أشرت في الحلقة الأولى من (إضاءات في الاستشراق الأدبي) إلى ظهور الروح (الفاوستية) في الأدب الإنجليزي من خلال ملحمة (ثعلبة) للشاعر ساوثي التي تصنف في عداد الحكايات الشرقية التي بلورت الحركة الرومانسية، وبخاصة (ألف ليلة وليلة) كما هو معروف. غير أن رواية (الواثق) Vathek التي ألفها وليم بكفورد بالفرنسية أولاً قبل أن يترجمها إلى الإنجليزية في عام 1786 ويشفع عنوانها بعبارة (حكاية عربية)، هي التي اعتبرها النقاد صورة نموذجية لـ (فاوست العربي).
والحال أن هذه الحكاية رواية تُسْرَدُ وفق تقنيات مستمدة من (ألف ليلة وليلة)، كما أن أسماء أبطالها عربية وشرقية، والأجواء التي تدور فيها ذات منطلقات تاريخية حقيقية تسخر لخدمة خيال المؤلف الغربي وشطحاته وأهوائه.
تبدأ أحداث (الواثق: حكاية عربية)، وهذا هو عنوانها بالإنجليزية، وتعتبر نواة لجنس أدبي يدعى (الرواية القوطية) Gothic Fiction تبدأ في مدينة (سر من رأى) قبل أن تتحول إلى (سامراء) أو (ساء من رأى). ويقدم وليم بكفورد شخصية بطلها على النحو التالي: (الواثق هو الخليفة التاسع من الخلفاء العباسيين، وهو ابن المعتصم وحفيد هارون الرشيد.. ونظراً لتوليه العرش مبكراً، وتمتعه بالمواهب اللازمة، فقد كانت رعيته مدفوعة إلى أن تتوقع أن يكون حكمه طويلاً وسعيداً). ويصف المؤلف بطل الرواية بقوله إنه كان مفعماً بالقسوة والشهوانية. ونظراً لأن الواثق بأمر الله هو حفيد هارون الرشيد الذي يتردد اسمه في (ألف ليلة وليلة) فإن هذه الصلة بين الجد الأكبر والحفيد هي التي تُمَكِّنُ المؤلف من التوقف عند هذه النقطة لينطلق الكاتب منها مطلقاً العنان لمخيلته المفعمة بالإسراف والجموح؛ فهو يحاول تقديم الخليفة كشخصية (فاوستية) لا تعتقد على حد قوله: (أن من الضروري تحويل هذا العالم إلى جحيم من أجل أن يستمتع المرء بالفردوس في الحياة الأخرى). وبعبارة أخرى فإنها شخصية مناقضة للشخصية الإسلامية المنضبطة. وهكذا يصبح الواثق بأمر الله (فاوست) الذي يعقد صفقة مع الشيطان يحصل بموجبها على حق الاستمتاع بحياة من الفتوة الطويلة الأمد والمفعمة بالملذات مقابل خسارة روحه.
وبدلاً من أن تكون هذه الصفقة معقودة بين (فاوست) و(ميفوستوفيليس) كما تشير الأسطورة المعروفة التي استثمرها كتاب وشعراء عديدون من أمثال (غوته) الألماني و(مارلو) الإنجليزي، فإنها تصبح صفقة طرفاها (الواثق بأمر الله) و(إبليس). ومن الشخصيات التي تؤثر في الخليفة والدته اليونانية الأصل (قراطيس) carathis وهي شخصية مستمدة من الواقع؛ فوالدة الواثق (الحقيقي) كانت يونانية؛ ولهذا فإنها لا تدين بدين ابنها. ويصفها المؤلف بأنها ساحرة تعلمه السحر وتحاول أن تحرفه عما يعتبره المسلمون مشروعاً في أخلاقهم الدينية، ثم تسعى من ثم إلى إقناعه بالارتداد عن الإسلام والتمتع بمباهج الحياة ومباذلها. وهكذا ينطلق الواثق في رحلة البحث عن الملذات فيغادر (سر من رأى) إلى مدينة استكار Istakar التي تقبع تحت خرائبها مملكة (إبليس) الأرضية التي باع روحه للشيطان لقاء الوصول إليها واكتشاف أسرارها. ويرافقه في تلك الرحلة عدد من الأمراء. وما إن تقع عيناه على (نور النهار) ابنة أحدهم، وكانت باهرة الجمال حتى يبادر إلى الزواج منها بحيث تشاركه في رحلة البحث عن (عالم إبليس السفلي). وسرعان ما يكتشف (الواثق) خواء ذلك العالم تحت الأرضي، ولكن اكتشافه كان متأخراً؛ فقد اشتعلت أجساد الباحثين عن تلك السعادة الملعونة وتحولت بفعل نار شبت فجأة إلى حقل من الرماد.
