أ. د. عادل الأسطة - حيفا في الذاكرة : ( فصل من كتاب " مدن فلسطينبة: العين والذاكرة والأدب") حيفا

1
في حيفا ، وأنت على الكرمل ، تعود بك الذاكرة إلى 49 عاما خلت:
" هنا صعدت في 1968 ورأيت البحر الأبيض المتوسط لأول مرة ".
ستظل تحن إلى هذا المنظر الذي لم يمح من الذاكرة ، وستظل تنشد رؤية المتوسط ، ثانية ، من أعلى الكرمل.
أمس تذكرت راشد حسين وأحمد دحبور . كان الثاني في 1997 أصدر ديوانه " هنا..هناك " وأورد فيه قصائد كتبها عن زيارته المدينة التي ولد فيها وهاجر منها وعمره عامان ، وكان صدر ديوانه بمقطع راشد:
" أتيت الطب في نيويورك
أطلب منه مستشفى
فقالوا أنت مجنون ولن يشفى
أمامك جنة الدنيا
ولست ترى سوى حيفا " .
وتتذكر كلام أم أحمد لابنها ، وهما في المنفى . وتتذكر كلام أحمد نفسه :
" حيفا هي الجنة ومن لم يصدق فليسأل أمي".
في حيفا تكرر كلامه : " حيفا هي الجنة ومن لم يصدق فليسأل أمي " .
أمس كنت في الجنة.

2 :
في حيفا تتذكر أهل حيفا ممن أقاموا في المخيم الذي أقمت فيه .
تعود بك الذاكرة أيضا إلى عقود من السنين . أبو عوض المسؤول عن توزيع المياه في المخيم ؛ زوجته وأبناؤه وأصغرهم محمد ، وكان صديقك.
كان أهل حيفا الأكثر انفتاحا من بين اللاجئين والأكثر تمدنا ، مثل أهل يافا. وربما يعود ذلك إلى ماضيهم في المدينة التي شهدت قبل 1948 انفتاحا وتعدد سكان وتنوع مشارب و اختلاف ديانات وبعض تعايش.
كانت لأهل حيفا لهجة خاصة بهم ، ففي حين كنا نقول " هلأ " - الآن - كان أبو عوض وأبناؤه وبقية أهل حيفا يقولون " إسه " - هذه الساعة -.
هل كنا نعتناهم بأهل " إسه " ؟
ومن عرفت منهم كان أكثرهم ميالا إلى المرح والانبساط.
في حيفا أوقف سامح خضر الحافلة وهبط منها وذهب ليسلم على معارفه ، وحين عاد عادت معه امرأتان فسلمتا علينا ثم غادرتا.
كانت المرأتان ترتديان ملابس عادية . وكانت لهجتهما لهجة أهل حيفا.
وفي حيفا القديمة التي ظلت تقريبا على ما كانت عليه قبل 1948 تتذكر مقولة اميل حبيبي:
" لولا الفلسطينيون الباقون لصارت فلسطين أندلسا ثانية"
ويعني لما بقيت هناك لغة عربية وأدب عربي وعادات عربية ولتهودت فلسطين تماما.
هل تفهمت ، وأنت في حيفا ، لماذا أصبح سعيد أبو النحس المتشائل متعاونا ؟ ولماذا عاد اميل حبيبي عام 1948 متسللا؟
" إسه ربما فهمت " على حد تعبير أهل حيفا.

3
( في الطريق إلى حيفا : الكرمل الملتهب ):
خلافا للمرات الكثيرة التي كنت تدخل فيها إلى حيفا ، حيث كنت تدخلها من جهة جنين ، من السهل ، تدخل حيفا هذه المرة من الكرمل هبوطا إلى المدينة ، ولا تصعد إلى الكرمل ، من وسط حيفا بواسطة القطار الكهربائي ، كما صعدت إليه في المرة الأولى وهي الوحيدة قبل زيارتكم هذه.
في الطريق إلى الكرمل ، بواسطة الحافلة ( الباص ) تشاهد الكرمل الملتهب الذي احترقت أشجاره مرات عديدة.
ما زالت آثار الحرائق واضحة ، فلم تنم الأشجار ولم تعد الجهات المسؤولة أصلا زراعتها ، لخلاف في وجهات النظر ، كما فهمت من الدليل.
هل يعاد تشجير المنطقة التي احترقت أم يترك الأمر لتنمو الأشجار وحدها؟
وأنت تشاهد الكرمل المحترق تتذكر ما كتبه محمود درويش في قصيدته " النزول من الكرمل " 1974 ، وتكرر بعض أسطر تعلق في الذاكرة:
" أحب البلاد التي سأحب
أحب النساء اللواتي أحب
ولكن غصنا من السرو في الكرمل الملتهب
يعادل كل خصور النساء
وكل العواصم "
وأنت تمعن النظر في الأشجار المحترقة التي لم يبق منها إلا بقاياها تنتابك الحسرة وتتذكر ما كتبه حسن البطل عن حرائق الكرمل .
لقد أراد الصهيونيون الأوائل تغيير معالم الطبيعة فاستبدلوا اليوكاليبتوس بالزيتون وشجر اليوكاليبتوس لا يناسب المكان الفلسطيني ، ولهذا استمر الحريق واتسع ، ولو بقيت أشجار الزيتون في المكان لما تسارع الحريق واتسع واستمر أياما . هل هذا ما كتبه حسن البطل ؟
وأنت في الطريق إلى حيفا ، عبر الكرمل ، تتساءل :
- أيهما أجمل : البيت أم الطريق إلى البيت؟

