لطالما تغنت دول كبيرة بإنجازاتها، ولطالما صالت وجالت تحت مظلة المال و جبروت السلاح، سعيا منها إلى تملك زمام العالم و رسم سياساته و لو بالإكراه، أما عن الشركات العملاقة و مختبرات البحث العلمي و شعارات الديمقراطية و حقوق الإنسان، كلها كانت توحي بأن أسس التمكين و ركائز الوثوق الضامنة للأمان، باتت قائمة بما يكفي لاستقرار نفسي لدى مواطنيهم. لكن تبين اليوم أن كل ذلك مجرد سراب بِقيعة يحسبه الظمآن ماء، إنه مشهد شبيه بلافتات الإشهار التي تخفي خلفها زيفا و وهما كبيرا.
لقد جاءت جائحة كورونا كرسول صدق ينبئنا بحقائق الأمور، و يميط الغطاء عن قذارة غرب كاذب تسللت إليه العنجهية الفارغة في غفلة منا نحن دول الجنوب، فخدعنا كما خدعت الشعوب هناك، لما فهمت أنها أرخص من الأورو و الدولار بل أن أقصى متمنياتها الحصول على ورق المرحاض، و تلك مشاهد ضجت بها القنوات و مواقع الشبكة العنكبوتية ترسم معالم البؤس الأخلاقي لدى من ظنناهم متحضرين. و عن الحكمة فلا تسأل، قد غابت و حلت محلها الأنانية و جشع النفس الثواقة للربح في عز الأزمة، الاقتصاد و لا شيء غيره، أما المواطن فإلى الجحيم خصوصا إذا كان مسنا، و بذلك صرح بعض القادة في أحقر الصور و أنذلها.
لقد فاحت رائحة الموت في إيطاليا و حل الرعب محل رقصة "الترانتيلا" كل ذلك نتيجة الاستهتار أو الغباء الذي إذا تسرب إلى السياسة حطم كل شيء، إلا أن الأدهى و الأمر من ذلك هو تركُها لوحدها تترنح أمام أعين أخواتها من دول أوربا اللواتي آثرن التخلي عنها تواجه مصيرها لوحدها. لقد تخلت أوربا عن أوربا، فكيف لنا أن نثق مستقبلا بمن خان نفسه و غدرها؟
ما أقوله ليس شماتة أو تجريحا، فالعالم كله يعاني و نحن جزء منه، لكن تشخيص الوضع هو من مؤشرات إيجاد الحلول، و الحل المبحوث عنه اليوم و غدا أو وجب البحث عنه هو الاستقلال عن هذا الغرب و الاعتماد على مقدراتنا، إننا قادرون فالضعف لم يخلق ليسكن بين أضلعنا بل نحن من أسكنه و مكن له عبر تاريخ دام لعقود طويلة و في تنكر تام لطاقاتنا و مواهبنا.
علينا أن نستوعب أن دول الجنوب هي التي تصنع مجد دول الشمل و ليس العكس، ثرواتنا مصدر عيشهم، أبناؤنا هم عمالتهم، زبدة شبابنا هي من تُطعِّم جامعاتهم و مختبراتهم، و أسواقنا هي من يحيي إقتصاداتهم، إذن من الرابح في هذه المعادلة؟ و مبدأ رابح رابح زيف و كذب إذ حقيقته الربح كله للغرب و لنا الفتات.
قد تغيرت الموازين و تبين بما لا مجال فيه للشك أن القوة قوة الحكمة و حسن التدبير و ذلك ما أبانت عليه دول على قلة مواردها و ضعف إمكاناتها إلا أنها تصدت للأزمة بحنكة و علو كعب، و أعلت من شأن مواطنيها في بورصة القيم حيث الإنسان أغلى من كل شيء، و لعلي هنا سأكون سعيدا إن افتحرت ببلدي في هذا الباب، و كيف لا و أصوات بعض الساسة في فرنسا تدعو إلى جعل المغرب نموذجا يحتذى به، أصناعة كمامة كانت كافية لإثارة حنق زعيمة اليمين المتطرف الفرنسية مارين لوبين؟
ببساطة إن نهاية الغرب قد شرُفت، و لعلي بالمفكر المغربي المهدي المنجرة كان حكيما لما تنبأ بأفول شمسه منذ سنوات. لقد كنا نظن أنهم يمتلكون كل شيء، لنكتشف أن ذلك الكل هو مجرد قصور من رمال.
إن بناء الإنسان أهم من بناء الاقتصاد، و إن حسن التدبير فن لا يتقنه الجميع و هو بلسم الجراح و منجاة الناس، كما أن الأخلاق و القيم هي الثروة الحقيقية و هي صمام الأمان فلا خير في مواطن أو سياسي أو رئيس دولة يغيبها من حساباته.
شكرا كورونا فرغم الجراح و رغم الحجر و رغم الآهات و رغم الدموع و رغم التعب، قدَّمْتِ الدرس بل الدروس فهل من معتبر؟؟؟