استمعت مؤخرا لمقابلة مع آن باتشيت، سئلت فيها عن مرحلة مراجعة وتحرير النصوص. فأجابت: “مرحلة المراجعة عندي اسمها إليزابيث ماكراكين.” اعتقدت وقتها أنه أمر مضحك، ولكنها كانت على حق. أنا أيضا أسمي هذه المرحلة في جزء كبير منها بـ هانا تينتي وهيلين إليس.
التقيت هانا وهيلين منذ ستة عشر عاما في ورشة حول “تقنيات الكتابة الإبداعية” لداني شابيرو في جامعة نيويورك. كنا في أوائل العشرينات، ولم يسبق لنا النشر من قبل. أدركنا منذ البداية أن ظروفنا متشابهة مما دفعنا لرسم طريقنا معا. كل منا كان أحد والديها يعمل محاميا، ما يعني أن كل واحدة رسم لها مسار أكاديمي محدد الأهداف بعيدا عن أي مسار آخر يحتاج للإبداع.
استمعنا بكل حواسنا ودوّنا كل ملحوظة قيلت في الورشة التدريبية، في الوقت الذي أمضى فيه بقية الطلية وقتهم مكتوفي الأيدي بجفون ثقيلة، شاردي الذهن معتمدين على التخمين. وربما يعود تميزنا عن البقية لطباعنا المشتركة، ومنها تقديس الوقت! والعمل بجد واجتهاد قدر الإمكان!
أنا وهيلين وهانا قرّرنا البدء في الكتابة معا في الصيف. وكنا على علم أن هذا الأمر مسألة مؤقتة فقط. كان لكل منا أسلوب مختلف في الكتابة فنحن أساسا تختلف عن بعضنا البعض، فمثلا هيلين الحسناء القادمة من الجنوب ذات الطلة البهية، وهانا هي العقل والعضلات، أما أنا فقد كنت الخجولة والمتحفظة. و ما اتضح لاحقا، أن الاختلاف خلق ذلك النوع من التجانس والمنافسة الشريفة، جعلنا نعمل معا بلا ضغائن وبلا أحقاد، وكل واحدة منا لها أهميتها وقراءها.
خلال عام 1995 بدأنا نلتقي أسبوعيا في شقة أي منا. في السنوات المبكرة التي أعقبت تخرجنا من المدرسة الثانوية، كنا قادمات بالكعب العالي والملابس غير الملائمة. هانا كانت تقطن في الطابق السادس من الممشى التابع لقرية الشرق، وأصرت شريكة هيلين في السكن على أن نتناول العشاء في البيت، وعدم المغامرة بالذهاب لمكان آخر، وكلما تواجد مديري في المدينة، كنت أمضي معظم وقتي في المساء على هاتفي النقال بالتحدث مع السائقين والخدم والمربيات.
مررنا بفترة هادئة بلا ضغوط، كل واحدة تعيش في عالمها، نستخدم المصاعد ونلبس الجينز. ونأكل الطعام البيتي الصنع، ونشرب ونناقش احتياجاتنا معا. عندما كنا أصغر سنا، كان كل نقد يبدأ بكمٍ من المجاملات المبالغ فيها، ببساطة كنا بحاجة للتشجيع. الآن صار المديح غير معلن في الغالب، وصرنا نعلم أننا لن نكون هنا لو كانت كتابتنا غير ممتازة، وركزنا على تجاوز نقاط الضعف في الكتابة. تبادلنا قراءة مئات الصفحات، ودوّنا الملحوظات الصغيرة. وفرنا الدعم المعنوي لبعضنا من خلال الإستشارات الهاتفية في أي مكان وفي أي وقت. وتمتعنا بحضور حفلات التوقيع والقراءة معا.
ثم صدرت رواية هيلين الأولى“Eating the Cheshire”. شاركت هانا في تأسيس مجلة One Story الأدبية، أما مجموعتها القصصية ” Animal Crackers ” فظهرت في نفس العام الذي أصدرتُ فيه روايتي الأولى وأصبحت في متناول الجميع. بعد ذلك أعقبت هيلين روايتها الأولى برواية “The Turning” للشباب اليافعين. وأصدرت هانا رواية جديدة بعنوان”The Good Thief” والتي لاقت استحسان الجمهور. في هذا العام تحديدا، قامتا بتشجيعي على قراءة مقاطع من روايتي الجديدة “A Good Hard Look”، ولو اضطرتا لقامتا بدفعي عنوة للوقوف على المنصة -لأني خجولة بطبعي-.