4
وأنت على الكرمل تنظر إلى البحر الأبيض المتوسط فتعود بك الذاكرة إلى نهاية 60 القرن 20 حيث وقفت الوقفة نفسها ولم تعد تقفها وتظل عالقة في الذاكرة حتى يومك هذا ، وتظل تتمنى أن تقف الوقفة نفسها .
تتذكر أن العمر ليس بالسنوات ، وإنما هو باللحظات وتضحك . تضحك لأنك تتذكر نكتة جبر من ( ك... ) أمه للقبر ، النكتة التي أوحت لك في أوج حصار انتفاضة الأقصى بقصتك " يوميات جبر الفلسطيني في العيد".
" نحن نحيا لحظات قليلة جدا ".
تخاطب نفسك
" ومنها الوقوف على الكرمل ورؤية البحر من هناك " .
أخذت تنظر إلى صفحة البحر ، إلى وجه البحر ، إلى سطحه ، والشمس تنعكس عليه ، بدهشة . كما لو أن سطح البحر ، وجهه ، صفحته ، مرآة . هل تذكرت " النزول عن الكرمل " ثانية؟
" أحب البحار التي سأحب
أحب الحقول التي سأحب
ولكن قطرة ماء بمنقار قبرة في حجارة حيفا
تعادل كل البحار
وتغسلني من ذنوبي التي سوف أرتكب "
وتمعن النظر في البحر والسفن و ....و ..." ليس العمر بالسنوات"

5
في حيفا تتذكر قصيدة محمود درويش " أحمد الزعتر " وتهمس :
" وحيفا من هنا بدأت وأحمد سلم الكرمل وبسملة الندى والزعتر البلدي والمنزل".
وكما كنت تحلم منذ سنوات بزيارة حيفا فإن آلاف الفلسطينيين مثلك يحلمون بزيارتها . " الفرحة لا تكتمل وثمة ما ينغصها".
وفي حيفا تتذكر " اخطية " و " انتظار " . تتذكر اميل حبيبي وسلمان ناطور اللذين رصدا ما مرت به المدينة منذ عهد الانتداب حتى العام 2008 . أنصف الأول ولم ينصف الثاني.
تهمس :
" من يرد قراءة حيفا فليقرأ هذين "
وفي الهبوط من الكرمل تتذكر رحلة سلمان اليومية من الدالية إلى المدينة ليواصل عمله في جريدة " الاتحاد".
" لو كان سلمان حيا لطلبت منه أن يريني بيت شاعرنا الوطني ( أبو سلمى ) . لو!".
منذ 1993 حتى سنوات قريبة كان الوصول إلى حيفا صعبا . ها هو التقدم في العمر يأتي بمزايا منها " زيارة حيفا " .
هل ثمة متحف باسم أي أديب فلسطيني ممن برزوا في المدينة ؟
ولا يخطر هذا السؤال ببالك وأنت هناك فالشوارع كلها غدت اسماؤها عبرية والمدينة تهود بانتظام .
كان مرشدنا يذكر اسم الشارع العربي والاسم العبري الجديد وكنت تتذكر " اخطية " 1985 و " عائد إلى حيفا " 1969 وأسماء المدينة فيهما . هذه قيمة من قيم الأدب وأهمية من أهمياته ( ؟ ).
" حيفا ! أهذي هي أم قرينة تغار من عينيها ؟ "
صرخ أحمد دحبور حين رأى المدينة .

6
في حيفا تتذكر أول كتاب قرأته عن معارك 1948 بين سكانها الفلسطينيين والعصابات الصهيونية التي انتصرت فطردت الأولين .
في حيفا تتذكر المحامي توفيق معمر الذي يعد من أوائل كتاب حيفا بعد 1948.
كان معمر أصدر مجموعة قصصية تحفل بأحكام صهيونية قراقوشية عنوانها " المتسلل وقصص أخرى " 1957 ، ورواية ( ؟ ) عنوانها " حيفا في المعركة ، أو مذكرات لاجيء".
هل تأثر الكاتب وهو يكتب روايته بالأجواء السائدة في حينه ؟
يكتب معمر عن ضابط انجليزي أثار الفتنة بين الفلسطينيين واليهود ، فقد كان يؤلب هذا الطرف على ذاك ويمد ذاك بمعلومات عن الآخر وهذه الفكرة راجت لدى بعض كتاب فلسطين الباقين .
وفي حيفا تتذكر كتاب ( ايلان بابيه ) " التطهير العرقي " وما ورد فيه عمن بقي من سكان المدينة فيها .
رغب ( بن غوريون ) في طرد العرب كلهم ولكن ضابطه أوضح له تبعات ذلك :
" إن طردناهم فلن نجد من ينظف ويخبز ويقوم بالأعمال الحقيرة ( ؟ ) ". وتتذكر ما ورد عن العمال العرب في رواية اميل حبيبي " الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس .." والأعمال التي قاموا بها .
وستعرف أن كتابي معمر أعيد إصدارهما وتتمنى لو تحصل على نسخة منهما لا لقيمتهما الأدبية ، فهذه غير متوفرة ، ولكن لقيمتهما التاريخية .
في حيفا تتذكر مكاتب " الاتحاد " و " الجديد " وفرح الحصول عليهما ؛الفرح المشوب بالخوف من الاعتقال ودفع الغرامة .
و أنت ، في حيفا ، مثل سارد " اخطية " ، يلم بك حنين إلى حيفا في حيفا .

