناجمة عن مزج هذه الكلمات. “قريبا”، قال كارول، ” لن يسأل رجال الأدب أنفسهم ، ما هو الكتاب الذي سأكتبه “. بل ” أيُّ كتاب سأكتبه ” ثم أتى لاسفيتز متأثرا بفخنر ليتخيل المكتبة الكُليّة. ونشر قصته هذه في مجلد للقصص الخيالية بعنوان ” حلم كريستالي ” وفكرة لاسفيتز الأساسية هي نفسها فكرة كارول، لكن عناصر لعبته كانت الرموز الإملائية العالمية، وليس كلمات اللغة. فقد اختزل عدد هذه الحروف-العناصر، المسافات، الأقواس، علامات الجمل الاعتراضية، والأرقام ، ولم يكتف بالاختزال الأول فحسب بل ذهب في اختزالها حتى أكثر من ذلك. فمثلا يمكن للأبجدية أن تتخلى عن حرف q ( والذي هو أصلا حرف غير ضروري )و حرف x ( والذي هو اختصار لحرفين ) وكل الحروف الإستهلالية الكبيرة. كما يمكن استبعاد نظام العد في النظام العشري واختزاله إلى رقمين فقط، ( نظام العد الثنائي) كما فعل لايبنتز ويمكن اختزال علامات الترقيم إلى الفاصلة والمسافة. ولن يكون هناك أي علامات نبر كما يوجد في اللاتينية. وبعدة طرق مماثلة من التبسيط تمكن لاسفيتز من الوصول إلى خمس وعشرين رمزا ” اثنين وعشرين حرفا، المسافة، النقطة، والفاصلة” وهكذا من خلال تجميعهم واعادة تشكيلهم وتكرار ذلك يمكن أن تشمل المكتبة وتمثل كل شيء يحتمل التعبير عنه في كل اللغات. مجموع هذه الاحتمالات من المتغيرات من شأنه أن يشكل مكتبة كلية بحجم فلكي ( خيالي). حثّ لاسفيتز البشرية على بناء مثل هذه المكتبة اللاإنسانية، التي ما من شيء يستطيع تنظيمها والتي من شانها أيضا أن تقضي على الذكاء. ” شرح وولف في كتابه السباق مع السلحفاة تنفيذ مثل هذا المشروع والأبعاد التي يمكن أن تأخذها مثل هذه المكتبة المستحيلة ” ستحتوي كتبها المضللة على كل شيء يمكن أن يوجد. كل شيء: التاريخ المفصل لما سيحدث في المستقبل، كتاب “المصريين” لأسخيلوس، الرقم الدقيق لعدد المرات التي عكست فيه مياه نهر الغانج رفرفة أجنحة صقر ما، الإسم السري والحقيقي لروما، دائرة معارف نافاليس ستكون معدة وكاملة هناك، أحلامي ونصف أحلامي التي رأيتها في فجر يوم 14أغسطس 1934، برهان نظرية بيير فيرما (برهنت العام 1994)، الفصول غير المكتوبة لإدوين درود. وترجمة هذه الفصول إلى اللغة التي يتحدث بها الجرمنتيون (شعب بائد يعتبر أسلافا لشعب الطوارق) والمفارقات التي وضعها بيركلي حول الزمن والتي لم تنشر من قبل، كتب يورزن الحديدية، المسودات الأولية لستيفن ديدالوس، والتي ستظل بلا معنى حتى يمر ألف عام، انجيل باسيليدس الغنوصي، أغاني الحوريات، الفهرس العام للمكتبة، و فهرس آخر يبرهن على أخطاء الفهرس السابق. ستحتوي هذه المكتبة على كل شيء لكن في مقابل كل سطر صحيح أو جملة دقيقة سيكون هناك ملايين السطور من الأخطاء الاملائية والكلمات عديمة المعنى و الفوضى اللغوية والهراء.
تحتوي هذه المكتبة على كل شيء، لكن يبدو أن أجيال البشرية كلها ستفنى قبل أن تحن عليهم هذه الرفوف المتراكمة من الكتب التي ستستولي على كل وقتهم، -والتي يسكن الخواء والفوضى بين طياتها – بصفحة واحدة ذات معنى.
أحد عادات العقل البشري هي اختلاق خيالاتٍ مروعة. اختلق العقل الحجيم، واختلق القضاء المبرم بدخوله، واختلق الأفكار الأفلاطونية، وكائن الكمير، والعنقاء، والأعداد فوق-نهائية الشاذة “التي تنص أحد خصائصها على أن اجزائها ليست أقل أو أصغر من مجموعها!” والأقنعة والمرايا والأوبرا والثالوث المشوه: الأب، الإبن، والشبح المعقد، متراكبة معاً في كائن واحد.
أُنهي المقال محاولا ألا أنسى رعبا أدنى آخر وهو : كبر حجم المكتبة، وتناقضها. حيث أن هذه التلال البرية الكثيرة من الكتب تتغير بشكل مستمر ومتواصل إلى كتب أخرى مما يؤكد، ينقض، ويشوش كل شيء موجود مثل وجود ربٍّ متحيّر.
1939
http://mqalh.com/%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%83%D8%AA%D8%A8%D8%A…/