أدركت كم أنا محظوظة بوجود هاتين المرأتين في حياتي. بعد الدراسات العليا، يصبح أشبه بالمستحيل الحصول على رأي سديد وصادق في عملك. وإذا كنت محظوظا سيكون لديك وكيل يتابع أعمالك أو حتى محرر، ومع ذلك سيتعذر عليه القراءة لك مع أجندته المليئة بالمواعيد، مع أن هذا ما عليه القيام به. الوكلاء والمحررون لديهم أعمالهم التجارية الخاصة بهم. “مجموعة الكتابة” التي شاركت فيها، كانت تقرأ وتفكر وتناقش العمل بهدف واحد فقط، وهو أن تصل إلى أفضل ما يمكنك أن تكون عليه ككاتب. تدفعني للكتابة حد المخاطرة بطرق أبواب جديدة في السرد، والعمل على اكتشاف الشخصية المدفونة داخلي، عن طريق إعادة كتابة الفقرة التي تثير غضبي آلاف المرات بهدف الوصول للأفضل. هانا وهيلين كانتا دائما تحرصان على إبداء رأيهما بما أكتب حتى عندما لا أريد سماع ذلك.
ظهور شخصية فلانري أوكونور في روايتي “A Good Hard Look”، كان غير مخطط له. لأنه لم تكن لي أي نية لكتابة رواية تاريخية، ناهيك عن الكتابة عن رمز من الرموز الأدبية المقدسة. هذا الحضور أثار حماسي وفزعي على حد سواء. في البداية كانت تفصلني عن فلانري مسافة بعيدة، لذا لم أكتب عنها بعمق، فظهرت في الكواليس فحسب، لأني لم يسبق لي أن اقتربت منها بشكل حقيقي. وبعد كل هذا، كلما عرفت عنها أقل، كلما كان ظهورها سطحيا في روايتي.
هيلين وهانا قرأتا أول مئة صفحة من روايتي، وأخبرتاني بأني أملك خيارين لا ثالث لهما: إما أن ألغي وجود شخصية فلانري من الرواية، أو الإلتزام بالعمل على إثراء دورها بشكل أفضل. كان من المستحيل أن ألغي دورها، وسيلزمني سنوات لفهم السبب الذي يحتم حضور فلانري في أحداث الرواية، مع أني على قناعة تامة بضرورة حضورها. لذا مع دعم صديقتيّ، بدأت أتعمق بلطف في الشخصية. هل كان من الممكن الوصول لتلك المرحلة في فهم الشخصية بنفسي بلا مساعدة من أحد؟ لا أعلم، لكن من المؤكد أنه كان سيستغرق وقتا أطول حتى أصل إليه. استغرقت سبع سنوات لكتابة هذه الرواية، ولم أكن على يقين إن كانت ستحتاج وقتا أطول، لذا نصيحتهما وفرت عليّ الكثير من الوقت. (على الأقل، نصيحتهما أنقذت روايتي من الفشل، وحافظت على صورة فلانري أوكنور.)
ثم تكفل الوقت بالأمر، حيث دأبت كل من هانا وهيلين بحرص واهتمام بدا في بعض الأحيان مبالغا فيه على قراءة ومراجعة مسودة نفس الرواية على مدار سبع سنوات. ربما عانيت من هذه الرواية.. لا بل فعلا عانيت، ولكني لم أكن وحيدة بل كانتا تعانيان معي. لم أتفاجأ بالتزامهما فهذا ما تعاهدنا عليه. مضيت في الطريق الذي خطته لي كتاباتهن بلا أسئلة وبلا إضافات، وهن فعلن ذات الشيء معي. اشتهرت الكتابة أنها فعل فردي، لكننا معا جعلناها أقل وحدة مما هي عليه.
لطالما قرأت عن الكتاب الذين يكتبون بمفردهم، يجلسون على مكاتبهم في انتظار إيماءة موافقة من ناشر على ما يكتبونه، معتقدين أن هذا هو الذكاء المطلوب. وهو الأمر الذي لا أتفق معهم فيه، حيث أنه يصعب عليّ تصديق هذا النوع من الكُتاب ويلزمني وقت لاستيعاب طيفية قيامهم بذلك.