(هازلت) الناقد الإنجليزي اعترض على تلك الحكاية لأنه رأى أنها تضمر حقداً على الجنس البشري، غير أن نقاداً آخرين رأوا أنها مشحونة بقدر عظيم من السخرية البارعة؛ فإذا تجاوزنا المشاهد المرعبة التي تملأ النص، والإشارات المقززة التي يصطدم بها القارئ ويمكن اعتبارها من قبيل الأطر النمطية السلبية stereotypes التي يزخر بها شرق خيالي مصنوع لإرضاء نزوات غرب بدأ يشعر بأن علاقات القوة بينه وبين الآخر صارت علاقات غير متكافئة، إذا تجاوزنا ذلك كله أمكننا أن نتفق مع بعض النقاد الذين رأوا في (الواثق) رواية سخرية بارعة قبل كل شيء. ولكن الأمثلة على الإشارات السلبية ذات الطابع النمطي كثيرة؛ فقبل أن يصل الواثق بأمر الله إلى عالم إبليس تحت الأرضي، يقوم بالتضحية بخمسين صبياً. وعندما تشير الرواية إلى إحدى زوجات الخليفة، وهي امرأة حبشية يقول المؤلف إنها اعتادت أن تحمل الواثق على كتفيها مثل (كيس من التمر)، بل إن قيامه بإلقاء خطبة عصماء كان يرافقه استهلاك كمية كبرى من الفاكهة في الوقت نفسه. وفضلاً عن ذلك فإن الأقزام الذين يملأون بلاطه لا يترددون في القفز على كتفيه والهمس بالأدعية والصلوات في أذنيه. صحيح أن هذا الضرب من السخرية ربما أسهم في إضفاء مسحة من السخرية العابثة على الأحداث إلا أنه لا يساعد على نموها عضوياً؛ فكأن العبث مكرس لهدف السخرية من الآخر، بل تثبيت الصور النمطية الخاصة به والمسبقة الصنع.
ومما يعزز ذلك أن الرواية مليئة بإشارات تتعلق بالممارسات الإسلامية الدينية، كالدعاء للصلاة والأذان من المآذن وتلاوة القرآن وطقوس الموت التي يستعرضها الكاتب في أعقاب مصرع (نور النهار).. هذا فضلاً عن عبارة (لا إله إلا الله) التي تتردد في كل مكان. آية ذلك كله أن الثيمة الشرقية وما يرتبط بها من تقنيات ليست وحدها التي صنعت الاستشراق الأدبي، وإنما رافقت ذلك كله عملية تثبيت مستمرة لصور نمطية ذات طبيعة سلبية. هذه الصور كثيراً ما كانت تهدف إلى إرضاء النزعات المقموعة لدى الكاتب بقدر لا يقل عن سعيها - عن قصد أو غير قصد - إلى الإسهام في تشويه الآخر. وهذا ينطبق - كما أسلفت - على ما فعله ريتشارد بيرتون مترجم (ألف ليلة وليلة) في الهوامش التي ألحقها بها لكي يوهم القارئ بأنه يقدم له معلومات بريئة تنتمي إلى الأنثروبولوجيا التي تدرس حياة الشعوب الشرقية وتسبر عاداتها... وقد تكرر هذا الصنيع على نحو أشد ابتذالاً، وذلك في ترجمته لكتاب (الروض العاطر) للشيخ النفزاوي.
وربما تصلح رواية (الواثق بأمر الله) من حيث مضمونها الذي يعكس ممارسات وليم بكفورد الجنسية المثلية، رغبته في القيام بعملية إسقاط على الآخر، تتيح له أن يتخفى وراءها. والفارق بين الطرفين هو أن بكفورد اختار السرد الحكائي المستمد من الليالي العربية مسرحاً لعملية الإسقاط هذه؛ فقد كان هذا الكاتب (1759 - 1 844) رجلاً غنياً لم يرث عن أبيه لقب (لورد) فقط بل ثروة طائلة أنفقها بعد أن انتخب عمدة لمدينة (لندن) على تشييد قصر Fonthill Abbey ا لباذخ الذي بناه على الطراز القوطي. وهناك عاش حياة اللهو والقصف والشذوذ التي جسدها في روايته التي أسقط فيها حياته الشخصية على الخليفة الواثق في إطار (فاوست) عربي فَصّلَهُ على مقاسه.
