واجه ريكور مشكلة الهوية السردية عند انتهائه من تأليف الجزء الثالث من كتابه الزمان والسرد (1985). فكان عليه أن يحلّ المشكل التالي: كيف يتم طرح فرضية الدمج بين السرد التاريخي والسرد الخيالي؟ بمعنى كيف يكون المرور من الحياة إلى السرد ومن السرد إلى الحياة؟
منذ نشر الجزء الثالث من الزمان والسرد، صار ريكور واعيا بالمصاعب الجمّة التي تتعلّق بسؤال الهويّة: "وأنا الآن مقتنع أنّ دفاعا أقوى وأكثر اقناعا يمكن أن يتعاظم باسم الهويّة السرديّة، إذا تمّ الكشف عن أنّ هذه الفكرة والتجربة التي تشير إليها تساعد في حلّ المصاعب المتعلّقة بفكرة الهويّة الشخصيّة". (الوجود والزمان والسرد، ص.252.)
إنّ اشكالية التماسك أو البقاء في الزمان، أي اشكالية الهويّة، توجد هناك في السرد، وقد ارتفعت إلى مستوى جديد من الوضوح ومن الاعضال أيضا.
يؤلّف السرد الخوّاص الدائمة لشخصيّة ما، وهو ما نسميه هويته السردية من جهة بناء نمط من الهوية الدينامية المتحركة والموجودة في الحكمة التي تخلق هويته الشخصيّة. فلا يمكن للهويّة أن تكون فاعلة في التاريخ دون روايته وسرده.
من الحياة إلى السرد:
يرى بول ريكور أنّ سرديات السيرة الذاتية نجحت في البرهنة على أنّ المرور من الحياة إلى السرد كفيل بجعل حياة الكاتب أكثر معقوليّة. لأنّ الذات تأويل، ولأنّ تأويل الذات، بدوره يجد في السرد، وساطته المتميّزة بين إشارات ورموز أخرى. تقوم "تأويلية الهويّة السردية" على التاريخ بقدر ما تقوم على الخيال، فتحوّل قصّة الحياة إلى قصّة خيالية، أو إلى خيال تاريخي.
يتساءل ريكور قائلا: "أفلا تصير حياة الناس أكثر معقوليّة بكثير حين يتمّ تأويلها في ضوء القصص التي يرويها الناس عنها؟ ألا تصبح "قصص الحياة" نفسها أكثر معقوليّة حين يُطبّق عليها الانسان النماذج السرديّة، (أو الحبكات) المستمدّة من التاريخ والخيال (مثل مسرحية أو رواية)" (ريكور، الوجود والزمان والسرد، ص.251.).
يتفق ريكور مع هيدغر حول الهويّة الآنية، ويرى أنّ الهويّة ليست شيئا جوهريّا ثابتا بل هي أصلا ما يتحقق بالزمان، أي هي الدّوام الذي يحفظه الزمان من التبدّد والتبعثر. وخلافا لجميع الفلاسفة، يعتقد ريكور فيما يسمّيه "الهوية السرديّة"، أي صورة الذات المتحركة التي لا تتحقق إلاّ بالسرد. فقد طوّر خطابا فلسفيا حول السرد ليفرد للهوية السردية موقعا مفصليا جاعلا منها عنصرا محدّدا في مسائل المعنى وقضايا الايتيقا والتعرّف على الإنسان.
ما المقصود بالهوية السردية؟
ظهر مفهوم "الهوية السرديّة" لأوّل مرّة في خاتمة الجزء الثالث من الزمان والسرد، في إطار التفكير في علاقة التاريخ بالمتخيّل، بحثا عن سياق عملي يلتقي فيه صنفان من السرد: السرد التاريخي والسرد المتخيل. ثمّ سعى في كتابه المحوريّ الذات عينها كآخر (1990) إلى تبسيط نموذج الهويّة السرديّة متجاوزا البعد الضيّق الخاصّ بالهويّة في مسار تشكّلها الزمني كما هو الحال في كتابه الزمان والسرد.
يؤكّد مفهوم "الهويّة السردية" أنّ علاقة الذات بنفسها تمرّ بوسائط عديدة في علاقتها بنفسها وبالآخر. وفي هذا السياق يدخل البعد التاريخي في اتجاهين اثنين: مسار تشكّل الهوية الذاتية في بعدها السردي، والمسار التأويلي المرتبط بالذاكرة. فتسلك الذات مسالك تأويلية عبر النصّ المقروء الذي يكشف عن عالم كامل مستقل عن مؤلّفه وعن ظروف صياغته وكذلك عن مجال تلقيه.
