بعد عشرين عاماً من صداقة الكتب أتساءل ما الذي منحتني إياه الكتب، وهل لحياتي أن تأخذ شكلاً ومساراً آخر لولا اهتمامي بها؟ ما أعرفه أنها لم تعد مجرد هواية أو تسلية لملء أوقات الفراغ، بل هي أسلوب حياة، لهذا لا أفكر كثيراً فيما إذا كانت الكتب قادرة على تغييري للأفضل أو للأسوأ، أعرف فقط أن للكتب دوراً كبيراً في توجيه حياتي وعلاقاتي بالآخرين وبترتيب أولوياتي.. فالكتب تشغل مكانها المادي والمعنوي من حياتي.. إنه حب الكتب ما يجعل شاب يفضل مثلاً شراء كتاب على شراء حذاء جديد، وهو ما يجعلك تفضل قراءة الكتاب على الخروج في نزهة، وشراء كتب قرأتها ولكنك ترغب بامتلاكها ورؤيتها بين كتبك.. فكثير من الكتب التي جمعناها لم نقرأها بعد وربما لن نقرأها أبداً ولكنه يسعدنا وجودها.
نحن لا نلوم هواة جمع الطوابع ولا هواة جميع العملات ولا محبي التحف والآثار على هواياتهم فلماذا نشعر أننا غريبو الأطوار إن قمنا بجمع الكتب ولماذا علينا أن نشعر بالذنب إن لم نقرأها من الغلاف للغلاف؟
أعترف أنني في الوقت الذي لم تكن لدي القدرة المادية على شراء الكتب كنت أقرأ أكثر، كنت أزور احدي المكاتبات العامة مرة في الأسبوع وربما أكثر، لأستعير كتاباً وأعيد آخر أنهيت قراءته وربما قمت بنسخه عندي أيضاً، كانت المسألة أشبه بتحد، هناك الكثير من الكتب التي أحلم بقراءتها ونظام المكتبة لا يسمح بإعارة أكثر من كتاب واحد كل مرة ! لو حاولت اليوم تذكر عدد الكتب التي استعرتها وقرأتها ومقارنتها بالكتب التي أمتلكها وقرأتها لكانت النتيجة مخجلة، لكني أعلل نفسي بكلمات بورخيس الذي يقول أنه يحب أكثر تلك المجلدات والكتب التي لم يقرأها بعد لأنه يعرف أنها ستكون هناك بانتظاره في شيخوخته في ليالي الشتاء الباردة الطويلة.
أحب الكتب وأحب أكثر قصص عشاق الكتب ومحبيها وجامعيها.. أحب أن أعيد قراءة سيرة ياقوت الحموي الذي بدأ حياته ورّاقاً عاشقاً للكتب فملأ رفوف دكانه بها وراح ينسخ ويقرأ لكن حب السفر والترحال أبى أن يربطه بمكان واحد فترك دكانه ومكتبته ليتابع تجواله وجمعه للمزيد من الكتب من جميع أرجاء البلاد التي يزورها.. أحب دون كيخوتة وعشقه للروايات فرغم أنها جعلته إنساناً غير متصالح مع واقعه وعالمه، إلا أنها منحته علاجاً سحرياً ضد تعاسة الحياة، فعندما يمر بأشد الظروف يتذكر مقطعاً من كتاب كان قد قرأه ويمثل تماماً معاناته الراهنة فينسى حزنه كما يخبرنا سيرفانتس في روايته: "وجد دون كيخوته إذن نفسه غير قادر على الحركة، فقرر اللجوء إلى دوائه المعتاد، وأعني به التفكير في فقرة من فقرات كتبه"..
أحب المقاطع التي تمر في رواية أو كتاب وتحكي عن حب الكتب ووصفها.
أشعر بميل لمحبة أي شخص لمجرد أنه يحمل كتاب بيده ويمتلكني الفضول لأعرف عنوان الكتاب الذي يقرأه غريب يجلس على مقعد في حديقة.. وإن كان يقرأ كتاباً سبق لي قراءته فلا يعود ذلك الغريب غريباً أبداً كما تقول Eman Sam في كتابها ادب الرسائل " إلي ذلك الغريب الذي مع الوقت أصبح قريباً ".
