بن علوش حورية - الرؤى المستقبلية للتغيير والنهضة في الحضارة الإسلامية دراسة نماذج فكرية من مؤلفات مالك بن نبي

مقدمة :
لقد جاء المفكر مالك بن نبي بحلول كفيلة للقيام بحضارة إسلامية سامية تحل السلام في مبادئها وأسسها قائمة على مبدأ الفكرة والتغيير،وذلك بعد تقصٍ كلي لمنابع الضعف في الحضارة الإسلامية ومحاولة الكشف عنها وإدراك مطبّاتها في خضم هذا التغيير والتنوع الذي يعيشه العلم ككل،فتسارع نحو المادية والبحث في قضايا الإنسانية بصفة عامة ،ليحاول المفكر الذي سبق عصره إلى إمدادنا بحلول جذرية لنهضة جديدة بروح إسلامية وذلك بعد كشف العلة ومداواتها ،ومن هنا سنحاول في هذه المداخلة أن نبرز الطرح الفكري لمالك بن نبي في رؤيته للعالم الإسلامي وقضاياه ،وتطلعاته للمستقبل الحضاري من خلال الآليات والأسس التي قدمها لبناء حضارة إسلامية سلمية ومتطورة،فكيف كانت رؤية هذا المفكر الحضارية والفكرية ؟ وكيف تجسد مرض هذه الأمة عنده ؟ و ما هي البدائل للوصول إلى فكرة التطور الحضاري ؟ و ما هي أهم النتائج المتوصل لها من خلال هذه الدراسة؟


وجدت الحضارة الإسلامية نفسها في دوامة من الأزمات الحضارية متعددة الأوجه في القرون الأخيرة مما أدى وبطبيعة الفكر الإسلامي إلى ظهور تحركات و محاولات فكرية من هذه الأمة تحاول النهوض بمسار التوجه والوقوف من جديد ومحاولة تصحيح ما بطل وفسد، فمنهم من أسهب في وصف واقع الأمة الإسلامية بسلبياتها ،مما أوهنها الإرادة وعدم القدرة على النهوض وكان سبب في إحباط النفوس وزرع اليأس والخذلان ،وهناك من ذهب إلى الحلول الوهمية بعيدة المنال والمسعى وتخترق كل الإمكانيات والقدرات لتحقق على أرض الواقع في البيئة الإسلامية وانقسمت هذه الحلول إلى فكر متطرف للأصالة ومنغلق عن الاستفادة من إيجابيات الغير والتمسك بالماضي والتراث والرجوع ضمن التقدم ،يقابله فكر آخر معاكس له منغمس كليا في الانفتاح غير المشروط على الحضارة الغربية والتبعية التامة لكل ما هو إيجابي أو سلبي أي التقليد الأعمى ، إثر الاحتكاك الاستعماري للغرب بالعالم الإسلامي وغرس الطبع السلبي في نفس المسلم والضعف والتبعية، وانبثق منهم الوجه الأكثر تطرفا ،الذين اعتبروا الأصالة كابحة للانطلاق نحو الرقي الحضاري ، فكانت حل تلك المواقف المتشددة تفشل في تحقيق أهدافها، باعتبارها خطابات بعيدة عن مرجعيات العقل المسلم وواقعه وطموحاته إلى أن أتى مفكرون وجعلوا من العلم أصيله ومعاصره سلاحا للكشف عن سبب الخلل بهدف معالجته ومن أبرز هم المفكر الجزائري مالك بن نبي (1905_1973) م
¬¬ 1نبذة عن حياته:
ولد في 5 ذي القعدة 1323هـ الموافق1 يناير1905 مـ بمدينة قسنطينة شرق الجزائر، وترعرع في أسرة إسلامية محافظة، فكان والده موظفا بالقضاء الإسلامي حيث حول بحكم وظيفته إلى ولاية تبسة حين بدا مالك بن نبي يتابع دراسته القرآنية. والابتدائية بالمدرسة الفرنسية, وتخرج سنة 1925م بعد سنوات الدراسة الأربع.
2_مؤلفات مالك بن نبي :
الظاهرة القرآنية: 1947 م.
لبيك: 1948 م.
شروط النهضة: 1949 م.
وجهة العالم الإسلامي: 1954 م.
الفكرة الأفريقية الأسيوية: 1956 م.
النجدة: 1957 م.
فكرة كمنويلث إسلامي: 1958م .
مشكلة الثقافة: 1959 م.
الصراع الفكري في البلاد المستعمرة : 1960م .
حديث في البناء: 1960 م.
تأملات :1961م .
ميلاد مجتمع :1962 م.
آفاق جزائرية :1964م .
مذكرات شاهد القرن : الطفل 1965 م.
إنتاج المستشرقين: 1967 م.
الإسلام و الديمقراطية: 1968 م.
مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي: 1970 م.
بين الرشاد و التيه: 1972 م.
دور المسلم في الثلث الأخير من القرن العشرين: 1973 م.