إنّ ما يؤكّد عليه بول ريكور منذ الزمان والسرد هو هذا التفاعل السيميائي بين الشخصيات أو صانعي الفعل من جهة وحبكة القصّة أو ما يمكن تسميته ب"المسارات السرديّة" من جهة ثانية، وهو تفاعل يغتني فيه كل طرف بما يوفّره له الطرف المقابل وكأنّ مسارات السرد ليست شيئا آخر غير مسارات الشخصيّة ذاتها.
يتصّل سؤال الهويّة بالممارسة السرديّة من وجهين متلازمين:
- أوّلا، من جهة أنّ الانسان الذي يكشف عن هويته من خلال ما يحكي عن حياته ومن خلال القصص المروية التي تمثل أجناسا سرديّة تتمحور حول الكتابة التاريخية والإبداع المتخيّل.
-ثانيا، من جهة أنّ الذات هي التي تصنع التاريخ، أي تخرج إلى دائرة الفعل المتحوّل، ولا يمكنها في الآن نفسه أن تكون فاعلة في التاريخ دون روايته وسرده.
لقد تبلور مفهوم الهوية السردية في الزمان والسرد في سياق التفكّر في الأجناس الأدبية والتاريخية التي تصوغ حبكة سردية للشخصيّة من جهة بعد الحكاية المحدّد لهويّة الفرد أو المجموعة. أمّا في الذات عينها كآخر، فإنّ مفهوم الهويّة السردية قد صار مندرجا في صلب انثروبولوجيا الانسان القادر. تشكّل هذه الانثروبولوجيا البعد السرديّ الذي يعيّن الذات بصفتها مؤهّلة للحكاية.
يكتب بول ريكور متحدثا عن الهوية السردية في مؤلّفه الأخير سيرة الاعتراف (2004): " تعطي فكرة الهوية السردية مدخلا لمقاربة جديدة لمفهوم الذاتية، والذي من دون العودة للهويّة السردية يظلّ قاصرا في إظهار دياليكتيكية المخصوص والمتعلّق بالعلاقة بين نوعين من الهوية، الهوية الثابتة العينية والهوية المتحركة للذاتية المعتبرة في شرطها التاريخي".
جدل الهوية العينية والهوية الذاتية:
يقف ريكور عند التمييز العامّ بين مفهومين للهويّة، الهويّة في دلالتها الشيئية الجامدة، أي الهوية "العينية" (mêmeté) والهويّة الذاتية (ipseité) المعروفة بالحركية المرنة. تعرف الهويّة العينية بالطابع الثابت، وتحيل على معنى الوحدة والتجانس والاستمرارية المتصلة دون انقطاع بين المرحلة الأولى والمرحلة الأخيرة في مسار الفرد نفسه، وهو ما يفضي إلى تعيين الهوية من حيث هي عنصر لامتغيّر (جوهر أو ماهية)، وهذا العنصر هو الذي يمنحها دلالة الاستمرارية الدائمة عبر الزمن.
قد تتغيّر الهويّة الذاتية لكنها تظلّ في الوقت نفسه محافظة على ذاتها رغم مرور الزمان بطريقة الوفاء للوعد المقطوع، أمّا الهويّة الثابتة فلا تتغيّر، فهي الذات (the same) التي تتميّز عن (the self). وهي أقرب إلى مفهوم الجوهر الذي لا يتغيّر رغم مرور الزمان.
تنتمي هاتان الهويتان إلى حالتين مختلفتين من الوجود. فتتعلّق الهويّة العينية بعالم الأشياء التي تكون تحت طائلة ويمكننا أن نستعملها كما نشاء. في حين تنتمي الهويّة الذاتية إلى الوجود الذي لا يستطيع إلاّ أن يطرح أسئلة حول وجوده.
تظهر جدلية الهويّة العينية والهويّة الذاتية على أنّها حصيلة الانتقال من البحث عن ترابط الأحداث وفق مقتضيات الحبكة إلى مستوى استشكال شخصيات السرد القصصي فتكون الجدلية حاضرة في مستوى الشخصيّة ذاتها.
