كثيرا ما كانت لحظات الضعف البشري ووقوف الإنسان عاجزا في مواجهة التهديدات محفزا للإبداع والحكايات، السرد الذي يشكّله الكاتب ويبثه شجونه وشعوره بالضآلة والضعف في مواجهة هذا الوجود المتغير، الوجود الذي يغافلنا فيغدر بنا في لحظة مباغتة، فيتجلى الأدب الذي يدور حول الهجوم المفاجئ للأوبئة حين تهيل التراب على الحياة والأحلام، ويتجسد من خلاله المرض الذي يجعلنا نتجرع من الآلام ما لا قبل لنا باحتماله، آلام المرض وأوجاعه، أو فقدنا لأحبائنا.
وقوفك على الحافة بين الحياة والموت، وشعورك أنك لا تملك لنفسك مجرد العيش ليوم واحد رغم رغبتك في الحياة لحظة وجودية فارقة، العدمية في صورتها البائسة.
أن تحيا أيضا وأحباؤك يتساقطون من حولك واحدا تلو الآخر دون أن تستطيع أن تفعل من أجلهم شيئا، حتى مجرد التخفيف من الألم، تلك لحظة عري داخلي صاخبة في مواجهة الوجود وجدوى الحياة البشرية.
يتجسد فيروس كورونا العدو الذي لا نراه لكنه يميتنا كوباء قد شمل دول الكرة الأرضية كلها بنسب متفاوتة، في العقود السابقة كان الوباء يشمل دولة أو عدة دول متجاورة، لكن نتيجة للثورة التكنولوجية والقدرة على الحركة والتنقلات وسهولتها أصبح العالم وكأنه دولة واحدة.
لحظة فارقة أن نشاهد العالم لأول مرة في حياتنا يطفئ أنواره، يغلق مراكز حضاراته وكيانات فنونه، تغلق المتاحف والمسارح والسينمات، تؤجل مباريات كرة القدم، توصد أبواب البرلمانات ودور العبادة والجامعات والمدارس، كما يتساقط الحكام وذوي النفوذ والشهرة والأغنياء كما البسطاء دون تفرقة تُذكر، فالموت يحصد أرواح الجميع. تلك اللحظة تسمى باللحظات الفارقة أي التي تؤرخ للحياة ما قبل تلك اللحظة ثم الحياة ما بعدها، فتلك لحظة أدبية وفنية بامتياز، غنية بالتناقضات، بالرغبة في الحياة أو القنوط منها ومن ثم الاستسلام، وقت يستدعى الإبداعات الإنسانية بكافة أشكالها الآداب والسنيما والفنون التشكيلية والموسيقى، الكيانات الإنسانية التي ترصد وتؤرخ، والأخرى التي تستشرف المستقبل كما تبحث في الماضي لعلها
تفسر لحظتها الحرجة البرزخية.
وتحضرني بعض الأعمال الأدبية التي تناولت حياة البشر لحظة تفشي الأوبئة، مثل: "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، و"الطاعون" لألبير كامو، وقصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة، و"ملحمة الحرافيش" لنجيب محفوظ.
ولقد صور وجسّد نجيب محفوظ ما يصاحب الأوبئة من مظاهر الفزع والرعب، من الآلام التي تفاجئ الجموع، جسد حضور الموت الثقيل وروائحه، الفقد والضياع والوحدة، رصد للتغير في سلوك البشر وحالات السرقة والنهب التي تصاحب فراغ الأماكن والبيوت من البشر، مواجهة الجوع، واستحلال كل شيء تحت وطأة تلك اللحظات العدمية، صور الخراب الاقتصادي وكأن الحياة تبدأ لحظتها الأولى في الرقعة المكانية التي حلت بها تلك الأوبئة.
