مما عرف به الإنسان انه حيوان يتذوق الفن، فحب الفن طبع فيه، تبدو مظاهره حالما يأمن على نفسه ويتوفر له قوته وحاجاته، فإذا ما فرغ من الضروري من أموره التفت إلى الكمالي، وطلب الفن والجمال، ومن ثم تظهر بعض الفنون بدائية بين الجماعات المتبدية، وترتقي بينهما وتتنوع بقدر ما تسمح به بيئتها ودرجتها من الرقي المادي والعقلي. والرقص والموسيقى والشعر من الفنون السابقة إلى الظهور، لقلة ما تحتاج إليه من المواد الأولية، أما التصوير والنثر الفني والنحت والعمارة، فأكثر تأخراً عنها لما تحتاج إليه من تقدم الصناعة والمعرفة بالكتابة والاستقرار في موطن
ومهما بلغ الشعر من التقدم في عهد البداوة فما يزال محدود الجوانب قريب الأغوار متشابه الآثار؛ فإذا كانت الحضارة والاستقرار والثقافة والتدوين اتسعت مواضيع الشعر باتساع جوانب العمران، وبعد غوره باستفادته من العلم، وجاد أسلوبه باستخدام التدوين والتروي، واتصلت الجهود فيه وتكاثر الابتكار بتوفر الوقت للتفرغ والتفنن، وظهر بجانب الشعراء أخوه الأصغر سنا وهو النثر، وظهر بجانب الشعراء الكتاب، وبظهور النثر يمتد مجال الأدب حتى يتاخم مجال العلم أو يتداخل وإياه، وإذ يدون الأدب يطلع عليه أبناء الأمم الأخرى ويطلع أدباؤه، على آداب تلك الأمم فيتأثر بها ويؤثر فيها، بعد أن كان الشعر في عهد البداوة معزولا لا يحس به سواه ولا يعلم هو بوجود غيره، وبتقييد الأدب يتوارثه جيل عن جيل، ويزداد تراثه باطراد، بعد أن كان في عهد بداوته سريعا إلى التلاشي في ضباب النسيان، لا يكاد يذكر منه جيل عن أجداده إلا القليل المحرف غير المستيقن
فحين تتحضر الأمة وتتثقف، يصبح شعرها فنيا ويظهر تجانبه النثر الفني؛ على أن هذا يستغرق زمنا، ولا يجئ الفن إلا متأخراً عن الصناعة وعن العلم. فالإنسان يعمد دائما إلى الضروري حتى إذا ما قضى منه وطره تحول إلى الفن أو تحولت الصناعة ذات الغرض المادي إلى فن لا غرضاً في نفسه خارجاً عن ذاته وهكذا ينشأ التصوير والنحت والعمارة والنثر جميعاً، تكون في أول أمرها صناعات تخدم أغراضا مادية وتسد حاجات الإنسان، من اتخاذ المسكن وزينته وتدوين المهم من الأحكام والمواعظ والأخبار ثم العلوم، فإذا ما اطرد سلم الرقي تخلص الفن من تلك الأغراض الخارجية وصار غرضا في نفسه ومتعة في ذاته، وتعبيرا عن الشعور خالصاً، وعبادة للجمال منزهة.
إذا ما دخل الأدب هذا الطور الفني، صارت الصنعة الفنية فيه اظهر والتجويد أوضح، وليس يخلو الشعر حتى في بداوته من صنعة ومعالجة وتجويد، وبغير هذه لا يتصور له وجود ولا لسلكه انتظام؛ بيد أن الأديب في الطور الفني يصبح اكثر بصراً بتجويد اللفظ وتنسيق الأسلوب وتجميل المعنى، لما يمتاز به دون شاعر البداوة من ترفه المعيشة ورقة الذوق وسعة القراءة، والاطلاع على الآثار الأدبية والقواعد والآراء، فكلما أمعن الأدب في طوره هذا زاد الأدباء لألفاظهم تخيراً وتسهيلا، ولأساليبهم تقسيما وتذليلا، ولمعانيهم. استقصاء وتوضيحاً
