أدب متعدد في طبقاته الدلالية
القاهرة- “العائش في السرد” كتاب الناقد الدكتور رضا عطية، عن أعمال نجيب محفوظ، يذكر بداية من عنوانه برواية “العائش في الحقيقة”، عن إخناتون الذي عاش حياته داعيا إلى الحقيقة، فالروائي العربي الأشهر، نذر حياته للسرد، فعاش فيه وله، لذا يظهر لنقاده كل يوم جديدا في سرده يمكن تناوله بالدرس، رغم المئات من المقاربات النقدية والأطروحات الأكاديمية التي تناولت أدب نجيب محفوظ منذ بداية رحلته شديدة الثراء وحتى ما بعد رحيله.
وقد كان الناقد واعيا لتلك الحقيقة، لذا بدأ كتابه بطرح السؤال: ماذا يبقى من نجيب محفوظ؟ ويستعير من جاك دريدا مقولته عن النص أنه آلة تنتج عددًا من الإحالات لا حصر لها، فالنص علامة مرتحلة أبدًا وطالما أنّ لا نص محسوم الدلالة وأن المعنى مرجأ أبدًا سيبقى أدب نجيب محفوظ جديرًا بكل درس نقدي وإعادة قراءته باستمرار.
تتبعت كتابات محفوظ الشخصيةَ المصريةَ منذ مراحل تكوينها الجنيني في مستهل فجر الحضارة الإنسانية، ثم واصل تطوافه عبر مرحلة الحضارة العربية الإسلامية باستلهامه نماذجها التراثية وإفادته من حكيها الشعبي كألف ليلة وليلة؛ ليستمر رصده للشخصية المصرية حتى العصر الحديث بكل تحوّلاته الفكرية والسياسية.
كما تسري في أدب محفوظ روح ثورية، تطلع متنامٍ للتغير لبلوغ الأفضل، لاتخاذ العلم طريقًا للحياة لا يلغي الدين، إنما يسدد احتياجات العقل البشري، فأدب محفوظ يسعى إلى إرساء توافق بين الروحاني والمادي، والسماوي والأرضي.
وبقدر ما كان أدبه يحتفظ ببصمة إبداعية تميزه بقدر ما كان طليعيًا يمتلك رؤية استشرافية. وتكمن فرادة أدب محفوظ وعبقريته في أنه “يقدم أدبًا متعددًا في طبقاته الدلالية، لا يقف عند مستوى سطحي للحكي الدرامي، فما يلبث أن يحلّق في آفاق رمزية، فهو أدب يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، ليقوم بتخليق النماذج الكونية الكبرى وحكايات الوجود”.
يخصص الكتاب بابه الأول لتناول ما يعرف برواية وجهة النظر أو “سرديات الأصوات المتعددة” وهي تقنية سردية تعتمد على تعدد الرواة وتنوع منظورات الرؤية والحكي، فيدرس في الفصل الأول رواية “ميرامار” (1967)، التي بلورت رؤية محفوظ لثورة يوليو وانتقاده لبعض سلبياتها، حيث يقدم الأحداث من خلال أربعة رواة مختلفين يمثل كل منهم جيلا مختلفا، وكذلك لكل منهم رؤيته الخاصة وتكوينه الفكري، وبالتالي يختلف منظوره لأحداث ثورة 1952.
وبهذا تقدم الرواية رؤية بانورامية متعددة الأبعاد للواقع وأحداثه، فالرواية وهي تتخذ موقفا ناقدا للشمولية كان لا بد أن تطرح أكثر من صوت بدلا من الاعتماد على صوت سردي واحد في شموليته، ثم يتناول الفصل الثاني رواية “يوم قُتِل الزعيم” ( 1985).
ويمكن اعتبارها بمثابة محاكمة روائية لنظام السادات، فيتبادل السرد فيها ثلاث شخصيات على نحو مختلف، إذ يقدم الراوي الأول الحدث من خلال منظوره الخاص، ثم نتلقى الحدث نفسه من وجهة نظر أخرى يقدمها الراوي الثاني، وهو بدوره يضيف إلى ما سبق أحداثا جديدة، بينما الراوي الثالث يعيد من منظوره تقديم كل الأحداث.
الباب الثاني من الكتاب خصصه المؤلف لدراسة ما أسماه “السرد الفسيفسائي” وهو نوع من القص الحداثي يتجاوز كل التعريفات التقليدية للأنواع الأدبية، حيث يشكل في الكتابة عبر النوعية نسيجا كتابيا تتشابك فيه خيوط السردي بالشعري والقصة القصيرة بقصيدة النثر. كذلك “يتشكل النص من وحدات قصصية قصيرة، لكل منها استقلالها الذاتي، لكنها تتناغم بنائيا عن طريق آليات مثل التجاور والتوازي والتزامن لتشكل لوحة جدارية كبرى تتكون من وحدات منفصلة ومتصلة”.