3 آليات استعادة العالم الإسلامي مكانته الحضارية ضمن كتاب "دور المسلم في الثالث الأخير من القرن العشرين":
لقد أوجد مالك بن نبي قيمة المسلم في إيجاد حضارته وذلك بالأفكار التي ألقها في جبه ورفع قيمته كمسلم ، في محاضراته الأخيرة في :1972م سورية ، فأراد من هذه الأفكار المعروضة ضمن محاضراته الأخيرة أن يصور العالم ويستنتج و يتوقع أحداثه القادمة ونتائج تلك الحضارات ويستشرف مستقبلها وذلك من خلال كتابه دور المسلم في القرن العشرين فيقول "لو حاولنا تحديد دور المسلم عامة ما كان لنا أن نختار سوى ما اختاره الله له دورا في تاريخ"( .ابن نبي،1991م)،حيث رسم لنا في البداية دور المسلم فهو شاهد في بداية الأمر لقد استشهد مالك بن نبي بهذه الآية الكريمة قال تعالى:{وَكَذلكَ جَعَلْناكُم أمَّةً وَسطاً لِتَكُونوا شُهَداءَ عَلى النَّاسِ ويكونَ الرَّسولُ عَليكُمْ شَهيداً} ( .البقرة ،143)،وهذا التوقيت المحسوم في أمره من جميع الجوانب على كل التغيرات الكلية في العالم المتقدم وما يعيشه من تذبذب وتشتت فكري واجتماعي ونفسي وثقافي ، بعد التطور الذي وصل إليه بكل الوسائل المشروعة وغير المشروعة في حق الإنسانية، بتوسعه على حساب البرابرة والسود واستعبادهم وقد ولدتهم أمهاتهم أحرار، وصعوده كمثاليين بمبررات وتظليلات وجدت فراغات نفسية للفرد المتحضر في العالم الغربي الذي وجد نفسه في مطبّات التناقضات التي يعيشها مما أدى إلى أزمة العالم المتحضر وهي أزمة حضارية اليوم ،أطلقت أعراضها اليوم في عالمنا يقول مالك بن نبي " فنرى فيه رد فعل أدبي على شعور غامض لفقدان المسوغات في المجال النفسي"( .ابن نبي ،1991) فهي تلك الحالات والتوجهات الفلسفية والنظريات التشاؤمية والفراغ الحسي والتشتت الفكري والنفسي من فلسفات مختلفة من: وجودية و دادئية و تفكيكية ... وغيرها، وذلك الخوف والقلق الذي يعتري الوجود الغربي وظاهرة التشيء والديمقراطية التي لم تعد تساوي الحرية والانفتاح والعولمة بل هي الآن تستخدم كوسيلة ضدية ، والظواهر التي طغت اجتماعيا كالانتحار والمخدرات، يقول مالك بن نبي " يبد ولنا أن المجتمع الأمريكي مثلا يعاني ظاهرة تضخم من ناحية ، وتناقص من ناحية أخرى ،تضخم الإمكان الحضاري ،وتناقض الإدارة الحضارية وللتوضيح أكثر فإن الهوة تتسع ، والإنسان أًصبح يتمزق خاصة الشباب ،بين فكرة لا يستطيع التخلص منها تماما لأنها مسجلة في طينته البشرية تلك الطينة التي كرمها الله،بين واقع ثقافي لا يقدم له مسوغات ولا يعطيه بديلا عن مسوغاته الطبيعية المفقودة ( .ابن نبي،1991) .
مما يعكس ذلك التشبع المادي الذي حضي به العالم المتقدم وتضخم الإمكانيات الحضارية ،لتنذر ببداية أفول للعالم الغربي المتطور وتراجع لديانات شرق آسيا وفقدان المسيحية وتزعزع مكانتها في نفوس المسيحيين وبالتوازي مع تصاعد المسلمين وتجاوزهم حاجز المليار وكأن الخطين متوازيان فيرى "أن التاريخ يجب أن ينتهي في نقطة ما كي يتجدد من نقطة جديدة" ( .ابن نبي،1991) ولنتقدم ونبلغ حضارة الغرب وجب علينا كمسلمين أولا أن يعرف الإنسان نفسه ومعرفته للآخرين ، وأن يُعّرف الآخرين بنفسه أي أن يرفع المسلم مستواه إلى مستوى الحضارة أعلى منها كي يرفع الحضارة إلى القداسة ، ويتحقق هذا لمل يصير الإنسان معاصر للناس شاهدا عليهم بالتقي والورع، وأن يتخلص الإنسان من كل صور التقهقر والتخلف وقابلية الاستعمار ولا أن يعتز بنفسه وقيمه الإسلامية ويطبقها.
لقد عاد مالك بن نبي في نظرته إلى الإنسان والحضارة الإسلامية واستشرافه لمستقبلها خبايا واقعها من غير فكر شمولي بل عزز الرؤى العقلانية في طرح مؤلفاته ألقى الكثير من الأفكار و المجالات فاتجه إلى طرح المشروعات فيقول "إننا نعاني أزمتنا وتعاني الإنسانية أزمتها ، لكنهم في حالة أخطر وأعمق من حالتنا بكثير من أزمة العالم الإسلامي فعلى الأقل يبقى لدينا نوع من التكريم السماوي للإنسان أما هنا فُقدت حتى تلك الإنسانية بشطرها المتحضر والمتخلف تعاني أزمات خطيرة وهنا تتلخص رسالة المسلم في كلمة بسيطة إنقاذ نفسه وإنقاذ الأخرىين "( .ابن نبي ،1991)
ولكنا نجد بعض النقد بين طيات أوراقه إلا أنه لم يكن بالنقد اللاذع بل كان موجه فذا ،بدلاً من البهرجة ورصد الثغرات واللجوء إلى الجانب الوجداني والحديث العاطفي غير المجدي حول أمراض الأمة و علاجاتها أو الصراخ الهستيري غير المثمر ، مما يمكننا القول بأن بن نبي –رحمه الله- اهتم بالبناء ولم ينشغل أو يشتغل بالتفكيك، فهو اعتمد في وضع أسلوب للبناء والتحضر بطريقة عقلانية بعيدة عن الخيال وغير الطبيعي والخارق.
