بالرغم من الخطوات الواسعة التي قطعتها البشرية نحو الحضارة. ورسوخ مفاهيم إنسانية تنظم العلاقات بين البشر. إلا أننا لم نتخلص بعد من حساسية العلاقة بين الأنا والآخر. فما يحدث في أمريكا بعد واقعة (جورج فلويد). هو أكبر دليل على أننا لم تتخلص من جيناتنا القبلية التي سكنتنا منذ أن كنا نسكن الكهوف.
فالتفكير القبلي (الجمعي) حول جريمة شرطي أبيض في حق مواطن أسود إلى قضية عنصرية، لكن المفارقة أنها في أعتى الأنظمة الديموقراطية في العالم.
طبعا شبهة العنصرية واردة. لكن من الوارد أيضا أنها لم تخطر بباله. وأن الأمر ليس أكثر من انفعال خرج عن السيطرة. وسوء تقدير. أعنى لو فكر السود على هذا النحو لأصبح الأمر مجرد حادث يعالج قانونيا في دولة تزعم الديموقراطية وسيادة القانون. لكن ردة الفعل بين السود، تشير إلى أن إيمانهم بالديموقراطية هشا. يهدمه حادث فردي ويحيله إلى سلوك جمعي تحمه ثقافة القطيع، ليبدو أن البشر لم يتخلصو بعد من هواجس العنصرية.
بالأمس اعترض رجل مسن أبيض طريق قوات الشرطة في نيويورك، دفعه أحد الجنود في صدره فاختل توازنه وسقط على رأسه. ثم تبين أن الرجل أصيب بجلطة دماغية قد يفارق الحياة بعدها. ليس في الأمر شبهة عنصرية عرقية هنا فالرجل أبيض. ولكننا كبشر لن نتوقف عن التفكير عبر سيكولوجيا القبيلة. فنرى الأمر صراعا حتميا بين الشرطة ككل، والشعب ككل أيضا.
بهذه الطريقة تتشكل العلاقات بين البشر على أساس ثنائي حيث تظل الأنا دائما في مواجة والآخر ومتحفزة له. هذا ما نعنيه بسيكولوجيا القطيع. هذه الثنائيات موجودة في حياتنا اليومية البسيطة أيضا. فعلى الرغم من التعايش، والمعاناة المشتركة بين البشر. إلا أن التفكير الثنائي هو الذي يحكمنا، فمن ليس منا هو عدو محتمل.
طبعا لا نبرر سلوك رجل الشرطة الأمريكي.
مفروض أن الشرطي مدرب على الانضباط، والتحكم في انفعالاته، لأنه أكثر الناس عرضة لكل أنواع الضغوط الاجتماعية.. فضلا عن أن طبيعة عمله، تلزمه بالتعامل مع المنحرفين والخارجين على القانون أصلا. . وتحت وطأة هذه الظروف قد يخرج الأمر عن السيطرة. صحيح هو إنسان له خطاياه وانفعالاته. لكن هذا لا يعني أن يفلت من العقاب. هنا يأتي معنى المسؤلية الفردية، فالإنسان الذي يختار مهنة ما، عليك أن يقبل كل شروطها ومخاطرها.
المفارقة هنا.. فرغم تمسكنا بفرديتنا كذوات مستقلة، إلا سيكولوجيا القطيع غريزة كامنة فينا ومازالت قادرة على العمل، وكأنها ضرورة لتصنع تاريخ الدراما البشرية.
تبدأ الدراما عندما يهتز يقين الإنسان بفرديته وذاته المستقلة، ووعيه الخاص، فيفقد الإنسان إحساسه بالمكانة. عندئذ يبدأ البحث عن المكان بدلا من المكانة. والمكان الوحيد الذي يرحب بك، هو القطيع. فالقطيع يحقق للجميع برمجة عصبية واحدة، شبكة معلوماتية تغطي الجميع بفكرة واحدة، وسيطرة هيسترية لفكرة واحدة. هكذا فالعلاقة بين المكانة والمكان هي صانعة الدراما البشرية.
من وجهة النظر هذه، فثقافة الإنترنت تغذي ثقافة القطيع. والخروج عنها ثمنه فادح، فلو اخترت المكانة احتراما لذاتك المفردة، فلا مكان لك بين القطيع. ستشعر بالعزلة، والاستبعاد عن كل المزايا. وتتحمل كل أساليب العدوان وحدك لأنك بدون حماية وبدون قطيع.