7
وأنت على الكرمل تنظر إلى المتوسط وتمعن فتتذكر ما قاله بروفيسور عراقي هاجر في العام 1948 إلى فلسطين .
كان البروفيسور يومها شابا وغادر وطنه العراق كارها وشعر أنه يدفع ثمنا باهظا فالعراق لا بديل له ولا وطن يعدله .
في الطائرة التي أقلته نظر إلى الكرمل فراقت له الطبيعة وظل المنظر عالقا في ذهنه ، وحين كتب ،بعد سنوات ، عن رحلة الخروج من العراق أتى على رحلته في الطائرة ورؤيته الكرمل ، وكتب أنه ما إن رأى جمال الكرمل حتى شعر بأن المكان الجديد يعوض المكان الذي فقده .
هل كان ذلك البروفيسور ( شمعون بلاص ) أم ( ساسون سوميخ ) أم ...؟
وأنت على الكرمل تقول:
إن المخيمات التي أقيمت لنا كانت أيضا عزاء لأهلنا حين فقدوا يافا وحيفا وقراهم وساحل المتوسط ، وظلت المخيمات التي ضاهت في تطورها باريس وفيينا ولوكسمبورغ وشمال ايطاليا ، ظلت عزاء لأهلنا وأولادهم وأحفادهم .
من قال لا شيء يعدل الوطن ؟!
المخيمات الفلسطينية في وضعها الحالي أجمل من يافا وحيفا والشانزليزيه أيضا.
وأنت على الكرمل تتحسر وتكرر مع أحمد دحبور :
حسرتها علي أم يا حسرتي عليها .

8
وأنت في حيفا تتساءل عما يقال من أنها مدينة حديثة النشأة قياسا إلى يافا وعكا والقدس.
أكثر المدن الفلسطينية حضورا في الأدبيات العربية في فترة الحروب الصليبية وما بعدها ، حتى غزو ( نابليون بونابرت ) فلسطين ، هي المدن المذكورة ولم تحضر حيفا.
تتذكر ما قيل عن بروز المدينة وحضورها .
ازدهرت حيفا في فترة الانتداب البريطاني لفلسطين . أنشأ الانتداب ال ( ريفانيري ) - مصفاة تكرير البترول - وبنى الميناء الذي أخذ يحل محل ميناء يافا ، وأما سكة حديد الحجاز فتعود إلى زمن الدولة العثمانية . ولا تتمنى لو أن اميل حبيبي على قيد الحياة لتسأله ، فقد سأل سعيد الشخصية الأساسية في الرواية ، معلمه ، عن المدينة - ويبدو أن الأمر كان لافتا حقا - .
في " المتشائل " في الرسالة التي عنوانها " الإشارة الأولى من الفضاء السحيق " ( 9 ) تقرأ الآتي عن حيفا :
" - ومدينتي حيفا ، أيضا ، مقدسة ؟
- كل مكان في بلادنا قد تقدس بدماء المذبوحين ويظل يتقدس يا بني ومدينتك حيفا لا تختلف عن بقية مدننا المقدسة ...................
فحيفا ليست مدينة جديدة يا بني ، إلا أنه بعد كل مذبحة ، لم يبق فيها من يخبر الذرية بأصلها"
وياتي المتكلم على ما فعله الصليبيون بالمدينة بعد أن احتلوها بعد سنة 1099 " بعد أن حاصرها أسطول البندقية شهرا . فذبحوا أهلها عن بكرة أبيهم ، رجالا ونساء وأولادا".
وأنت في حيفا تتساءل :
كم تبعد الطنطورة عن حيفا ؟
وتترحم على اميل حبيبي ثانية فقد أنصف في أدبه مدينته.

9
في حيفا ، تنظر إلى حديقة البهائيين . إنها إحدى معالم المدينة التي يزورها الناس ولطالما تردد لفظ البهائيين على ألسنة الفلسطينيين ، منذ تولى رئيس الدولة السيد محمود عباس الرئاسة ، ولطالما أوضحت للذين يخلطون بين محمود عباس ومحمود عباسي أن هناك التباسا في الأمر ، فالأول غير الثاني . الأول من صفد والثاني ، كما أخبرك فاروق مواسي ، من أم الفحم ، وكنت تظنه من شفا عمرو ، وكنت أنت تعرفت إليه ولم تقابل الأول الذي اقترح عليك مرة استقباله مع 50 شخصية اعتبارية فاعترضت المخابرات الفلسطينية على اسمك .
تعود بك الذاكرة إلى 70 القرن العشرين حيث التقيت في نابلس بالدكتور محمود عباسي الذي كان يطبع مجلة " المشرق " الصادرة عن مؤسسة إسرائيلية في مطبعة أبي أحمد خليفة وقد حصل من جامعة حيفا على الدكتوراه في القصة القصيرة في فلسطين 1948 منذ قيام الدولة المصونة ، دولة أبناء العمومة لا دولتنا المبجلة .
وكان محمود عباسي أصدر مجموعة قصصية عنوانها " في الهزيع الأخير " ورواية عنوانها " حب بلا غد " وذلك في 60 القرن 20 وكان يدعو إلى التعايش .
حديقة البهائيين في حيفا معلم من معالمها ويزورها الناس ولم تزرها أنت ، لأنك لم تتجول في شوارع حيفا ولكن الدليل ذكر أن أصحابها مولعون بالأرقام 9 و 19 و 29 حتى 99 - لعل الذاكرة لم تخنك . ومن الروائي ربعي المدهون ومن الدليل تعرف ان البهائيين طائفة غنية جدا وأن كل فرد منهم يتبرع كل صباح لطائفته بدولار وتتحسس دولاراتك في جيبك حتى لا تطير إلى الحديقة فيشاع عنك ما يشاع عن رئيس دولتك اللفظية .
هل ذكر أي من الروائيين الفلسطينيين شيئا عن هذه الطائفة ؟