كتابة رواية هي أن تقبض على اللحظة ثم تحلق معها حتى لا تعود تشعر بما يدور حولك. فأنت تتبع القصة حتى تعيش كل تفاصيلها. هناك متعة حقيقية في أن تسبح في تيار كهذا. وهذا بالضبط ما يدفع معظمنا لفعل الكتابة التي تمنحك الفرصة لتعيش في العالم الذي خلقته بنفسك حين تكتب. والآن ما الذي تنتظره أكثر بعد هذه المتعة؟!
ولكن أثناء الرحلة يصبح من غير الممكن أن تشاهد الصخور المثيرة، وتتلفت كي ترى الجمال من حولك، ثم لا تنسى مفترق الطرق حيث يتوجب عليك أن تختار أحيانا. الروائي لديه رؤية مهما اتسعت تظل محصورة فيما يكتبه. هيلين وهانا سمح وجودهما بأن تتسع رؤيتي لكل ما يحتويه النص وهوامشه.
أستعرض فيما يلي كيفية القيام بذلك بطريقة عملية:
أسلمهما نسخة مما عانيت على مدى أشهر لكتابته، على أن تكون تلك النسخة نهائية وأكون راضية عنها تماما. تقوما بعدها بقراءتها قراءة متأنية ووافية، ثم تعملان بعدها على أربعة أو خمسة أخطاء لمعالجتها. كل كاتب يبحث عن قارئ ليعد له أو لها الأفضل.
جي كورتني سوليفان، مؤلفة الرواية الأكثر مبيعا ” Commencement “وهذا العام انتهت من روايتها الجديدة ” Maine “، لديها عدد كبير من القراء على أنواعهم. تشرح الأمر قائلة:
“لدي صديقان يقرآن تفاصيل كل ما أكتب من قصص، أحدهما كاتب ومحررلنفسه، والآخر زميلي في الجامعة والذي يعمل محاميا في وزارة العدل. وأفضل أصدقائي كان زميلا لي في الثانوية، يعمل محاميا، عادة يكون أول من يقرأ رواياتي. وصديق آخر هو محرر سابق لمجلة، قرأ المسودات الأولى لرواياتي ونصحني بتعديلات تفصيلية لاتصدق.
هزت رأسها وابتسمت ثم قالت: “ليس لدي فكرة لماذا هؤلاء الناس قدموا لي وقتهم بسخاء. حقا لقد كنت محظوظة على مدى سنوات، ربما يعود ذاك لحقيقة أني ماهرة في إعداد طبق الدجاج المشوي وكيكة الشوكولاتة.” تجربة كورتني مع الكتابة في مجموعات تثبت أنه لا توجد قواعد في هذه اللعبة.
“مجموعات الكتابة” لا تحتاج أشخاص في نفس العمر أو نفس الجنس، أو علاقات على مدى سنوات، إذا كان جارك جزارا ولديه نظرة ثاقبة دعه يقرأ عملك، وإذا كانت أمك تملك مشورة مميزة دعها تفعل. وهكذا دع الناس تقرأ لك فكل منهم سيكمل الآخر بحيث ستحصل في النهاية على نتيجة مميزة.
عندما أقدم مسودة، تقوم هيلين بمعالجة التفاصيل، وإعادة ترتيب الفقرات من جديد، وكتابة الجمل في الهامش. أما هانا فمن غير الممكن أن تترك حبرا على الصفحة، حيث تدون كل ملاحظاتها حول سير الأحداث في القصة والحبكة والشخصيات. وردود الفعل منهما نادرا ما تتداخل مع بعضها وإن حدث ذلك فإني أقوم على الفور بمعالجة الأمر. كورتني ببساطة لديها عدد أكبر من القراء تقوم معهم بذات الشيء ألا وهو النقد البناء.
راي ميدوز مؤلفة رواية “Mothers and Daughters”، والتي يتنوع قراؤها من رواية لأخرى، تقول: “دائما لدي قراء أساسيين: زوجي الذي يعد أقسى ناقد لي، وأخته الطيبة، وأختي الصغرى التي تقع في منطقة بينهما.
وفيما يخص روايتي الأخيرة، جمعتني صداقة حقيقية ومساعدة كبيرة بمجموعة للكتابة في ماديسون، حيث عشت حتى الخريف.
