المواطنة مفهوم مشتق من الوطن، يرتبط بالدولة الحديثة، ويشير إلى المساواة وتكافؤ الفرص، وإلى حقوق وواجبات الأفراد المنتمين إلى دولة ما، فتصبح عنوانا للهوية، وتستند المواطنة على مشتركات ثقافية بين أبناء الوطن الواحد، يمكن أن يتناولها الفن الروائي، فالرواية هي أكثر أجناس الأدب انفتاحاً على مشاكل الذات والواقع.
الأربعاء 2018/01/10
آمن بالحرية وكتبها
من الروائيين الذين اهتموا بقضايا المواطنة وطرحوها مرارا في أعمالهم الكاتب المصري الراحل إدوار الخراط، مما حدا بالباحث محمود أحمد عبدالله إلى اتخاذها عنوانا لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه في علم اجتماع الأدب، وقد صدرت حديثا في كتاب بعنوان ”المواطنة في الرواية المصرية، إدوار الخراط نموذجا”.
ثلاثية الخراط
حظيت تجربة الخراط الإبداعية باهتمام كبير من النقاد والباحثين، فصدرت عنها كتب ودراسات عدة لكنها في مجملها انصبت على الجوانب الفنية والجمالية، بينما كان الإهمال شبه التام نصيبا للجوانب الفكرية، لذا فكتاب “المواطنة في الرواية المصرية”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، جاء ليسد نقصا في هذا المجال، وليعبر عن رؤية الباحث التي تتلخص في كون ”المواطنة” قضية الرواية الأولى، إذ ارتبط تطور الفن الروائي بمحوري الحرية والهوية، وهما معا جناحا المواطنة. ورغم تعدد المجالات التي أبدع فيها إدوار الخراط، إضافة إلى غزارة هذا الإبداع، إلا أن دارسين كثيرين تعاملوا مع هذا الفيض الإبداعي كأنه كتاب واحد متعدد الأوجه.
توقفت الدراسة عند ثلاثة نصوص روائية فقط للخراط هي “رامة والتنين”، “الزمن الآخر”، “يقين العطش”، باعتبارها تمثل ثلاثية روائية للكاتب، وحدد الباحث أسباب اختياره في كون النصوص الثلاثة معنية بشكل أساسي بمسألتين من أهم جوانب المواطنة وهما الحرية ونبذ التعصب الديني، كما أن الروايات المختارة تعبر عن رؤية صاحبها للتحولات السياسية التي شهدها المجتمع المصري، فحسب الكتاب ”الأعمال الثلاثة تاريخيا هي تمثيل جيد لحالة عبور روائي على مراحل تاريخية ثلاث: الناصرية القومية، والانفتاح الاستهلاكي الساداتي، ومرحلة العولمة في عصر مبارك”، إضافة إلى أن تلك الروايات نالت اهتماما نقديا لافتا يسهل التحليل السوسيو أدبي لها اتباعا لمنهج لوسيان جولدمان الذي يرى عمل السوسيولوجي لاحقا لعمل الناقد ومتوجا له.
تعبر فكرة المواطنة عند إدوار الخراط عن الاندماج والتعدد، فهي تؤكد على الجمع بين المتفرقات وعلى الإيمان بالحرية التي لا تحول دون التوحد، وهذا يظهر في كل المستويات المكونة للنص الروائي عند الخراط بدءا من مستوى القص فالخطاب ثم مستوى الدلالة والقضايا المطروحة، فعلى مستوى النص تتعدد الحكايات وتتفرع، لكنها تظل معبرة عن حكاية واحدة رئيسة، أي أن تنوعها لم ينف وحدتها، كما تتعدد شخصيات النص دون أن يدور حول شخصية واحدة مركزية، ورغم ما يفرق بينها وما يكرس لاختلافها إلا أن الشخصيات تجد رابطا يجمعها، وهو الأمر المؤدي إلى تعدد مستويات الزمن، فالشخصيات وما تنتجه من أحداث تتعايش معا وتتزامن في آن واحد.
هنا يصبح فعل بناء الحبكة أو المادة الحكائية ملكا للقارئ، لكن هذه الحرية في القص لا تغني عن الاتفاق على مادة حكائية بعينها تتمثل في علاقة الحب القلقة بين رامة وميخائيل، ورغم عدم وجود سور زمني يحيط بأحداث الروايات الثلاث إلا أن الباحث يرى في “رامة والتنين” تعبيرا عن الهزيمة وسقوط المشروع القومي، بينما تمثل ”الزمن الآخر” نقدا مريرا للمرحلة الساداتية، استمر في ”يقين العطش”، وبالرغم من ذلك تتواصل الروايات في حرصها على مسألتي الحرية والهوية، وتلتقي في النقد السياسي والاجتماعي.