وتزداد موضوعات الأدب اتساعا وبعدا عن أسباب الحياة الشخصية الحاضرة، وتحليقا في عنان الفكر وأجواز الخيال وآفاق الماضي والمستقبل: فعلى حين يكون اكثر ما ينظم من شعر البداوة نتيجة حادث طارئ أو خاطر عابر، يتوفر الأديب في الطور الفني على تقصي غايات التفكير، إرضاء لنزعة التأمل والتفكير في ذاتها وعلى توخي مناحي الفن حبا للفن وحده، ويمسي الأديب ويصبح ولا هم له إلا استقصاء حقائق الحس والمشاهدة وتصويرها في أدبه، وتكثر في الشعر والنثر آثار التأمل الطويل والوصف الفني
وإذا ما تكاثرت الآثار المتجمعة بالتدوين جيلا بعد جيل، وزخر التراث الأدبي بما تجود به قرائح الأدباء من فيض، إذا انقضت سحائب منه أعقبت بسحائب كما يقول الطائي، وكثر نظر الأدباء فيها واستظهارهم لها واحتذاؤهم إياها، لم يعدموا أن ينتبهوا إلى شواهد فيها تتكرر وحقائق تتماثل، وجزيئات تندرج تحت كليات، فاستخلصوا من كل ذلك قواعد يجعلونها نصب أعينهم في الإنشاء، ثم يحتفي بعضهم بجمعها وتبويبها والاستكثار منامثلتها، فتكون من ذلك علوم المعاني والبيان والبديع، وكتب النقد والموازنة والتحليل، وبرغم أن الفن سليقة والأدب ملكة لا اكتساب، والشعر طبع لا تطبع فان تلك العلوم وهاتيك الكتب المستحدثة تترك أثرها في تقويم السلائق، وتوجيه الملكات وتحسين البصر بالأدب وأسبابه وجمع أشتاته ولم أطرافه، ولا يستأثر النثر بهذا التبصر في الأدب بل ينظم الشعراء القصيد في مزايا الشعر وأطواره وأحوال الشعراء.
ومن ذلك التراث الأدبي الزاخر يكتسب الأدب شيئاً آخر: يكتسب على ممر الأجيال لغة أدبية خاصة وألفاظا خاصة للشعر وأخرى للنثر، قد صقلها الاستعمال الطويل ورفعها استخدام كبار الأدباء إياها إلى مرتبة عالية، وارتبطت بمعان سامية مما يجعلها أهلا لما ينزع إلى تصويره الأدباء من عواطف رفيعة فيصير للشعر والنثر من كل ذلك لغة خاصة متسامية على لغة العصر المستعملة في الكلام الممتازة بسهولتها وإسفافها أحياناً وتطورها المستمر بتطور الحضارة المادية؛ وتظل لغة الشعر والنثر الخاصة تلك في ازدياد كلما أضاف إليها أقطاب الأدب ألفاظا من اختراعهم أو اشتقاقهم أو مما يرفعونه بعبقرياتهم من لغة العامة، أو يقتطفونه من لغات الأمم الأخرى وتتوارث في الأدب بجانب ذلك تعابير خاصة جارية ومجازات وأخيلة وأمثال، يموت بعضها تدريجا ويحيا بعض، ويزداد بمرور الزمان صقلا وانسياغا.
هذا الطور الفني لا شك طور نضج الأدب وبلوغه اشده: فيه يجمح بين حرارة الشعور وعمق الفكرة، وبين طرافة الموضوع وجودة الأسلوب، وفيه يتخلص من أقذاء المادية وشوائب الصناعات، وفي هذا الطور لا في طور البداوة يظهر اكبر أدبائه وفحولة شعرائه؛ وما يزال الأدب في رقيه المطرد وتراثه في ازدياده المستمر، مادامت في الأمة فورة الحياة وصدق الشعور وصحة النظرة، فإذا خمدت النفوس وزاغت النظرات، انقلب الفن صناعة والحرية قيودا، وتمسك الأدباء بالقشور دون اللباب، وبالألفاظ دون الحقائق.
