مصطفى النفيسي - الحمام العمومي

1-التردد:
فقط الرياح ،وبقايا كلمات تطن في أذني مثل صوت بعوض متعب،أحس أنني الوحيد الذي لا يقتنع بما يحدث له،وحدي أستطيع أن أعدم كل حواسي ،وأقعد لا شيء يعنيني،ولا شيء يجعلني أكترث.قد أكون هنا لكنني لا أستطيع أن أجزم...
كان الذهاب إلى الحمام دوما، بالنسبة إليك كاستعراض قصيدة لامرئ القيس أمام معلم بالغ القسوة.تؤجل موعده لأكثر من مرة.لا تكاد تقرر
موعدا، حتى تلغيه في آخر لحظة،ثم..ثم تحاملت على نفسك وذهبت.
لم تستطع أن تلج في ذلك المساء البارد الحمام العمومي في "امسيلة" ،بعد أن وجدت لافتة تعتلي بابه. كتب عليها:"مغلق قصد الترميم". تكدرت . هل ستعود إلى المنزل دون أن تنتقم من البكتيريا و قشرة الشعر؟ لماذا لا يصلحون هاته الحمامات في الصيف حيث يفضل الجميع الدش البارد؟


2:في تاكسي الأجرة.

ركبت أول تاكسي انبعث من جهة" باب زيتونة".بعد أن انتظرت كثيرا ولويت عنقك أكثر من مرة،فأنت على كل حال شخص ملول ولا يطيق الانتظار.كان التاكسي كالمخلص بالنسبة إليك.جعلك تقبر كل الهواجس واللواعج.وان كنت لست متأكدا من شيء.
فضلت اقتعاد المقاعد الأخيرة للتاكسي الأزرق،معانقا بنفور تام،وبيديك الاثنتين ،حقيبة حبلى بملابسك وأدوات الاستحمام .في رأسك تدور ألف فكرة ومشروع.الأنفاس تتصاعد وأنت تمضي بدون حيلة أو تلكؤ،كطاحونة كهربائية متقنة الصنع،أو كصراصير تغزو ليل منازل مقفرة.تتحدى عنادك وبأس مشاعرك.
هل تستطيع أن تتوقف؟
كان السائق يدخن سيجارة رخيصة،غير مبال بك، بفتور ماكينة استنساخ ورقية كثيرة التعطل،ممططا شفتيه فيما يشبه الامتعاض،كلما أراد أخذ نفس منها.رغم أنه كان قد وضع بتفنن شخص اختصاصي في الديكور علامة "ممنوع التدخين"قرب عجلة القيادة .
هجست:لماذا لا يتوقف هذا السائق الأحمق عن التدخين؟فلا يعقل أن يدخن شخص هزيل البنية مثله،ويحتسي قهوة سريعة التحضير من نوع "نسكافيه" بشراهة أطفال جائعين! لابد أن يكون قد راجع الطبيب أكثر من مرة،وقد صم أذنيه عن نصائحه الكثيرة، بل قد يكون اعتبرها جزء من ثرثرة الأطباء!(هل يثرثر الأطباء فعلا؟)، كما أنه-مثلما بدا لك- ينهك ميزانيته اليومية المنهكة أصلا.. فهل يواظب مثلا على إعطاء مصروف الجيب لأبنائه دون تلكؤات صباحية؟أم أن زوجته تكور لهم ساندويتشات منزلية محشوة بالمربى في محافظهم الصغيرة؟
في وقت لاحق، وبعد أن تجاوز التاكسي ، الأشبه بسلحفاة صغيرة الحجم ، حديقة البلدية،علمت من السائق أن زميله ،الذي يتناوب وإياه على سياقة سيارة الأجرة طيلة اليوم،هو من وضعها هناك.وكأنه يريد القول بأنه غير معني بها،أو على الأقل هي تخص زميله المتأفف،والمبالغ في النظافة والتأنق.
لكنه استدرك فيما بعد بكثير من التعالي ،متخليا عما قاله سابقا قائلا:اللهم فكرنا في الشهادتين.إن مالك السيارة هو من تكلف بزينتها وديكوراتها .وهو يقصد السيارة طبعا،معتبرا اللافتة السابقة الذكر مجرد قطعة ديكور.لأن زبائنه لا يتوقفون عن التدخين.وهو لا يمنعهم من ذلك.فبكل صراحة،في نظره إذا لم تكن مرنا ستفقد مهنتك في أسبوعك الأول ...(ألقى على مسامعك بكلام كثير لم تعد تذكره).
كان في الحقيقة يتكلم غير مبال بما أقوله،دون أن يتوقف عن التدخين الذي أصبح يقوم به بحركات مسرعة،وكأنه يريد أن يريح نفسه منك ومن حديثك،وأنت من حين لآخر تعيد حقيبة الملابس إلى مكانها بين فخذيك،بعد أن تكون قد تدحرجت إلى الطرف الآخر من المقعد.
3-دخول الحمام ليس كالخروج منه:
دلفت إلى الحمام ، كل المشاجب مشغولة،ازدحام لايطاق . يا الله..متى ننتهي من هذا الازدحام الذي يؤثث حيواتنا؟!
نزعت ملابسك الشتوية على عجل، لتلتقي بذلك الأخرق،الذي كان يطل من ثمالته بأعين يسكنها الشيطان،وبجسد يشبه شجرة يابسة خاضعة لحكم الطبيعة الذي صدر في حقها منذ دهور.
كان يلبس ذلك السروال القصير . أكاد أجزم أنه سرقه من كومات الملابس بجوطية "سوق اليهود"،بأطرافه المترهلة التي لولا عربدته،لخمنت بأنه مصاب بمرض الكساح،الذي لم يبرأ منه بعد،،أطراف لا تكاد تختلف كثيرا عن الأخشاب المتراصة في قبو الحمام في فوضى عارمة ،برع في انجازها عمال متكاسلون،وهم يزيحون عن أعينهم بقايا نوم ليلة البارحة...