يتعلّق الأمر إذن بجدلية داخلية هي شرط فهم الشخصية فيما لا يفصل بين الشخص وتجاربه، معوّلا في ذلك على الرواية في بناء الهويّة الشخصيّة، التي أصبحت بدورها سرديّة تنصهر فيها هويّة الشخص وهويّة القصّة المحكيّة. غير أنّ ما ينبغي التنبيه إليه هو أنّ الهويّة السرديّة هي التي ستلعب دور الوسيط بين الهويّة العينية والهويّة الذاتيّة (الذات عينها كآخر، ص.302.).
يتجلّى مفهوم الهويّة السردية من جهة كونه "إطار الوساطة" بين بعدين مختلفين للذاتيّة. فالسرد يجمع بين الاستمرارية والتغير. أي بين الوقائع والأحداث المشتتة والفعل التأليفي التنسيقي الجامع الذي يطلق عليه ريكور اسم "تأليفية المتنوّع". وهكذا، يصبح الشخص في الهوية السردية "شخصيّة محكيّة"، توضع على أنّها موضوع لحبكة سردية تجسّد هذه العلاقة الجدليّة بين الهويّة العينية والهوية الذاتية.
من هيدغر إلى ريكور: استبدال الشعري بالسردي.
لقد سبق أن نبّه ريكور إلى ما يتيحه الشعر من إمكانات قد لا تتيحها الفلسفة في التعبير عن الوجود، وريما اهتمامه بهولدرلين إلاّ دليل على هذه القابليّة التي يثري من خلالها غير الفلسفي موضوعات التفلسف.
إنّ الأرض منذ هوسرل وهيدغر ونيتشه هي الاسم الأسطوري للوجود في العالم. لأنّ التخيّل أو الأخيلة هي محاكاة شاردة للفعل، لما عرفناه في الماضي ونعرفه. هي محاكاة على جهة التفاعل مع فعل أو أفعال حدثت. تصبح الشخصيات في السرد الخيالي، على المسرح أو في الرواية كائنات تشبهنا، انفعالا ومعاناة، حياة وفكرا وفناء. معنى ذلك أنّ التنوعات السردية تحتاج دوما إلى شرط أرضيّ لا مهرب منه في المجال السرديّ.
ينتج التأويل السرديّ صورة مجازيّة للشخصيّة، تتحلّى بها الذات وتبرز، هي الذات المؤوّلة سرديّا. تتخيّل ذاتها وتكتبها سرديّا بطريقة أو بأخرى.
الهوية السرديّة والمسار الأخلاقي:
تكون الهويّة السرديّة جسرا يصل الإنسان المتكلّم والفاعل المتألّم بالإنسان الأخلاقي الذي يتحمّل تبعة أعماله. لذلك تلتقي فلسفة الهويّة السرديّة بالآخر القريب وبالآخر البعيد أو بالغريب. فلا تعيش الذات السرديّة وحدها، لكونها تكتشف بسرعة البنية الثنائية الحوارية للعيش، عبر السّرد. وباكتشافها للآخر، تصبح متعاطفة معه، وينعكس تقدير الذات احتراما للآخر. لكن في غياب هذا الاحترام لا وجود من تبادل ممكن مع هذا الآخر. فتصبح العلاقة هنا مثل الصداقة، تحكمها المساواة، وفكرة العدالة.
لا تتوقّف الرغبة في العيش الجيّد على العلاقات الشخصيّة، بل تتخطّى ذلك للمطالبة بمساواة غير تلك القائمة بين صديقين. أي العدالة التي تعني أن يحصل كلّ واحد في جماعة معيّنة على الإنصاف أي على نصيبه الذي يستحقّه.
إنّ من يتكلّم في السرد، من يروي قصّته هو الفاعل الأخلاقي، وهو الذي يتحمّل تبعات أفعاله. لكنّنا في نظر ريكور "لا نخرج من معضلة الهويّة الذاتية ما دمنا ندور في حلقة مسألة من؟" ويضع في الأخير النظريّة السرديّة في نقطة ملتقى نظريّة العمل والنظريّة الأخلاقية، ليجعل من السرد نقطة عبور طبيعي بين الوصف والالزام.
خاتمة:
استطاع مفهوم الهوية السردية أن يُستخدم من جهة كونه فكرة موجّهة لتوسيع الدائرة العمليّة، إلى ماهو أبعد من الأعمال البسيطة. فالأعمال المعقّدة هي التي تعيد تصويرها القصص السردية، فتكون غنيّة بالاستباقات ذات الطابع الأخلاقي.