كان أدب الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر من الإسلام بدويا: الشعر قوامه والبساطة سمته والقريب الحاضر من شؤون الحياة مادته، محدود المواضيع، غير متسق الأسلوب ولا منظم الأفكار ولا ظاهرا لوحدة في القصيدة. وقد استعاض العرب عن التدوين بالرواية: يروي أشعار كل فحل ناشئ يقوم له مقام الديوان المخطوط، ويقوم الشاعر من راويته مقام الأستاذ يبصره بالشعر ووجوه القول؛ وبطريقة الرواية هذه حفظ من شعر العرب شيء كثير، وبها ترعرعت الصناعة الشعرية حتى بلغت في هذا العصر مبلغا من التقدم يعتد به، وصارت لها تقاليد خاصة في الأوضاع والمعاني والألفاظ، كتصريع البيت الأول من القصيدة وتقديم النسيب في مستهلها، تتجلى كل هذه الميزات في الملعقات، التي يتحدث صاحب كل معلقة منها في نفس القصيدة، عن أحبابه وشرابه، وحربه واسفاره، وحكمته وأدبه وقبيلته وعزها وهلم جرا
وبازدياد حظ العرب من الرفاهة والتثقف والتهذب، ازداد الشعر تهذيب لفظ واتساق أسلوب كما يتمثل في شعر ابن أبي ربيعة وجميل؛ وظهر النثر يستخدم أولاً في تدوين العلوم ورسائل الأمراء وإجراءات الحكومة، ثم مازال حتى استحال علا أيدي ابن المقفع والجاحظ والبديع، فناً يتطلب الجمال اللفظي والمعنوي ويتوخى نواحي الفن ومذاهب التفكير بعيدة عن النفع المادي والغرض الحاضر. وبلغ الشعر الغاية من الصناعة الفنية والحلاوة اللفظية والتقسيم الموضوعي والتقصي في المعاني والتفنن في الوصف. على أيدي أبي نواس وأبي تمام وابن المعتز ولبن الرومي وغيرهم، وهؤلاء وإضرابهم هم لاشك فحولة شعراء العربية، وإن ظل كثير من الأدباء لنزعتهم من المحافظة يقدمون امرأ القيس وأصحابه من الجاهليين. وظهرت كتب النقد وعلوم البلاغة، ونظم الشعراء القصيد في إطراء فنهم، ودبجوا أشعارهم بالتشبيهات والأمثال يحتفون بطلبها ويكاثرون بعرضها، كقول الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقد سئل بشار فيما قيل: بم فقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فأجاب: بأني لم أقبل كل ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفكر جيد وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها واحترزت عن متكلفها. فهذا قول أديب صناع يروض المعاني والألفاظ ويعرف خطر التروي وأعمال الفكر ولا يرسل القول على عواهنه ولا يطمئن إلى الارتجال الذي كان شيمة الجاهليين ومن أمثلة التدقيق في انتقاء الألفاظ ونقدها ومراعاة تناسب حروفها ومخارجها أيضاً، أن ابن المعتز عاب على أبي تمام تكرار كلمة (أمدحه) مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما معا من حروف الحلق، وذلك في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
هكذا يجري تاريخ أدب كل أمة: يبدأ بطور أولي الأدب فيه ظاهر البداوة، يليه طور فني تابع لتحضر الأمة وأخذها بأسباب الكتابة والعلم، وقد استطال الطور الأول في العربية وغزر ما حفظ من أثاره لظروف خاصة، وإن يكن الكثير مما أثر من ذلك موضع الشك أما الأدب الإنجليزي فلا يحتوي تاريخه على آثار ذات بال تمت إلى الطور الأول المتبدي إلا أساطير وشذوراً اتخذها الأدب فيما بعد مادة لسبحاته الفنية، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الصحيح بعصر اليزابيت الذي كانت الأمة فيه قد تشربت ثقافة اللاتين والإغريق واقتبست كثيرا من حضارة أوربا، وخمدت فيها الفتن واستتب السلام في ظل آل تيودور. ومن ذلك العصر يبدأ الطور الفني للأدب الإنجليزي وهو طور تاريخه تاريخ رقي مطرد للأدب في الأشكال والمواضيع والأفكار والأساليب وتخلص مستمر من شوائب الصناعة وتجرد تام في عالم الفن الصحيح. والأدب الإنجليزي في هذا كله يمثل التطور الطبيعي المعقول لكل أدب: جرى الشعر إلى غاياته وتلاه النثر، وتوسعت جوانب كل منهما تدريجا وتعدد مجالاته وتميزت أشكاله وتبينت أغراضه.
تهيأت لكلا الأدبين العربي والإنجليزي أسباب الدخول في الطور الفني. فازدهرت الحضارة وذاعت العلوم ودونت الكتب وانتشرت الرفاهية وتوفر الوقت للعمل الفني المتصل، بيد أن الأدب الإنجليزي كان ابعد شوطا في مضمار الفن الخالص، واكثر تجرداً من شوائب الصناعة والمادة التي تلازم الأدب أو الفنون عامة في بداءتها، إذ أحاطت بالأدب العربي ظروف حالت بينه وبين التخلص من جميع هاتيك الشوائب. فجاء الأدب الإنجليزي اكثر فنية في الموضوع وفي الأسلوب.