4-كائنات بشرية مغبونة.

هم عمال يحضرون باكرا إلى الحمام .يعدون الحطب ويوقدون النار، بالكاد يتغلبون على طلبات أطفالهم المتفاقمة،مقابل أجرة أسبوعية لا تفي تماما بحاجات أسر معوزة، تقف بحقائب تبضع رثة على حافة الهاوية.يقومون بكل أصناف الأعمال حتى يسلموا من انتقادات زوجاتهم:
-"ع"اشترت تلفازا ،تفي شاشته المفلطحة بتحقيق الفرجة لحي سكني،دون احتساب الطاولة الباذخة التي تبدو وكأنها جزء منه.
-"ج"لا تتوانى عن الظهور أمامنا بقفطانها الجديد،مصرة على أن زوجها الذي يعمل وراء البحر هو من اشترى لها ثوبه بمناسبة عيد زواجهما،وهو ثوب لم تخمد صيحته هناك بعد(طبعا صيحة المودة وليس الديكة)،وهي تقهقه ناظرة بخبث،إلى "بيجامتي"التي لم أجددها منذ عامين.
-"د" لا تكاد تفعل شيئا عدا تقليم أظافرها والتفرج على مجلات الطبخ والزينة.
-"ك" التي...
-"ر" التي...
وهم ينصتون،وينصتون، كتلامذة استعصى عليهم فهم مبرهنة رياضية ل "فيتاغورس"...)





5-العودة إلى حكاية السكير.