"المواطنة" قضية الرواية الأولى
قضايا المواطنة
تكشف القراءة المتأنية للرواية عن حجم حضور قضايا المواطنة فيها، والانتساب إلى الجماعة الوطنية المصرية، حيث انصب الاهتمام على قضيتي الحرية والهوية، ويرى الباحث أن أعمال الخراط جاءت تعبيرا عن ضمير هذه الجماعة التي لا تقوم على التمييز بين أطيافها، فقد مثلت الهوية شاغلا أساسيا في روايات الخراط، مثلا رواياته عن الإسكندرية اهتمت بالمدينة كموطن جامع لكل الجنسيات، متسامح يحتمل كل الاختلافات، وهذا الطابع الكوزموبوليتاني التعددي للإسكندرية يتجلى في الثلاثية محل الدراسة، فالوطن ليس كلا واحدا، بل هو متنوع ومتوحد في الوقت ذاته، ورغم ذلك تنهض الثلاثية على الصدام بين تيارين، تيار قطري يمثله ميخائيل برؤيته التمصيرية، وآخر قومي تمثله رامة المؤمنة بالتعدد.
أما الحرية فقد ارتبطت عند إدوار الخراط بالحب، وبالتالي بالمرأة، وبالنسبة للروايات الثلاث يقول الباحث إنه لا توجد صورة واحدة للمرأة، حتى بالنسبة لرامة، فهي ليست امرأة واحدة، ولا يمكن اختزال تعدديتها وثرائها، فهي صورة للمطلق، وهي حبيبة ميخائيل، والأم التي تعول أسرتها بعد سجن الزوج، وهي المناضلة اليسارية والأثرية التي تجيد أكثر من لغة، وهي المرأة الشبقية متعددة العلاقات، فرامة ترسم لميخائيل الصورة التي يرسمها هو لها، كلاهما يفضلان تجاوز الطرف الآخر، وكلاهما يريان أن سر تجاذبهما هو ذلك السعي إلى الفرادة، أن يكون ميخائيل رجل الرجال ويسمو على المرأة، وأن تكون رامة كل النساء وتسمو على الرجل.
ورامة بجمعها بين كل المتناقضات تكون تعبيرا عن لاوعي ميخائيل، أو ترجمة للاوعي مجتمع خارج من النكسة، لذلك فهي بحضورها المهيمن قادرة على جذب كل الأطراف، وتجمع في علاقة فرويدية بين الجنس والأمومة.
الأربعاء 2018/01/10
آمن بالحرية وكتبها
من الروائيين الذين اهتموا بقضايا المواطنة وطرحوها مرارا في أعمالهم الكاتب المصري الراحل إدوار الخراط، مما حدا بالباحث محمود أحمد عبدالله إلى اتخاذها عنوانا لأطروحته لنيل درجة الدكتوراه في علم اجتماع الأدب، وقد صدرت حديثا في كتاب بعنوان ”المواطنة في الرواية المصرية، إدوار الخراط نموذجا”.
ثلاثية الخراط
حظيت تجربة الخراط الإبداعية باهتمام كبير من النقاد والباحثين، فصدرت عنها كتب ودراسات عدة لكنها في مجملها انصبت على الجوانب الفنية والجمالية، بينما كان الإهمال شبه التام نصيبا للجوانب الفكرية، لذا فكتاب “المواطنة في الرواية المصرية”، الصادر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، جاء ليسد نقصا في هذا المجال، وليعبر عن رؤية الباحث التي تتلخص في كون ”المواطنة” قضية الرواية الأولى، إذ ارتبط تطور الفن الروائي بمحوري الحرية والهوية، وهما معا جناحا المواطنة. ورغم تعدد المجالات التي أبدع فيها إدوار الخراط، إضافة إلى غزارة هذا الإبداع، إلا أن دارسين كثيرين تعاملوا مع هذا الفيض الإبداعي كأنه كتاب واحد متعدد الأوجه.
توقفت الدراسة عند ثلاثة نصوص روائية فقط للخراط هي “رامة والتنين”، “الزمن الآخر”، “يقين العطش”، باعتبارها تمثل ثلاثية روائية للكاتب، وحدد الباحث أسباب اختياره في كون النصوص الثلاثة معنية بشكل أساسي بمسألتين من أهم جوانب المواطنة وهما الحرية ونبذ التعصب الديني، كما أن الروايات المختارة تعبر عن رؤية صاحبها للتحولات السياسية التي شهدها المجتمع المصري، فحسب الكتاب ”الأعمال الثلاثة تاريخيا هي تمثيل جيد لحالة عبور روائي على مراحل تاريخية ثلاث: الناصرية القومية، والانفتاح الاستهلاكي الساداتي، ومرحلة العولمة في عصر مبارك”، إضافة إلى أن تلك الروايات نالت اهتماما نقديا لافتا يسهل التحليل السوسيو أدبي لها اتباعا لمنهج لوسيان جولدمان الذي يرى عمل السوسيولوجي لاحقا لعمل الناقد ومتوجا له.