ففي الموضوع احتوى الأدب الإنجليزي من تصوير الطبيعة وسير الأبطال وخرافات الماضين وأوصاف الرحلات وآثار الفنون الأخرى كالتصوير، ما يفيض جمالا وتنسم منه نسمات الفن الخالص والفكر البعيد والإنسانية الشاملة، وكل هاتيك مواضيع لم يولها الأدب العربي مكانة اولى، وفي الأسلوب توفر الأدباء الإنجليز على استخدام اللفظ قدر المستطاع لأداء المعنى وتصوير المنظر مستعينين بجرس اللفظ ونغم الوزن في النظم، في حين اهتم أدباء العربية للفظ في ذاته لا على كونه مجرد وسيلة للمعنى، وظهرت الوحدة الفنية أو الفكرة الجامعة في القصيدة وفي المقالة وغيرهما من أشكال الأدب في الإنجليزية، على حين ظلت القصيدة في العربية وإن أصبحت اكبر تقسيماً وأجود ترتيبا مما كانت عليه من قبل، عديمة الوحدة مختلطة الأجزاء، تثب من قريب إلى بعيد ومن نسيب إلى مديح، ومن مديح للغير إلى فخر بالنفس ومن فخر إلى شكوى.
ولم يتخلص الأدب العربي من شبهات الصناعة المادي قط: إذ ظل اكثر الشعراء والكتاب يخدمون الأمراء ويتوخون مواقع رضاهم. وليس يخرج الأدب من حيز الصنعة إلى عالم الفن الحر مادام ذا غرض خارج نفسه. وذلك ما لم ينكره أدباء العربية أنفسهم فظلوا يسمون الأدب صنعة أو حرفة أو آلة، وكان النقاد يوازنون بينها وبين صناعة المغنين، ويقول ابن رشيق في تعليقه على حكاية شاعر مدح علوياً ثائراً فدفنه المنصور حياً: إن ذلك الشاعر قد جنت عليه حماقته، إذ ما للشاعر وللزج بنفسه في أمثال تلك المآزق وإنما هو (طالب فضل)؟
واحتفى أدباء العربية بالألفاظ احتفاء متزايداً: فنشأ السجع والطباق والجناس والتورية وما إليها في الشعر والنثر معا، حتى بدأ اللفظ منافسا للمعنى مزاحما له على انتباه القارئ وفهمه، بل صارت له في النهاية المكانة الأولى، وتضاءل المعنى بين يديه واختفى، وأصبحت همة الأدباء موجهة لا إلى الغوص على حقائق الوجود وبواطن الشعور. بل إلى اقتناص شوارد الكلم وبارع النكات اللفظية، فعيسى بي هشام مثلا يقول انه كان يطوف البلدان (وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها) وعيسى بن هشام أيضاً يعيب على الجاحظ انه (قليل الاستعارات قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟)
وإنما قصر بالأدب العربي عن غايات الفن المطلق، ما قيد به من اتصال بالأمراء، وما أرهق به من تقليد للقديم: أدخلت الأولى فيه التكلف والصنعة وأبقت فيه غرضا خارجا عن نفسه وصرفت الثانية همه إلى اللفظ البليغ والعبارة الطنانة، التي تدل على بصر باللغة وتمكن من آثار فحولها المتقدمين؛ ويتجلى الفرق بين مدى الأدب الإنجليزي من الفنية الخالصة، ومدى الأدب العربي منها، من موازنة حياة الفن الخالص والتأمل الدائب، والمعالجة المستمرة لأشكال الأدب ومواضيعه، والطرق المتكرر لمذاهبه ومناحيه، التي كان يحياها وردزورث وشلي وتنيسون مثلا، وبين حياة البحتري والطائي والمتنبي المتصلة أوثق اتصال بالأمراء ومنادمتهم وتملقهم، كان الأولون كأنهم كهنة الفن المنقطعون إلى آلهته في محاريبه المقدسة المصونة وكان الأخيرون يعيشون في جلبة البلاطات وضجة المحافل والمواكب
فالأدب الإنجليزي بعد أن توفرت له أسباب الحضارة والثقافة والتدوين والفراغ، التي لابد منها لبلوغ الأدب أوج رقيه، توفرت له أيضاً مزيتا الاستقلال بنفسه عن إرادة الحكام وخدمتهم ونزعة التجديد والحرية التي لا تقلد الماضي ولا تقف عند حدوده وبهاتين المزيتين إلى تلك الأسباب تجمعت للأدب الإنجليزي كل وسائل التطور الطبيعي وبلوغ آماد الفن الخالص؛ أما الأدب العربي فأعوزته هاتان الميزتان، فقعد به إعوازهما في مجال الفن وأبقى به بعض شوائب الصناعة، ومن ثم أمكن القول بأن الأدب الإنجليزي بلغ طور الفن، أما الأدب العربي في جملته فظل اقرب إلى الصناعة الفنية.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 197