أحب الكتب المستعملة، أعشق الكتب المهترئة، المصفرة المتساقطة الأوراق، لا أرتاح للطبعات الفاخرة والأوراق الملساء والغلاف الفني، هذه الكتب تنفرني لا أستطيع التعامل معها ولا قراءتها بأريحية وود، حتى الكتابة في هوامشها تشعرك أنك تشوهها وتجرحها وتعتدي على خصوصيتها.. بينما الكتب المستعملة فهي تمنحك الحق بالكتابة على أي فراغ لم يكتب عليه بعد، وتحديد سطورها وثني صفحاتها كما يحلو لك ليصبح الكتاب كتابك فعلاً ويشبهك أنت.
القسم الأكبر من مكتبتي تحوي كتباً مستعملة، أول شيء أفعله عندما أشتري كتاباً مستعملاً أن أقلب صفحاته لأكتشف ما تركه آخر قارئ للكتاب قبلي، أغلبهم يتركون أسماءهم على الصفحة الأولى وعام امتلاكهم للكتاب، لدي كتب كتبت عليها تواريخ تسبق تاريخ ميلادي، وبين صفحات الكتاب قد أجد بطاقة، ورقة، قائمة مشتريات، بيت شعر، سطور محددة، تعليقات في الهوامش.. إنها متعة مضاعفة أن تقرأ كتاب وتقرأ كيف قرأ غيرك الكتاب..
لا أذكر أني قرأت يوماً كتباً في التنمية البشرية وتطوير الذات، ليس تقليلاً من أهميتها ولا اعتقاداً بأني لا أحتاج لتطوير وتنمية، ولكني فقط أظن أن الوقت الذي سأضيعه في تغيير شيء لا أعتقد أني سأفلح كثيراً في تغييره.. أفضل في الوقت الذي سأقرأ فيه عن كيفية التعامل مع الآخرين وكيفية اكتساب الأصدقاء وكيفية التأثير فيهم، أن أقرأ اعترافات كاتب لم تمنعه القراءة والكتابة من الوقوع في الأخطاء والاعتراف بها!
كذلك لم أقرأ من كتب آجاتا كريستي والقصص البوليسية بكل أشكالها شيئاً يذكر، ربما قصة واحدة لآجاتا كريستي و"شيفرة دافنشي" فقط، لا أعتقد أن قراءة 100 قصة لآجاتا كريستي تختلف عن قراءة قصة واحدة لها! يمكن مشاهدة فيلم أو مسلسل تحقيق كالمفتش كونان ويفي بالغرض! كذلك كتب الخيال العلمي لا أستطيع قراءتها فالواقع فيه من العجب ما يملئ مجلدات بأكملها ولا حاجة لاختراع كواكب وعوالم أخرى لنبحث عن المتعة والدهشة فيها!
أحب اليوميات والسير الذاتية والمذكرات والاعترافات والرسائل والحوارات الأدبية.. كل عنوان يحوي إحدى هذه الكلمات أو كلمات مثل "حب، حرب، حضارة، حياة، ثقافة، علم نفس، فلسفة، جمال، موسيقى، فن، تاريخ" ألتقطه دون تردد وبغض النظر عن اسم مؤلفه..
مكسيم غوركي هو الكاتب الذي قرأت له كتاباً واحداً "الأم" ثم رحت أقرأ جميع قصصه ومذكراته بنفس المتعة والدهشة التي يستحقها إنسان يعبر عن نفسه قائلاً: "ثمة كلب يعوي في روحي".. وكذلك حنا مينة بعد أن قرأت له "الشراع والعاصفة" رحت أبحث عن رواياته القديمة والحديثة لكنه خيب ظني فلم يعد إنتاجه الحديث سوى اجترار لعصره الذهبي المتمثل في رواياته الأولى..
متى بدأت القراءة؟!
