مصطفى نصر - كلمات قاتلة..

سافرنا في يوم الاثنين الموافق 10 إبريل سنة 2000. أنا وسعيد بكر وعبد الله هاشم وأحمد حميدة إلى القاهرة، وكالعادة ذهبنا في الصباح إلى هيئة الكتاب، ثم دار الهلال، وهيئة قصور الثقافة – وفي المساء ذهبنا إلى نادي القصة بشارع قصر العيني لمناقشة مجموعة سعيد بكر القصصية " شهقة ".
وكان المرحوم عبد الرحمن شلش – المشرف على النشاط الثقافي في نادي القصة – قد أعلن عن رغبته في مناقشة مجموعة قصصية لي، فقلت له:
- عندي مجموعة قصصية جديدة اسمها " حفل زفاف في وهج الشمس "
فطلب عددا من النسخ لتقديمها للنقاد ولبعض الحضور في الندوة، وبالفعل أخذت معي مجموعة من النسخ، وسلمتها له.
وحضر الندوة الكثير من الكتاب، أتذكر منهم: صفوت عبد المجيد ومحمد محمود عبد الرازق، وحسن الجوخ وعبد العال الحمامصي ومحمد قطب ونبيل عبد الحميد، ومحمد جبريل الذي يحرص على حضور أي ندوة في القاهرة لكاتب سكندري، على أساس إنه سكندري مثله، يعني بلدياته.
وتحدث الحضور مرحبين بنا، وجاء الدور على حسن الجوخ، فأثنى على جهد محمد جبريل في اتحاد الكتاب، فقد كان يشغل نائب الرئيس ( كان رئيس الأتحاد وقتها الشاعر فاروق شوشة ) وقال ما معناه، إن محمد جبريل قد ترك عمله الأدبي والصحفي وتفرغ لاتحاد الكتاب، فأثار هذا الكلام عبد العال الحمامصي، فهو أيضا عضو مجلس إدارة اتحاد كتاب، فاعترض على كلام حسن الجوخ، من باب ( هو يعني وحده الذي يعمل وباقي أعضاء مجلس الإدارة لا يعملون ) وتطور الحديث بينهما إلى أن وصل للسباب.
فإذ بعبد العال الحمامصي يصيح مندهشا من جرءة حسن الجوخ عليه، ومما قاله له ليلتها:
- ثلاث رؤساء جمهورية لم يستطعوا قولها، وتأتي أنت لتقولها لي؟!
وتدهش لحشر الرؤساء الثلاثة ( جمال عبد الناصر وأنور السادات وحسني مبارك ) في مشاجرة كهذه.
وأعتقد أن تفسيرها نابع من إحساس عبد العال الحمامصي بأهميته لأن الرئيس مبارك يعرفه شخصيا. ففي كل افتتاح معرض كتاب، يتحدث الحمامصي، ويقول له مبارك:
- عارف يا عبد العال، لازم أنت تتكلم.
فكيف يجرؤ إنسان على سب شخص معروف لرئيس الدولة شخصيا؟!
فإذ بعبد الرحمن شلش يغمى عليه، فالندوة مقامة تحت رعايته وبتوضيبه، فاسرع البعض في البحث بين ملابسه واستخراج حبة من الحبوب التي يتناولها، وضعوها في فمه، لكنه لم يفق، فحملوه إلى بيته، ومات في ليلتها.
موت عبد الرحمن شلش سببه مدى رقته، فهو وشقيقه علي شلش كانا في منتهى الرقة وكأنهما صنعا من زجاج، فقد مات علي أيضا بسبب حادث مشابه لذلك، في مؤتمر من المؤتمرات الأدبية.
وفي يوم 15 فبراير 1947، اجتمع المجلس الأعلى للأزهر برئاسة الدكتور مصطفى عبد الرازق – شيخ الأزهر – الذي اقترح فيه تدريس اللغة الإنجلبزية لطلبة المعاهد التابعة للأزهر – لكن الشيخ حسنين مخلوف – مفتي الديار المصرية، والعضو في المجلس الأعلى للأزهر اعترض على هذا القرار وقال إن ذلك سيضعف الدين.
فصاح الشيخ مصطفى عبد الرازق مندهشا وغاضبا:
- إضعاف الدين لا يمكن أن يأتي عن طريق أسرة عبد الرازق.
