...وينظر الشيخ ابن القارح- متعه الله بالنعيم- إلى الناقة ويقول لها:
-وكيف أركبك، أيتها الناقة المباركة، وليس عليك رَحْل؟
فلا يكاد ينطق بذلك حتى يَصيرَ عليها رَحْلٌ من زبرجد، بقدرة الواحد الأوحد، فيستوي الشيخُ على ظهرها في الحين، بخفة فتىً في العشرين، ثم يقول لها:
-إلى قصر المُثقِّب العبدي، على بركة الله القدير.
فتَمشي به الهَيْدَبىٰ أولَ الأمر (والهيدبى مشية فيها سرعة، من مشية الإبل) ثم تُرْقِلُ، ويَعْرضُ لهما، خلال ذلك، رسْلٌ من نياق الجنة (والرسْل مابين خمس عشرة وخمس وعشرين ناقة) يرعين بين أشجار الحور، فيرغب الشيخ في الوقوف هناك ساعة، ويترجل فيسمع هاتفا يهتف به:
-بوركتَ يا شيخنا عليّ بن منصور.
فيلتفت فإذا شاب وسيم ،حسن السمت، عليه لباس أهل الجنة، يتقدم نحوه ويقول:
-ما إخالك إلا عرفتَني، أيها الشيخ، أنا الشاعر عبيد بن الحصين، الملقب بالراعي النميري، وقد كنت في الدار الفانية من أوصف الشعراء للإبل، فبنعمة ربي صرت أرعى إبل الجنة، بعد أن كُتبَ لي فيها الخلود، ولولا نعمة ربي لكنتُ منَ المُحْضَرِين.
فيقول له الشيخ:
-نعم أيها الراعي، لقد كنتَ من الشعراء المجيدين المحسنين، ولم يكن أحدٌ يجاريك في وصف الإبل، ولكنك كنتَ أيضا هجّاءً، مقذعا في الهجاء، وحتى زوجك العقيلية لم تسلم من لسانك، إذ قلتَ فيها:
عُقَيليةٌ أمّا أعالي عظامِها
فَعُوجٌ وأمّا لحمُها فقَليلُ
فيستغرب الراعي ضحكاً من كلام الشيخ ويقول:
-ذلك من ترهات الدنيا الفانية، بل إني أذكرُ أن إبليس اللعين زيّنَ لي هجاءَ جرير، فلما بلغه هجائي، أجابني ببائيته الدامغة، التي يقول فيها:
فغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيرٍ
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فأمسكتُ بعدها، فيما أذكُر، عن قول الشعر.
ثم تَهُشُّ نفس الشيخ لرؤية إبل الجنة عن كثب، فيتوجهان معا نحو ذلك الرسْل، ويقتربان من ناقة عظيمة، عليها آثار النعيم، فيسألها الشيخ عمن تكون، فتجيبه (وحيوانات الجنة كلها تنطق بلسان عربي فصيح):
-أنا ناقة طرفة بن العبد.
فينظر إليها الشيخ نظر الفاحص المتمعن ويقول:
-ما أراك أيتها الناقة إلّا كما وصفك الغلام القتيل، حين قال: أمُونٌ كألواح الإران نسأتُها.
( والأمون: الناقة الموَثَّقة الخَلْق، التي يُؤْمَن عثارُها وزلَلُها، والإران: تابوت كانوا يجعلون فيه سادتهم وكبراءهم، ونسأتُها: ضربتُها بالمنسأة وهي العصا، كي أحثها على السير.)
ثم ينظر إلى عينيها ويقول:
-وما كذب حين شبَّه عينيك بالماوِيَّتَين، أي بالمرآتين الصافيتين، المستكنتين في محجريهما، حين قال:
وعينانِ كالماويتين اسْتَكَنّتا
بكهفي حجاجَيْ صخرة قَلْتِ مورد
فتقول الناقة:
-غفر الله لطرفة بن العبد، فقد كان يُعْنتُني ويخيفني، خلال السير، بسوط من جلد، ملوي، شديد الفتل، وكان يلهب به جلدي حتى أكون طيعة له فأُرْقِل (أي أسرع في سيري) إن هو شاء، وأكف إن هو شاء، وفي ذلك يقول:
وإنْ شئتُ لم تُرقلْ وإن شئتُ أرقلَتْ
مخافةَ مَلْويٍّ من القِدِّ مُحْصَدِ
ثم يعمد الشيخ إلى ناقة أخرى، على مقربة من ناقة طرفة، فيسألها:
-وأنتِ، من تكونين أيتها الناقة السعيدة؟
فتجيبه:
-أنا ناقة الملك الضِّلِّيل، عقرني في الدار الفانية للعذارى، فجعلن يرتمين بلحمي وشحمي، أي تُناوله كلُّ واحدة منهن للأخرى، ويترامين به، من باب اللهو، وشبَّهَ لحمي في بياضه بهُدّاب الدِّمَقْس، أي بأهداب الحرير المفتول، فذلك قوله:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي
فيا عجباً من رَحْلها المتحمّلِ
فظَلَّ العذارى يرتمين بلحمها
وشحمٍ كهدّاب الدِّمَقس المُفَتّلِ
ويدنو الراعي النميري من الشيخ ويسأله:
-ألا قلتَ لي، أيها الشيخ، ماذا أراد الملك الضليل بقوله: فيا عجباً من رحلها المتحمل؟
(يتبع)
https://www.facebook.com/abdelkaderouassat.abousalma/posts/2489450481156921
-وكيف أركبك، أيتها الناقة المباركة، وليس عليك رَحْل؟
فلا يكاد ينطق بذلك حتى يَصيرَ عليها رَحْلٌ من زبرجد، بقدرة الواحد الأوحد، فيستوي الشيخُ على ظهرها في الحين، بخفة فتىً في العشرين، ثم يقول لها:
-إلى قصر المُثقِّب العبدي، على بركة الله القدير.
