رمضان في المدينة القديمة "السويقة"
القليل جدا من ابناء مدينة قسنطينة من يعرف المكان الذي ولد فيه العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس و هذا ما وقفنا عليه في جولة رمضانية و نحن نجوب أحياء و أزقة المدينة القديمة "السويقة" و كيف يعيش المواطنون في أيام رمضان في ظل انتشار وباء كورونا كوفيد 19 ، فبالرغم من الظرف الصحي الصعب يفضل المواطن القسنطيني التسوق من المدينة القديمة ، و يقطع المسافات للوصول إليها ،حتى سكانها المُرَحَّلُون ما زال الحنين يشدهم إلى مسقط رأسهم و استعادة الذكريات الجميلة التي تأبى أن ترحل من مخيلتهم، و لما لا و أيام الطفولة منقوشة في ذاكرتهم كما تنقش الحروف على الحجر من الصعوبة بمكان محوها أو نسيانها
الحياة في السويقة لها طعم آخر، و لها خصوصيات تختلف عن الحياة في الأماكن الأخرى، ففيها نتعلم ما معنى العائلة الكبيرة و فيها نتعلم معنى الجيرة و العشرة، و فيها نتعلم معنى العطاء و التسامح، و فيها نأخذ من الكبار معنى الحُرْمَة و النِّيفْ و احترام الصغير للكبير، وباختصار شديد فيها نتعلم كيف نتعايش مع الآخر، لاسيما و السويقة تختزن بين جدرانها اشياء تاريخية لا يمكن نسيانها أو طي صفحتها، حكاياتها مع اليهود أيام الإستعمار، هي السويقة التي خرج منها العلماء و الأئمة و الفقهاء، خاصة عند المرور بزنقة المسك ، هو المكان الذي ولد فيه العلامة عبد الحميد ابن باديس و ترعرع كما روى لنا بعض السكان الذين ما زالوا متمسكين بالمنطقة، رغم ما مر عليها من ظروف قاسية ، ما تزال أرضيتها و جدرانها تشهد على مرحلة هي من أصعب المراحل التي عاشها السكان، و هم يهجّرون عنوة إلى المدينة الجديدة علي منجلي ، تاركين فيها أجمل الذكريات، ذكريات الطفولة و الشباب ، و هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على أن قلبهم ما زال ينبض للماضي الذي جمعهم كعائلة واحدة متماسكة متحدة إن تألم فرد من افرادها يتألم الجميع.
فالحديث عن الحياة الإجتماعية في المدينة القديمة " السويقة " حديث ذو شجون لا يمكن وصفها في أسطر أو في صفحات، لأن أجيال مرّت على هذه المدينة و نشأت بين جدرانها ، عاشت الأفراح و تقاسمت الأحزان و المآسي معا في جو يملأه التآخي و التضامن، دون الحديث عن عادات و تقاليد سكانها في المناسبات الدينية و بخاصة في شهر رمضان، توارثتها الأجيال و تناقلتها جيلا بعد جيل، و الذي يزور المدينة القديمة السويقة لا يجوع فيها و لا يعطش، لما تتوفر عليه من ينابيع و زوايا و مساجد، إلا أن عمليات الترحيل فرقت بين الإخوان و الخلان، و باعدت بين الأحباب، و بالرغم من ذلك ما زال شباب المنطقة يحن إليها و هو لا يفارقها إلا عند الغروب، ليعود إلى مسكنه الجديد، كان لنا حديث طويل مع شباب المنطقة و تجارها عن الحياة في السويقة أيام رمضان، فكان حديث شيقا لم نشعر بمرور الوقت، و كان أحد ابناء المدينة قد رافقنا في بعض الأزقة التي لم نتمكن من دخلوها بعدما تحولت إلى أطلال و لم تعد آمنة، حتى وصلنا إلى زنقة "المسك"، ليوجه لي سؤالا هل تعرفين اسم هذا المكان، قلت: لا، فرد قائلا: هي زنقة المسك الذي ولد فيها العلامة عبد الحميد ابن باديس، وبدأ فيه تعليمه الأول ، ثم تنهّد و قال مؤسف أن يكون هذا المكان بهذه الحال البائسة ، تقدمنا قليلا حتى وقفنا عند صاحب محل، و كان معه ابناء المدينة الذين لم يرحلوا بعد، و قال لي لو كان الشيخ قادر ي ( و هو من أعيان المنطقة) في حالة صحية جيدة لأعطاك تاريخ زنقة المسك و طفولة الإمام ابن باديس ، كانت مطالب بعض السكان، تهيئة هذا المكان و إعادة له الإعتبار طالما المدينة القديمة ما زالت موجودة بسكانها.