فمحمود باشا عبد الرازق - والد علي ومصطفى عبد الرازق - هو الذي اهتم بالجمعية الخيرية التي أنشأها الشيخ محمد عبده وتولى رعايتها وكفل نموها وازدهارها، وأفضال أسرة عبد الرازق على النواحي الدينية والثقافية لا يمكن تجاهلها.
وخرج الشيخ مصطفى عبد الرازق من الاجتماع إلى سيارته وهو يغلي من الغيظ.
وفي بيته تناول غداءه مع أسرته، وجلس وحيدا يسترجع ما حدث، فإذ بأزمة قلبية حادة تغتاله وتقتله.
وفي 12 أغسطس 1981 ذهب الشاعر صلاح عبد الصبور إلى بيت صديقه أحمد عبد المعطي حجازي، بمناسبة عودته من باريس واستقراره بالقاهرة.
حضر اللقاء عدد كبير من الشعراء والصحفيين والفنانين، ودار الحديث عما يحدث في مصر ومحاولة السادات للتطبيع مع إسرائيل، فإذ بالفنان بهجت عثمان، يلوم صلاح عبد الصبور لقبوله العمل مع السادات، وقال له:
- أنت بعت نفسك بتلاتة نكلة.
كان الاتهام قاسيا، خاصة عندما يكون لشاعر كبير مرهف الحس مثل صلاح عبد الصبور، وفي وجود زوجته الإعلامية سميحة غالب التي غضبت وثارت، ودعت زوجها لترك الجلسة والعودة إلى بيتهما.
وخرج صلاح عبد الصبور مع زوجته، ومات فور وصوله إلى بيته.
ويحكون إن الكاتب الرومانسى الرقيق محمد عبد الحليم عبد الله، قد تشاجر مع سائق سيارة أجرة، أراد أن تنقله لبلدته هو وابنه، فسبه السائق بألفاظ نابية، لم يستطع محمد عبد الحليم عبد الله احتمالها، فمات.
لا أعتقد أن من ذكرتهم قد ماتوا من تأثير هذه المواقف أو تلك الكلمات، وإنما أشياء أخرى كانت كامنة في نفوسهم، وهذه الكلمات والمواقف كانت القشة التي قصمت ظهر البعير – كما يقولون- فعبد الرحمن شلش كان يعاني من تجاهل الدولة له، فهو لا يعمل ويعتمد على عائد مدخراته ودخل زوجته – الأستاذة في الكلية – والشيخ مصطفى عبد الرازق لاقي أثناء مشيخته للأزهر- من ديسمبر 1945 حتى فبراير 1947- بعض الصعوبات من المشايخ والطلاب علي حد سواء. ومن الأسف أن بعض كبار رجال الإدارة كانوا من بين المحرضين للطلاب ضده، وظهرت صورة رديئة من معارضة الطلاب في حفلة أقامتها مشيخة الأزهر بمناسبة عيد ميلاد الملك، وخطب فيها الشيخ الأكبر في الرواق العباسي.
وصلاح عبد الصبور لم يمت من تأثير كلمات بهجت عثمان له، فقد كان يعاني من صراع داخله، بين موهبته العظيمة وعبقريته النادرة، ومتطلبات الحياة التي جعلته يقبل الوظائف المعروضة عليه من نظام السادات المريب والذي يرفضه صلاح عبد الصبور في داخله.
ومحمد عبد الحليم عبد الله لم يمت بسبب ألفاظ سائق سيارة الأجرة النابية، وإنما عانى من حالة إحباط رافقته في أواخر حياته، فهو لم ينل حقه الوظيفي في عمله بالمجمع اللغوي، ولم ينل حقه الأدبي، فلم يكتف النقاد بتجاهله وإنما هاجموا رومانسيته المفرطة وطريقته في الكتابة وعدم اهتمامه بالسياسة، وكان يوسف السباعي يقول عن هؤلاء النقاد:
- لقد كانوا سببا في موت محمد عبد الحليم عبد الله.
أحساس محمد عبد الحليم عبد الله بالقهر مما قاله سائق سيارة الأجرة، جعله يفكر في كل ما حدث له في عمله وفي موقعه ككاتب روائي، فمات كمدا.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...