والحال أن هذه الحكاية رواية تُسْرَدُ وفق تقنيات مستمدة من (ألف ليلة وليلة)، كما أن أسماء أبطالها عربية وشرقية، والأجواء التي تدور فيها ذات منطلقات تاريخية حقيقية تسخر لخدمة خيال المؤلف الغربي وشطحاته وأهوائه.
تبدأ أحداث (الواثق: حكاية عربية)، وهذا هو عنوانها بالإنجليزية، وتعتبر نواة لجنس أدبي يدعى (الرواية القوطية) Gothic Fiction تبدأ في مدينة (سر من رأى) قبل أن تتحول إلى (سامراء) أو (ساء من رأى). ويقدم وليم بكفورد شخصية بطلها على النحو التالي: (الواثق هو الخليفة التاسع من الخلفاء العباسيين، وهو ابن المعتصم وحفيد هارون الرشيد.. ونظراً لتوليه العرش مبكراً، وتمتعه بالمواهب اللازمة، فقد كانت رعيته مدفوعة إلى أن تتوقع أن يكون حكمه طويلاً وسعيداً). ويصف المؤلف بطل الرواية بقوله إنه كان مفعماً بالقسوة والشهوانية. ونظراً لأن الواثق بأمر الله هو حفيد هارون الرشيد الذي يتردد اسمه في (ألف ليلة وليلة) فإن هذه الصلة بين الجد الأكبر والحفيد هي التي تُمَكِّنُ المؤلف من التوقف عند هذه النقطة لينطلق الكاتب منها مطلقاً العنان لمخيلته المفعمة بالإسراف والجموح؛ فهو يحاول تقديم الخليفة كشخصية (فاوستية) لا تعتقد على حد قوله: (أن من الضروري تحويل هذا العالم إلى جحيم من أجل أن يستمتع المرء بالفردوس في الحياة الأخرى). وبعبارة أخرى فإنها شخصية مناقضة للشخصية الإسلامية المنضبطة. وهكذا يصبح الواثق بأمر الله (فاوست) الذي يعقد صفقة مع الشيطان يحصل بموجبها على حق الاستمتاع بحياة من الفتوة الطويلة الأمد والمفعمة بالملذات مقابل خسارة روحه.
وبدلاً من أن تكون هذه الصفقة معقودة بين (فاوست) و(ميفوستوفيليس) كما تشير الأسطورة المعروفة التي استثمرها كتاب وشعراء عديدون من أمثال (غوته) الألماني و(مارلو) الإنجليزي، فإنها تصبح صفقة طرفاها (الواثق بأمر الله) و(إبليس). ومن الشخصيات التي تؤثر في الخليفة والدته اليونانية الأصل (قراطيس) carathis وهي شخصية مستمدة من الواقع؛ فوالدة الواثق (الحقيقي) كانت يونانية؛ ولهذا فإنها لا تدين بدين ابنها. ويصفها المؤلف بأنها ساحرة تعلمه السحر وتحاول أن تحرفه عما يعتبره المسلمون مشروعاً في أخلاقهم الدينية، ثم تسعى من ثم إلى إقناعه بالارتداد عن الإسلام والتمتع بمباهج الحياة ومباذلها. وهكذا ينطلق الواثق في رحلة البحث عن الملذات فيغادر (سر من رأى) إلى مدينة استكار Istakar التي تقبع تحت خرائبها مملكة (إبليس) الأرضية التي باع روحه للشيطان لقاء الوصول إليها واكتشاف أسرارها. ويرافقه في تلك الرحلة عدد من الأمراء. وما إن تقع عيناه على (نور النهار) ابنة أحدهم، وكانت باهرة الجمال حتى يبادر إلى الزواج منها بحيث تشاركه في رحلة البحث عن (عالم إبليس السفلي). وسرعان ما يكتشف (الواثق) خواء ذلك العالم تحت الأرضي، ولكن اكتشافه كان متأخراً؛ فقد اشتعلت أجساد الباحثين عن تلك السعادة الملعونة وتحولت بفعل نار شبت فجأة إلى حقل من الرماد.