مع أول فشل دراسي أواجهه.. ففي المرحلة الثانوية كان ميلي للمواد الأدبية أكبر من ميلي للمواد العلمية التي فشلت فيها فشلاً ذريعاً.. فكنت أجمع المناهج الدراسية المقررة في اللغة العربية للمراحل المتقدمة، وهي الكتب الوحيدة التي كانت متوفرة لدي حينها، وأقرأ كل ما ورد فيها من شعر ونثر وما زلت حتى اليوم أحتفظ بذلك الدفتر الذي جمعت فيه أبيات الشعر التي قرأتها لأول مرة وكأني أقع على كنز لم يسبقني أحد لاكتشافه!
في ذلك الدفتر وضعت أسماء الأدباء ممن كانت أسماؤهم ترد كثيراً في المناهج الدراسية، كالعقاد وطه حسين وادريس محمد جماع والمنفلوطي ومحمد مصباح الفيتوري وجبران خليل جبران ومحمد مهدي الجواهري وغيرها من الأسماء التي كانت تبدو لي من خلال النصوص الرسمية المختصرة، أشبه بتماثيل حجرية صامتة علينا لسبب ما أن نعترف بعظمتها وكأنها لم تكن يوماً بشراً تخاصم وتغضب وتفرح وتحيا، فكان هدفي الأول أن أتعرف على هذه الأسماء كبشر حقيقيين وليس كأحجار أثرية..
في المرحلة الاساسية وفي الصف السادس بالتحديد كانت سعادتي الكبرى باكتشاف وجود مكتبة كبيرة ملتصقة بالمدرسة تحوي كل أنواع الكتب والروايات والدواوين الشعرية، أذكر يومها كيف كررت سؤالي لصاحب المكتبة إن كان باستطاعتي إستعارة "أي كتاب أريد"؟ "نعم أي كتاب"! وأذكر سعادتي يوم عدت لأول مرة وقد استعرت كتاباً لا علاقة له بالمنهاج الدراسي.. كنت أخفي الرواية بين الكتب الدراسية وأعد نفسي بقراءتها بمجرد أن أنهي الساعات المحددة للدراسة، عندها أكافئ نفسي بساعات من القراءة الممتعة قد تمتد حتى منتصف الليل وأذكر دهشة أمي وشعورها بالخيبة عندما تكتشف أن تلك الساعات التي كنت أقضيها مستغرقة في الدراسة إنما هي في قراءة رواية! ربما لذلك كانت القراءة حينها أكثر متعة وتكثيفاً!
لطالما شعرت أن الكتب كالملابس، ما يناسبنا في عمر معين لا يناسبنا عندما نكبر، فالكتب التي اعتدت قراءتها في السادس عشرة من عمري مثلاً لا أفكر أبداً بقراءتها اليوم.. في تلك الفترة أدمنت على روايات يوسف السباعي.. أسخر من نفسي اليوم عندما أذكر كيف كنت أشعر بالإستغراب والدهشة والصدمة عندما أكتشف حبكة الرواية التي تقوم على الخيانة والعلاقات الإنسانية المعقدة.. لا أعتقد اليوم أني قادر على قراءة نفس الروايات التي قرأتها في تلك المرحلة الرومانسية: "سارة"، و"الأجنحة المتكسرة" و"الأرواح المتمردة" و"دمعة وابتسامة"، و"زينب" و"دعاء الكروان" و"شجرة البؤس" و"المعذبون في الأرض" و"الأيام"، و"مجدولين"..
https://www.facebook.com/somaliibra/posts/1301654613301743
من الممتع أن تجعلنا الكتب نكتشف كم تغيرنا! في العشرين من عمري قرأت رواية "جين آير" لشارلوت برونتي في نهار وليلة بكيت فيها بشدة عندما وصلت إلى نهايتها، هذه الرواية لو قرأتها اليوم لسخرت من سذاجتها وكم المبالغات والميلودراما التي فيها..لدرجة أن تصدق شاب عشريني أن نداء عاشق ما في جوف الليل سيصل بلا شك مسامع حبيبته حتى وإن كان يبعد عنها آلاف الأميال!