ويدرس الفصل الثالث “أصداء السيرة الذاتية وقد صدرت في كتاب عام 1995 وإن كان قد نشرها صاحبها في جريدة الأهرام قبل ذلك بأكثر من سبع سنوات، بتكويناتها السردية المتموِّجة وتنوع القوالب التي تستخدمها.
فأصداء السيرة تتكون من وحدات قصصية يغلب عليها القصر ترصد ومضات من حياة الكاتب، تتحرر من التتابع الزمني المتصاعد، معتمدة على صوت ساردها الذي تتداعى في وعيه لقطات مكثفة من الذكريات والأحلام وشذرات من الماضي البعيد.
والفصل الرابع يتناول المجموعة القصصية “صدى النسيان” وهي تضم نصوصا قصيرة قديمة تم نشرها عام 1999، لم يشأ نجيب محفوظ نشرها وقت كتابتها، فإنها تحمل قسمات أعمال أخرى حيث الحارة ذات الدور المحوري، بينما تغلب تيمات محفوظية أثيرة مثل الفقد ودوران عجلة الزمن والوقوف على طلل المكان، بالإضافة إلى تكرار وجود شخصيات بعينها مثل شيخ الحارة وإمام الزاوية، التي يتكرر حضورها.
خصص الكاتب الباب الثالث من كتابه لدراسة سرديات الحلم عند نجيب محفوظ عبر النصوص السردية التي تدور بالكامل في فضاء الحلم، بما للحلم من تمثيل للاشعور ينعكس على لغة السرد الحلمي وشفراتها الرمزية، فيدرس الفصل الخامس مجموعة “رأيت فيما يرى النائم” الصادرة عام 1982، في حين يتناول الفصل السادس “أحلام فترة النقاهة” 2004، حيث تنحو النصوص نحو “إقامة عوالم سردية علي ضفاف الغرائبية التي تكسر مرايا المألوف” وتفارق المنطق السببي وفق المعتاد في حالة الصحو.
وفي الفصل الأخير “الحديقة الخلفية لنجيب محفوظ”، يتناول الناقد “الأحلام الأخيرة”، وهو الجزء الثاني من “أحلام فترة النقاهة” 2015، رموز الحلم ويفككها، وصولاً إلى اكتشاف أمنيات الحالم أو الراوي، مؤكداً أنها في الغالب رؤى أكثر من كونها أحلاما.
القاهرة- “العائش في السرد” كتاب الناقد الدكتور رضا عطية، عن أعمال نجيب محفوظ، يذكر بداية من عنوانه برواية “العائش في الحقيقة”، عن إخناتون الذي عاش حياته داعيا إلى الحقيقة، فالروائي العربي الأشهر، نذر حياته للسرد، فعاش فيه وله، لذا يظهر لنقاده كل يوم جديدا في سرده يمكن تناوله بالدرس، رغم المئات من المقاربات النقدية والأطروحات الأكاديمية التي تناولت أدب نجيب محفوظ منذ بداية رحلته شديدة الثراء وحتى ما بعد رحيله.
وقد كان الناقد واعيا لتلك الحقيقة، لذا بدأ كتابه بطرح السؤال: ماذا يبقى من نجيب محفوظ؟ ويستعير من جاك دريدا مقولته عن النص أنه آلة تنتج عددًا من الإحالات لا حصر لها، فالنص علامة مرتحلة أبدًا وطالما أنّ لا نص محسوم الدلالة وأن المعنى مرجأ أبدًا سيبقى أدب نجيب محفوظ جديرًا بكل درس نقدي وإعادة قراءته باستمرار.
تتبعت كتابات محفوظ الشخصيةَ المصريةَ منذ مراحل تكوينها الجنيني في مستهل فجر الحضارة الإنسانية، ثم واصل تطوافه عبر مرحلة الحضارة العربية الإسلامية باستلهامه نماذجها التراثية وإفادته من حكيها الشعبي كألف ليلة وليلة؛ ليستمر رصده للشخصية المصرية حتى العصر الحديث بكل تحوّلاته الفكرية والسياسية.
كما تسري في أدب محفوظ روح ثورية، تطلع متنامٍ للتغير لبلوغ الأفضل، لاتخاذ العلم طريقًا للحياة لا يلغي الدين، إنما يسدد احتياجات العقل البشري، فأدب محفوظ يسعى إلى إرساء توافق بين الروحاني والمادي، والسماوي والأرضي.
وبقدر ما كان أدبه يحتفظ ببصمة إبداعية تميزه بقدر ما كان طليعيًا يمتلك رؤية استشرافية. وتكمن فرادة أدب محفوظ وعبقريته في أنه “يقدم أدبًا متعددًا في طبقاته الدلالية، لا يقف عند مستوى سطحي للحكي الدرامي، فما يلبث أن يحلّق في آفاق رمزية، فهو أدب يتجاوز كل حدود الزمان والمكان، ليقوم بتخليق النماذج الكونية الكبرى وحكايات الوجود”.