10
لا تسير في شوارع المدينة ، فأكثر الساعات الثلاثة قضيتها في الكرمل ، في مطعم وعلى قمة الجبل تنظر إلى البحر وتتذكر المنظر الأسطوري ، وهذا كنت تنشده وتتمناه منذ سنوات .
لا تذرع الشوارع التي ذرعتها من قبل ولا تتعقب خطى الأبطال الروائيين الذين قرأت عنهم ، ولا تسير الخطى التي سار عليها الكاتب سلمان ناطور برفقة المحامي حنا نقارة ، بحثا عن بيت أبي سلمى ، وقد دون ما قام به في كتابه " هل قتلتم أحدا هناك ؟ " الذي هو شبه سيرة ذاتية له راق لك فكتبت عنه عشر صفحات نشرتها في جريدتي " الاتحاد " و " الأيام " في آيار من العام 2000 .
كتب سلمان عن بيت أبي سلمى تحت عنوان ".المفتاح " في الصفحة 85 وما تلاها . وكان البيت في شارع البساتين في حي الألمانية الذي مرت الحافلة به وتحدث عنه الدليل.
كل ما أنفقته في شوارع حيفا ثلاث دقائق بحثت فيها عن مكان تفرغ فيه مثانتك تحسبا لمواصلة الرحلة . فأين كتابتك من كتابة سلمان الذي أنفق جل عمره هناك وعمل في مكتب الشاعر الذي غدا مكتب الجريدة .
هل استبد بك حنين إلى زيارة مكاتب جريدة " الاتحاد "ومجلة " الجديد"؟

11
في حيفا تذرع قدماك 100 متر فقط . تريد إفراغ مثانتك تحسبا لمواصلة الرحلة إلى عكا ، فتدخل إلى مطعم قريب وتدرك ببصيرتك أن عماله عرب ، فلطالما قرأت في الأدبيات الفلسطينية أن ثمة مهنا لا يمارسها إلا العرب .
في قصته الطويلة " الصورة الأخيرة في الألبوم " 1979 يكتب سميح القاسم عن أمير الحاصل على ماجستير في العلوم السياسية ويعمل نادلا في مطعم ، وكان توفيق زياد ، من قبل، في قصيدته " هنا باقون " أتى على المهن التي يعمل فيها العرب في الدولة الإسرائيلية ولم يخجل بذكرها فثمة ما هو أهم هو البقاء في الأرض " ولا نرحل " . وقد كتب الشيء نفسه فوزي الأسمر في كتابه " أن تكون عربيا في إسرائيل " .
تسأل الشاب العربي عن المرحاض فيشير إليه .
وأنت خارج من الحمام تصغي إلى اللغة العربية . ثمة خمسة ستة رجال يتكلمون بها بصوت عال .
- ما زالت حيفا عربية . تقول وتتذكر من جديد اميل حبيبي :
لولا العرب الباقون لصارت فلسطين أندلسا ثانية . نحن من حافظنا على الوجه العربي الباقي لفلسطين .
وأنت تتحدث عن مفهوم البطولة في أدب الانتفاضة في ندوة معرض الكتاب في رام الله بتاريخ 7 / 5 / 2018 تأتي على ما قاله حبيبي وتتحدث عن سعيد المتعاون ، ولكنه كان من خلال تعاونه يقوم بعمل بطولي يتمثل في البقاء على أرض الوطن
وأخيرا ، تخاطب نفسك ، ها هما قدماي ، بعد غياب 31 عاما تطأان أرض حيفا .
هل فكرت في البحث عن جريدة " الاتحاد " لتشتريها ؟ وهل تساءلت إن كانت مجلة "الجديد " ما زالت تصدر ؟ وتترحم على تلك الأيام .