أما التجار فهم يبكون حال المكان و يشتكون الأزمة، و كيف أفرغت المدينة من سكانها، و قال أحدهم أن الأزمة قديمة ، و لم تعد التجارة تناسبهم، لكن حب المكان أجبرهم على البقاء، رغم كساد تجارتهم لكنهم يقاومون، تنازلا عند رغبة زبائنهم و ما تبقى من السكان ، و الملاحظ أنه رغم ارتفاع اسعار اللحوم الحمراء إلا أن المدينة ما تزال تستقطب الكثير من الناس الذين ألفوا التوسق من محلاتها و لحوم جزّاريها ( في الجهة السفلى) و هم يغسلون أحشاء الأغنام من الينابيع، و رائحة القهوة تنبعث من بعيد، يقول أحد الجزارين أن زبائنه يقصدونه من أجل شراء أحشاء الغنم "الكرشة"، و هو ما وقفنا عليه مع أحد المتسوقين، و لما حاولنا الإستفسار منه رد و قال: "العصبانة" تحلالي في رمضان و قسنطينة معروفة بيها، و كلما تلتفت يمينا او شمالا تجد كل واحد منشغل بأعماله فهذا يحضر الشاربات، و ذاك يزيّن طاولة الحلويات، و في الجهة العليا من المنطقة أي باتجاه البطحة تقف على حاملي السكاكين و هم يقطعون أطراف لحم البقر و يصففونه على الطاولة، و هم يشتكون من الأزمة الصحية التي تسببت في كساد تجارتهم، هكذا هي الحركة الإقتصادية في المدينة القديمة السويقة تشعرك بنبض الحياة، رغم بعض الصرخات التي تسمع من هنا و هناك لمتسوقين و هم يطالبون الجهات المسؤولة بتخفيض أسعار اللحوم الحمراء و يرددون: " رانا كرهنا من الجاج"، ودّعنا السويقة و لكن قلوبنا ما تزال تنبض للعودة و التجول في أزقتها، فالتجول في أزقة السويقة يشعرك بالإنتماء إلى هذه المدينة العريقة الضاربة جذورها في التاريخ، و التي سلبت عقول زوارها من الأدباء و الشعراء الذين تغنوا بها في قصائدهم كيف تصبح اليوم نسيا منسيا، و تبقى مجرد أطلال؟؟.
روبورتاج علجية عيش
Zone contenant les pièces jointes
القليل جدا من ابناء مدينة قسنطينة من يعرف المكان الذي ولد فيه العلامة الإمام عبد الحميد ابن باديس و هذا ما وقفنا عليه في جولة رمضانية و نحن نجوب أحياء و أزقة المدينة القديمة "السويقة" و كيف يعيش المواطنون في أيام رمضان في ظل انتشار وباء كورونا كوفيد 19 ، فبالرغم من الظرف الصحي الصعب يفضل المواطن القسنطيني التسوق من المدينة القديمة ، و يقطع المسافات للوصول إليها ،حتى سكانها المُرَحَّلُون ما زال الحنين يشدهم إلى مسقط رأسهم و استعادة الذكريات الجميلة التي تأبى أن ترحل من مخيلتهم، و لما لا و أيام الطفولة منقوشة في ذاكرتهم كما تنقش الحروف على الحجر من الصعوبة بمكان محوها أو نسيانها
الحياة في السويقة لها طعم آخر، و لها خصوصيات تختلف عن الحياة في الأماكن الأخرى، ففيها نتعلم ما معنى العائلة الكبيرة و فيها نتعلم معنى الجيرة و العشرة، و فيها نتعلم معنى العطاء و التسامح، و فيها نأخذ من الكبار معنى الحُرْمَة و النِّيفْ و احترام الصغير للكبير، وباختصار شديد فيها نتعلم كيف نتعايش مع الآخر، لاسيما و السويقة تختزن بين جدرانها اشياء تاريخية لا يمكن نسيانها أو طي صفحتها، حكاياتها مع اليهود أيام الإستعمار، هي السويقة التي خرج منها العلماء و الأئمة و الفقهاء، خاصة عند المرور بزنقة المسك ، هو المكان الذي ولد فيه العلامة عبد الحميد ابن باديس و ترعرع كما روى لنا بعض السكان الذين ما زالوا متمسكين بالمنطقة، رغم ما مر عليها من ظروف قاسية ، ما تزال أرضيتها و جدرانها تشهد على مرحلة هي من أصعب المراحل التي عاشها السكان، و هم يهجّرون عنوة إلى المدينة الجديدة علي منجلي ، تاركين فيها أجمل الذكريات، ذكريات الطفولة و الشباب ، و هذا إن دل على شيئ فإنما يدل على أن قلبهم ما زال ينبض للماضي الذي جمعهم كعائلة واحدة متماسكة متحدة إن تألم فرد من افرادها يتألم الجميع.