في مرحلة تالية لرومانسيات الأدب بدأت أسماء جديدة تدخل دفتري: شكسبير، تشارلز ديكنز، مارك توين، جورج برناردشو، موليير، جوستاف فلوبير، تشيخوف، مكسيم غوركي، ليو تولستوي، دستويفسكي... كلها دخلت قائمة ما يجب اكتشافه وقراءته.. يا إلهي كم هو ممتع ذلك الشعور بإدراك أن جهلك ما زال شاسعاً وأن الأشياء التي ترغب بالتعرف إليها هي الوحيدة التي تنمو وتزداد مع كل معرفة جديدة تحصل عليها.. الجهل لذيذ!
لم أفكر يوماً بالكتاب التالي الذي سأقرأه ولم يحدث أن طلبت من أحد قائمة بأسماء كتب يقترح علي قراءتها، لا أحب أن أفرض على نفسي أي قوائم بل أترك الكتب تنساب من تلقاء نفسها، فالقراءة عندي كالطعام والملابس فأنت لن تأكل ما لم تشتهيه نفسك ولن ترتدي إلا ما يناسب مقاسك وذوقك.. كما أن كل كتاب نقرأه يعتبر مرشداً للكتاب الذي يليه فهو يدلك على مسار جديد ويضعك أمام كم هائل من الخيارات والمفاجآت الجديدة..
أؤمن أن لك كتاب وقته ومهما طال انتظاره سيأتي الوقت المناسب لقراءته.. أذكر أني كنت في إحدى الفترات أمر بمرحلة انتظار، لم أكن قادر على فعل أي شيء سوى الانتظار.. اخترت حينها رواية "الحرب والسلم" لتولستوي، هذه الرواية الضخمة بجزأيها التي تتجاوز الألف صفحة أنا متأكد أني ما كنت لأتمكن من قراءتها لو لم أكن في ذلك الحين في حرب نفسية مع الوقت..فعندما نكون سعداء يصبح الوقت أقصر ولن يكون بإمكاننا حينها قراءة كتاب بهذا الحجم.. بعض الكتب تحتاج أن نكون تعساء لنتمكن من قراءتها!
هناك أوقات نشعر فيها بالهزيمة، علينا حينها البحث عن كتب تمدنا بطاقة إيجابية.. حينها أٌقرأ روايات أحلام مستغانمي أو غادة السمان أو حنان الشيخ أو ليلى بعلبكي أو كتاب مثل "طعام.. صلاة.. حب"..
في بدايات تأسيسي لمكتبتي الصغيرة كنت أحب عرض كتبي أمام الآخرين وكنت لا أمانع أبداً بإعارتها، إلى أن اكتشفت أن أغلب من يستعير كتبك يريد قراءتك لا قراءة الكتاب، يريد معرفة ما تقرأ وأي قصة حب ترى نفسك فيها، هذا الفضول المقزز لا علاقة له بحب القراءة ولا الكتب، إنه "جحيم الآخرين" فقط، لهذا توصلت لقناعة عدم عرض كتبي أمام أحد وإخفاءها كما يخفي أحد علاقة عشق محرمة، فلا الكتب المعارة تعود ولا الفائدة التي ترجو نقلها لغيرك تصل..
متى أقرأ؟ كل الأوقات التي تخلو من متاعب الحياة والسعي لأجلها هي وقت للقراءة وأجمل القراءات تلك التي تأتي مع هدوء الصباح ورائحة القهوة..