12
في حيفا تتذكر الشاعر راشد حسين وعلاقته بالمدينة وبجارتها " عكا " .
وأنت تدرس مدن الشاعر وصورة القدس فيها يلفت انتباهك قصيدة يعبر فيها عن حبه حيفا وعكا ومن منهما يحب أكثر ويرى فيهما مدينتين جميلتين تتقاسمان قلبه . القصيدة هي " عكا والبحر " وفيها يخشى راشد إن رفضت عكا مشاعر البحر النبيلة أن ينصرف إلى جارتها الجميلة : "حيفا " وحيفا ان نقصها نسب عكا الأصيل فإن ثراءها يشرفها وإن كرمها فضيلة . ويخص راشد حيفا بقصيدة يذهب فيها إلى أن بعض الناس يرون فيها موطن الذهب أو مسرحا للفاتنات وسوق أقمشة الحرير .
لا تعرف ماذا يقول أهل حيفا في أهل عكا ولا ما يقوله أهل عكا في أهل حيفا . أكثر الآراء هي في أهل الخليل وأهل نابلس وطبعا لا تنسى يافا .
لا تذكر ، وأنت في المخيم ، أنك سمعت ما يقوله أهل هذه في أهل تلك ، وربما يعود السبب إلى أنك لم تتعرف إلى أهل عكا أنفسهم .
في أثناء زيارة عكا تنظر إلى حيفا ويبدو المنظر آسرا . تصغي إلى سامح خضر يقول نكتة عن أهل حيفا و رأيهم في أهل عكا . " أهل حيفا لا يحبون عكا و أهلها ويقولون:
" أجمل ما في عكا رؤية حيفا منها " .
من أين أتى بالنكتة ؟ أنت تصغي إليها أول مرة . فماذا يقول العكيون في الحيفاويين؟

13
حين كنت تزور حيفا قبل أكثر من ثلاثين عاما وعام كنت تستقل الحافلة من نابلس إلى جنين ومن جنين تستقل حافلة ثانية إلى حيفا . لم تكن عائدا وكنت تعرف أنك زائر عابر ولهذا لم تتحسر كما تحسر أحمد دحبور ، ولم تستخدم مفردات استخدمها محمود درويش بعد ( أوسلو ) .
قبل 1970 قال درويش :
" نحن في لحم بلادي ، هي فينا "
وبعد ( أوسلو ) قال إنه زار حيفا وأنه لم يعد ، تماما كما كتب أحمد دحبور :
" وصلتها ولم أعد إليها " .
أول ما كانت الحافلة تقف في حيفا كنت تصعد الدرج المؤدي إلى مكتب مجلة " الجديد " وتواصل السير إلى مكتب جريدة " الاتحاد " . إلى مكتب المحامي عبد الكريم الكرمي ( أبو سلمى ) قبل قيام الدولة المصونة ، دولة أبناء العمومة .
قرب مكتب الجريدة كان ثمة ما يشبه سوق خضرة . ترى الحيفاويين يبيعون ويشترون . ترى الحياة تدب . ترى الحياة في بكارتها وطزاجتها كما لو أنه ليس ثمة احتلال وكما لو أن حيفا ما زالت حيفا التي استرجع أميل حبيبي صورتها في روايته " اخطية " وانتابه حنين إليها .
من قال إن ظاهرة الوقوف على الأطلال انتهت في الأدب العربي ؟
ستلفت النصوص الأدبية الفلسطينية انتباهك إليها وكان اميل حبيبي ممن استرجعوا زمن حيفا العربي وكتب عن طفولته فيه بتفصيل لافت . وسيواصل سلمان ناطور المهمة . ( أحيانا تكرر الكتابة. أحيانا ) .
وأنت تمر في حيفا مرورا عابرا تتمنى لو أنك تمتلك الوقت لتخطو الخطى التي خطوتها قبل عقود : أن تهبط الدرج المؤدي إلى القطار الكهربائي لتصعد إلى الكرمل ، وأن تذرع الشوارع التي ذرعتها ، وأن تصعد الدرج المؤدي إلى مكتب مجلة " الجديد " فجريدة " الاتحاد " وأن تقف في سوق الخضار والفواكه لتصغي إلى لهجة اهل حيفا .
ثلاث دقائق فقط ومرور عابر في الحافلة ودليل يتكلم عن المدينة و ...
هل تذكرت أدباء الحزب الشيوعي الذين التقيت بهم ؟
هل أهدوك بعض قصصهم أو أشعارهم ؟

14
في حيفا تتمنى لو تزور مكاتب مجلة " الجديد " وجريدة " الاتحاد ".
هل ما زال مكتب مجلة " الجديد " في مكانه ؟
مرة في سبعينيات القرن العشرين زرت المجلة بصحبة القاص جمال بنورة والكاتب محمد كمال جبر .
كان الشاعر سميح القاسم يجلس وحيدا . يومها تحدثتم عن الرسائل المتبادلة بين اميل حبيبي وسحر خليفة ، وكانت الرسائل ، وهي قليلة ، نشرت على صفحات " الجديد " ، وبعدها واصلتم السير إلى مكتب " الاتحاد " والتقيتم بالمحررين هناك . القاص حنا ابراهيم والكاتب عفيف صلاح سالم ورحب بكم اميل حبيبي وسرعان ما انسحب إلى مكتبه .
في ذلك الزمن كانت الايديولوجيا تتحكم في الصداقات وكان حنا ابراهيم شيوعيا ملتزما ولما عرف أنكم من الضفة - وكان جمال بنورة أصدر مجموعة " العودة " عن دار صلاح الدين ، وهي يسارية - فقد أهداكم حنا مجموعته " ازهار برية " : " إلى إخوتي في الهم " كتب وكان جادا ومكشرا كما لو أن الكشرة دلالة على الصدق.
في حيفا تتذكر تلك الزيارة وتتذكر زيارات أخرى التقيت فيها بالكاتبين سلمان ناطور وانطوان شلحت .
من بقي من هؤلاء في " الاتحاد " ؟
وماذا لو زرت مكاتب الجريدة الآن
؟ أغلب الظن أنك لن تعرف أحدا ولا تعرف إن كانت سهام داوود عادت إلى الجريدة لتواصل عملها فيها !
ثمة حنين في حيفا إلى حيفا تلك . هل خرجت أنت من معطف اميل حبيبي أم من معطف محمود درويش أم من معطفيهما معا ؟
مرة كتبت :
" أولئك ابائي فجئني بمثلهم "
وفي حيفا تشعر أنك خرجت من معطف حيفا .