د.فوزية ضيف الله تونس
منذ نشر الجزء الثالث من الزمان والسرد، صار ريكور واعيا بالمصاعب الجمّة التي تتعلّق بسؤال الهويّة: "وأنا الآن مقتنع أنّ دفاعا أقوى وأكثر اقناعا يمكن أن يتعاظم باسم الهويّة السرديّة، إذا تمّ الكشف عن أنّ هذه الفكرة والتجربة التي تشير إليها تساعد في حلّ المصاعب المتعلّقة بفكرة الهويّة الشخصيّة". (الوجود والزمان والسرد، ص.252.)
إنّ اشكالية التماسك أو البقاء في الزمان، أي اشكالية الهويّة، توجد هناك في السرد، وقد ارتفعت إلى مستوى جديد من الوضوح ومن الاعضال أيضا.
يؤلّف السرد الخوّاص الدائمة لشخصيّة ما، وهو ما نسميه هويته السردية من جهة بناء نمط من الهوية الدينامية المتحركة والموجودة في الحكمة التي تخلق هويته الشخصيّة. فلا يمكن للهويّة أن تكون فاعلة في التاريخ دون روايته وسرده.
من الحياة إلى السرد:
يرى بول ريكور أنّ سرديات السيرة الذاتية نجحت في البرهنة على أنّ المرور من الحياة إلى السرد كفيل بجعل حياة الكاتب أكثر معقوليّة. لأنّ الذات تأويل، ولأنّ تأويل الذات، بدوره يجد في السرد، وساطته المتميّزة بين إشارات ورموز أخرى. تقوم "تأويلية الهويّة السردية" على التاريخ بقدر ما تقوم على الخيال، فتحوّل قصّة الحياة إلى قصّة خيالية، أو إلى خيال تاريخي.
يتساءل ريكور قائلا: "أفلا تصير حياة الناس أكثر معقوليّة بكثير حين يتمّ تأويلها في ضوء القصص التي يرويها الناس عنها؟ ألا تصبح "قصص الحياة" نفسها أكثر معقوليّة حين يُطبّق عليها الانسان النماذج السرديّة، (أو الحبكات) المستمدّة من التاريخ والخيال (مثل مسرحية أو رواية)" (ريكور، الوجود والزمان والسرد، ص.251.).
يتفق ريكور مع هيدغر حول الهويّة الآنية، ويرى أنّ الهويّة ليست شيئا جوهريّا ثابتا بل هي أصلا ما يتحقق بالزمان، أي هي الدّوام الذي يحفظه الزمان من التبدّد والتبعثر. وخلافا لجميع الفلاسفة، يعتقد ريكور فيما يسمّيه "الهوية السرديّة"، أي صورة الذات المتحركة التي لا تتحقق إلاّ بالسرد. فقد طوّر خطابا فلسفيا حول السرد ليفرد للهوية السردية موقعا مفصليا جاعلا منها عنصرا محدّدا في مسائل المعنى وقضايا الايتيقا والتعرّف على الإنسان.
ما المقصود بالهوية السردية؟
ظهر مفهوم "الهوية السرديّة" لأوّل مرّة في خاتمة الجزء الثالث من الزمان والسرد، في إطار التفكير في علاقة التاريخ بالمتخيّل، بحثا عن سياق عملي يلتقي فيه صنفان من السرد: السرد التاريخي والسرد المتخيل. ثمّ سعى في كتابه المحوريّ الذات عينها كآخر (1990) إلى تبسيط نموذج الهويّة السرديّة متجاوزا البعد الضيّق الخاصّ بالهويّة في مسار تشكّلها الزمني كما هو الحال في كتابه الزمان والسرد.
يؤكّد مفهوم "الهويّة السردية" أنّ علاقة الذات بنفسها تمرّ بوسائط عديدة في علاقتها بنفسها وبالآخر. وفي هذا السياق يدخل البعد التاريخي في اتجاهين اثنين: مسار تشكّل الهوية الذاتية في بعدها السردي، والمسار التأويلي المرتبط بالذاكرة. فتسلك الذات مسالك تأويلية عبر النصّ المقروء الذي يكشف عن عالم كامل مستقل عن مؤلّفه وعن ظروف صياغته وكذلك عن مجال تلقيه.