نحن لا نلوم هواة جمع الطوابع ولا هواة جميع العملات ولا محبي التحف والآثار على هواياتهم فلماذا نشعر أننا غريبو الأطوار إن قمنا بجمع الكتب ولماذا علينا أن نشعر بالذنب إن لم نقرأها من الغلاف للغلاف؟
أعترف أنني في الوقت الذي لم تكن لدي القدرة المادية على شراء الكتب كنت أقرأ أكثر، كنت أزور احدي المكاتبات العامة مرة في الأسبوع وربما أكثر، لأستعير كتاباً وأعيد آخر أنهيت قراءته وربما قمت بنسخه عندي أيضاً، كانت المسألة أشبه بتحد، هناك الكثير من الكتب التي أحلم بقراءتها ونظام المكتبة لا يسمح بإعارة أكثر من كتاب واحد كل مرة ! لو حاولت اليوم تذكر عدد الكتب التي استعرتها وقرأتها ومقارنتها بالكتب التي أمتلكها وقرأتها لكانت النتيجة مخجلة، لكني أعلل نفسي بكلمات بورخيس الذي يقول أنه يحب أكثر تلك المجلدات والكتب التي لم يقرأها بعد لأنه يعرف أنها ستكون هناك بانتظاره في شيخوخته في ليالي الشتاء الباردة الطويلة.
أحب الكتب وأحب أكثر قصص عشاق الكتب ومحبيها وجامعيها.. أحب أن أعيد قراءة سيرة ياقوت الحموي الذي بدأ حياته ورّاقاً عاشقاً للكتب فملأ رفوف دكانه بها وراح ينسخ ويقرأ لكن حب السفر والترحال أبى أن يربطه بمكان واحد فترك دكانه ومكتبته ليتابع تجواله وجمعه للمزيد من الكتب من جميع أرجاء البلاد التي يزورها.. أحب دون كيخوتة وعشقه للروايات فرغم أنها جعلته إنساناً غير متصالح مع واقعه وعالمه، إلا أنها منحته علاجاً سحرياً ضد تعاسة الحياة، فعندما يمر بأشد الظروف يتذكر مقطعاً من كتاب كان قد قرأه ويمثل تماماً معاناته الراهنة فينسى حزنه كما يخبرنا سيرفانتس في روايته: "وجد دون كيخوته إذن نفسه غير قادر على الحركة، فقرر اللجوء إلى دوائه المعتاد، وأعني به التفكير في فقرة من فقرات كتبه"..
أحب المقاطع التي تمر في رواية أو كتاب وتحكي عن حب الكتب ووصفها.
أشعر بميل لمحبة أي شخص لمجرد أنه يحمل كتاب بيده ويمتلكني الفضول لأعرف عنوان الكتاب الذي يقرأه غريب يجلس على مقعد في حديقة.. وإن كان يقرأ كتاباً سبق لي قراءته فلا يعود ذلك الغريب غريباً أبداً كما تقول Eman Sam في كتابها ادب الرسائل " إلي ذلك الغريب الذي مع الوقت أصبح قريباً ".
أحب الكتب المستعملة، أعشق الكتب المهترئة، المصفرة المتساقطة الأوراق، لا أرتاح للطبعات الفاخرة والأوراق الملساء والغلاف الفني، هذه الكتب تنفرني لا أستطيع التعامل معها ولا قراءتها بأريحية وود، حتى الكتابة في هوامشها تشعرك أنك تشوهها وتجرحها وتعتدي على خصوصيتها.. بينما الكتب المستعملة فهي تمنحك الحق بالكتابة على أي فراغ لم يكتب عليه بعد، وتحديد سطورها وثني صفحاتها كما يحلو لك ليصبح الكتاب كتابك فعلاً ويشبهك أنت.
القسم الأكبر من مكتبتي تحوي كتباً مستعملة، أول شيء أفعله عندما أشتري كتاباً مستعملاً أن أقلب صفحاته لأكتشف ما تركه آخر قارئ للكتاب قبلي، أغلبهم يتركون أسماءهم على الصفحة الأولى وعام امتلاكهم للكتاب، لدي كتب كتبت عليها تواريخ تسبق تاريخ ميلادي، وبين صفحات الكتاب قد أجد بطاقة، ورقة، قائمة مشتريات، بيت شعر، سطور محددة، تعليقات في الهوامش.. إنها متعة مضاعفة أن تقرأ كتاب وتقرأ كيف قرأ غيرك الكتاب..