أفرد الرجل اللئيم جسده على الأرضية المرصوصة بقطع من الزليج التقليدي،مانحا نفسه مساحة تتسع لشخصين،فاردا يديه، وهو يحرك رأسه يمنة ويسرة. بدا لك كأفعوان ..بل كخنزير بري يواظب على حرث الأرض، أو يروض شهيته في حقل ذرة. ما الفرق بيننا وبينها؟ أقصد بيننا وبين هذه الحيوانات؟هل هو ترف ديكارت ؟ترف العقل إذن؟ مالذي يجعلنا نلبس ملابسنا كل صباح ولا نخرج عراة إلى الشارع؟ ما الذي يجعلنا نذهب إلى الحمامات العمومية إذن؟أو ما الذي يجعلنا نبتسم –أو حتى نكركر-ببلاهة كفزاعات في حقول الذرة؟
فجأة نادى علي ،وطلب مني في حزم ،لم تغب عنه القسوة واللؤم،أن أفرك له ظهره...
فكرت أنه لو لم يعلق صاحب الحمام ب"امسيلة"يافطته اللئيمة تلك،لكنت تنعم الآن بالحرارة والبخار،قرب ذلك الصهريج الآجوري المنزوي في غير بهرجة، لكن بهدوء تام،في البهو الرابع ،مشتركا مع مستحمين آخرين سكون المكان. تذكرت أيضا أنك لففت أزقة "بين الجرادي" و"بيت غلام"،ثم أخيرا" وريدة"، بحثا عن حمام غير مزدحم .لكن كل المحاولات باءت بالفشل.
جربت المقهى كحل وسط، مفضلا انتظار منتصف الأسبوع حيث تخف حركة الاستحمام. شيء ما كان يدفعك إلى المجازفة.تلبسك العناد الذي يسكنك.أنت شخص عنيد كرياح الخريف.تتحول إلى ناطحة سحاب بمصاعد معطلة،لا يمكن لأحد أن يغزو مفازاتك...
لكنك الآن أمام هذا المأفون،ذي الكلام الموشى برائحة لا يخطئها أحد،الذي فكرت أيضا أن تركله بشدة في ظهره،لكنك تراجعت عن فكرتك مادام المستحمون الآخرون سيعتبرونها فرصة للتجمهر حولك،و لإمطارك بأسئلة مملة،وسينظرون إليك بنظرات استغراب لأن المسكين(الآن فقط سيتحول إلى مسكين!) لم يفعل شيئا سوى أنه طلب مساعدتك.بل منهم من سيؤنبك تأنيبا جارحا.لذلك عدلت عن فكرتك.
نتحول أحيانا إلى مخلوقات تافهة،ضعيفة ،لا نقوى على فعل أي شيء. لا شيء تقريبا.العجز عنواننا...دوار في الرأس وخواء في مفاصلنا، والمغص يفرم المعدة،فرامل المشاعر تتعطل،وتخبو أمواج الدماء في الشرايين..هه ..هل سأنجو بجلدي كالجبناء؟
فجأة وجدتني أدعك له قفاه،وهو يبسط جسده كبساط من فحم ورماد،كبقايا نار انطفأت للتو.فكما يبدو فالرجل اللئيم موغل في" الدوخة" مثل ناعورات الماء المصطفة على ضفاف نهر" سبو".لا يتكلم إلا بصعوبة بالغة ،يهذي بكلام مبهم،كأنه يلعن أحدهم أو يشتم حظه العاثر.
قام من مكانه ليخطو خطوات غير مترددة، وضع رأسه مباشرة فوق البخار الذي يتصاعد من صهريج الماء الساخن .بدأ يتلوى ويتلوى.ينجز حركات بهلوانية،يطارد ظله المنعكس على الجدار،يقلد مشية امرأة متكبرة، ثم رجلا عجوزا.ولما نادى أحدهم على صاحب الحمام ،أو بالكاد القيم عليه،لم يكلف نفسه بالتحرك قيد سنتيمتر عن الكرسي الذي يقتعده،وهو كرسي يبدو وكأنه محشو بقطع من الخيش الخشن،بقوائم حديدية صدئة من شدة الرطوبة،مخاطبا المستحمين المسترخين على طول ذلك الكرسي الأشبه بقارب صيد،والذين يلفون رؤوسهم في شراشف تكاد تتمزق من فرط الاستعمال،:"لم يبق لي إلا أن أتحول إلى شرطي مرور في مهنة لن تحصل فيها على التقاعد مهما بلغت من العمر،هذي خدمة هذي،الله يلعن هاذ الخدمة ايوا مزيان!".والمتراصون أمامه يجتهدون في تجفيف تباناتهم من بقايا الماء في أسطل سوداء صنعت من" الكاوتشو" القاسي،مستعينين في التعبير عن إعجابهم بكلامه، بقهقهات استعاروها من ممثلين رديئين في مسلسلات مدبلجة.
كان الرجل القادم من فوهة الإدمان،بوجنات بارزة،وبأرجل تكاد تضاهي براغي ضخمة ،لن تجد مثلها إلا في شاحنات أمريكية عتيقة من نوع" فورد".وهي شاحنات تخلت عن مكانتها لصالح شاحنات يابانية تكاد تشبه لعب الأطفال.يتم الحديث عن فعاليتها و أثمانها المعقولة!، يرطن من حين لآخر بكلام، لن تسمع مثله إلا في سينما "الأندلس" .يتلاسن مع أحد المستحمين،الذي رفض أن يسمع ابنه ،أو حفيده،جملا مقفاة بعناية تكاد تكون فاجرة. اقتبسها من قصائد معربدين محترفين.ولم يبلغ السيل الزبى إلا بعد أن دلق ماء سلطه الحارق،تاركا قطرات سخية تتساقط على أجساد الآخرين .فهب الجميع فيما يشبه التواطؤ،ثم دفعوا به إلى الخارج...
في خضم هذا كله،كنت أشبه بديك يرى دجاجاته تمارس الفجور مع ديكة أخرى،غير مبالية بريشه المنفوش،وأنا أمرر قطعة الصابون بفتور على ظهري .أرى المستحمين وقد تحولوا إلى أجساد مبتورة الأطراف،تتلوى هنا وهناك،وكأن أطرافهم قد بترت بآلات كهربائية،وتركوا هناك من دون مساعدة أحد. دلقت الماء المتبقي في سطلك الاسود على جسدك وخرجت إلى بهو الحمام دون أن تحلق ذقنك ،مستشيطا غضبا.لن تعد إلى هنا بعد الآن.ستقاطع الحمامات العمومية.هل ستقم بذلك فعلا أم أن الأمر يشبه التقارير الختامية لمؤتمرات الجامعة العربية؟ فوضى في كل مكان،كأننا في مدن هجرها حراسها،فوضى في الأسواق،في المستشفيات،فوضى في جماجمنا وفي محافظنا المنتفخة،الانشطارات والانقسامات ،تهافت في كل مكان.. هل سنتحول إلى كائنات فوضوية؟
قلت للقيم :"نظاراتي من فضلك"وكنت قد وضعتها في حوزته ،عملا بنصيحة تجدها في غالب الحمامات،على سبورة سوداء صغيرة مدونا عليها:"المرجو تسليم الأموال وكل ما غلا ثمنه من ذهب ومجوهرات وما شابه ذلك، كالساعات اليدوية تفاديا للمشاكل."كنت تنتظر أن يقول لك:"لقد سرقها الأخرق."أو على الأقل : "لم أجدها، يبدو أنها سرقت".لكنه خيب ظنك قائلا:"هاهي،تفضل!"،هزم تحفزك و حماستك الشديدة،وأنت تبحث في مخيلتك عن جمل سترددها على مسامعه،كنت قد حفظتها عن بائعي الفاكهة على طاولات متهرئة، وأنت تتجول بسوق "باب الخوخة.".لكنك تراجعت عن ذلك ،مقتنعا بنتيجتك البيضاء لامتحانك الشفوي.وأنت تردد في سريرتك :"لأدخر ذلك إلى عتبات جديدة من الزمن القادم.".ثم صفقت الباب من ورائك.