النساء الأربع الأخريات في المجموعة، كن روائيات يتسمن بالصراحة والحرص والدعم مع حرفية عالية في فن السرد، الأمر الذي جعل عملية المراجعة توصف بأنها ثاقبة ومفيدة. كم أفتقد ان أكون جزءا من تلك المجموعة.”
نادرا ما يأخذ الكتاب بآراء القراء كأمر مسلم به، لذا العثور على هذه النوعية من الأشخاص الذين لا يكتفون فقط بتحليل النص وإنما يقومون بإثرائه، هو أمر صعب تكراره. فهناك سحر خاص في هكذا علاقة.
وأشارت راي قائلة:” أن تشرك أحدًا ما في عملك هو فعل ينطوي على نوع من الحميمية، ويكاد يكون أمرا مستحيلا أن تجد الآخر الذي يملك وجهة نظرتحوز على رضاك فيما تكتب، ويخبرك بما يتوجب عليك حذفه أو تعديله بطريقة محببة للنفس، لدرجة تدفعك للجلوس معه لأكثر من مجرد فنجان قهوة.”
يجب أن يكون القارئ صديقًا، روحه تشبه روحك، لا بل أكثر من ذلك. عندما تختار الكاتبة مثلا أن تتعامل مع شخص ما فإنها تتجرد من روحها لتنصت بكل ثقة وشغف. عندما يجد الكاتب القارئ الجيد، عليه أن يتمسك به ويحافظ عليه. في عملية تشبه الوقوع في الحب. ذات الأجواء حيث الفراشات، واللذة، والشعور أنك في حالة عناق مع ما تحب.
وبتعبير مجازي طبعا، كانت علاقتي أنا وهانا وهيلين أشبه بالزواج، بكل تبعاته من اهتمام ورعاية، حيث لم ننسى يوما أعياد ميلادنا، ولم يحدث أن أسأنا لبعضنا أبدا. كنا نحرص على بعضنا البعض، ونتحدث بكياسة، ولباقة. وهكذا بمرو السنوات نجحنا معا، وعانينا قليلا. في حال تعرضت إحدانا للإحباط جراء النقد، نعمل معا على رفع معنوياتها وتقوية عزيمتها. ونحن على يقين أن الإساءة أوالمزاج السيء تعمل على استنزاف نقد الكتابة الخاصة بنا.
العلاقة التي بيننا تمثل نوع من الدعم المتبادل الذي نحن بحاجة إليه كي نحافظ على صحتنا، كل حلقة في سلسلة علاقتنا يجب أن تكون متينة. وعملنا على المحافظة على صداقتنا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بعد ما ذكرته سابقا، هيلين وهانا هما أفضل من عايشت من الكتاب، إنه لفخر وشرف لي أن أقرأ ما يكتبان قبل أي أحد آخر. وإنه لمن المثير أن أعلم ما ينويان القيام به لاحقا.
لست من النوع البكاء، لكنني خجولة ومتحفظة، ومع ذلك الحديث عن علاقتي بهاتين الجميلتين يدمع عينيّ. كلما نظرت لستة عشر عاما مضت تشاركنا فيها الكتب التي فشلت والتي نجحت، والأوقات الصعبة، ولحظات اليأس وسحق الآمال، وحقيقة أنه مهما حصل فإنا نتشبث بأننا من الممكن أن نفعلها، وأن نصبح كاتبات حقيقيات. كم أنا فخورة بنا!
كان لنا لقاء في الليلة الماضية في شقة هانا في بروكلين، حيث قدم لنا كلبها كانادا تحية حماسية. جلسنا حول طاولة هانا المستديرة وتحدثتنا عن أعمالنا الحالية، ومواقع التواصل الإجتماعي، وعن روايتي القادمة وأطفالي. وتناولنا طعاما تايلنديا فيما كانت تحدثنا هيلين عن رحلتها في فيغاس ولعبة البوكر، وبعد العشاء استمعنا لأغنية عزفتها هانا على القيثارة التي تعلمتها حديثا.
غادرت في وقت متأخر من الليل مع شعور بالإنتعاش كما يحدث دائما. تلك اللقاءات التي تعيد شحننا بالأمل، وتفي أذهاننا، وتهدئ أرواحنا. ثلاثتنا كنا صغيرات لنعرف الأفضل، تشاركنا القرار في المضي في رحلة مجنونة لنكون كاتبات.