في مقابل التكية التي لجأ إليها الناجي في ملحمة الحرافيش للدعاء والتبرك والتوسل إلى الله أن يزيح عنهم تلك الغمة، فرضت الأوبئة المعاصرة نوعا من العقلانية والموضوعية، من تقدير العلم والعلماء، ووضع الجانب الروحي مظلة عليا تريح النفس البشرية لكن يبقى للبحث العلمي دوره الفاعل في أن يسعف الإنسان في مواجهة هذا الخطر المحدق، لقد برزت قيم الشفافية والتفكير العلمي وفن إدارة الأزمات في اللحظة المعاصرة وتأكدت لمواجهة هذه الأقدار التي تواجه البشرية وتصفعها بعبثيتها.
يسمي محفوظ وباء الكوليرا في الحرافيش ب"الشوطة" ويلجأ للجبل هو وزوجته وابنه لعزلهم تماما عن حارات الموت التي فرغت من سكانها حين حاصرهم الخطر من كل جانب، يقول ليصف هول الفاجعة:" وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار. ولهجت أصوات مهولة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين، ووقف شيخ الحارة عم حمدي أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت، وبوجه مكفهر راح يقول: إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة. وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا ، ثم مضى يقول: ـ اسمعوا كلمة الحكومة.. أنصت الجميع باهتمام، ترى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟! تجنبوا الزحام. فترامقوا في ذهول، حياتهم تجري في الحارة. والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ لكنه قال موضحا: تجنبوا القهوة والبوظة والغرز. الفرار من الموت إلى الموت، لشد ما تتجهمنا الحياة! ــ والنظافة .. النظافة.. تطلعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتبلدة. ــ اغلوا ماء الآبار والقرب قبل استعمالها .. اشربوا عصير الليمون والبصل ..
ساد الصمت، وظلَّ ظِل الموت ممتدا فوق الرؤوس حتى تساءل صوت: أهذا كل شيء؟ فقال حميدو بنبرة الختام: أذكروا ربكم، وارضوا بقضائه."
وقد تتدافع الأسئلة في لحظتنا الحرجة تلك: أليس هذا المحكي عنه هو ذات المشاهد التي نعيشها الآن وتكررت بالتاريخ مرات ومرات، هل ما يحدث بين الدول الكبرى في السر أو في قدر ضئيل من العلن بروفة للحرب البيولوجية التي يلوحون بها بعضهم للبعض، هل ما نعايشه اليوم كان مخططا له منذ زمن وهناك من يعرفونه؟ لقد صدرت رواية "عيون الظلام" للكاتب الأمريكي "دين كونتز" عام 1981 وفيها جسد وصور ظهور فيروس في مدينة واهان الصينية عام 2020، ثم تفشيه وانتشاره في دول العالم كله ، هل بإمكان الأدب والفن التنبؤ بأحداث المستقبل وتوقع ما يمكن أن يحدث به؟
تظل لحظتنا المتوترة تلك تتقافز على سطح صفيح ساخن، وتختلف نسبيا عن عصر الناجي في الحرافيش فلقد عرف العلم وحدد الفيروس الذي يودي بحياة الآلاف، من أين بدأ وكيف تطور، عرف الحالات ومخالطيهم، لكن الجميع ينتظر على أحر من الجمر ما يصدر من بيانات من قلب معامل المختبرات والجامعات لاكتشاف المصل الطبي الذي سينقذ البشرية من هذا الموت، من الخوف، من الكمون والحجر القاتل؟ وهو نفس ما صوره الأدب بطرق فنية وسردية متعددة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن يتخيل المستقبل ثم يقوم بصناعة وخلق ما تخيله، تلك هي ميزته الأساسية، الخيال ثم القدرة على تحويله لحقائق.
ستظل المساحة بين العلم والأقدار، بين التجربة وتصاريف الطبيعة أو القوى الغيبية، بين الإرادة واختيار المقاومة وما يفرض على البشر، حيث لا يد لهم في تحديده، من أهم المناطق التي تدعو للإبداعات بأشكالها الفنية المتنوعة.