فتَمشي به الهَيْدَبىٰ أولَ الأمر (والهيدبى مشية فيها سرعة، من مشية الإبل) ثم تُرْقِلُ، ويَعْرضُ لهما، خلال ذلك، رسْلٌ من نياق الجنة (والرسْل مابين خمس عشرة وخمس وعشرين ناقة) يرعين بين أشجار الحور، فيرغب الشيخ في الوقوف هناك ساعة، ويترجل فيسمع هاتفا يهتف به:
-بوركتَ يا شيخنا عليّ بن منصور.
فيلتفت فإذا شاب وسيم ،حسن السمت، عليه لباس أهل الجنة، يتقدم نحوه ويقول:
-ما إخالك إلا عرفتَني، أيها الشيخ، أنا الشاعر عبيد بن الحصين، الملقب بالراعي النميري، وقد كنت في الدار الفانية من أوصف الشعراء للإبل، فبنعمة ربي صرت أرعى إبل الجنة، بعد أن كُتبَ لي فيها الخلود، ولولا نعمة ربي لكنتُ منَ المُحْضَرِين.
فيقول له الشيخ:
-نعم أيها الراعي، لقد كنتَ من الشعراء المجيدين المحسنين، ولم يكن أحدٌ يجاريك في وصف الإبل، ولكنك كنتَ أيضا هجّاءً، مقذعا في الهجاء، وحتى زوجك العقيلية لم تسلم من لسانك، إذ قلتَ فيها:
عُقَيليةٌ أمّا أعالي عظامِها
فَعُوجٌ وأمّا لحمُها فقَليلُ
فيستغرب الراعي ضحكاً من كلام الشيخ ويقول:
-ذلك من ترهات الدنيا الفانية، بل إني أذكرُ أن إبليس اللعين زيّنَ لي هجاءَ جرير، فلما بلغه هجائي، أجابني ببائيته الدامغة، التي يقول فيها:
فغُضَّ الطرفَ إنك من نُمَيرٍ
فلا كعباً بلغت ولا كلابا
فأمسكتُ بعدها، فيما أذكُر، عن قول الشعر.
ثم تَهُشُّ نفس الشيخ لرؤية إبل الجنة عن كثب، فيتوجهان معا نحو ذلك الرسْل، ويقتربان من ناقة عظيمة، عليها آثار النعيم، فيسألها الشيخ عمن تكون، فتجيبه (وحيوانات الجنة كلها تنطق بلسان عربي فصيح):
-أنا ناقة طرفة بن العبد.
فينظر إليها الشيخ نظر الفاحص المتمعن ويقول:
-ما أراك أيتها الناقة إلّا كما وصفك الغلام القتيل، حين قال: أمُونٌ كألواح الإران نسأتُها.
( والأمون: الناقة الموَثَّقة الخَلْق، التي يُؤْمَن عثارُها وزلَلُها، والإران: تابوت كانوا يجعلون فيه سادتهم وكبراءهم، ونسأتُها: ضربتُها بالمنسأة وهي العصا، كي أحثها على السير.)
ثم ينظر إلى عينيها ويقول:
-وما كذب حين شبَّه عينيك بالماوِيَّتَين، أي بالمرآتين الصافيتين، المستكنتين في محجريهما، حين قال:
وعينانِ كالماويتين اسْتَكَنّتا
بكهفي حجاجَيْ صخرة قَلْتِ مورد
فتقول الناقة:
-غفر الله لطرفة بن العبد، فقد كان يُعْنتُني ويخيفني، خلال السير، بسوط من جلد، ملوي، شديد الفتل، وكان يلهب به جلدي حتى أكون طيعة له فأُرْقِل (أي أسرع في سيري) إن هو شاء، وأكف إن هو شاء، وفي ذلك يقول:
وإنْ شئتُ لم تُرقلْ وإن شئتُ أرقلَتْ
مخافةَ مَلْويٍّ من القِدِّ مُحْصَدِ
ثم يعمد الشيخ إلى ناقة أخرى، على مقربة من ناقة طرفة، فيسألها:
-وأنتِ، من تكونين أيتها الناقة السعيدة؟
فتجيبه:
-أنا ناقة الملك الضِّلِّيل، عقرني في الدار الفانية للعذارى، فجعلن يرتمين بلحمي وشحمي، أي تُناوله كلُّ واحدة منهن للأخرى، ويترامين به، من باب اللهو، وشبَّهَ لحمي في بياضه بهُدّاب الدِّمَقْس، أي بأهداب الحرير المفتول، فذلك قوله:
ويوم عقرتُ للعذارى مطيتي
فيا عجباً من رَحْلها المتحمّلِ
فظَلَّ العذارى يرتمين بلحمها
وشحمٍ كهدّاب الدِّمَقس المُفَتّلِ
ويدنو الراعي النميري من الشيخ ويسأله:
-ألا قلتَ لي، أيها الشيخ، ماذا أراد الملك الضليل بقوله: فيا عجباً من رحلها المتحمل؟
(يتبع)
https://www.facebook.com/abdelkaderouassat.abousalma/posts/2489450481156921