نحن اللواتي امتدت علاقتنا لمدى طويل، لذلك أشعر بامتنان عظيم.
التقيت هانا وهيلين منذ ستة عشر عاما في ورشة حول “تقنيات الكتابة الإبداعية” لداني شابيرو في جامعة نيويورك. كنا في أوائل العشرينات، ولم يسبق لنا النشر من قبل. أدركنا منذ البداية أن ظروفنا متشابهة مما دفعنا لرسم طريقنا معا. كل منا كان أحد والديها يعمل محاميا، ما يعني أن كل واحدة رسم لها مسار أكاديمي محدد الأهداف بعيدا عن أي مسار آخر يحتاج للإبداع.
استمعنا بكل حواسنا ودوّنا كل ملحوظة قيلت في الورشة التدريبية، في الوقت الذي أمضى فيه بقية الطلية وقتهم مكتوفي الأيدي بجفون ثقيلة، شاردي الذهن معتمدين على التخمين. وربما يعود تميزنا عن البقية لطباعنا المشتركة، ومنها تقديس الوقت! والعمل بجد واجتهاد قدر الإمكان!
أنا وهيلين وهانا قرّرنا البدء في الكتابة معا في الصيف. وكنا على علم أن هذا الأمر مسألة مؤقتة فقط. كان لكل منا أسلوب مختلف في الكتابة فنحن أساسا تختلف عن بعضنا البعض، فمثلا هيلين الحسناء القادمة من الجنوب ذات الطلة البهية، وهانا هي العقل والعضلات، أما أنا فقد كنت الخجولة والمتحفظة. و ما اتضح لاحقا، أن الاختلاف خلق ذلك النوع من التجانس والمنافسة الشريفة، جعلنا نعمل معا بلا ضغائن وبلا أحقاد، وكل واحدة منا لها أهميتها وقراءها.
خلال عام 1995 بدأنا نلتقي أسبوعيا في شقة أي منا. في السنوات المبكرة التي أعقبت تخرجنا من المدرسة الثانوية، كنا قادمات بالكعب العالي والملابس غير الملائمة. هانا كانت تقطن في الطابق السادس من الممشى التابع لقرية الشرق، وأصرت شريكة هيلين في السكن على أن نتناول العشاء في البيت، وعدم المغامرة بالذهاب لمكان آخر، وكلما تواجد مديري في المدينة، كنت أمضي معظم وقتي في المساء على هاتفي النقال بالتحدث مع السائقين والخدم والمربيات.
مررنا بفترة هادئة بلا ضغوط، كل واحدة تعيش في عالمها، نستخدم المصاعد ونلبس الجينز. ونأكل الطعام البيتي الصنع، ونشرب ونناقش احتياجاتنا معا. عندما كنا أصغر سنا، كان كل نقد يبدأ بكمٍ من المجاملات المبالغ فيها، ببساطة كنا بحاجة للتشجيع. الآن صار المديح غير معلن في الغالب، وصرنا نعلم أننا لن نكون هنا لو كانت كتابتنا غير ممتازة، وركزنا على تجاوز نقاط الضعف في الكتابة. تبادلنا قراءة مئات الصفحات، ودوّنا الملحوظات الصغيرة. وفرنا الدعم المعنوي لبعضنا من خلال الإستشارات الهاتفية في أي مكان وفي أي وقت. وتمتعنا بحضور حفلات التوقيع والقراءة معا.
ثم صدرت رواية هيلين الأولى“Eating the Cheshire”. شاركت هانا في تأسيس مجلة One Story الأدبية، أما مجموعتها القصصية ” Animal Crackers ” فظهرت في نفس العام الذي أصدرتُ فيه روايتي الأولى وأصبحت في متناول الجميع. بعد ذلك أعقبت هيلين روايتها الأولى برواية “The Turning” للشباب اليافعين. وأصدرت هانا رواية جديدة بعنوان”The Good Thief” والتي لاقت استحسان الجمهور. في هذا العام تحديدا، قامتا بتشجيعي على قراءة مقاطع من روايتي الجديدة “A Good Hard Look”، ولو اضطرتا لقامتا بدفعي عنوة للوقوف على المنصة -لأني خجولة بطبعي-.