. من هنا نفهم رغبتنا في تشكيل قطعان صغيرة على نحو منظم ومسيس: فالأحزاب والتنظيمات ليست سوى قطعان مسيسة. والشلل الأدبية والجماعات الحقوقية.. بل والصفحات العائلية على الفيس بوك.. ومع الوقت تصبح الألقاب العلمية والوظيفية قطعان مميزة، لها محيطها الخاص.. هكذا نحن جميعا جردنا مفهوم المجتمع من معنى التشارك، ليتحول إلى محيط واسع لاستيعاب أكبر عدد من القطعان. وداخل كل قطيع آليات منظمة لعلاقات افراده يمكن تسميتها بدوائر المصالح المتبادلة.
أما التظاهرات، والثورات، فهي أكبر تمثلات القطيع المنظمة والمسيسة. عندما تكون هناك فكرة كبرى، تبدو نبيلة ومقنعة بما يكفي لتجمع أكبر عدد ممكن من القطعان الصغيرة. صحيح سيكون هناك هدف مميز لكل قطيع صغير.. لكن بمجرد اجتماعها تبدأ الرغبة في توحيد القطيع ليكون أكبر ما يمكن.
بالتأكيد كان أكثر المتظاهرين في أمريكا، من أصول غير أمريكية. أو من أمريكان ديموقراطيين. فالهدف هنا يتجاوز معاقبة الشرطي إلى رئيس الدولة نفسه. بل وحزبه الحاكم.. ففي ظل هذا النظام الحزبي لا أحد ينعم بالديموقراطية على نحو مطلق . فانتصار حزبك هو انتصارك الشخصي، وخسارته هي خسارتك أيضا.
الأمريكان يعرفون هذا جيدا. (نحن نصرف المليارات لينتصر حزبنا) لتبدو الديموقراطية لعبة مؤسسة على مجموعة من المصالح المتبادلة في باطنها، وفي ظاهرها لعبة عسكر وحرامية حيث يتم اختيار كبش الفداء باتفاق ضمني بين أفراد القطيع.
سأسلم بأن التظاهرات بعد واقعة ( جورج فلويد) رد فعل إنساني وطبيعي. أنا شخصيا شعرت بالغضب وأنا متكئ على الكنبة أمام التلفزيون. لكن بعد أيام قليلة من الواقعة راجعت نفسي بسؤال: إذا كانت التظاهرة هي رد فعل إنساني وحضاري فما الذي حولها إلى عملية نهب واسعة؟ أي بعكس ما تعلنه تماما.
التصور البسيط، أن سلوك القطيع الغاضب يمكن التحكم فيه، فبمجرد أن يكسر أحدهم زجاج إحدى الفاترينات وينهب مافيها، حتى يكرر القطيع كله نفس الأمر. بهذه الطريقة نمنح صوتنا لعضو مجلس الشعب الفاسد في كل مرة.ثم نشكو من فساده.
ثم واقعة كنت شاهدا عليها أثناء تظاهرة المثقفين ضد وزير الثقافة الإخواني.
كانت التظاهرة تتكون من مئات المثقفين وتتوجه إلى مجلس الشعب: كتاب،شعراء. إعلاميين، فنانين، اساتذة جامعة. كنا جميعا نعرف بعضنا تقريبا. وكان الشعار الوحيد الذي نردده: ( الثقافة خط أحمر).
سمحوا لنا بالتجمع في الساحة الخلفية لمجلس الشعب. كنا قد انهكنا تقريبا من طول المسيرة. وفي تلك اللحظة ظهر بعض الشباب لا نعرف أي منهم، اعتلى أحدهم كتف الآخر وهتف بصوت جهوري ( يسقط يسقط حكم العسكر).
ردد البعض وراءه الهتاف على استحياء، فهذا الهتاف لا علاقة له بموضوع التظاهرة، لكن الشاب الهتيف راح يشجعهم ويهتف .. شيئا فشيء بدأ الجميع يرددون الهتاف. فيما خرج نفر قليل من التظاهرة ووقف على مبعدة يراقب في دهشة وهم يتبادلون سوالا واحدا.. من هذا؟… من هذا ياجماعة؟
السؤال المؤلم: كيف استطاع شاب شبه أمي السيطرة على قطيع من المثقفين؟
الإجابة: عندما اعتلى المسيرة، امتلك المكانة. إنه الزعيم الآن. إنه بطل العرض الدرامي.