إنّ ما يؤكّد عليه بول ريكور منذ الزمان والسرد هو هذا التفاعل السيميائي بين الشخصيات أو صانعي الفعل من جهة وحبكة القصّة أو ما يمكن تسميته ب"المسارات السرديّة" من جهة ثانية، وهو تفاعل يغتني فيه كل طرف بما يوفّره له الطرف المقابل وكأنّ مسارات السرد ليست شيئا آخر غير مسارات الشخصيّة ذاتها.
يتصّل سؤال الهويّة بالممارسة السرديّة من وجهين متلازمين:
- أوّلا، من جهة أنّ الانسان الذي يكشف عن هويته من خلال ما يحكي عن حياته ومن خلال القصص المروية التي تمثل أجناسا سرديّة تتمحور حول الكتابة التاريخية والإبداع المتخيّل.
-ثانيا، من جهة أنّ الذات هي التي تصنع التاريخ، أي تخرج إلى دائرة الفعل المتحوّل، ولا يمكنها في الآن نفسه أن تكون فاعلة في التاريخ دون روايته وسرده.
لقد تبلور مفهوم الهوية السردية في الزمان والسرد في سياق التفكّر في الأجناس الأدبية والتاريخية التي تصوغ حبكة سردية للشخصيّة من جهة بعد الحكاية المحدّد لهويّة الفرد أو المجموعة. أمّا في الذات عينها كآخر، فإنّ مفهوم الهويّة السردية قد صار مندرجا في صلب انثروبولوجيا الانسان القادر. تشكّل هذه الانثروبولوجيا البعد السرديّ الذي يعيّن الذات بصفتها مؤهّلة للحكاية.
يكتب بول ريكور متحدثا عن الهوية السردية في مؤلّفه الأخير سيرة الاعتراف (2004): " تعطي فكرة الهوية السردية مدخلا لمقاربة جديدة لمفهوم الذاتية، والذي من دون العودة للهويّة السردية يظلّ قاصرا في إظهار دياليكتيكية المخصوص والمتعلّق بالعلاقة بين نوعين من الهوية، الهوية الثابتة العينية والهوية المتحركة للذاتية المعتبرة في شرطها التاريخي".
جدل الهوية العينية والهوية الذاتية:
يقف ريكور عند التمييز العامّ بين مفهومين للهويّة، الهويّة في دلالتها الشيئية الجامدة، أي الهوية "العينية" (mêmeté) والهويّة الذاتية (ipseité) المعروفة بالحركية المرنة. تعرف الهويّة العينية بالطابع الثابت، وتحيل على معنى الوحدة والتجانس والاستمرارية المتصلة دون انقطاع بين المرحلة الأولى والمرحلة الأخيرة في مسار الفرد نفسه، وهو ما يفضي إلى تعيين الهوية من حيث هي عنصر لامتغيّر (جوهر أو ماهية)، وهذا العنصر هو الذي يمنحها دلالة الاستمرارية الدائمة عبر الزمن.
قد تتغيّر الهويّة الذاتية لكنها تظلّ في الوقت نفسه محافظة على ذاتها رغم مرور الزمان بطريقة الوفاء للوعد المقطوع، أمّا الهويّة الثابتة فلا تتغيّر، فهي الذات (the same) التي تتميّز عن (the self). وهي أقرب إلى مفهوم الجوهر الذي لا يتغيّر رغم مرور الزمان.
تنتمي هاتان الهويتان إلى حالتين مختلفتين من الوجود. فتتعلّق الهويّة العينية بعالم الأشياء التي تكون تحت طائلة ويمكننا أن نستعملها كما نشاء. في حين تنتمي الهويّة الذاتية إلى الوجود الذي لا يستطيع إلاّ أن يطرح أسئلة حول وجوده.
تظهر جدلية الهويّة العينية والهويّة الذاتية على أنّها حصيلة الانتقال من البحث عن ترابط الأحداث وفق مقتضيات الحبكة إلى مستوى استشكال شخصيات السرد القصصي فتكون الجدلية حاضرة في مستوى الشخصيّة ذاتها.