لا أذكر أني قرأت يوماً كتباً في التنمية البشرية وتطوير الذات، ليس تقليلاً من أهميتها ولا اعتقاداً بأني لا أحتاج لتطوير وتنمية، ولكني فقط أظن أن الوقت الذي سأضيعه في تغيير شيء لا أعتقد أني سأفلح كثيراً في تغييره.. أفضل في الوقت الذي سأقرأ فيه عن كيفية التعامل مع الآخرين وكيفية اكتساب الأصدقاء وكيفية التأثير فيهم، أن أقرأ اعترافات كاتب لم تمنعه القراءة والكتابة من الوقوع في الأخطاء والاعتراف بها!
كذلك لم أقرأ من كتب آجاتا كريستي والقصص البوليسية بكل أشكالها شيئاً يذكر، ربما قصة واحدة لآجاتا كريستي و"شيفرة دافنشي" فقط، لا أعتقد أن قراءة 100 قصة لآجاتا كريستي تختلف عن قراءة قصة واحدة لها! يمكن مشاهدة فيلم أو مسلسل تحقيق كالمفتش كونان ويفي بالغرض! كذلك كتب الخيال العلمي لا أستطيع قراءتها فالواقع فيه من العجب ما يملئ مجلدات بأكملها ولا حاجة لاختراع كواكب وعوالم أخرى لنبحث عن المتعة والدهشة فيها!
أحب اليوميات والسير الذاتية والمذكرات والاعترافات والرسائل والحوارات الأدبية.. كل عنوان يحوي إحدى هذه الكلمات أو كلمات مثل "حب، حرب، حضارة، حياة، ثقافة، علم نفس، فلسفة، جمال، موسيقى، فن، تاريخ" ألتقطه دون تردد وبغض النظر عن اسم مؤلفه..
مكسيم غوركي هو الكاتب الذي قرأت له كتاباً واحداً "الأم" ثم رحت أقرأ جميع قصصه ومذكراته بنفس المتعة والدهشة التي يستحقها إنسان يعبر عن نفسه قائلاً: "ثمة كلب يعوي في روحي".. وكذلك حنا مينة بعد أن قرأت له "الشراع والعاصفة" رحت أبحث عن رواياته القديمة والحديثة لكنه خيب ظني فلم يعد إنتاجه الحديث سوى اجترار لعصره الذهبي المتمثل في رواياته الأولى..
متى بدأت القراءة؟!
مع أول فشل دراسي أواجهه.. ففي المرحلة الثانوية كان ميلي للمواد الأدبية أكبر من ميلي للمواد العلمية التي فشلت فيها فشلاً ذريعاً.. فكنت أجمع المناهج الدراسية المقررة في اللغة العربية للمراحل المتقدمة، وهي الكتب الوحيدة التي كانت متوفرة لدي حينها، وأقرأ كل ما ورد فيها من شعر ونثر وما زلت حتى اليوم أحتفظ بذلك الدفتر الذي جمعت فيه أبيات الشعر التي قرأتها لأول مرة وكأني أقع على كنز لم يسبقني أحد لاكتشافه!
في ذلك الدفتر وضعت أسماء الأدباء ممن كانت أسماؤهم ترد كثيراً في المناهج الدراسية، كالعقاد وطه حسين وادريس محمد جماع والمنفلوطي ومحمد مصباح الفيتوري وجبران خليل جبران ومحمد مهدي الجواهري وغيرها من الأسماء التي كانت تبدو لي من خلال النصوص الرسمية المختصرة، أشبه بتماثيل حجرية صامتة علينا لسبب ما أن نعترف بعظمتها وكأنها لم تكن يوماً بشراً تخاصم وتغضب وتفرح وتحيا، فكان هدفي الأول أن أتعرف على هذه الأسماء كبشر حقيقيين وليس كأحجار أثرية..