4 رؤية مالك بن نبي للمستقبل المسلم بربط واقعي بين الماضي والحاضر:
ويعد إدراك الفكر الديني الإسلامي بالنسبة للإنسان المسلم ، الذي يتطلب أكثر من أن نعود قليلا إل الوراء (تاريخ) لنتفحص حالة شبه الجزيرة العربية قبل نزول الإسلام يقول مالك بن نبي : "ومن المعلوم أن جزيرة العرب مثالا لم يكن بها قبل نزول القرآن إلى شعب بدوي يعيش في صحراء مجدبة يذهب وقته هباء لا ينتفع به لذلك فقد كانت العوامل الثالثة: الإنسان والًتراب والوقت عوامل راكدة خامدة. وبعبارة أصح مكدسة لا تؤدي أي دورا في التاريخ، حتى إذا ما جلت الروح بغار حيراء كما اجتلت من قبل بالوادي القدس، أو بمياه الأردن نشأت بين هذه العناصر الثالثة المكدسة "( .ابن نبي،1978 )
وتميز أسلوب مالك بن نبي بالمنهجية والتي جعلته ينظم مجموعة من المصطلحات المفتاحية لأفكاره العامة تمكن القارئ بعد ذلك من إتباع منهجه في النظر للظواهر و الاجتهاد بصورة تقترب من طريقة اجتهاد مالك بن نبي في إطلاق الأحكام وتجعله يتأثر بوجوب التغيير وبالبداية أولا بالحالة الذاتية وهذا أول هدف يريد مالك بن نبي أن يتوصل إليه من خلال ما ألقاه في نفس المتلقي وتعتبر الآية الكريمة هي خير اختصار لفكره الأول { إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم } ( .الرعد،11)
يمكننا اعتبار هذه الآية الكريمة هي المنهج الخاص للتغيير عند مالك بن نبي ،لأن التغيير والوصول يبدأ من الذات والوصول ينتهي فيها فلا تغيير إلا بمعرفة ذات الإنسان وقدرته المكنونة وسبب وجوده ووضع الهدف والارتقاء إليه بإعطاء قيمة أولا وآخر للوجود الإنساني قبل كل شيء ، وليس مصادفة أنها
ـكانت شعار جمعية علماء المسلمين الجزائريين" ( .عبد اللطيف ،1984،ص:34) التي تأثر بها بن نبي ، ومن تفسير بن نبي لها أن التغيير الحقيقي لما ينبع إنما ينبع من تبنى الناس له في قرارتي أنفسهم وليس بواسطة إملاء أو تغيير من الخارج أو من الأعلى ،وإنما هي إرادة في ذات الإنسان، سواء كان هذا التغيير للأحسن أم الأسوء ، فمن خلال ما ألفه مالك بن نبي وما طرح من أفكار وجدنا هناك عدة عناصر بنيت عليها هذه التوجهات وجعلت كطريق ينتهج بتدرج للوصول إلى نتائج عقلية من الواقع وهي:
1_الحضارة و النهضة :
يرى مالك بن نبي أن فكرة البطولة هي فكرة بنيت عليها العديد من الأهداف في حياة الإنسانية وهي تفكير نبيل وراقي وهي الفكرة التى قامت عليها المقاومات الاستعمارية خلال القرن الماضي فيقول" ولقد كان دور الشعوب الإسلامية أمام الزحف الاستعماري خلال القرن الماضي و حتى الربع الأول من هذا القرن دوراً بطولياً فقط ؛ و من طبيعة هذا الدور أنه لا يلتفت إلى حل المشاكل التي مهدت للاستعمار و تغلغله داخل البلاد"( .بن نبي ،1978) ، ولكنها فكرة فردية ذات دوافع عاطفية فالبطل في النهاية ليس له وعي تاريخي ولا يقاتل لإدراكه نصر قريب ، أو من أجل خلاص محدد واضح و إنما كما يقول بن نبي "فمجدهم هذا أقرب إلى الأسطورة منه إلى التاريخ"( .بن نبي،1978 )
فنجد يعطينا مثلا على دور التركيز على الهدف قبل تطبيقه ويتحدث عن دور "الفكرة" فذهبا بداية بجمال الدين الأفغاني ، وضرب المثل عليه بجمعية العلماء المسلمين التي أسسها بن باديس5 –رحمه الله- فهؤلاء المصلحين إنما توجهوا بالأساس إلى الإصلاح الديني و تربية الشعوب حتى يضعون أيديهم على مواطن المرض و يعلمون من أين أُتوا ، وحتى يستفيق المجتمع من ثباته ويقف جله تجاه الاستعمار من خلال تغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط .
ويقول مالك بن نبي أن كل الحركات الإصلاحية على اختلاف اتجاهاتها اتفقت في نقطة هي محور كل تغيير وسعىٍ نافع ، ووجود جدية في الوصول وهي :" إرادة الحركة و التجديد و الفرار من الزوايا الخرافية إلى المكاتب العلمية ،و من الخمارات الحقيرة إلى مواطن أكثر طهارة و فائدة "( .بن نبي،1978) وفي مقابلة أخرى تشرح وتعطي مفهوم أعمق لما أراد إيصاله هي الوثن وما يعكسه من جهل وتصدع في الوعي وجمود للعقول فبذلك هو تثبيط لكل ما هو إيجابي ناجح ومحفز على الخمول العقل وأفوله والجمود والرضوخ وتغييب الفكرة والعقل ؛ فنجده يقول " و من سنن الله في خلقه أنه عندما تغرب الفكرة يبزغ الصنم ، و العكس صحيح أحياناً"( . بن نبي،1978) ، فقد يتحول البطل إلى صنم و تتحول البطولة إلى وثنية إذا غاب عنها الوعي الحقيقي بغاياتها.
ثم يتحدث مالك بن نبي عن كيفية بناء الحضارة ، فالمرحلة التي يصف بها مالك بن نبي العالم الإسلامي اليوم هي مرحلة "ما بعد الحضارة" ويشبه واقعه بواقع رجل مريض ولكنه دخل إلى صيدلية الحضارة الغربية ، يبحث بين علاجاتها عن أدوية لأعراض دائه لا أصله ، فيتبنى القوانين الغربية تارة ثم يقلده في نظمه التعليمية و العسكرية تارة أخرى ، وهلم جراً مما على شاكلته من استجلاب منتجات الحضارة مما سماه مالك بن نبي تكديساً، ولكننا في الحقيقة لن نصنع حضارة لا إسلامية و لا غربية من هذا التكديس ، و نقتبس منه في هذا الشأن " إن المقياس العام في عملية الحضارة هو أن : ( الحضارة هي التي تلد منتجاتها) ، و سيكون من السخف و السخرية حتماً أن نعكس هذه القاعدة حين نريد أن نصنع حضارة من منتجاتها" ( . بن نبي،1978 ).
أي أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها و أفكارها و ثرواتها الذاتية وأذواقها، هذا الحشد من الأفكار و المعاني التي لا تلمسها الأنامل، والتي توجد في الكتب أو في المؤسسات و لكن بدونها تصبح كل الأشياء التي تبيعنا إياها فارغة دون روح و بغير هدف.