فالحديث عن الحياة الإجتماعية في المدينة القديمة " السويقة " حديث ذو شجون لا يمكن وصفها في أسطر أو في صفحات، لأن أجيال مرّت على هذه المدينة و نشأت بين جدرانها ، عاشت الأفراح و تقاسمت الأحزان و المآسي معا في جو يملأه التآخي و التضامن، دون الحديث عن عادات و تقاليد سكانها في المناسبات الدينية و بخاصة في شهر رمضان، توارثتها الأجيال و تناقلتها جيلا بعد جيل، و الذي يزور المدينة القديمة السويقة لا يجوع فيها و لا يعطش، لما تتوفر عليه من ينابيع و زوايا و مساجد، إلا أن عمليات الترحيل فرقت بين الإخوان و الخلان، و باعدت بين الأحباب، و بالرغم من ذلك ما زال شباب المنطقة يحن إليها و هو لا يفارقها إلا عند الغروب، ليعود إلى مسكنه الجديد، كان لنا حديث طويل مع شباب المنطقة و تجارها عن الحياة في السويقة أيام رمضان، فكان حديث شيقا لم نشعر بمرور الوقت، و كان أحد ابناء المدينة قد رافقنا في بعض الأزقة التي لم نتمكن من دخلوها بعدما تحولت إلى أطلال و لم تعد آمنة، حتى وصلنا إلى زنقة "المسك"، ليوجه لي سؤالا هل تعرفين اسم هذا المكان، قلت: لا، فرد قائلا: هي زنقة المسك الذي ولد فيها العلامة عبد الحميد ابن باديس، وبدأ فيه تعليمه الأول ، ثم تنهّد و قال مؤسف أن يكون هذا المكان بهذه الحال البائسة ، تقدمنا قليلا حتى وقفنا عند صاحب محل، و كان معه ابناء المدينة الذين لم يرحلوا بعد، و قال لي لو كان الشيخ قادر ي ( و هو من أعيان المنطقة) في حالة صحية جيدة لأعطاك تاريخ زنقة المسك و طفولة الإمام ابن باديس ، كانت مطالب بعض السكان، تهيئة هذا المكان و إعادة له الإعتبار طالما المدينة القديمة ما زالت موجودة بسكانها.
أما التجار فهم يبكون حال المكان و يشتكون الأزمة، و كيف أفرغت المدينة من سكانها، و قال أحدهم أن الأزمة قديمة ، و لم تعد التجارة تناسبهم، لكن حب المكان أجبرهم على البقاء، رغم كساد تجارتهم لكنهم يقاومون، تنازلا عند رغبة زبائنهم و ما تبقى من السكان ، و الملاحظ أنه رغم ارتفاع اسعار اللحوم الحمراء إلا أن المدينة ما تزال تستقطب الكثير من الناس الذين ألفوا التوسق من محلاتها و لحوم جزّاريها ( في الجهة السفلى) و هم يغسلون أحشاء الأغنام من الينابيع، و رائحة القهوة تنبعث من بعيد، يقول أحد الجزارين أن زبائنه يقصدونه من أجل شراء أحشاء الغنم "الكرشة"، و هو ما وقفنا عليه مع أحد المتسوقين، و لما حاولنا الإستفسار منه رد و قال: "العصبانة" تحلالي في رمضان و قسنطينة معروفة بيها، و كلما تلتفت يمينا او شمالا تجد كل واحد منشغل بأعماله فهذا يحضر الشاربات، و ذاك يزيّن طاولة الحلويات، و في الجهة العليا من المنطقة أي باتجاه البطحة تقف على حاملي السكاكين و هم يقطعون أطراف لحم البقر و يصففونه على الطاولة، و هم يشتكون من الأزمة الصحية التي تسببت في كساد تجارتهم، هكذا هي الحركة الإقتصادية في المدينة القديمة السويقة تشعرك بنبض الحياة، رغم بعض الصرخات التي تسمع من هنا و هناك لمتسوقين و هم يطالبون الجهات المسؤولة بتخفيض أسعار اللحوم الحمراء و يرددون: " رانا كرهنا من الجاج"، ودّعنا السويقة و لكن قلوبنا ما تزال تنبض للعودة و التجول في أزقتها، فالتجول في أزقة السويقة يشعرك بالإنتماء إلى هذه المدينة العريقة الضاربة جذورها في التاريخ، و التي سلبت عقول زوارها من الأدباء و الشعراء الذين تغنوا بها في قصائدهم كيف تصبح اليوم نسيا منسيا، و تبقى مجرد أطلال؟؟.
روبورتاج علجية عيش
Zone contenant les pièces jointes