15
في حيفا تتذكر زيارة محمود درويش الأخيرة لها ليلقي فيها قصائده بناء على دعوة وجهت إليه . بعد زيارته كتب نصه " أنت منذ ، الآن ، أنت " الذي أدرجه في يومياته " أثر الفراشة " 2008 .
" حيفا تقول لي : أنت ، منذ الآن ، أنت " بهذا السطر أنهى الشاعر نصه .
الفرق بين أحمد دحبور ومحمود درويش في علاقتهما بحيفا يكمن في أن المدينة هي مسقط رأس الأول ، فقد ولد فيها ولكنه لم يعش فيها إلا عامين ، في حين أن الثاني الذي ولد في البروة عاش فيها عشر سنوات وأكثر ثم غادرها طوعا لا خوفا أو طردا كما غادرتها أسرة دحبور وعمره عامان .
كلا الشاعرين ، وهما في المنفى ،كتب عن حيفا ، ولكن المرجعية كانت مختلفة ؛ ففي حين كتب عنها أحمد دحبور اتكاء على ذاكرة أمه وحبها المدينة وحنينها إليها وبؤس حياة المخيم ، كتب عنها درويش لأنها مدينته الأولى التي أنفق فيها سنوات وكانت له فيها ذكريات - طبعا كان المنفى قاسيا .
لأجل حيفا وأهل حيفا وماضيه في حيفا غامر الشاعر وألقى شعرا في مسرح اختلف حوله وتعرض لإشاعات .
وماذا عنك ؟
قبل أيام من الذهاب إلى حيفا اتصل بك شاعر من الأرض المحتلة وسألك عن الضجة المثارة في رام الله حول زيارة الروائي واسيني الأعرج لفلسطين 1948. أهو مطبع أم لا ؟ وأنت أيضا في الموقف نفسه .
قبل أيام قرأت تعقيبا على مقال لك عن محمود درويش يتهمك فيه شخص اسمه زياد اليرموك - بيروت بأنك مطبع وممن يدعون إلى التطبيع ويشجعون عليه.
وأنت تستعد للمشاركة في مؤتمر مجمع القاسمي في باقة الغربية لم تتردد لحظة في المشاركة " إنني من فلسطين وإليها ذاهب " تقول .
" كله من أجل عيون بهية - رحم الله خالتي بهية . كله من أجل حيفا ورؤية حيفا ".
هل تعد أنت ، حين تزورها ، مطبعا ؟
وتكرر سطر محمود درويش :
"نحن في لحم بلادي ، هي فينا "
و
" حيفا تقول لي : أنت ، منذ الآن ، أنت ".

16
في حيفا تتذكر باستمرار الكاتب سلمان ناطور .
هل كان أدباء الأرض المحتلة 1948 ، بعد اميل حبيبي ومحمود درويش وسميح القاسم ضحية لهم.
لا أحد يلتفت الآن إلى الجيل الأدبي الذي تلا الأسماء المذكورة إلا نادرا . ( قبل أن يتوفى سلمان اقترحت على أحد طلابي في الماجستير وهو ياسر جوابرة أن يكتب رسالته عن كتاب " ستون " و أنجز ياسر رسالته وعقد مقارنة بين صورة حيفا في " اخطية " لاميل وصورتها في كتاب سلمان ) .
عدت حيفا أهم مركز ثقافي في فلسطين المحتلة ، ففيها صدرت أهم صحيفة و أدسم مجلة وعلى صفحات هاتين تثقف كثيرون ، ومن صفحات هاتين درس أدب المقاومة في فلسطين بعد العام 1948 ، ومن لم يكن ينشر في " الاتحاد " و " الجديد " لم يكن أدبه يلقى اهتماما .
ويبدو أن جيل الستينيات من القرن العشرين حجب عن غيره الذيوع والشهرة ، علما بأن هناك من أسهم إسهامات لافتة .
هل يمكن أن تذكر حيفا ولا تذكر أهم من كتب عنها ؟
لا تكتمل صورة حيفا إلا بقراءة سلمان ناطور على الرغم من أنه كتب " ستعذرني حيفا لأنني لم أكتب لقصصها ، حتى الآن ، نهايات سعيدة " .
هل كان غسان كنفاني أو اميل حبيبي أو محمود درويش أو أحمد دحبور كتبوا - وهم يكتبون عن حيفا - نهايات سعيدة لقصصهم الشخصية أو لقصص أبطالهم؟
عاد سعيد . س إلى رام الله ، بعد زيارة حيفا ، خائبا . لم يعد معه ابنه ولم يعد هو إلى بيته.
ولم يعد محمود درويش إلى المدينة إلا زائرا بتصريح ، لمدة محددة ، ومثله أحمد دحبور ، وفاز اميل حبيبي بفرصة البقاء والدفن ، على الرغم من حسرته على زمن حيفا أيام العرب ، وحين غاب سلمان ناطور عن حيفا عشرين عاما ، بعد تركه الحزب ، وعاد إليها شعر بأنه في مدينة أخرى غير المدينة التي أنفق فيها عشرين عاما ، وكتب وما كتبه لم يكن ذا نهايات سعيدة ، فماذا تكتب أنت يا عادل الاسطة عن زيارة المدينة زيارة عابرة لم تطأ قدمك فيها شوارع المدينة إلا ثلاث دقائق . نعم ثلاث دقائق فقط .