يتعلّق الأمر إذن بجدلية داخلية هي شرط فهم الشخصية فيما لا يفصل بين الشخص وتجاربه، معوّلا في ذلك على الرواية في بناء الهويّة الشخصيّة، التي أصبحت بدورها سرديّة تنصهر فيها هويّة الشخص وهويّة القصّة المحكيّة. غير أنّ ما ينبغي التنبيه إليه هو أنّ الهويّة السرديّة هي التي ستلعب دور الوسيط بين الهويّة العينية والهويّة الذاتيّة (الذات عينها كآخر، ص.302.).
يتجلّى مفهوم الهويّة السردية من جهة كونه "إطار الوساطة" بين بعدين مختلفين للذاتيّة. فالسرد يجمع بين الاستمرارية والتغير. أي بين الوقائع والأحداث المشتتة والفعل التأليفي التنسيقي الجامع الذي يطلق عليه ريكور اسم "تأليفية المتنوّع". وهكذا، يصبح الشخص في الهوية السردية "شخصيّة محكيّة"، توضع على أنّها موضوع لحبكة سردية تجسّد هذه العلاقة الجدليّة بين الهويّة العينية والهوية الذاتية.
من هيدغر إلى ريكور: استبدال الشعري بالسردي.
لقد سبق أن نبّه ريكور إلى ما يتيحه الشعر من إمكانات قد لا تتيحها الفلسفة في التعبير عن الوجود، وريما اهتمامه بهولدرلين إلاّ دليل على هذه القابليّة التي يثري من خلالها غير الفلسفي موضوعات التفلسف.
إنّ الأرض منذ هوسرل وهيدغر ونيتشه هي الاسم الأسطوري للوجود في العالم. لأنّ التخيّل أو الأخيلة هي محاكاة شاردة للفعل، لما عرفناه في الماضي ونعرفه. هي محاكاة على جهة التفاعل مع فعل أو أفعال حدثت. تصبح الشخصيات في السرد الخيالي، على المسرح أو في الرواية كائنات تشبهنا، انفعالا ومعاناة، حياة وفكرا وفناء. معنى ذلك أنّ التنوعات السردية تحتاج دوما إلى شرط أرضيّ لا مهرب منه في المجال السرديّ.
ينتج التأويل السرديّ صورة مجازيّة للشخصيّة، تتحلّى بها الذات وتبرز، هي الذات المؤوّلة سرديّا. تتخيّل ذاتها وتكتبها سرديّا بطريقة أو بأخرى.
الهوية السرديّة والمسار الأخلاقي:
تكون الهويّة السرديّة جسرا يصل الإنسان المتكلّم والفاعل المتألّم بالإنسان الأخلاقي الذي يتحمّل تبعة أعماله. لذلك تلتقي فلسفة الهويّة السرديّة بالآخر القريب وبالآخر البعيد أو بالغريب. فلا تعيش الذات السرديّة وحدها، لكونها تكتشف بسرعة البنية الثنائية الحوارية للعيش، عبر السّرد. وباكتشافها للآخر، تصبح متعاطفة معه، وينعكس تقدير الذات احتراما للآخر. لكن في غياب هذا الاحترام لا وجود من تبادل ممكن مع هذا الآخر. فتصبح العلاقة هنا مثل الصداقة، تحكمها المساواة، وفكرة العدالة.
لا تتوقّف الرغبة في العيش الجيّد على العلاقات الشخصيّة، بل تتخطّى ذلك للمطالبة بمساواة غير تلك القائمة بين صديقين. أي العدالة التي تعني أن يحصل كلّ واحد في جماعة معيّنة على الإنصاف أي على نصيبه الذي يستحقّه.
إنّ من يتكلّم في السرد، من يروي قصّته هو الفاعل الأخلاقي، وهو الذي يتحمّل تبعات أفعاله. لكنّنا في نظر ريكور "لا نخرج من معضلة الهويّة الذاتية ما دمنا ندور في حلقة مسألة من؟" ويضع في الأخير النظريّة السرديّة في نقطة ملتقى نظريّة العمل والنظريّة الأخلاقية، ليجعل من السرد نقطة عبور طبيعي بين الوصف والالزام.
خاتمة:
استطاع مفهوم الهوية السردية أن يُستخدم من جهة كونه فكرة موجّهة لتوسيع الدائرة العمليّة، إلى ماهو أبعد من الأعمال البسيطة. فالأعمال المعقّدة هي التي تعيد تصويرها القصص السردية، فتكون غنيّة بالاستباقات ذات الطابع الأخلاقي.
د.فوزية ضيف الله تونس