أعرت منذ سنين خلت زميلا في الدراسة ديوان شعرعربي فأعاده إلي مشكورا بعدما أشبعه قراءة ودرسا ،جريا على العادة وضعته في مكانه المعهود بين الكتب في رف من الرفوف ونسيت أمره تماما إلى أن جاء اليوم الذي استبدلت فيه مكتبتي القديمة بأخرى جديدة وشرعت في ترتيب الكتب حسب الأولوية والأهمية ،الكتب التي أوليها قداسة خاصة ولا أراها مجرد مجلدات مذهبة وأغلفة ملونة بعناوين متنوعة في شتى مجالات المعرفة وإنما أمخاخ مكشوفة تلوح منها العبقرية وقلوب عارية تنبض بروعة الأحاسيس وجلال الأفكار وعظمة المشاعر التي أودعها الله فينا لتعطي حياتنا معنى أسمى وأجمل ولا أظنني أبدا أبالغ إن قلت أنني أحرص على سلامة الكتاب من التّلف كما تحرص الأم على صحة رضيعها من التدهور احتراما للمؤلف الذي منحنا عصارة فكره وحفاظا على المصنّف الذي أعتبره أثمن من الجواهروالحليّ المصوغة فأكره ما أكرهه الكتب المهترئة التي تشي بإهمال القارئ لها وعدم حفاظه على محتواها و شكلها الأنيق ،ولو خيرت بين هدايا كثيرة في المناسبات السعيدة لوقع اختياري مباشرة على كتاب أجد فيه ضالتي وأحصل من خلاله على معلومة تضيف شيئا مهما إلى رصيدي المعرفي وفضلا عن هذا كله كنت كلما هممت بتنظيم فوضى كتبي أقتطع من الوقت المخصّص للقيام بتلك المهمة التي لا أراها أبدا سهلة بضع دقائق أجدد بها فكري وأدرأ بها السأم الذي ينتابني جراء الحركات الروتنية التي أقوم بها ضمن نفس الدائرة ،حركات قد تستغرق ساعات تأنف منها طبيعتي التي تنزع إلى الانطلاق وتأبى الثبوت طويلا في مكان معين إلا للضرورة القصوى،أجل كنت دوماأخصم من الزمن دقائق أقضيها في تصفح كائن من الكائنات الورقية ،كتاب سبق أن استأثر باهتمامي وعلق شيئا من بهاء مضمونه بذاكرتي، حافظتي التي لا تفوتها شاردة ولا واردة إلا وخبأتها في قرار مكين من تلافيفها فما بالك إذا كان الأمر يتعلق بالمضمون الهادف والقيم الجمالية بمدلولاتها المتعددة التي يقف أمامها العقل خاشعا مبهورا ومثلما تلمع النجوم في الليلة الداجية تلألأ فجأة عنوان ذلك الكتاب الذي مكث طويلا بين راحتي رفيقي كماأشرت آنفا فتلقفته جذلى من بين أكداس الكتب طلبا للاسترخاء وفتحته على الصفحة التي توجد فيها أحب القصائد المغضوب عليها إلى قلبي، نص محدد بذاته من بين تلك النصوص الثائرة المتهدجة بمواقف الشاعر المتمردة وسخريته اللاذعة من نرجسية الحاكم العربي و تشبثه الأعمى بكرسي الحكم على حساب مصلحة الشعب والوطن،قصيدة كنت حتى وقت قريب أحفظها عن ظهر قلب وأتداوى بقراءتها سرا وعلانية من نوبات الحزن التي تنتابني جراء تردي الأوضاع في وطني الأم ووطني الكبير الممتد من الجرح إلى الجرح الغارق في مشاهد العنف ونثارالأشلاء وسيول الدم والدموع ومعضلة الفقر والتهميش والبطالة وقمع الحريات وبدل أن أسترسل في القراءة كالمعتاد صرفت النظرتماما عن الموضوع وانقلبت الإستراحة القصيرة التي منيت بها نفسي إلى غم و توتر وسخط لمّا اكتشفت بعد مضي كل تلك السنوات أن الزميل قد صال وجال بقلمه الرصاص مسجلا ملاحظاته تارة في الهامش وتارة أخرى بين ثنايا السطوركما لو كان الديوان دفترا للواجبات المدرسية ناسيا أو متناسيا أن الكتاب أمانة أودعت لديه وأنه لا يحسن بعاقل أن يرتكب ذلك الخطأ الفادح في حق خير جليس ؟