17
حذر وخوف
خيبة اليوم ، وثلاث عظمات في صحن الشوربة :
لم نكن نعرف أن القانون الإسرائيلي الذي يسمح لمن هم فوق الستين بدخول دولة أبناء العمومة يسري من الأحد حتى الجمعة مساء ، ولا يسري يوم السبت.
من معبر قلندية جاءت الخيبة . أعاد الجنود من لا يملك تصريح دخول ، وكنا ممن أعيدوا.
زميلنا د. إحسان الديك اقترح أن نجرب مداخل أخرى ، وهو ما قمنا به ، وسرنا باتجاه معبر نعلين ، ولكن الفتاة الاثيوبية وزميلها الأثيوبي أيضا اقترحا أن نذهب إلى معبر رنتيس ، ومعبر رنتيس مخصص لأبناء العمومة من نسل جدنا ، ولاخوتنا من عرب فلسطين المحتلة 1948 فقط ، ومع ذلك حاولنا .
اتصلنا وسألنا و تأملنا وانتظرنا ، ولكن صحن الحساء هو صحن الحساء ، هنا وهناك وهناك ، أي في قلندية ونعلين او بعلين ، ورنتيس ، وهكذا أنفقنا 6 ساعات عبثا.
هل تذكرنا مارسيل خليفة " وقفونا ع لحدود ، قال بدهم تصريح ، واليوم السبت ، وكان السبت خش في .... منذ مساء أمس ، وتذكرت غير مرة رواية عارف الحسيني " كافر سبت ".. لا بد من كافر سبت ليحل المشكلة ، وكافر السبت كافر سبت ، ولا ندري ملته .
أنا قلت :
يبدو أن المسؤول الإسرائيلي أراد أن يتعاطف مع د . محمد البوجي الذي رفض تصريحه ولم يصل إلى باقة . نعم أراد ان يتعاطف مع د . البوجي ، لما لاحظنا غير متعاطفين معه .
ألم أكتب في الصباح عن المرقة والعظم ؟
اليوم كان في صحن الحساء ثلاث عظمات ، وكان حظنا كدقيق بعثروه في يوم ريح عاصف.
فقط حبة دواء ليركا هي من أنقذني من حركة القدم ، لطول الجلوس .
ألم اكتب في 1993 ثلاثين قصة عن الخيبة ؟
انا رجل خائب ، وليس في هذا ما يعيب أو يسبب ذبحة صدرية او قلبية .
اليوم كان يوم خيبة ، ومع ذلك مر وواصلنا حياتنا ولم نزر فلسطين التي زرتها اخر مرة في 1994 ، يوم مات الشاعر توفيق زياد ، وفي أربعينه ألقي القبض علي لأنني لم أكن أملك تصريحا ، ونمت ليلة في الخيمة ، ولولا جهود المحامي عدنان أبو ليلى الذي كنت معه في حافلته لغرمت.

18
وانت في الطريق إلى حيفا ، من قيسارية ، تصعد إلى الكرمل ، وفي منطقة عالية ثمة سجن لعله سجن الدامون - يأتي الدليل على اسمه -.
في الأدبيات الفلسطينية حضور لافت للسجن . في رواية اميل حبيبي " المتشائل " هناك رسالة عنوانها " حديث شطط في الطريق إلى سجن شطة " ويأتي فيها الكاتب على عالم السجن والسجان والسجين وموقع السجن ، وكنت تمر بهذا السجن في سبعينيات القرن العشرين ، يوم كنت تذهب في رحلة إلى برك السباحة المسماة " السخنة " .
وأنت تمر قرب السجن تتذكر ما كتبه محمود درويش في زيارته الأخيرة لحيفا :
" أقفز من شارع واسع إلى جدار سجني
القديم ، وأقول : سلاما يا معلمي الأول في
فقه الحرية.كنت على حق : فلم الشعر بريئا "
من هنا ، ربما ، كتب مرة :
" من آخر السجن طارت كف أشعاري ..."
كان الشعراء ملتزمين فدفعوا ثمنا وكتبوا من دمهم ثم اختلف كل شيء .
لم يكن الشعر بريئا ، ولم تكن القراءات أيضا بريئة .
ماذا بقي من أدب المقاومة ؟
وأنت في المطعم تتناول وجبة السمك والسلطة تتحدث والروائي ربعي المدهون مطولا عن علاقته بحيفا والكرمل وعكا . يحدثك عن شوارعها وزياراته لها وبيوت عكا التي حضرت في روايته " مصائر " .
وأنت ، أنت ، ما صلتك بحيفا ؟