أدركت كم أنا محظوظة بوجود هاتين المرأتين في حياتي. بعد الدراسات العليا، يصبح أشبه بالمستحيل الحصول على رأي سديد وصادق في عملك. وإذا كنت محظوظا سيكون لديك وكيل يتابع أعمالك أو حتى محرر، ومع ذلك سيتعذر عليه القراءة لك مع أجندته المليئة بالمواعيد، مع أن هذا ما عليه القيام به. الوكلاء والمحررون لديهم أعمالهم التجارية الخاصة بهم. “مجموعة الكتابة” التي شاركت فيها، كانت تقرأ وتفكر وتناقش العمل بهدف واحد فقط، وهو أن تصل إلى أفضل ما يمكنك أن تكون عليه ككاتب. تدفعني للكتابة حد المخاطرة بطرق أبواب جديدة في السرد، والعمل على اكتشاف الشخصية المدفونة داخلي، عن طريق إعادة كتابة الفقرة التي تثير غضبي آلاف المرات بهدف الوصول للأفضل. هانا وهيلين كانتا دائما تحرصان على إبداء رأيهما بما أكتب حتى عندما لا أريد سماع ذلك.
ظهور شخصية فلانري أوكونور في روايتي “A Good Hard Look”، كان غير مخطط له. لأنه لم تكن لي أي نية لكتابة رواية تاريخية، ناهيك عن الكتابة عن رمز من الرموز الأدبية المقدسة. هذا الحضور أثار حماسي وفزعي على حد سواء. في البداية كانت تفصلني عن فلانري مسافة بعيدة، لذا لم أكتب عنها بعمق، فظهرت في الكواليس فحسب، لأني لم يسبق لي أن اقتربت منها بشكل حقيقي. وبعد كل هذا، كلما عرفت عنها أقل، كلما كان ظهورها سطحيا في روايتي.
هيلين وهانا قرأتا أول مئة صفحة من روايتي، وأخبرتاني بأني أملك خيارين لا ثالث لهما: إما أن ألغي وجود شخصية فلانري من الرواية، أو الإلتزام بالعمل على إثراء دورها بشكل أفضل. كان من المستحيل أن ألغي دورها، وسيلزمني سنوات لفهم السبب الذي يحتم حضور فلانري في أحداث الرواية، مع أني على قناعة تامة بضرورة حضورها. لذا مع دعم صديقتيّ، بدأت أتعمق بلطف في الشخصية. هل كان من الممكن الوصول لتلك المرحلة في فهم الشخصية بنفسي بلا مساعدة من أحد؟ لا أعلم، لكن من المؤكد أنه كان سيستغرق وقتا أطول حتى أصل إليه. استغرقت سبع سنوات لكتابة هذه الرواية، ولم أكن على يقين إن كانت ستحتاج وقتا أطول، لذا نصيحتهما وفرت عليّ الكثير من الوقت. (على الأقل، نصيحتهما أنقذت روايتي من الفشل، وحافظت على صورة فلانري أوكنور.)
ثم تكفل الوقت بالأمر، حيث دأبت كل من هانا وهيلين بحرص واهتمام بدا في بعض الأحيان مبالغا فيه على قراءة ومراجعة مسودة نفس الرواية على مدار سبع سنوات. ربما عانيت من هذه الرواية.. لا بل فعلا عانيت، ولكني لم أكن وحيدة بل كانتا تعانيان معي. لم أتفاجأ بالتزامهما فهذا ما تعاهدنا عليه. مضيت في الطريق الذي خطته لي كتاباتهن بلا أسئلة وبلا إضافات، وهن فعلن ذات الشيء معي. اشتهرت الكتابة أنها فعل فردي، لكننا معا جعلناها أقل وحدة مما هي عليه.
لطالما قرأت عن الكتاب الذين يكتبون بمفردهم، يجلسون على مكاتبهم في انتظار إيماءة موافقة من ناشر على ما يكتبونه، معتقدين أن هذا هو الذكاء المطلوب. وهو الأمر الذي لا أتفق معهم فيه، حيث أنه يصعب عليّ تصديق هذا النوع من الكُتاب ويلزمني وقت لاستيعاب طيفية قيامهم بذلك.