هل ركبت سيارة الأجرة نفسها؟(على الأقل هذا ما تخيل لك)أم ذهبت إلى مقهى "تيطانيك" ذات الندل الفخورين بربطات عنقهم،وهم يوزعون طلبات الزبائن،فرحين بشكل صارخ بمهنتهم؟
ولكن لماذا لا تكون قد لويت على سويقة "باب المارشي"،حيث بالكاد تسحب جسدك وسط جموع المتسوقين؟ولكن ألم تذهب إلى ذلك الكشك حيث تراقب وزنك باستمرار؟أم تراك ذهبت إلى سوق"ياتو" لتبدد صدمتك؟ولكن هل يمكن لمستحم خرج للتو من الحمام أن يذهب الى سوق" ياتو"؟وماذا سيفعل هناك؟

طرحت كل تلك الأسئلة وأنت أمام زوجتك ،وهي تسألك :"كيف كان الحمام؟".
فقط الرياح،وأنا أوسع مابين خطواتي لألحق بأزمنة أخرى غير هذه،أعرف أنني لن أجد أي شيء،أو باختصار شديد سأجد اللاشيء:أعشاش مهجورة،محطات مقفرة،مقاه مغلقة،حافظات نقود تحتوي بطائق تعريف لأناس كانوا قد اختفوا...

مصطفى النفيسي
فاس-المغرب
النص منشور بالعدد71من مجلة كتابات معاصرة.

النص مقتطف من المحموعة القصصية الأولى التي ستصدر قريبا عن دار أزمنة بالأردن.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...