يخصص الكتاب بابه الأول لتناول ما يعرف برواية وجهة النظر أو “سرديات الأصوات المتعددة” وهي تقنية سردية تعتمد على تعدد الرواة وتنوع منظورات الرؤية والحكي، فيدرس في الفصل الأول رواية “ميرامار” (1967)، التي بلورت رؤية محفوظ لثورة يوليو وانتقاده لبعض سلبياتها، حيث يقدم الأحداث من خلال أربعة رواة مختلفين يمثل كل منهم جيلا مختلفا، وكذلك لكل منهم رؤيته الخاصة وتكوينه الفكري، وبالتالي يختلف منظوره لأحداث ثورة 1952.
وبهذا تقدم الرواية رؤية بانورامية متعددة الأبعاد للواقع وأحداثه، فالرواية وهي تتخذ موقفا ناقدا للشمولية كان لا بد أن تطرح أكثر من صوت بدلا من الاعتماد على صوت سردي واحد في شموليته، ثم يتناول الفصل الثاني رواية “يوم قُتِل الزعيم” ( 1985).
ويمكن اعتبارها بمثابة محاكمة روائية لنظام السادات، فيتبادل السرد فيها ثلاث شخصيات على نحو مختلف، إذ يقدم الراوي الأول الحدث من خلال منظوره الخاص، ثم نتلقى الحدث نفسه من وجهة نظر أخرى يقدمها الراوي الثاني، وهو بدوره يضيف إلى ما سبق أحداثا جديدة، بينما الراوي الثالث يعيد من منظوره تقديم كل الأحداث.
الباب الثاني من الكتاب خصصه المؤلف لدراسة ما أسماه “السرد الفسيفسائي” وهو نوع من القص الحداثي يتجاوز كل التعريفات التقليدية للأنواع الأدبية، حيث يشكل في الكتابة عبر النوعية نسيجا كتابيا تتشابك فيه خيوط السردي بالشعري والقصة القصيرة بقصيدة النثر. كذلك “يتشكل النص من وحدات قصصية قصيرة، لكل منها استقلالها الذاتي، لكنها تتناغم بنائيا عن طريق آليات مثل التجاور والتوازي والتزامن لتشكل لوحة جدارية كبرى تتكون من وحدات منفصلة ومتصلة”.
ويدرس الفصل الثالث “أصداء السيرة الذاتية وقد صدرت في كتاب عام 1995 وإن كان قد نشرها صاحبها في جريدة الأهرام قبل ذلك بأكثر من سبع سنوات، بتكويناتها السردية المتموِّجة وتنوع القوالب التي تستخدمها.
فأصداء السيرة تتكون من وحدات قصصية يغلب عليها القصر ترصد ومضات من حياة الكاتب، تتحرر من التتابع الزمني المتصاعد، معتمدة على صوت ساردها الذي تتداعى في وعيه لقطات مكثفة من الذكريات والأحلام وشذرات من الماضي البعيد.
والفصل الرابع يتناول المجموعة القصصية “صدى النسيان” وهي تضم نصوصا قصيرة قديمة تم نشرها عام 1999، لم يشأ نجيب محفوظ نشرها وقت كتابتها، فإنها تحمل قسمات أعمال أخرى حيث الحارة ذات الدور المحوري، بينما تغلب تيمات محفوظية أثيرة مثل الفقد ودوران عجلة الزمن والوقوف على طلل المكان، بالإضافة إلى تكرار وجود شخصيات بعينها مثل شيخ الحارة وإمام الزاوية، التي يتكرر حضورها.
خصص الكاتب الباب الثالث من كتابه لدراسة سرديات الحلم عند نجيب محفوظ عبر النصوص السردية التي تدور بالكامل في فضاء الحلم، بما للحلم من تمثيل للاشعور ينعكس على لغة السرد الحلمي وشفراتها الرمزية، فيدرس الفصل الخامس مجموعة “رأيت فيما يرى النائم” الصادرة عام 1982، في حين يتناول الفصل السادس “أحلام فترة النقاهة” 2004، حيث تنحو النصوص نحو “إقامة عوالم سردية علي ضفاف الغرائبية التي تكسر مرايا المألوف” وتفارق المنطق السببي وفق المعتاد في حالة الصحو.
وفي الفصل الأخير “الحديقة الخلفية لنجيب محفوظ”، يتناول الناقد “الأحلام الأخيرة”، وهو الجزء الثاني من “أحلام فترة النقاهة” 2015، رموز الحلم ويفككها، وصولاً إلى اكتشاف أمنيات الحالم أو الراوي، مؤكداً أنها في الغالب رؤى أكثر من كونها أحلاما.