ثم ننتقل إلى فكرة رئيسة أخرى من أفكار مالك بن نبي حول الحضارة صاغها كما يصوغها الكيميائي – على حد قوله – وسماها معادلة الناتج حضاري واختصره في معادلته:
(إنسان+تراب+وقت= منتوج حضاري)
ينطلق المفكر من هذه "المعادلة" نحو تحديد مشكلات الحضارة في ثلاث مشكلات أوليه:
مشكلة الإنسان و مشكلة التراب ومشكلة الوقت ولكنه مرة أخرى يتساءل، ماذا لو توفرت العناصر الثلاثة لدى أمة ما هل تنتج الحضارة تلقائياً ؟
بالطبع لا فهو يضيف عاملاً مسؤول عن عملية التفاعل (مركب) وهو "الفكرة الدينية التي رافقت دائماً تركيب الحضارة خلال التاريخ "( .جدعان،1988) كما سناه هو المركب الحضاري، كما نلاحظ تأثره بفكرة "ابن خلدون" في قيام الأمم، والتي حصرها في عاملين هامين : الدين والعصبية ، وهما عنده العامل الأساسي في قيام أي أمة أو وحدة سياسية ، كما تأثر بابن خلدون أيما تأثر بفكرته التي سماها "المبدأ القرآني"وهي مفهومه من الآية الكريمة{ سنة الله التي قد خلت من قبل و لن تجد لسنة الله تبديلاً} ( .الفتح ،23)
يحاكي مالك بن نبي عبارة نتشه فيقول: " إذا نظرنا إلى الأشياء من الوجهة الكونية ، فإننا نرى الحضارة تسير كما تسير الشمس ، فكأنها تدور حول الأرض مشرقة في أفق هذا الشعب ، ثم متحولة إلى أفق شعب آخر . "( . بن نبي ،1978) فتلك السُنة الإلهية كما يخبرنا مالك لا محالة قائمة ، لأن الناس تتناسى والخلافات و الحروب تنشب و العقائد تفتر و تتبدل بعد حين .
ثم يتحدث عن كون كل حضارة تقع بين حدين اثنين :الميلاد و الأفول .
قسم أطوار الحضارة إلى ثلاث مراحل تقع بين نقطتين (ه , د) هذه المراحل الثلاثة هي:
مرحلة الروح : وهي تلك المرحلة التي تتولد فيها القوة الدافعة كنزول الإسلام على العرب ، وتبدأ الحضارة في التكون و الاكتمال ، أو كما يسميها مالك مرحلة "الأفكار الموضوعة"( . ابن نبي ،1970).
مرحلة العقل :هي التوسع العقلي وهي تلك المرحلة التي تتلو المرحلة الأولى ، فتبدأ العلوم و الفنون في الازدهار و تبدأ الحضارة في ألأخذ بالأسباب المادية للعمران ، وتبدأ الروح في الأفول وهي تلك المرحلة التي تبدأ فيها "الأفكار المطبوعة" المستمدة من " الأفكار الموضوعة " في أخذ مكانها في الحضارة ( .ابن نبي،1970)
مرحلة الغريزة :وهي تلك المرحلة التي تتلو اكتمال العمران و أفول الروح تماماً ، والتي يسميها مالك خيانة الأفكار المطبوعة للأفكار الموضوعة , وفيها تندحر الحضارة في انتظار سقوطها و هزيمتها من قبل حضارة أخرى ،وهنا نلحظ تأثره الشديد بفكرة ابن خلدون في قيام و اندثار الأمم و الحضارات ، حيث مثلها بعمر الإنسان من مرحلة اكتساب القوة و اكتمال العقل و الجسد ثم الهرم بعد ذلك إلى الموت ، وكذلك مراحل الحضارة الثلاث السابقة تتمثل أطوار خمسة للدول : " الأول منها ذو طابع عسكري و الثاني سياسي قوي (الروح) ، والثالث اقتصادي عمراني قوي (العقل) ، و الرابع سياسي ضعيف و الخامس اقتصادي عمراني هرم(الغريزة) "( . جدعان،1988) و من أجل الاستزادة مما قال ابن خلدون في هذا المقام يمكنكم العودة لفصل "في أطوار الدولة كيف يختلف أحوال أهلها في البداوة باختلاف الأطوار" ( . بن خلدون ،2004 ص:196)
أما فيما يتعلق بالعمران و المنتجات الحضارية فيشير مالك بن نبي إلى أن المجتمعات المتخلفة ليست بالضرورة هي المجتمعات التي تفتقر إلى الموارد المادية لإنتاج حضارتها و إنما المجتمعات المتخلفة هي تلك المجتمعات التي تفتقر إلى الأفكار ، في استخدامه للوسائل المتوفرة لديه بفاعلية و في طرحه لمشاكله و حلولها.
2_التربية والأخلاق
لقد تحدثنا عن مفهوم "الفكرة" سابقاً كمقابل لمفهوم البطولة ، يأتينا هذا المفهوم مرة أخرى كمفهوم تربوي هام عند مالك بن نبي فهو يربط أساساً- وهذا أمر بديهي- أي نهضة لأمة بالوعي الفردي فيها وثانيا التوجيه الصحيح، فالحل في بناء فرد صالح هو توجيهه بتجنبه المكروهات وقربه للمبيحات ومعرفته لقيمة الوقت وتقدير ثمنه واستغلاله أيما استغلال ، فالفكرة هي التي تصنع الأمة ، أو الفكرة الصالحة بشكل أدق ومن هنا نلاحظ بروز قاعدته الذهبية [ لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم] ، فيثني على الدور الإصلاحي الذي قامت به جمعية العلماء في الجزائر حتى أنها غيرت في تقاليد أهل الجزائر في أفراحهم و مآتمهم ، فيقول" و كنت تشاهد حركات الهدف منها إزالة كل منكر لا تقبله العقيدة ولا يقره الذوق العام ، و من ذلك حركة محاربة الخمور و بيعها حتى لم يجد باعة تلك السموم حيلة يفرون بها من هجوم الحركة الإصلاحية ، إلا أن يلجئوا إلى الحكومة حاولي عام 1927م محتجين بأن إيرادهم تناقص و أن تجارتهم بارت ، و بدأت فعلاً المساجد تمتلئ برواد الخمارات كما أن الحلقات الدراسية الليلية قد عمرت بأولئك الذين انصرفوا عن حلقات الدراويش ."( .ابن نبي ،1978) فالتوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد و في الوقت وقد قسم التوجيه إلى أقسام يخصنا منها في هذا المقام:
التوجه الثقافي :
الثقافة يعرفها مالك بن بنيا على أنها : "مجموعة من الصفات والقيم الاجتماعية التي يلقاها الفرد منذ ولادته ، كرأسمال أولي في الوسط الذي ولد فيه ، و الثقافة على هذا المحيط الذي يشكل فيه الفرد طباعه و شخصيته"( .ابن نبي ،1978).