19
وأنت في حيفا تتذكر الشاعر الشهيد عبد الرحيم محمود . وكان الشاعر اقترب من اليسار وأخذ ينشر في مجلاتهم وعبر عن فقراء المدينة من العمال .
هنا تجول الشاعر ورأى ما أوحى إليه أن يكتب قصيدته " الحمال الميت "
كان الشاعر رأى حمالا ميتا ملقى على قارعة الطريق ولم يأبه الآخرون له ، لأنه انسان فقير ، فكتب :
قد عشت في الناس غريبا
وها قد مت بين الناس موت الغريب
والناس- مذ كانوا - ذوو قسوة
وليس للبائس فيهم نصيب .
وكانت حيفا مدينة عمال أغراب أيضا ، كما لو أنها أخذت هذه الصفة أيضا من يافا " أم الغريب " كما أخذت منها مركز الثقل الاقتصادي زمن الانتداب ومركز الثقل الثقافي زمن دولة أبناء العمومة .
وأنت تقرأ في رواية " اخطية " تلحظ حنين اميل حبيبي إلى زمن العرب ، وتتساءل:
أيهما كان مصيبا ، الشاعر أم الروائي ؟ وتفكر في الأمر .
ما الصورة التي أبرزها اميل لطفولته في حيفا ؟
لا بد من العودة إلى " اخطية " تقول ، وتقول لا بد من تفسير للأمر .
هل فكرت وأنت في حيفا أن تزور جامع الاستقلال ؟
هل فكرت في أن تكتب عن الشيخ عز الدين القسام أم أنك تركت هذا لزيارة قادمة؟
لعلك في " في حيفا 20 " تكتب عن اختلاف الصورة التي ظهرت لحيفا من خلال القصيدة والصورة التي أبرزها اميل لحياته في حيفا في طفولته وتقفل الكتابة التي لن تنتهي.

20
هل كنت ، وأنت في الحافلة ، وأنت في حيفا ؟
هل كنت تصغي إلى كلام رفاق الرحلة أم إلى كلام الدليل أم كنت تصغي إلى نفسك وإلى علاقتك بالمدينة ، وهي علاقة زائر عابر وعلاقة قاريء جيد لأدبيات حيفا في أعمال أهم ادبائها؟
في الحافلة كنتم مجموعة من الأدباء العرب ومن فلسطينيي فلسطين 1948: واسيني الأعرج و د . رزان ابراهيم وربعي المدهون وابن أخيه الشاعر غياث المدهون وسامح خضر و د . عايدة فحماوي وزوجها .
كنت تجلس على كرسي منفرد وأحيانا كنت توضح للدليل بعض وجهات نظر في سقوط حيفا ، كأن تتحدث عن بساطة العرب وسذاجتهم ، عدا موقف الانجليز المنحاز للحركة الصهيونية منذ وعد بلفور وحتى تسليم حيفا .
والحافلة تهبط من الكرمل كنت تصغي إلى قراءات قديمة عن البراميل التي دحرجها اليهود من سكان الكرمل لإخافة السكان العرب وتسريع ترحيلهم من المدينة ، ظنا بأن أصوات البراميل أصوات مدافع .
في الحافلة كنت تسترجع صورة المكان في الذاكرة العيانية وصورته في الأعمال الأدبية التي قرأتها وشكلت مكونا من مكونات صورة حيفا لديك ، وهي الصورة الأقوى تأثيرا في قلبك . كما لو أنك المعلم الذي أراد الجاحظ أن يكتب عنه.
أحب المعلم أم عمرو من بيت شعر
" يا أم عمرو جزاك الله مغفرة "
وكره أم عمرو من بيت شعر آخر
" إذا ذهب الحمار بأم عمرو ".
في حيفا وأنت تتذكر عبد الرحيم محمود و" الحمال الميت " والصورة القاسية التي أبرزها لمجتمع المدينة الذي لم يلتفت إلى الحمال - كما لو أن المجتمع مجتمع قساة - في حيفا هذه تتذكر ما كتبه اميل حبيبي في " اخطية " عن طفولته في المدينة والعلاقات الانسانية بين السكان والجيران . مجتمع كما لو أنه أسرة واحدة " كانت الجيرة حلالا ، والجار من أهل البيت . وكان الجار ينتسب إلى جاره ...." ( ص71 ) فتحتار بين الشاعر والروائي .
هل كان سكان حيفا قساة أم كانوا أسرة واحدة.؟
هل يعود الاختلاف إلى كتابة النصين في زمنين مختلفين ؟
هل يعود السبب إلى كون الشاعر غريبا عن حيفا ومجتمعها ومثله الحمال وإلى كون اميل ابن حيفا ؟
هل يعود إلى التجربة الشخصية وإلى الطبيعة النفسية لكل منهما ؟
الإجابة تتطلب إمعان نظر وتفكير ولا تريد وأنت في حيفا أن تفسد الاستمتاع بجمال المباني القديمة والحديقة البهائية وسعة الشارع وهدوء الحركة فيه.
ثلاث دقائق في حيفا هل تكفي للكتابة عن المدينة أم أن الأمر مختلف تماما وأن الدقائق الثلاثة بدأت في العام 1968 يوم زرت حيفا زيارة لما تنته . كما لو أنك مثل خالد الذي أهدى إليه غسان كنفاني روايته " ما تبقى لكم " : إلى خالد. الفدائي الأول الذي ما زال يسير " . ومن عكا تنظر إلى حيفا وثمة حسرة في القلب.




https://www.facebook.com/adel.osta.9/posts/1645497125519119

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...