بتاريخ: 12 - 04 - 1937
ومهما بلغ الشعر من التقدم في عهد البداوة فما يزال محدود الجوانب قريب الأغوار متشابه الآثار؛ فإذا كانت الحضارة والاستقرار والثقافة والتدوين اتسعت مواضيع الشعر باتساع جوانب العمران، وبعد غوره باستفادته من العلم، وجاد أسلوبه باستخدام التدوين والتروي، واتصلت الجهود فيه وتكاثر الابتكار بتوفر الوقت للتفرغ والتفنن، وظهر بجانب الشعراء أخوه الأصغر سنا وهو النثر، وظهر بجانب الشعراء الكتاب، وبظهور النثر يمتد مجال الأدب حتى يتاخم مجال العلم أو يتداخل وإياه، وإذ يدون الأدب يطلع عليه أبناء الأمم الأخرى ويطلع أدباؤه، على آداب تلك الأمم فيتأثر بها ويؤثر فيها، بعد أن كان الشعر في عهد البداوة معزولا لا يحس به سواه ولا يعلم هو بوجود غيره، وبتقييد الأدب يتوارثه جيل عن جيل، ويزداد تراثه باطراد، بعد أن كان في عهد بداوته سريعا إلى التلاشي في ضباب النسيان، لا يكاد يذكر منه جيل عن أجداده إلا القليل المحرف غير المستيقن
فحين تتحضر الأمة وتتثقف، يصبح شعرها فنيا ويظهر تجانبه النثر الفني؛ على أن هذا يستغرق زمنا، ولا يجئ الفن إلا متأخراً عن الصناعة وعن العلم. فالإنسان يعمد دائما إلى الضروري حتى إذا ما قضى منه وطره تحول إلى الفن أو تحولت الصناعة ذات الغرض المادي إلى فن لا غرضاً في نفسه خارجاً عن ذاته وهكذا ينشأ التصوير والنحت والعمارة والنثر جميعاً، تكون في أول أمرها صناعات تخدم أغراضا مادية وتسد حاجات الإنسان، من اتخاذ المسكن وزينته وتدوين المهم من الأحكام والمواعظ والأخبار ثم العلوم، فإذا ما اطرد سلم الرقي تخلص الفن من تلك الأغراض الخارجية وصار غرضا في نفسه ومتعة في ذاته، وتعبيرا عن الشعور خالصاً، وعبادة للجمال منزهة.
إذا ما دخل الأدب هذا الطور الفني، صارت الصنعة الفنية فيه اظهر والتجويد أوضح، وليس يخلو الشعر حتى في بداوته من صنعة ومعالجة وتجويد، وبغير هذه لا يتصور له وجود ولا لسلكه انتظام؛ بيد أن الأديب في الطور الفني يصبح اكثر بصراً بتجويد اللفظ وتنسيق الأسلوب وتجميل المعنى، لما يمتاز به دون شاعر البداوة من ترفه المعيشة ورقة الذوق وسعة القراءة، والاطلاع على الآثار الأدبية والقواعد والآراء، فكلما أمعن الأدب في طوره هذا زاد الأدباء لألفاظهم تخيراً وتسهيلا، ولأساليبهم تقسيما وتذليلا، ولمعانيهم. استقصاء وتوضيحاً
وتزداد موضوعات الأدب اتساعا وبعدا عن أسباب الحياة الشخصية الحاضرة، وتحليقا في عنان الفكر وأجواز الخيال وآفاق الماضي والمستقبل: فعلى حين يكون اكثر ما ينظم من شعر البداوة نتيجة حادث طارئ أو خاطر عابر، يتوفر الأديب في الطور الفني على تقصي غايات التفكير، إرضاء لنزعة التأمل والتفكير في ذاتها وعلى توخي مناحي الفن حبا للفن وحده، ويمسي الأديب ويصبح ولا هم له إلا استقصاء حقائق الحس والمشاهدة وتصويرها في أدبه، وتكثر في الشعر والنثر آثار التأمل الطويل والوصف الفني
وإذا ما تكاثرت الآثار المتجمعة بالتدوين جيلا بعد جيل، وزخر التراث الأدبي بما تجود به قرائح الأدباء من فيض، إذا انقضت سحائب منه أعقبت بسحائب كما يقول الطائي، وكثر نظر الأدباء فيها واستظهارهم لها واحتذاؤهم إياها، لم يعدموا أن ينتبهوا إلى شواهد فيها تتكرر وحقائق تتماثل، وجزيئات تندرج تحت كليات، فاستخلصوا من كل ذلك قواعد يجعلونها نصب أعينهم في الإنشاء، ثم يحتفي بعضهم بجمعها وتبويبها والاستكثار منامثلتها، فتكون من ذلك علوم المعاني والبيان والبديع، وكتب النقد والموازنة والتحليل، وبرغم أن الفن سليقة والأدب ملكة لا اكتساب، والشعر طبع لا تطبع فان تلك العلوم وهاتيك الكتب المستحدثة تترك أثرها في تقويم السلائق، وتوجيه الملكات وتحسين البصر بالأدب وأسبابه وجمع أشتاته ولم أطرافه، ولا يستأثر النثر بهذا التبصر في الأدب بل ينظم الشعراء القصيد في مزايا الشعر وأطواره وأحوال الشعراء.