تعبر فكرة المواطنة عند إدوار الخراط عن الاندماج والتعدد، فهي تؤكد على الجمع بين المتفرقات وعلى الإيمان بالحرية التي لا تحول دون التوحد، وهذا يظهر في كل المستويات المكونة للنص الروائي عند الخراط بدءا من مستوى القص فالخطاب ثم مستوى الدلالة والقضايا المطروحة، فعلى مستوى النص تتعدد الحكايات وتتفرع، لكنها تظل معبرة عن حكاية واحدة رئيسة، أي أن تنوعها لم ينف وحدتها، كما تتعدد شخصيات النص دون أن يدور حول شخصية واحدة مركزية، ورغم ما يفرق بينها وما يكرس لاختلافها إلا أن الشخصيات تجد رابطا يجمعها، وهو الأمر المؤدي إلى تعدد مستويات الزمن، فالشخصيات وما تنتجه من أحداث تتعايش معا وتتزامن في آن واحد.
في رواية ”رامة والتنين” ترتكز الحبكة على مجموعة من الحكايات المستقلة عن بعضها البعض، ويسوقها الراوي على سبيل الاستطراد، ولا يربط بينها إلا الدلالة الكلية التي يشكلها السياق العام للرواية، هكذا يبلغ التشظي مداه، وتنتصر الرواية للحكايات الصغيرة، ويتشكل متنها من تداخل وتشابك عدد من الأنساق يتماهى مع فن الأرابيسك في اعتداده بقيمة التكرار، حيث كل وحدة تكرار لما حولها وفي نفس الوقت صورة مصغرة للوحة ككل، وهكذا في الروايات الثلاث تتوزع الأحداث وتتشتت على المستوى الأفقي، لتحول دون عقد الحبكة وتحيل إلى عقدة أخرى لحكاية أخرى، في محاكاة فنية لأسلوب السرد في ألف ليلة وليلة.
هنا يصبح فعل بناء الحبكة أو المادة الحكائية ملكا للقارئ، لكن هذه الحرية في القص لا تغني عن الاتفاق على مادة حكائية بعينها تتمثل في علاقة الحب القلقة بين رامة وميخائيل، ورغم عدم وجود سور زمني يحيط بأحداث الروايات الثلاث إلا أن الباحث يرى في “رامة والتنين” تعبيرا عن الهزيمة وسقوط المشروع القومي، بينما تمثل ”الزمن الآخر” نقدا مريرا للمرحلة الساداتية، استمر في ”يقين العطش”، وبالرغم من ذلك تتواصل الروايات في حرصها على مسألتي الحرية والهوية، وتلتقي في النقد السياسي والاجتماعي.
"المواطنة" قضية الرواية الأولى
قضايا المواطنة
تكشف القراءة المتأنية للرواية عن حجم حضور قضايا المواطنة فيها، والانتساب إلى الجماعة الوطنية المصرية، حيث انصب الاهتمام على قضيتي الحرية والهوية، ويرى الباحث أن أعمال الخراط جاءت تعبيرا عن ضمير هذه الجماعة التي لا تقوم على التمييز بين أطيافها، فقد مثلت الهوية شاغلا أساسيا في روايات الخراط، مثلا رواياته عن الإسكندرية اهتمت بالمدينة كموطن جامع لكل الجنسيات، متسامح يحتمل كل الاختلافات، وهذا الطابع الكوزموبوليتاني التعددي للإسكندرية يتجلى في الثلاثية محل الدراسة، فالوطن ليس كلا واحدا، بل هو متنوع ومتوحد في الوقت ذاته، ورغم ذلك تنهض الثلاثية على الصدام بين تيارين، تيار قطري يمثله ميخائيل برؤيته التمصيرية، وآخر قومي تمثله رامة المؤمنة بالتعدد.
أما الحرية فقد ارتبطت عند إدوار الخراط بالحب، وبالتالي بالمرأة، وبالنسبة للروايات الثلاث يقول الباحث إنه لا توجد صورة واحدة للمرأة، حتى بالنسبة لرامة، فهي ليست امرأة واحدة، ولا يمكن اختزال تعدديتها وثرائها، فهي صورة للمطلق، وهي حبيبة ميخائيل، والأم التي تعول أسرتها بعد سجن الزوج، وهي المناضلة اليسارية والأثرية التي تجيد أكثر من لغة، وهي المرأة الشبقية متعددة العلاقات، فرامة ترسم لميخائيل الصورة التي يرسمها هو لها، كلاهما يفضلان تجاوز الطرف الآخر، وكلاهما يريان أن سر تجاذبهما هو ذلك السعي إلى الفرادة، أن يكون ميخائيل رجل الرجال ويسمو على المرأة، وأن تكون رامة كل النساء وتسمو على الرجل.
ورامة بجمعها بين كل المتناقضات تكون تعبيرا عن لاوعي ميخائيل، أو ترجمة للاوعي مجتمع خارج من النكسة، لذلك فهي بحضورها المهيمن قادرة على جذب كل الأطراف، وتجمع في علاقة فرويدية بين الجنس والأمومة.