أما الذين انسحبوا بهدوء فلم يفكروا في شيء غير مكانتهم التي سوف تهتز بزعامة شخص ليس منا. عندئذ يتحول الزعيم إلى عدو.. إلى آخر. وهذا يعني أن ثم دراما جديدة، تتشكل.
sadazakera.wordpress.com
فالتفكير القبلي (الجمعي) حول جريمة شرطي أبيض في حق مواطن أسود إلى قضية عنصرية، لكن المفارقة أنها في أعتى الأنظمة الديموقراطية في العالم.
طبعا شبهة العنصرية واردة. لكن من الوارد أيضا أنها لم تخطر بباله. وأن الأمر ليس أكثر من انفعال خرج عن السيطرة. وسوء تقدير. أعنى لو فكر السود على هذا النحو لأصبح الأمر مجرد حادث يعالج قانونيا في دولة تزعم الديموقراطية وسيادة القانون. لكن ردة الفعل بين السود، تشير إلى أن إيمانهم بالديموقراطية هشا. يهدمه حادث فردي ويحيله إلى سلوك جمعي تحمه ثقافة القطيع، ليبدو أن البشر لم يتخلصو بعد من هواجس العنصرية.
بالأمس اعترض رجل مسن أبيض طريق قوات الشرطة في نيويورك، دفعه أحد الجنود في صدره فاختل توازنه وسقط على رأسه. ثم تبين أن الرجل أصيب بجلطة دماغية قد يفارق الحياة بعدها. ليس في الأمر شبهة عنصرية عرقية هنا فالرجل أبيض. ولكننا كبشر لن نتوقف عن التفكير عبر سيكولوجيا القبيلة. فنرى الأمر صراعا حتميا بين الشرطة ككل، والشعب ككل أيضا.
بهذه الطريقة تتشكل العلاقات بين البشر على أساس ثنائي حيث تظل الأنا دائما في مواجة والآخر ومتحفزة له. هذا ما نعنيه بسيكولوجيا القطيع. هذه الثنائيات موجودة في حياتنا اليومية البسيطة أيضا. فعلى الرغم من التعايش، والمعاناة المشتركة بين البشر. إلا أن التفكير الثنائي هو الذي يحكمنا، فمن ليس منا هو عدو محتمل.
طبعا لا نبرر سلوك رجل الشرطة الأمريكي.
مفروض أن الشرطي مدرب على الانضباط، والتحكم في انفعالاته، لأنه أكثر الناس عرضة لكل أنواع الضغوط الاجتماعية.. فضلا عن أن طبيعة عمله، تلزمه بالتعامل مع المنحرفين والخارجين على القانون أصلا. . وتحت وطأة هذه الظروف قد يخرج الأمر عن السيطرة. صحيح هو إنسان له خطاياه وانفعالاته. لكن هذا لا يعني أن يفلت من العقاب. هنا يأتي معنى المسؤلية الفردية، فالإنسان الذي يختار مهنة ما، عليك أن يقبل كل شروطها ومخاطرها.
المفارقة هنا.. فرغم تمسكنا بفرديتنا كذوات مستقلة، إلا سيكولوجيا القطيع غريزة كامنة فينا ومازالت قادرة على العمل، وكأنها ضرورة لتصنع تاريخ الدراما البشرية.
تبدأ الدراما عندما يهتز يقين الإنسان بفرديته وذاته المستقلة، ووعيه الخاص، فيفقد الإنسان إحساسه بالمكانة. عندئذ يبدأ البحث عن المكان بدلا من المكانة. والمكان الوحيد الذي يرحب بك، هو القطيع. فالقطيع يحقق للجميع برمجة عصبية واحدة، شبكة معلوماتية تغطي الجميع بفكرة واحدة، وسيطرة هيسترية لفكرة واحدة. هكذا فالعلاقة بين المكانة والمكان هي صانعة الدراما البشرية.
من وجهة النظر هذه، فثقافة الإنترنت تغذي ثقافة القطيع. والخروج عنها ثمنه فادح، فلو اخترت المكانة احتراما لذاتك المفردة، فلا مكان لك بين القطيع. ستشعر بالعزلة، والاستبعاد عن كل المزايا. وتتحمل كل أساليب العدوان وحدك لأنك بدون حماية وبدون قطيع.
. من هنا نفهم رغبتنا في تشكيل قطعان صغيرة على نحو منظم ومسيس: فالأحزاب والتنظيمات ليست سوى قطعان مسيسة. والشلل الأدبية والجماعات الحقوقية.. بل والصفحات العائلية على الفيس بوك.. ومع الوقت تصبح الألقاب العلمية والوظيفية قطعان مميزة، لها محيطها الخاص.. هكذا نحن جميعا جردنا مفهوم المجتمع من معنى التشارك، ليتحول إلى محيط واسع لاستيعاب أكبر عدد من القطعان. وداخل كل قطيع آليات منظمة لعلاقات افراده يمكن تسميتها بدوائر المصالح المتبادلة.