كتابة رواية هي أن تقبض على اللحظة ثم تحلق معها حتى لا تعود تشعر بما يدور حولك. فأنت تتبع القصة حتى تعيش كل تفاصيلها. هناك متعة حقيقية في أن تسبح في تيار كهذا. وهذا بالضبط ما يدفع معظمنا لفعل الكتابة التي تمنحك الفرصة لتعيش في العالم الذي خلقته بنفسك حين تكتب. والآن ما الذي تنتظره أكثر بعد هذه المتعة؟!
ولكن أثناء الرحلة يصبح من غير الممكن أن تشاهد الصخور المثيرة، وتتلفت كي ترى الجمال من حولك، ثم لا تنسى مفترق الطرق حيث يتوجب عليك أن تختار أحيانا. الروائي لديه رؤية مهما اتسعت تظل محصورة فيما يكتبه. هيلين وهانا سمح وجودهما بأن تتسع رؤيتي لكل ما يحتويه النص وهوامشه.
أستعرض فيما يلي كيفية القيام بذلك بطريقة عملية:
أسلمهما نسخة مما عانيت على مدى أشهر لكتابته، على أن تكون تلك النسخة نهائية وأكون راضية عنها تماما. تقوما بعدها بقراءتها قراءة متأنية ووافية، ثم تعملان بعدها على أربعة أو خمسة أخطاء لمعالجتها. كل كاتب يبحث عن قارئ ليعد له أو لها الأفضل.
جي كورتني سوليفان، مؤلفة الرواية الأكثر مبيعا ” Commencement “وهذا العام انتهت من روايتها الجديدة ” Maine “، لديها عدد كبير من القراء على أنواعهم. تشرح الأمر قائلة:
“لدي صديقان يقرآن تفاصيل كل ما أكتب من قصص، أحدهما كاتب ومحررلنفسه، والآخر زميلي في الجامعة والذي يعمل محاميا في وزارة العدل. وأفضل أصدقائي كان زميلا لي في الثانوية، يعمل محاميا، عادة يكون أول من يقرأ رواياتي. وصديق آخر هو محرر سابق لمجلة، قرأ المسودات الأولى لرواياتي ونصحني بتعديلات تفصيلية لاتصدق.
هزت رأسها وابتسمت ثم قالت: “ليس لدي فكرة لماذا هؤلاء الناس قدموا لي وقتهم بسخاء. حقا لقد كنت محظوظة على مدى سنوات، ربما يعود ذاك لحقيقة أني ماهرة في إعداد طبق الدجاج المشوي وكيكة الشوكولاتة.” تجربة كورتني مع الكتابة في مجموعات تثبت أنه لا توجد قواعد في هذه اللعبة.
“مجموعات الكتابة” لا تحتاج أشخاص في نفس العمر أو نفس الجنس، أو علاقات على مدى سنوات، إذا كان جارك جزارا ولديه نظرة ثاقبة دعه يقرأ عملك، وإذا كانت أمك تملك مشورة مميزة دعها تفعل. وهكذا دع الناس تقرأ لك فكل منهم سيكمل الآخر بحيث ستحصل في النهاية على نتيجة مميزة.
عندما أقدم مسودة، تقوم هيلين بمعالجة التفاصيل، وإعادة ترتيب الفقرات من جديد، وكتابة الجمل في الهامش. أما هانا فمن غير الممكن أن تترك حبرا على الصفحة، حيث تدون كل ملاحظاتها حول سير الأحداث في القصة والحبكة والشخصيات. وردود الفعل منهما نادرا ما تتداخل مع بعضها وإن حدث ذلك فإني أقوم على الفور بمعالجة الأمر. كورتني ببساطة لديها عدد أكبر من القراء تقوم معهم بذات الشيء ألا وهو النقد البناء.
راي ميدوز مؤلفة رواية “Mothers and Daughters”، والتي يتنوع قراؤها من رواية لأخرى، تقول: “دائما لدي قراء أساسيين: زوجي الذي يعد أقسى ناقد لي، وأخته الطيبة، وأختي الصغرى التي تقع في منطقة بينهما.
وفيما يخص روايتي الأخيرة، جمعتني صداقة حقيقية ومساعدة كبيرة بمجموعة للكتابة في ماديسون، حيث عشت حتى الخريف.
النساء الأربع الأخريات في المجموعة، كن روائيات يتسمن بالصراحة والحرص والدعم مع حرفية عالية في فن السرد، الأمر الذي جعل عملية المراجعة توصف بأنها ثاقبة ومفيدة. كم أفتقد ان أكون جزءا من تلك المجموعة.”