وقوفك على الحافة بين الحياة والموت، وشعورك أنك لا تملك لنفسك مجرد العيش ليوم واحد رغم رغبتك في الحياة لحظة وجودية فارقة، العدمية في صورتها البائسة.
أن تحيا أيضا وأحباؤك يتساقطون من حولك واحدا تلو الآخر دون أن تستطيع أن تفعل من أجلهم شيئا، حتى مجرد التخفيف من الألم، تلك لحظة عري داخلي صاخبة في مواجهة الوجود وجدوى الحياة البشرية.
يتجسد فيروس كورونا العدو الذي لا نراه لكنه يميتنا كوباء قد شمل دول الكرة الأرضية كلها بنسب متفاوتة، في العقود السابقة كان الوباء يشمل دولة أو عدة دول متجاورة، لكن نتيجة للثورة التكنولوجية والقدرة على الحركة والتنقلات وسهولتها أصبح العالم وكأنه دولة واحدة.
لحظة فارقة أن نشاهد العالم لأول مرة في حياتنا يطفئ أنواره، يغلق مراكز حضاراته وكيانات فنونه، تغلق المتاحف والمسارح والسينمات، تؤجل مباريات كرة القدم، توصد أبواب البرلمانات ودور العبادة والجامعات والمدارس، كما يتساقط الحكام وذوي النفوذ والشهرة والأغنياء كما البسطاء دون تفرقة تُذكر، فالموت يحصد أرواح الجميع. تلك اللحظة تسمى باللحظات الفارقة أي التي تؤرخ للحياة ما قبل تلك اللحظة ثم الحياة ما بعدها، فتلك لحظة أدبية وفنية بامتياز، غنية بالتناقضات، بالرغبة في الحياة أو القنوط منها ومن ثم الاستسلام، وقت يستدعى الإبداعات الإنسانية بكافة أشكالها الآداب والسنيما والفنون التشكيلية والموسيقى، الكيانات الإنسانية التي ترصد وتؤرخ، والأخرى التي تستشرف المستقبل كما تبحث في الماضي لعلها
تفسر لحظتها الحرجة البرزخية.
وتحضرني بعض الأعمال الأدبية التي تناولت حياة البشر لحظة تفشي الأوبئة، مثل: "الحب في زمن الكوليرا" لماركيز، و"الطاعون" لألبير كامو، وقصيدة "الكوليرا" لنازك الملائكة، و"ملحمة الحرافيش" لنجيب محفوظ.
ولقد صور وجسّد نجيب محفوظ ما يصاحب الأوبئة من مظاهر الفزع والرعب، من الآلام التي تفاجئ الجموع، جسد حضور الموت الثقيل وروائحه، الفقد والضياع والوحدة، رصد للتغير في سلوك البشر وحالات السرقة والنهب التي تصاحب فراغ الأماكن والبيوت من البشر، مواجهة الجوع، واستحلال كل شيء تحت وطأة تلك اللحظات العدمية، صور الخراب الاقتصادي وكأن الحياة تبدأ لحظتها الأولى في الرقعة المكانية التي حلت بها تلك الأوبئة.
في مقابل التكية التي لجأ إليها الناجي في ملحمة الحرافيش للدعاء والتبرك والتوسل إلى الله أن يزيح عنهم تلك الغمة، فرضت الأوبئة المعاصرة نوعا من العقلانية والموضوعية، من تقدير العلم والعلماء، ووضع الجانب الروحي مظلة عليا تريح النفس البشرية لكن يبقى للبحث العلمي دوره الفاعل في أن يسعف الإنسان في مواجهة هذا الخطر المحدق، لقد برزت قيم الشفافية والتفكير العلمي وفن إدارة الأزمات في اللحظة المعاصرة وتأكدت لمواجهة هذه الأقدار التي تواجه البشرية وتصفعها بعبثيتها.