(هازلت) الناقد الإنجليزي اعترض على تلك الحكاية لأنه رأى أنها تضمر حقداً على الجنس البشري، غير أن نقاداً آخرين رأوا أنها مشحونة بقدر عظيم من السخرية البارعة؛ فإذا تجاوزنا المشاهد المرعبة التي تملأ النص، والإشارات المقززة التي يصطدم بها القارئ ويمكن اعتبارها من قبيل الأطر النمطية السلبية stereotypes التي يزخر بها شرق خيالي مصنوع لإرضاء نزوات غرب بدأ يشعر بأن علاقات القوة بينه وبين الآخر صارت علاقات غير متكافئة، إذا تجاوزنا ذلك كله أمكننا أن نتفق مع بعض النقاد الذين رأوا في (الواثق) رواية سخرية بارعة قبل كل شيء. ولكن الأمثلة على الإشارات السلبية ذات الطابع النمطي كثيرة؛ فقبل أن يصل الواثق بأمر الله إلى عالم إبليس تحت الأرضي، يقوم بالتضحية بخمسين صبياً. وعندما تشير الرواية إلى إحدى زوجات الخليفة، وهي امرأة حبشية يقول المؤلف إنها اعتادت أن تحمل الواثق على كتفيها مثل (كيس من التمر)، بل إن قيامه بإلقاء خطبة عصماء كان يرافقه استهلاك كمية كبرى من الفاكهة في الوقت نفسه. وفضلاً عن ذلك فإن الأقزام الذين يملأون بلاطه لا يترددون في القفز على كتفيه والهمس بالأدعية والصلوات في أذنيه. صحيح أن هذا الضرب من السخرية ربما أسهم في إضفاء مسحة من السخرية العابثة على الأحداث إلا أنه لا يساعد على نموها عضوياً؛ فكأن العبث مكرس لهدف السخرية من الآخر، بل تثبيت الصور النمطية الخاصة به والمسبقة الصنع.
ومما يعزز ذلك أن الرواية مليئة بإشارات تتعلق بالممارسات الإسلامية الدينية، كالدعاء للصلاة والأذان من المآذن وتلاوة القرآن وطقوس الموت التي يستعرضها الكاتب في أعقاب مصرع (نور النهار).. هذا فضلاً عن عبارة (لا إله إلا الله) التي تتردد في كل مكان. آية ذلك كله أن الثيمة الشرقية وما يرتبط بها من تقنيات ليست وحدها التي صنعت الاستشراق الأدبي، وإنما رافقت ذلك كله عملية تثبيت مستمرة لصور نمطية ذات طبيعة سلبية. هذه الصور كثيراً ما كانت تهدف إلى إرضاء النزعات المقموعة لدى الكاتب بقدر لا يقل عن سعيها - عن قصد أو غير قصد - إلى الإسهام في تشويه الآخر. وهذا ينطبق - كما أسلفت - على ما فعله ريتشارد بيرتون مترجم (ألف ليلة وليلة) في الهوامش التي ألحقها بها لكي يوهم القارئ بأنه يقدم له معلومات بريئة تنتمي إلى الأنثروبولوجيا التي تدرس حياة الشعوب الشرقية وتسبر عاداتها... وقد تكرر هذا الصنيع على نحو أشد ابتذالاً، وذلك في ترجمته لكتاب (الروض العاطر) للشيخ النفزاوي.
وربما تصلح رواية (الواثق بأمر الله) من حيث مضمونها الذي يعكس ممارسات وليم بكفورد الجنسية المثلية، رغبته في القيام بعملية إسقاط على الآخر، تتيح له أن يتخفى وراءها. والفارق بين الطرفين هو أن بكفورد اختار السرد الحكائي المستمد من الليالي العربية مسرحاً لعملية الإسقاط هذه؛ فقد كان هذا الكاتب (1759 - 1 844) رجلاً غنياً لم يرث عن أبيه لقب (لورد) فقط بل ثروة طائلة أنفقها بعد أن انتخب عمدة لمدينة (لندن) على تشييد قصر Fonthill Abbey ا لباذخ الذي بناه على الطراز القوطي. وهناك عاش حياة اللهو والقصف والشذوذ التي جسدها في روايته التي أسقط فيها حياته الشخصية على الخليفة الواثق في إطار (فاوست) عربي فَصّلَهُ على مقاسه.