نادرا ما يأخذ الكتاب بآراء القراء كأمر مسلم به، لذا العثور على هذه النوعية من الأشخاص الذين لا يكتفون فقط بتحليل النص وإنما يقومون بإثرائه، هو أمر صعب تكراره. فهناك سحر خاص في هكذا علاقة.
وأشارت راي قائلة:” أن تشرك أحدًا ما في عملك هو فعل ينطوي على نوع من الحميمية، ويكاد يكون أمرا مستحيلا أن تجد الآخر الذي يملك وجهة نظرتحوز على رضاك فيما تكتب، ويخبرك بما يتوجب عليك حذفه أو تعديله بطريقة محببة للنفس، لدرجة تدفعك للجلوس معه لأكثر من مجرد فنجان قهوة.”
يجب أن يكون القارئ صديقًا، روحه تشبه روحك، لا بل أكثر من ذلك. عندما تختار الكاتبة مثلا أن تتعامل مع شخص ما فإنها تتجرد من روحها لتنصت بكل ثقة وشغف. عندما يجد الكاتب القارئ الجيد، عليه أن يتمسك به ويحافظ عليه. في عملية تشبه الوقوع في الحب. ذات الأجواء حيث الفراشات، واللذة، والشعور أنك في حالة عناق مع ما تحب.
وبتعبير مجازي طبعا، كانت علاقتي أنا وهانا وهيلين أشبه بالزواج، بكل تبعاته من اهتمام ورعاية، حيث لم ننسى يوما أعياد ميلادنا، ولم يحدث أن أسأنا لبعضنا أبدا. كنا نحرص على بعضنا البعض، ونتحدث بكياسة، ولباقة. وهكذا بمرو السنوات نجحنا معا، وعانينا قليلا. في حال تعرضت إحدانا للإحباط جراء النقد، نعمل معا على رفع معنوياتها وتقوية عزيمتها. ونحن على يقين أن الإساءة أوالمزاج السيء تعمل على استنزاف نقد الكتابة الخاصة بنا.
العلاقة التي بيننا تمثل نوع من الدعم المتبادل الذي نحن بحاجة إليه كي نحافظ على صحتنا، كل حلقة في سلسلة علاقتنا يجب أن تكون متينة. وعملنا على المحافظة على صداقتنا، بكل ما تحمله الكلمة من معنى. بعد ما ذكرته سابقا، هيلين وهانا هما أفضل من عايشت من الكتاب، إنه لفخر وشرف لي أن أقرأ ما يكتبان قبل أي أحد آخر. وإنه لمن المثير أن أعلم ما ينويان القيام به لاحقا.
لست من النوع البكاء، لكنني خجولة ومتحفظة، ومع ذلك الحديث عن علاقتي بهاتين الجميلتين يدمع عينيّ. كلما نظرت لستة عشر عاما مضت تشاركنا فيها الكتب التي فشلت والتي نجحت، والأوقات الصعبة، ولحظات اليأس وسحق الآمال، وحقيقة أنه مهما حصل فإنا نتشبث بأننا من الممكن أن نفعلها، وأن نصبح كاتبات حقيقيات. كم أنا فخورة بنا!
كان لنا لقاء في الليلة الماضية في شقة هانا في بروكلين، حيث قدم لنا كلبها كانادا تحية حماسية. جلسنا حول طاولة هانا المستديرة وتحدثتنا عن أعمالنا الحالية، ومواقع التواصل الإجتماعي، وعن روايتي القادمة وأطفالي. وتناولنا طعاما تايلنديا فيما كانت تحدثنا هيلين عن رحلتها في فيغاس ولعبة البوكر، وبعد العشاء استمعنا لأغنية عزفتها هانا على القيثارة التي تعلمتها حديثا.
غادرت في وقت متأخر من الليل مع شعور بالإنتعاش كما يحدث دائما. تلك اللقاءات التي تعيد شحننا بالأمل، وتفي أذهاننا، وتهدئ أرواحنا. ثلاثتنا كنا صغيرات لنعرف الأفضل، تشاركنا القرار في المضي في رحلة مجنونة لنكون كاتبات.
نحن اللواتي امتدت علاقتنا لمدى طويل، لذلك أشعر بامتنان عظيم.