فعلى ضوء هذا التعريف الفرد يُبنى منذ الولادة كصالح أو العكس وذلك بما يصقل عليه بتربية وإمكانيات وأفكار موجودة ومعرفة صقل هذه المبادئ والأفكار وأخذ ما صلح منها أسسه الثقافة فهي السلوك الأساسي إزاء مشكلات الحياة وهو يربطها في أمرين ،ما يتعلق من الثقافة بالماضي و بالتدهور الذي ألم بأمتنا ،ما يتعلق منها بالمستقبل فالفكرة هنا أن نركز على ما أُخذ من الماضي وهش بناء أمتنا وما سنصقل عليه لمعمار حضارتنا في المستقبل فهان هي تصفية لما هو موجود من سلوكيات ضعيفة ومادية تنم عن السطحية والخمول العقلي ،الأولى سلبية لفصل رواسب الماضي والثانية إيجابية لتصلنا بمقتضيات المستقبل .
وقد شبهها بن نبي بفكرة نفي القرآن للجاهلية (سلبي) ، ووضعه لأسس الإسلام (إيجابي) ، كما ضرب مثلاً بتوما الأكويني و تصفيته للثقافة من العناصر الإسلامية (الرشيدية) ، ثم ديكارت و بناءه للثقافة الغربية على أسس المنهج التجريبي .
التوجه الجمالي :
يشير إلى السمة الأساسية في تشكيل نفس الإنسان فيقول " وإذن فنحن نأخذ بيد هذا الطفل إلى الماء فننزع عنه مرقعاته ، و نأمره بأن يقوم بغسل واحدة منها ذات لون أقرب إلى الذوق قطعة تكفي لستر عورته يغسلها ثم يرتدها بعد أن يغتسل هو أيضاً مما به من وسخ ثم نأخذه إلى حلاق يحلق رأسه ، و نتركه بعد ذلك يسير في حاله بعد أن نعلمه كيف يقصد في مشيه و كيف لا يطأطئ رأسه فبهذا لا يظل كومة متحركة من الأوساخ ، بل يصبح طفلاً فقيراً يسعى لقوته ، نجد فيه صورة للفقر و الكرامة لا للقبح والمهانة "( .ابن نبي ،1978).
فالمغزى من هذا التمثيل هو وضع كيفية مناسبة لبناء شخصية الطفل بناءا نقيا صحيحا، يخلو من قذارة غرسها تفريط المجتمع فيه ولكي نصنع التاريخ ننقضه من قذارته، نوحده بيننا كفرد فعال فالعيب ليس في فكرة الفقر ولا في وجوده ولكن المشكلة هنا فكيفية التعامل معه ومحاكاته .
وتحمل الأخلاق والجمال الدور أيضاً في توجيه الحضارة ، فاتجاه الحضارة يتكون من عنصرين اثنين هما : المبدأ الأخلاقي و الذوق الجمالي ، وأن اختلاف ترتيب هذين العنصرين في كل حضارة (سلم أولويتها) يصنع خصوصيتها و اتجاهها الذي قد يختلف كلياً عن الأخرى وضرب بذلك مقارنة بين المجتمعين الغربي و الإسلامي :
ممارسة الفن الإسلامي لا نجد مثل الفنون الأخرى لأن الرادع الأخلاقي في المجتمع لا يطلق العنان للفنان في التعبير عن كل أنواع الجمال كالمجتمع الغربي ،فمثلا فن تصوير المرأة العارية بسبب الدافع الجمالي والذي انطلق من مبدأ إبراز جمال المرأة.