يسمي محفوظ وباء الكوليرا في الحرافيش ب"الشوطة" ويلجأ للجبل هو وزوجته وابنه لعزلهم تماما عن حارات الموت التي فرغت من سكانها حين حاصرهم الخطر من كل جانب، يقول ليصف هول الفاجعة:" وترامت أخبار مماثلة من الحارات المجاورة فاستحكم الحصار. ولهجت أصوات مهولة بالأوراد والأدعية والاستغاثة بأولياء الله الصالحين، ووقف شيخ الحارة عم حمدي أمام دكانه وضرب الطبلة براحته فهرع الناس إليه من البيوت والحوانيت، وبوجه مكفهر راح يقول: إنها الشوطة، تجيء لا يدري أحد من أين، تحصد الأرواح إلا من كتب الله له السلامة. وسيطر الصمت والخوف فتريث قليلا ، ثم مضى يقول: ـ اسمعوا كلمة الحكومة.. أنصت الجميع باهتمام، ترى أفي وسع الحكومة دفع البلاء؟! تجنبوا الزحام. فترامقوا في ذهول، حياتهم تجري في الحارة. والحرافيش يتلاصقون بالليل تحت القبو وفي الخرابات، فكيف يتجنبون الزحام؟ لكنه قال موضحا: تجنبوا القهوة والبوظة والغرز. الفرار من الموت إلى الموت، لشد ما تتجهمنا الحياة! ــ والنظافة .. النظافة.. تطلعت إليه في سخرية أعين الحرافيش من وجوه متوارية وراء أقنعة من الأتربة المتبلدة. ــ اغلوا ماء الآبار والقرب قبل استعمالها .. اشربوا عصير الليمون والبصل ..
ساد الصمت، وظلَّ ظِل الموت ممتدا فوق الرؤوس حتى تساءل صوت: أهذا كل شيء؟ فقال حميدو بنبرة الختام: أذكروا ربكم، وارضوا بقضائه."
وقد تتدافع الأسئلة في لحظتنا الحرجة تلك: أليس هذا المحكي عنه هو ذات المشاهد التي نعيشها الآن وتكررت بالتاريخ مرات ومرات، هل ما يحدث بين الدول الكبرى في السر أو في قدر ضئيل من العلن بروفة للحرب البيولوجية التي يلوحون بها بعضهم للبعض، هل ما نعايشه اليوم كان مخططا له منذ زمن وهناك من يعرفونه؟ لقد صدرت رواية "عيون الظلام" للكاتب الأمريكي "دين كونتز" عام 1981 وفيها جسد وصور ظهور فيروس في مدينة واهان الصينية عام 2020، ثم تفشيه وانتشاره في دول العالم كله ، هل بإمكان الأدب والفن التنبؤ بأحداث المستقبل وتوقع ما يمكن أن يحدث به؟
تظل لحظتنا المتوترة تلك تتقافز على سطح صفيح ساخن، وتختلف نسبيا عن عصر الناجي في الحرافيش فلقد عرف العلم وحدد الفيروس الذي يودي بحياة الآلاف، من أين بدأ وكيف تطور، عرف الحالات ومخالطيهم، لكن الجميع ينتظر على أحر من الجمر ما يصدر من بيانات من قلب معامل المختبرات والجامعات لاكتشاف المصل الطبي الذي سينقذ البشرية من هذا الموت، من الخوف، من الكمون والحجر القاتل؟ وهو نفس ما صوره الأدب بطرق فنية وسردية متعددة. فالإنسان هو الكائن الوحيد الذي بإمكانه أن يتخيل المستقبل ثم يقوم بصناعة وخلق ما تخيله، تلك هي ميزته الأساسية، الخيال ثم القدرة على تحويله لحقائق.
ستظل المساحة بين العلم والأقدار، بين التجربة وتصاريف الطبيعة أو القوى الغيبية، بين الإرادة واختيار المقاومة وما يفرض على البشر، حيث لا يد لهم في تحديده، من أهم المناطق التي تدعو للإبداعات بأشكالها الفنية المتنوعة.