محمد بشكار - يوميَّاتُ مُتسكِّعٍ في البيْت!

أصدقائي الذين يُنجزون استطلاعات الرأي لبعض المنابر الثقافية العربية، يسَّاءلون ما سيرة حياتي في الحجْر المنزلي، ولأنني أجبتُ عن السؤال بيني وبين نفسي في أكثر من ورقة كتبتها منذ اسْتِشْراء الجائحة، فقد أحْجمتُ عن الإدْلاء برأيي خشية أن أُكرِّر أقوالي، ولكن يُمكن أن أزيد لتكْتمل عناصر الوثيقة التاريخية، أنني لم أضيِّع وقتي بنظرةٍ خلفي، بل هرَّبْتُ مع الهاربين كل أنشطتي التي تعودتُ ممارستها بشكل طبيعي من الخارج إلى بيتي، أو لِنقُلْ إنني عدتُ لترتيب بيتي الداخلي بما يُشبه مجتمعاً مدنياً مُصَغَّراً، فنقلتُ إليه مقر العمل من موقعه حيث تربض جريدة "العلم" في شارع الحسن الثاني بطريق الدار البيضاء، نقلتُ مَقْهاي الصباحية المُفضَّلة إلى الشُّرفة في الطابق الثالث، أحتسيها على عجل دون أن أُسدِّد ثمنها لنادلٍ، وقد أتخيَّلُ بين رشْفةٍ وأخرى حين أسافر ببصري في الأفق، دوائر السحاب موائد في هذه المقهى الافتراضية تمْسحُها الريح دون منديلٍ كلما قام زبونٌ لحال سبيله مُقاوماً الكسل، ولا يكون هذا الزبون في غالب التخيُّل إلا طائراً عابراً سخِيّاً بِبَقْشيشِه الذي يبْصقه من فوق ليَعُمَّ الرِّزق الجميع!
الفَرْقُ أنِّي بعد أن كنتُ أذهب للعمل راكباً ضاقتْ المسافة وصرتُ أتوجَّه إليه في ثواني راجلاً، ولا أنسى وأنا في طريق عبوري من مقهاي بالشرفة إلى غرفة مكتبي، أن أقف عند باب المدرسة لأطمئن على ابنتي هل التحقتْ بصفِّها عبر الأنترنيت، فالأساتذة إثْر الفوضى التي بثَّتْها في حياتنا الجائحة، لا يفْتأون مُشْتكين من غياب التلاميذ بعد أن صارت الأقسام مجموعاتٍ بالواتساب، ولأنِّي رجلٌ خُلِقتُ للاتصال لا أقطع حبل التواصل بين ابنتي وأساتذتها وهي تبْعثُ لهم الأجوبة في تسجيلات صوتية، فأكتفي بأنْ نتبادل تحية لا تخلو من ابتسامة تَكْتنفُ في طيَّاتها سخريةً تقاومُ الوضع الجديد وتُحاول تَفهُّمَ ما لا يُفهَم!
وإذا كان كل ماهو خارج البيت ينهار في العالم، سواء من حيث مُؤشِّراته الاقتصادية أو روابطه الاجتماعية، فإني أحاول وأنا أنهارُ متهالكاً على كرسي مكتبي داخل البيت، أنْ أرمِّمَ تفكيري بالصلابة التي تخدمُ استمرارية الحياة في البلد، فأنا جزءٌ ضمن كُلٍّ، وإذا اخْتلَّتْ حَلَقَةٌ في هذا التَّعاقُد الاجتماعي الفريد، قد تَنْفَرِطُ السُّبْحة ويخْتلُّ النظام العام، لذا انْكَبُّ بنفس الحماسة المعهودة على واجباتي المهنية والإعلامية التي أنا مطالبٌ بأدائها في الوقت الزمني المُناسب ولو ضاق المكان، ولا يخلو انغماسي المُتفاني في العمل من تأملات تُحرِّرُني من رِبْقة الملل، فاُصَادِقُ باصِماً بالخمسة على النظرية التي تعتبر الأسرة مُجْتمعاً مُصغَّراً بل أقول إنها حكومة مُوازِية لِلَّتي تُدبِّر الحُكم في البلد، أشعر وأنا في البيت أنني بحقيبة وزير الشُّغْل لِفَرْطِ ما تقوَّس ظهري على المكتب، ولكنني أخجل من عِبْئي حين أقيسهُ بحجْم المسؤوليات المُلقاة على عاتق زوجتي، فهي في حكومة الأسرة بأكثر من حقيبة وزارية دون أن تُرهِقَ ميزانية الدولة بتقاضيها لأجور سمينة، هي المالية والداخلية والأسرة والتعليم والصحة، وهي أيضا عضوٌ نشيطٌ بمنظمة الأغذية التي يوجد مقرها في المطبخ المُحاصر بأفواه واسعة !
أصدقائي يَسَّاءلون أيضا عمَّا أقرأ في ظروف العزْل، والحقيقة أن طقس القراءة ليس بالغريب عن ظروف الحجْر المنزلي، وحتى لو كان البعضُ يَسْتحِبُّ رُفْقَةَ الكتاب في أيِّ فضاء خارج البيت، المقهى أو الحديقة أو القطار، فإننا في جميع الأحوال نضرب حاجزاً عازلاً بيننا وبين الآخر لِتتحقَّق لذة القراءة، ومع ذلك أعترف أن الظروف العصيبة التي نختبر عُزلتها، فرضتْ علينا بعض الاختيارات المُتَعمَّدة في المقروئية، لذلك لم أشْعر إلا وأنا ألْتهم رواية "كيف أصبحتُ غبيا" للكاتب الفرنسي "مارتن باج"، وهي أوديسة صغيرة رائعة ومُروِّعة في ذات الحزن، ليس فقط لأنَّها تصُوغ بيانَ حقيقةٍ يُقنع القارىء أن طريق الذكاء محفوفٌ بالمِحن، بل لأنَّه يكْشِف أنَّ ما كنا نظنه تفوُّقاً في العقل، لم تتمخَّضْ عنه إلا نتائج كارثية تُدمِّر البشر ببراءات اختراعها غير البريئة ، حاولتُ أن أتعلم منْ مارتن كيف أصبح غبيّاً في سبعة أحلام، عساني أتعايش بسلام مع رجَّةِ الجائحة بكل الشروخ التي أحدثَتْها في الأنفس والبلدان، ألمْ تنظر إلى أعداد المنتحرين والمُختلِّين في تزايدٍ بعد أن طوَّق الحظر المنزلي حياتهم الطبيعية، لذلك أعتبر أنَّ الغباء أحد أشكال الهروب الناجعة لكل من لا يَفْهَمُ شيئاً مما يجري حوله بدون سيقان، شكراً مارتن لأنك دَبَّجْتَ بهذه الرواية بيان حقيقةٍ لقيمة الغباء وأنْقَذْتَني من تفكيري الذي يُعذِّبني ويُزعِجُ الآخرين !

محمد بشكار

حُرِّر يوم الثلاثاء 28 أبريل 2020 بالحجْر المنزلي بمدينة الصخيرات




...........................................
افتتاحية ملحق "العلم الثقافي" ليوم الخميس 30 أبريل 2020


............................................
رابط الملحق على موقع جريدة العلم:
https://alalam.ma/%d8%a7%d9%84%d8%b9%d9%84%d9%85-30-%d9%85…/






149

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...