ومن ذلك التراث الأدبي الزاخر يكتسب الأدب شيئاً آخر: يكتسب على ممر الأجيال لغة أدبية خاصة وألفاظا خاصة للشعر وأخرى للنثر، قد صقلها الاستعمال الطويل ورفعها استخدام كبار الأدباء إياها إلى مرتبة عالية، وارتبطت بمعان سامية مما يجعلها أهلا لما ينزع إلى تصويره الأدباء من عواطف رفيعة فيصير للشعر والنثر من كل ذلك لغة خاصة متسامية على لغة العصر المستعملة في الكلام الممتازة بسهولتها وإسفافها أحياناً وتطورها المستمر بتطور الحضارة المادية؛ وتظل لغة الشعر والنثر الخاصة تلك في ازدياد كلما أضاف إليها أقطاب الأدب ألفاظا من اختراعهم أو اشتقاقهم أو مما يرفعونه بعبقرياتهم من لغة العامة، أو يقتطفونه من لغات الأمم الأخرى وتتوارث في الأدب بجانب ذلك تعابير خاصة جارية ومجازات وأخيلة وأمثال، يموت بعضها تدريجا ويحيا بعض، ويزداد بمرور الزمان صقلا وانسياغا.
هذا الطور الفني لا شك طور نضج الأدب وبلوغه اشده: فيه يجمح بين حرارة الشعور وعمق الفكرة، وبين طرافة الموضوع وجودة الأسلوب، وفيه يتخلص من أقذاء المادية وشوائب الصناعات، وفي هذا الطور لا في طور البداوة يظهر اكبر أدبائه وفحولة شعرائه؛ وما يزال الأدب في رقيه المطرد وتراثه في ازدياده المستمر، مادامت في الأمة فورة الحياة وصدق الشعور وصحة النظرة، فإذا خمدت النفوس وزاغت النظرات، انقلب الفن صناعة والحرية قيودا، وتمسك الأدباء بالقشور دون اللباب، وبالألفاظ دون الحقائق.
كان أدب الجزيرة العربية في الجاهلية وصدر من الإسلام بدويا: الشعر قوامه والبساطة سمته والقريب الحاضر من شؤون الحياة مادته، محدود المواضيع، غير متسق الأسلوب ولا منظم الأفكار ولا ظاهرا لوحدة في القصيدة. وقد استعاض العرب عن التدوين بالرواية: يروي أشعار كل فحل ناشئ يقوم له مقام الديوان المخطوط، ويقوم الشاعر من راويته مقام الأستاذ يبصره بالشعر ووجوه القول؛ وبطريقة الرواية هذه حفظ من شعر العرب شيء كثير، وبها ترعرعت الصناعة الشعرية حتى بلغت في هذا العصر مبلغا من التقدم يعتد به، وصارت لها تقاليد خاصة في الأوضاع والمعاني والألفاظ، كتصريع البيت الأول من القصيدة وتقديم النسيب في مستهلها، تتجلى كل هذه الميزات في الملعقات، التي يتحدث صاحب كل معلقة منها في نفس القصيدة، عن أحبابه وشرابه، وحربه واسفاره، وحكمته وأدبه وقبيلته وعزها وهلم جرا
وبازدياد حظ العرب من الرفاهة والتثقف والتهذب، ازداد الشعر تهذيب لفظ واتساق أسلوب كما يتمثل في شعر ابن أبي ربيعة وجميل؛ وظهر النثر يستخدم أولاً في تدوين العلوم ورسائل الأمراء وإجراءات الحكومة، ثم مازال حتى استحال علا أيدي ابن المقفع والجاحظ والبديع، فناً يتطلب الجمال اللفظي والمعنوي ويتوخى نواحي الفن ومذاهب التفكير بعيدة عن النفع المادي والغرض الحاضر. وبلغ الشعر الغاية من الصناعة الفنية والحلاوة اللفظية والتقسيم الموضوعي والتقصي في المعاني والتفنن في الوصف. على أيدي أبي نواس وأبي تمام وابن المعتز ولبن الرومي وغيرهم، وهؤلاء وإضرابهم هم لاشك فحولة شعراء العربية، وإن ظل كثير من الأدباء لنزعتهم من المحافظة يقدمون امرأ القيس وأصحابه من الجاهليين. وظهرت كتب النقد وعلوم البلاغة، ونظم الشعراء القصيد في إطراء فنهم، ودبجوا أشعارهم بالتشبيهات والأمثال يحتفون بطلبها ويكاثرون بعرضها، كقول الطائي:
وإذا أراد الله نشر فضيلة ... طويت أتاح لها لسان حسود
لولا اشتعال النار فيما جاورت ... ما كان يعرف طيب عرف العود