أما الفن الإسلامي اتخذ اتجاها مخالفاً إذ هدف إلى إخفاء جمال المرأة في الشارع ، ويعلل مالك انتشار العري و التبرج في المجتمع الإسلامي ليس بأن المجتمع غير ملبسه و إنما قد بدأ يغير توجهه الحضاري وتراتبية مبدأيه مستعيراً دوافع التعبير من مجتمع آخر دون أن يشعر.( .ابن نبي،1987)
التوجه الفكري:
و يتحدث مالك بن نبي عن ضرورة أن يتمركز الإنسان حول شيء ما، و من دون هذا المركز ينتاب الإنسان شعور سماه " الفراغ الكوني " ، أما ذلك المركز فهو الذي يحدد طراز ثقافته (عالمه الداخلي) و حضارته (عالمه الخارجي) ، فالمجتمع المسلم الذي طبعه الإسلام بطبعه تجده دائماً يصدر القيم و الأفكار غير المادية حتى في الأمور المادية ، ويضرب مالك بن نبي مثلاً في ذلك : " فتقسيم التركة عند وفاة صاحبها هي بلا ريب ظرف اجتماعي عادي . لكن انظر ما يقول القرآن فيه { و إذا حضر القسمة أولو القربى و اليتامى و المساكين فارزقوهم منه ...} ( . النساء:8) ، قد يقال لنا : إن هذا حكم يمكن أن يرد في كل قانون مدني تقدمي ، هذا صحيح لكن القرآن يُرغِب بأكثر من هذا فهو لا يريد أن يقوم المجتمع بتقسيم المال كآلة توزيع القطع المعدنية ، فهذا شيء يستطيع المجتمع الاستهلاكي أن يفعله
لكن ينبغي على المجتمع الإسلامي أن يفعل أكثر من توزيع أموال تركة ، و ذلك بأن يوزع في الوقت نفسه الخير ، فالهدف من الاستشهاد بهذه الآية هو ما يمكن أن تشترك فيه مع تشريع مدني لكن الآية تنتهي بتوصية أخرى ، بحكم آخر : {.. و قولوا لهم قولاً معروفاً} ( .النساء :8). ( .ابن نبي ،1970)
وهي الفكرة التي أخذها عنه من بعده المفكر الإسلامي على عزت بيجوفيتش و سماها ثنائية الإسلام ، فإننا إذا وجدنا في المسيحية مبدأ هو"القذارة المقدسة" :
حيث أهمل الإنسان بدنه كي يسمو و يتطهر روحياً ، فإن الإسلام الذي شرع الوضوء شرطاً للصلاة وهي نظافة بدنية و صحية ربطها أيضاً بالطهارة الروحية فنجد الآية الكريمة { .. إن الله يحب التوابين و يحب المتطهرين} ( .البقرة :222) وكما في الحديث "الطهور شطر الإيمان ..."( . بيجوفيتش،1994) و الصلاة التي هي عماد الدين فتجمع ما بين الخشوع و الانضباط في الوقت والاتجاه فهي إن كانت عبادة روحية أساساً إلا أنها لا تخلو من قيم كالجماعة والاصطفاف والانضباط و الأخذ بالأسباب المادية و العلمية كتحديد القبلة و معرفة الوقت ، ثم الصيام هو عبادة روحية بدنية وتحتاج إلى حد ادني من المعرفة الفلكية وخذ في ذلك كل ما شرع الله للمسلمين( .بيجوفتش،1994) .
ثم يتحدث مالك بن نبي عن الجاهلية ويصفها بأنها انتفاء اختفاء الفكرة فقد أطلق القرآن الكريم لفظة الجاهلية على الوثنية التي انتشرت في جزيرة العرب قبل الإسلام برغم ما كان للعرب من مهارة في صناعة الشعر و الأدب وكانت اللغة في عصر ما قبل النبي و في عصره صلى الله عليه وسلم في عصرها الذهبي ، ولكن كلام العرب وقتها كان ألفاظاً براقة خالية من كل بذور خلاقة فالوثن كما يقول مالك إنما يظهر عند اختفاء الفكرة ، فالجاهلية نمط متكرر في عالم البشر ينتشر بعد موت الأفكار و يمثل انتقام هذه الأفكار المفبركة.
مشكلة تربوية أخرى يسميها مالك " معضلة ازدواجية اللغة " أو بمعنى آخر عملية طمس و تغيير الدلالات والتي بالطبع تقوم بتغيير وعي الإنسان بالمدلول عن طريق تغيير الدال ، مثل تنحية كلمة مثل "المجاهد" و إحلال كلمة "الجندي" بدلا منها ، وبالطبع يتحول "الشيخ" إلى "كولونيل" .
ويتحدث مالك عن نقطة مهمة جداً في الثقافة ألا وهي مسألة الزي ، وكيف تغير في وعي الإنسان بذاته فالقبعة تصنع القسيس و قد ضرب المثل في ذلك بمصطفى كمال أتاتورك ، وكيف منع العمامة و الطربوش و فرض القبعة و شبه تأثير ما حدث بالقنبلة التي غيرت وعي الشعب التركي ، وهنا أيضاً نجد لأبن خلدون تأثير عليه فما قاله قريب الشبه بفكرة ابن خلدون عن ولع المغلوب بتقليد الغالب ، فالزي مفرد هام من مفردات الثقافة تغييره يؤدي إلى تغيير الوعي بالذات و بالغير .
و نقطة أخرى تتعلق بالعمل فهو يعتبره المعول الأساسي لهدم أصنام الهزيمة الحضارية و الرواسب و الأفكار النفسية السلبية لعصرنا ، لأنه يجعل الإمكانات التي كان ينتظرها من الغير صارت بين يديه و أن الوحيد الذي يجب أن يتحكم في مصيره هو نفسه و ليس الغير ، وهذا يعود بنا إلى قانون التغيير الإلهي : [ إن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم ] (الرعد :11).
5 أهم النتائج و الأفكار في دراسة مجتمعنا من خلال فكر مالك بن نبي وتطلعاته للمستقبل:
وهنالك جانب آخر لأهمية الأفكار في العالم الحديث ففي القرن التاسع عشر كانت العلاقات بين الأمم والشعوب علاقات قوة ، وكان مركز الأمة يقدر بعدد مصانعها، ومدافعها، و أساطيلها الحربية، ورصيدها من الذهب،وأموالها ولكن القرن العشرين قد سجل في هذا الصدد تطوراً معلوماً ، هو أنه قد أعلى من الفكرة باعتبارها قيمة قومية ودولية ، فهذا التطور لم تشعر به كثيراً البلدان المتخلفة ، لأن عقدة تخلفها ذاتها قد نصبت في المسافة بين التقدم والتخلف إلى نطاق (عالم الأشياء) ، أو هو بتعبير آخر يرى أن تخلفه متمثل في النقص المادي
فقدان مركب النقص لديه فاعليته الاجتماعية ، إذ ينتهي من الوجهة النفسية إلى التشاؤم كما ينتهي من الوجهة الاجتماعية إلى تكديس المشكلات ، فلكي يصبح مركب النقص لديه فَعّالاً مؤثراً ينبغي أن يرد الإنسان تخلفه إلى مستوى الأفكار لا إلى مستوى المادي، فإن تطور العالم الجديد دائماً يتركز اعتماده على المقاييس الفكرية.