أما التظاهرات، والثورات، فهي أكبر تمثلات القطيع المنظمة والمسيسة. عندما تكون هناك فكرة كبرى، تبدو نبيلة ومقنعة بما يكفي لتجمع أكبر عدد ممكن من القطعان الصغيرة. صحيح سيكون هناك هدف مميز لكل قطيع صغير.. لكن بمجرد اجتماعها تبدأ الرغبة في توحيد القطيع ليكون أكبر ما يمكن.
بالتأكيد كان أكثر المتظاهرين في أمريكا، من أصول غير أمريكية. أو من أمريكان ديموقراطيين. فالهدف هنا يتجاوز معاقبة الشرطي إلى رئيس الدولة نفسه. بل وحزبه الحاكم.. ففي ظل هذا النظام الحزبي لا أحد ينعم بالديموقراطية على نحو مطلق . فانتصار حزبك هو انتصارك الشخصي، وخسارته هي خسارتك أيضا.
الأمريكان يعرفون هذا جيدا. (نحن نصرف المليارات لينتصر حزبنا) لتبدو الديموقراطية لعبة مؤسسة على مجموعة من المصالح المتبادلة في باطنها، وفي ظاهرها لعبة عسكر وحرامية حيث يتم اختيار كبش الفداء باتفاق ضمني بين أفراد القطيع.
سأسلم بأن التظاهرات بعد واقعة ( جورج فلويد) رد فعل إنساني وطبيعي. أنا شخصيا شعرت بالغضب وأنا متكئ على الكنبة أمام التلفزيون. لكن بعد أيام قليلة من الواقعة راجعت نفسي بسؤال: إذا كانت التظاهرة هي رد فعل إنساني وحضاري فما الذي حولها إلى عملية نهب واسعة؟ أي بعكس ما تعلنه تماما.
التصور البسيط، أن سلوك القطيع الغاضب يمكن التحكم فيه، فبمجرد أن يكسر أحدهم زجاج إحدى الفاترينات وينهب مافيها، حتى يكرر القطيع كله نفس الأمر. بهذه الطريقة نمنح صوتنا لعضو مجلس الشعب الفاسد في كل مرة.ثم نشكو من فساده.
ثم واقعة كنت شاهدا عليها أثناء تظاهرة المثقفين ضد وزير الثقافة الإخواني.
كانت التظاهرة تتكون من مئات المثقفين وتتوجه إلى مجلس الشعب: كتاب،شعراء. إعلاميين، فنانين، اساتذة جامعة. كنا جميعا نعرف بعضنا تقريبا. وكان الشعار الوحيد الذي نردده: ( الثقافة خط أحمر).
سمحوا لنا بالتجمع في الساحة الخلفية لمجلس الشعب. كنا قد انهكنا تقريبا من طول المسيرة. وفي تلك اللحظة ظهر بعض الشباب لا نعرف أي منهم، اعتلى أحدهم كتف الآخر وهتف بصوت جهوري ( يسقط يسقط حكم العسكر).
ردد البعض وراءه الهتاف على استحياء، فهذا الهتاف لا علاقة له بموضوع التظاهرة، لكن الشاب الهتيف راح يشجعهم ويهتف .. شيئا فشيء بدأ الجميع يرددون الهتاف. فيما خرج نفر قليل من التظاهرة ووقف على مبعدة يراقب في دهشة وهم يتبادلون سوالا واحدا.. من هذا؟… من هذا ياجماعة؟
السؤال المؤلم: كيف استطاع شاب شبه أمي السيطرة على قطيع من المثقفين؟
الإجابة: عندما اعتلى المسيرة، امتلك المكانة. إنه الزعيم الآن. إنه بطل العرض الدرامي.
أما الذين انسحبوا بهدوء فلم يفكروا في شيء غير مكانتهم التي سوف تهتز بزعامة شخص ليس منا. عندئذ يتحول الزعيم إلى عدو.. إلى آخر. وهذا يعني أن ثم دراما جديدة، تتشكل.
كيف نصنع الدراما البشرية؟ بقلم: سيد الوكيل
بالرغم من الخطوات الواسعة التي قطعتها البشرية نحو الحضارة. ورسوخ مفاهيم إنسانية تنظم العلاقات بين البشر. إلا أننا لم نتخلص بعد من حساسية العلاقة بين الأنا والآخر. فما يحدث في أمريكا بعد واقعة (جو…