وقد سئل بشار فيما قيل: بم فقت أهل عصرك في حسن معاني الشعر وتهذيب ألفاظه؟ فأجاب: بأني لم أقبل كل ما تورده عليّ قريحتي، ويناجيني به طبعي، ونظرت إلى مغارس الفطن ومعادن الحقائق، ولطائف التشبيهات فسرت إليها بفكر جيد وغريزة قوية فأحكمت سبرها وانتقيت حرها وكشفت عن حقائقها واحترزت عن متكلفها. فهذا قول أديب صناع يروض المعاني والألفاظ ويعرف خطر التروي وأعمال الفكر ولا يرسل القول على عواهنه ولا يطمئن إلى الارتجال الذي كان شيمة الجاهليين ومن أمثلة التدقيق في انتقاء الألفاظ ونقدها ومراعاة تناسب حروفها ومخارجها أيضاً، أن ابن المعتز عاب على أبي تمام تكرار كلمة (أمدحه) مع الجمع بين الحاء والهاء، وهما معا من حروف الحلق، وذلك في قوله:
كريم متى أمدحه أمدحه والورى ... معي وإذا ما لمته لمته وحدي
هكذا يجري تاريخ أدب كل أمة: يبدأ بطور أولي الأدب فيه ظاهر البداوة، يليه طور فني تابع لتحضر الأمة وأخذها بأسباب الكتابة والعلم، وقد استطال الطور الأول في العربية وغزر ما حفظ من أثاره لظروف خاصة، وإن يكن الكثير مما أثر من ذلك موضع الشك أما الأدب الإنجليزي فلا يحتوي تاريخه على آثار ذات بال تمت إلى الطور الأول المتبدي إلا أساطير وشذوراً اتخذها الأدب فيما بعد مادة لسبحاته الفنية، وإنما يبدأ تاريخ الأدب الإنجليزي الصحيح بعصر اليزابيت الذي كانت الأمة فيه قد تشربت ثقافة اللاتين والإغريق واقتبست كثيرا من حضارة أوربا، وخمدت فيها الفتن واستتب السلام في ظل آل تيودور. ومن ذلك العصر يبدأ الطور الفني للأدب الإنجليزي وهو طور تاريخه تاريخ رقي مطرد للأدب في الأشكال والمواضيع والأفكار والأساليب وتخلص مستمر من شوائب الصناعة وتجرد تام في عالم الفن الصحيح. والأدب الإنجليزي في هذا كله يمثل التطور الطبيعي المعقول لكل أدب: جرى الشعر إلى غاياته وتلاه النثر، وتوسعت جوانب كل منهما تدريجا وتعدد مجالاته وتميزت أشكاله وتبينت أغراضه.
تهيأت لكلا الأدبين العربي والإنجليزي أسباب الدخول في الطور الفني. فازدهرت الحضارة وذاعت العلوم ودونت الكتب وانتشرت الرفاهية وتوفر الوقت للعمل الفني المتصل، بيد أن الأدب الإنجليزي كان ابعد شوطا في مضمار الفن الخالص، واكثر تجرداً من شوائب الصناعة والمادة التي تلازم الأدب أو الفنون عامة في بداءتها، إذ أحاطت بالأدب العربي ظروف حالت بينه وبين التخلص من جميع هاتيك الشوائب. فجاء الأدب الإنجليزي اكثر فنية في الموضوع وفي الأسلوب.
ففي الموضوع احتوى الأدب الإنجليزي من تصوير الطبيعة وسير الأبطال وخرافات الماضين وأوصاف الرحلات وآثار الفنون الأخرى كالتصوير، ما يفيض جمالا وتنسم منه نسمات الفن الخالص والفكر البعيد والإنسانية الشاملة، وكل هاتيك مواضيع لم يولها الأدب العربي مكانة اولى، وفي الأسلوب توفر الأدباء الإنجليز على استخدام اللفظ قدر المستطاع لأداء المعنى وتصوير المنظر مستعينين بجرس اللفظ ونغم الوزن في النظم، في حين اهتم أدباء العربية للفظ في ذاته لا على كونه مجرد وسيلة للمعنى، وظهرت الوحدة الفنية أو الفكرة الجامعة في القصيدة وفي المقالة وغيرهما من أشكال الأدب في الإنجليزية، على حين ظلت القصيدة في العربية وإن أصبحت اكبر تقسيماً وأجود ترتيبا مما كانت عليه من قبل، عديمة الوحدة مختلطة الأجزاء، تثب من قريب إلى بعيد ومن نسيب إلى مديح، ومن مديح للغير إلى فخر بالنفس ومن فخر إلى شكوى.