ومشكلة الثقافة من الوجهة التربوية هي في جوهرها مشكلة توجيه الأفكار ، ولذلك كان علينا أن نحدد المعنى العام لفكرة التوجيه ، فهو بصفة عامة قوة في الأساس هي وحدة الهدف وطريقة السير إليه ، نملك القوة والطاقة لكن سوء الاستخدام هو داؤنا لأننا لا نعرف كيف نُكتّلها ، لأن التشتت هو أساس الضياع
التوجيه هو تجنب الإسراف في الجهد وفي الوقت فالأفكار وحدها لا تكفي لتصنع التاريخ بل يجب أن تتخذ منهجا ومسارا مددا لتنجح وتطبق ، فهناك ملايين السواعد العاملة والعقول المفكرة في البلاد الإسلامية صالحة لأن تستخدم في كل وقت ، فضعفنا في المحاولات الهازلة وعدم معرفة الإدارة المُمنهجه لهذا الكم الهائل المكون من ملايين السواعد والعقول في أحسن ظروفه الزمنية والإنتاجية ، فثقافتنا لا تعرف مثلها السامية وأهدافنا لا تعرف التحقيق، فهذا الجهاز حين يتحرك يحدد مجرى التاريخ.
إن الذي نقص العربي ليس منطق الفكرة، ولكن منطق العمل والحركة، وهو لا يفكر ليعمل بل ليقول كلاماً مجرداً، بل إنه أكثر من ذلك يبغض أولئك الذين يفكرون منطقياً ويحولون فكرهم نشاط و فعل.
أما في مستوى المجتمع الذي يعيش أزمة ثقافية فإننا نستطيع حصر العديد من الملاحظات ويكفينا لذلك أن نرى بالعين المجردة ما يدور في حياته الاقتصادية والسياسية في المجتمع الذي بلغ هذه الدرجة ، فإن سُّلمي الثقافة والمجتمع ينعكس الواحد بالنسبة للآخر انعكاسا تصبح أثرى ثقافياً من قيادتها ، فمن يرقى درجات السلم ويأخذ مكانه ودوره الاجتماعي في العالم المتخلف ليس من أهل الدرجات العلمية الثقافية ، بل من يرضى عليه أولو الأمر في السلطة على عكس مبدأ أن السُّلمين يتجهان في الاتجاه نفسه من الأسفل إلى الأعلى أي أن المراكز الاجتماعية تكون تلقائياً موزعة حسب الدرجات الثقافية
إن التغيير المطلوب من أجل تنشيط عملية البناء الحضاري وتخليصه من الدونية باتجاه الآخر المستعمر إلا إذا كان التغيير في الإنسان في حد ذاته بتخلص أولا من الاستعمار الثقافي وتكون الكيفية كالآتي:
تهيأت مناخاً تربوياً متحرراً من النفوذ الاستعماري وجواً ثقافياً أصيلاً ، فالإطار الثقافي الداخلي الذي ينام الإنسان في ثناياه ويصحو ، والصورة التي تجري عليها حياتنا اليومية تُكَوّنُ في الحقيقة إطارنا الثقافي الذي يخاطب كل تفصيل فيه ، فالإبداع والعطاء لن يكونا إلا عندما نترك لعالم الأفكار فرصة المحاولة في حلَّ خفايا عالم الأشياء في هذه الحالة تتوالى الحلول ، وبذلك تقوم النهضة العلمية في مجتمع ما ، أما إذا كان عالم الأفكار مستعاراً لا نملكه ولا نحتوي لبه وأصله فسيكون عنده قصور في الكشف عن مميزات عالمنا ، وتراوح الأمور العلمية مكانها.
إن غربلة المحيط الأسري والتعليمي أمر محتم للوصول إلي نتيجة تقتضي نشئا بذاتٍ جديدةٍ لإنسان اليوم في العالم العربي والإسلامي وانتزاع كل البقايا والمخلفات التخريبية الاستعمارية يحاول زرع الجهل والفقر والانحراف في مجتمعاتنا بشتى الوسائل واستغلال غفلتنا .
المجتمع المتخلف ليس موسوماً حتماً بنقص في الوسائل المادية (الأشياء) ، وإنما بافتقاره للأفكار ، ويتجلى بصفة خاصة في طريقة استخدامه للوسائل المتوفرة لديه ، بقدر متفاوت من الفاعلية ، وفي عجزه عن إيجاد غيرها ، وعلى الأخص في أسلوبه في طرح مشاكله أو عدم طرحها على الإطلاق ، عندما يتخلى عن أي رغبة ولو مترددة بالتصدي لها ، أما حاله مع عالم الأشخاص ، فإنه يدور حول شخص الزعيم فيجعل منه وثناً يُعبد ،ولا خلاص لمجتمع من تخلفه إلا إذا كان عالم أشياءه وأشخاصه يدور حول عالم أخطاءها ليست بثورة وإذا هي اكتشفت خطأ من أخطائها ثم التفتت عنه فالأمر أدهى وأمر إن الحوار بين المسؤولين والجماهير يعيد الجسر الذي يصل الشعب بالدولة، وليس غريباً في هذا المناخ من الثقة المتبادلة أن تتحقق المعجزات ، ولو كان ثمنها مزيداً من التقشف لأن الصعوبات لا تزال بين عشية وضحاها بعصا سحرية وعلينا أن نقدم الواجب قبل أن نطالب بالحقوق :
فالحق كلمة تجذب كل منتفع طامع يريد أن يصل على حساب الحق ، فما أغراها من كلمة بينما كلمة الواجب لا تجتذب غير النافعين الذين يسعون حقاً لنهضة مجتمعهم، فالفرد في المجتمع المتخلف يطالب بحقوقه قبل أن يقوم بواجباته بينما أداء الواجب هو الكفيل الوحيد بالحصول على الحقوق
نجد أن مالك ن نبي يتكلم عن التراب لا يبحث في خصائصه وطبيعته ، ولكن يتكلم عن التراب من حيث قيمته الاجتماعية وهذه القيمة الاجتماعية للتراب مستمدة من قيمة مالكيه ، فحينما تكون قيمة الأمة مرتفعة، وحضارتها متقدمة، يكون التراب غالي القيمة ، وحيث تكون الأمة متخلفة – كما هو الحال اليوم - يكون التراب على قدرها من الانحطاط ، وذلك بسبب تأخر القوم الذين يعيشون عليه ، فها هي رمال الصحراء تغزو بشراسة الحقول الخضراء على امتداد الوطن العربي ، و بديهي أنه لا حل لهذه الأزمة غير الشجرة ؛ لكن إذا كان الإنسان الزارع لهذه الشجرة أو المؤتمن على رعايتها ، يعيش حالة تصحر داخلي فلا أمل من رؤية اللون الأخضر مرة ثانية .