ولم يتخلص الأدب العربي من شبهات الصناعة المادي قط: إذ ظل اكثر الشعراء والكتاب يخدمون الأمراء ويتوخون مواقع رضاهم. وليس يخرج الأدب من حيز الصنعة إلى عالم الفن الحر مادام ذا غرض خارج نفسه. وذلك ما لم ينكره أدباء العربية أنفسهم فظلوا يسمون الأدب صنعة أو حرفة أو آلة، وكان النقاد يوازنون بينها وبين صناعة المغنين، ويقول ابن رشيق في تعليقه على حكاية شاعر مدح علوياً ثائراً فدفنه المنصور حياً: إن ذلك الشاعر قد جنت عليه حماقته، إذ ما للشاعر وللزج بنفسه في أمثال تلك المآزق وإنما هو (طالب فضل)؟
واحتفى أدباء العربية بالألفاظ احتفاء متزايداً: فنشأ السجع والطباق والجناس والتورية وما إليها في الشعر والنثر معا، حتى بدأ اللفظ منافسا للمعنى مزاحما له على انتباه القارئ وفهمه، بل صارت له في النهاية المكانة الأولى، وتضاءل المعنى بين يديه واختفى، وأصبحت همة الأدباء موجهة لا إلى الغوص على حقائق الوجود وبواطن الشعور. بل إلى اقتناص شوارد الكلم وبارع النكات اللفظية، فعيسى بي هشام مثلا يقول انه كان يطوف البلدان (وقصاراي لفظة شرود أصيدها، وكلمة بليغة أستزيدها) وعيسى بن هشام أيضاً يعيب على الجاحظ انه (قليل الاستعارات قريب العبارات، منقاد لعريان الكلام يستعمله، نفور من معتاصه يهمله فهل سمعتم له لفظة مصنوعة أو كلمة غير مسموعة؟)
وإنما قصر بالأدب العربي عن غايات الفن المطلق، ما قيد به من اتصال بالأمراء، وما أرهق به من تقليد للقديم: أدخلت الأولى فيه التكلف والصنعة وأبقت فيه غرضا خارجا عن نفسه وصرفت الثانية همه إلى اللفظ البليغ والعبارة الطنانة، التي تدل على بصر باللغة وتمكن من آثار فحولها المتقدمين؛ ويتجلى الفرق بين مدى الأدب الإنجليزي من الفنية الخالصة، ومدى الأدب العربي منها، من موازنة حياة الفن الخالص والتأمل الدائب، والمعالجة المستمرة لأشكال الأدب ومواضيعه، والطرق المتكرر لمذاهبه ومناحيه، التي كان يحياها وردزورث وشلي وتنيسون مثلا، وبين حياة البحتري والطائي والمتنبي المتصلة أوثق اتصال بالأمراء ومنادمتهم وتملقهم، كان الأولون كأنهم كهنة الفن المنقطعون إلى آلهته في محاريبه المقدسة المصونة وكان الأخيرون يعيشون في جلبة البلاطات وضجة المحافل والمواكب
فالأدب الإنجليزي بعد أن توفرت له أسباب الحضارة والثقافة والتدوين والفراغ، التي لابد منها لبلوغ الأدب أوج رقيه، توفرت له أيضاً مزيتا الاستقلال بنفسه عن إرادة الحكام وخدمتهم ونزعة التجديد والحرية التي لا تقلد الماضي ولا تقف عند حدوده وبهاتين المزيتين إلى تلك الأسباب تجمعت للأدب الإنجليزي كل وسائل التطور الطبيعي وبلوغ آماد الفن الخالص؛ أما الأدب العربي فأعوزته هاتان الميزتان، فقعد به إعوازهما في مجال الفن وأبقى به بعض شوائب الصناعة، ومن ثم أمكن القول بأن الأدب الإنجليزي بلغ طور الفن، أما الأدب العربي في جملته فظل اقرب إلى الصناعة الفنية.
فخري أبو السعود
مجلة الرسالة - العدد 197
بتاريخ: 12 - 04 - 1937