لازال ترابنا العربي بكراً، رغم كل أشكال النهب التي مورست عليه في السطح أو في العمق من قبل الآخرين، وعلى الأغلب بسبب إهمالنا له وبشكل عدواني.
إن الزمن هو منبع الري لكل شعب وحينما لا يكون الوقت من أجل الإثراء أو تحصيل النعم الفانية ، أي حينما يكون ضرورياً للمحافظة على البقاء ، أو لتحقيق الخلود و الانتصار على الأخطار، يدركون قيمتها التي لا تعوض ففي هذه الساعات لا تهم الناس الثروة أو السعادة أو الألم ، وإنما الساعات نفسها إنها قيمة الوقت بنسبة للعمل فهي العملة الوحيدة التي تصلح لكل مكان ولا تسترد إذا ضاعت .
يحض الشعب العربي والإسلامي من الساعات كحظ أي شعب متحضر، لكن الوقت بنسبة إليهم له منبه إذا دقت ساعة العمل لا نقاش، ولكن أين نحن من منبه العمل فأين يذهب الشعب ؟ فنحن في العالم الإسلامي نعرف شيئاً يسمى الوقت لكننا لا ندرك معناه ولا تجزئته الفنية، ولسنا نعرف إلى الآن فكرة (الزمن) الذي يتصل اتصالاً وثيقاً بالتاريخ، وبتحديد فكرة الزمن يتحدد معنى التأثير والإنتاج.
التاريخ والحياة الخاضعان للتوقيت كان وما يزال يفوتنا قطارهما، فنحن في حاجة ملحة إلى توقيت دقيق، وخطوات واسعة لكي نعوض تأخرنا، فوقتنا الزاحف صوب التاريخ.
إن شعباً هذه حاله أحوج ما يكون إلى قدوة، وطنية ، قيادية ، حازمة في تطبيق القانون على الجميع ، ولا تسمح لأي انحراف عن مشروع النهضة التي تعلنه ريثما يعتاد الأفراد على هذا السلوك في حياتهم اليومية فتصبح ساعات العمل حقيقية ومن خلال إنسان يستطيع استغلال الوقت على أكمل وجه نستطيع أن نقول: أننا بدأنا نهضة عملية علمية حقيقية وفق خوارزميات التغيير الاجتماعي التي تناسبنا ، و النهضة لا تقوم إلا بأيدي الأتقياء والأذكياء".
وقد أمعن مالك بن نبي في الحفر حول مشكلات التخلف المزمنة متجاوزا الظواهر الطافية على السطوح إلى الجذور المتغلغلة في الأعماق،وباحثا عن السنن والقوانين الكفيلة بتحول الشعوب من حالة العجز إلى القدرة والفعالية، ومن مشكلة الاستعمار إلى مرض القابلية للاستعمار، ومن حالة تكديس الأشياء إلى حالة البناء، ومن المطالبة بالحقوق إلى القيام بالواجب أولا، والانتقال من عالم الأشياء والأشخاص إلى عالم الأفكار التي بها نبدأ بحل مشكلة التخلف، ويجب أن نصل إلى قناعة حتمية بأن مفاتيح حل المشكلات هي في الذات لا عند الآخر.

قائمة المصادر والمراجع:
القرآن الكريم
1 بن ابن خلدون عبد الرحمن( 2004 م) ، مقدمة ابن خلدون ، تحقيق : عبد الله الدرويش، دار العرب، د ط ،
2 ابن نبي مالك ( 1970 م) ، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ، دار الفكر ، ط2، دمشق ،سورية
3 ابن نبي مالك (1978 م ) ، شروط النهضة، ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر ، ط4، الجزائر.
4 ابن نبي مالك(1991 م ): دور المسلم ورسالته في الثلث الأخير من القرن العشرين ، دار الفكر،ط1، دمشق ،سورية.
5 بيوفيتش على عزت الإسلام ( 1994م ) ، بين الشرق والغرب، تر:محمد يوسف عدسة مؤسسة العلم الحديث، ط1، بيروت، لبنان.
6 جدعان فهمي (1988م) ، أسس التقدم عند مفكري الإسلام ، دار الشروق لنشر والتوزيع، ط3.
7 عبد اللطيف عبادة (1984 م ) ، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، دار الشهاب، الجزائر، ط 1 ،1984 ،ص2
،ص:65 .
8 فهمي جدعان، أسس التقدم عند مفكري الإسلام ، دار الشروق لنشر والتوزيع، ط3،1988صـ87
علي عزت بيجوفيتش ،الإسلام بين الشرق والغرب،تر:محمد يوسف عدسة مؤسسة العلم الحديث، ط1، بيروت، 1994 ،ص:278.
9 مالك بن نبي ، مشكلة الأفكار في العالم الإسلامي ،دار الفكر ، دمشق، 1970، ط2 ، ص:68 . مالك بن نبي ، شروط النهضة ،ترجمة عبد الصبور شاهين ، ط4 ،دار الفكر ، الجزائر ، 1978 ،ص:65 .
10 القرآن الكريم .
11 عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، دار الشهاب، الجزائر، ط 1 ،1984 ،ص2
،ص:65 .
12 القرآن الكريم .
13 عبد اللطيف عبادة، صفحات مشرقة من فكر مالك بن نبي، دار الشهاب، الجزائر، ط 1 ،1984 ،ص2

14 عبد الرحمن بن ابن خلدون ، مقدمة ابن خلدون ، تحقيق : عبد الله الدرويش، دار العرب، د ط ، 2004، ص :196.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...