في المرحلة الاساسية وفي الصف السادس بالتحديد كانت سعادتي الكبرى باكتشاف وجود مكتبة كبيرة ملتصقة بالمدرسة تحوي كل أنواع الكتب والروايات والدواوين الشعرية، أذكر يومها كيف كررت سؤالي لصاحب المكتبة إن كان باستطاعتي إستعارة "أي كتاب أريد"؟ "نعم أي كتاب"! وأذكر سعادتي يوم عدت لأول مرة وقد استعرت كتاباً لا علاقة له بالمنهاج الدراسي.. كنت أخفي الرواية بين الكتب الدراسية وأعد نفسي بقراءتها بمجرد أن أنهي الساعات المحددة للدراسة، عندها أكافئ نفسي بساعات من القراءة الممتعة قد تمتد حتى منتصف الليل وأذكر دهشة أمي وشعورها بالخيبة عندما تكتشف أن تلك الساعات التي كنت أقضيها مستغرقة في الدراسة إنما هي في قراءة رواية! ربما لذلك كانت القراءة حينها أكثر متعة وتكثيفاً!
لطالما شعرت أن الكتب كالملابس، ما يناسبنا في عمر معين لا يناسبنا عندما نكبر، فالكتب التي اعتدت قراءتها في السادس عشرة من عمري مثلاً لا أفكر أبداً بقراءتها اليوم.. في تلك الفترة أدمنت على روايات يوسف السباعي.. أسخر من نفسي اليوم عندما أذكر كيف كنت أشعر بالإستغراب والدهشة والصدمة عندما أكتشف حبكة الرواية التي تقوم على الخيانة والعلاقات الإنسانية المعقدة.. لا أعتقد اليوم أني قادر على قراءة نفس الروايات التي قرأتها في تلك المرحلة الرومانسية: "سارة"، و"الأجنحة المتكسرة" و"الأرواح المتمردة" و"دمعة وابتسامة"، و"زينب" و"دعاء الكروان" و"شجرة البؤس" و"المعذبون في الأرض" و"الأيام"، و"مجدولين"..
https://www.facebook.com/somaliibra/posts/1301654613301743
من الممتع أن تجعلنا الكتب نكتشف كم تغيرنا! في العشرين من عمري قرأت رواية "جين آير" لشارلوت برونتي في نهار وليلة بكيت فيها بشدة عندما وصلت إلى نهايتها، هذه الرواية لو قرأتها اليوم لسخرت من سذاجتها وكم المبالغات والميلودراما التي فيها..لدرجة أن تصدق شاب عشريني أن نداء عاشق ما في جوف الليل سيصل بلا شك مسامع حبيبته حتى وإن كان يبعد عنها آلاف الأميال!
في مرحلة تالية لرومانسيات الأدب بدأت أسماء جديدة تدخل دفتري: شكسبير، تشارلز ديكنز، مارك توين، جورج برناردشو، موليير، جوستاف فلوبير، تشيخوف، مكسيم غوركي، ليو تولستوي، دستويفسكي... كلها دخلت قائمة ما يجب اكتشافه وقراءته.. يا إلهي كم هو ممتع ذلك الشعور بإدراك أن جهلك ما زال شاسعاً وأن الأشياء التي ترغب بالتعرف إليها هي الوحيدة التي تنمو وتزداد مع كل معرفة جديدة تحصل عليها.. الجهل لذيذ!
لم أفكر يوماً بالكتاب التالي الذي سأقرأه ولم يحدث أن طلبت من أحد قائمة بأسماء كتب يقترح علي قراءتها، لا أحب أن أفرض على نفسي أي قوائم بل أترك الكتب تنساب من تلقاء نفسها، فالقراءة عندي كالطعام والملابس فأنت لن تأكل ما لم تشتهيه نفسك ولن ترتدي إلا ما يناسب مقاسك وذوقك.. كما أن كل كتاب نقرأه يعتبر مرشداً للكتاب الذي يليه فهو يدلك على مسار جديد ويضعك أمام كم هائل من الخيارات والمفاجآت الجديدة..
أؤمن أن لك كتاب وقته ومهما طال انتظاره سيأتي الوقت المناسب لقراءته.. أذكر أني كنت في إحدى الفترات أمر بمرحلة انتظار، لم أكن قادر على فعل أي شيء سوى الانتظار.. اخترت حينها رواية "الحرب والسلم" لتولستوي، هذه الرواية الضخمة بجزأيها التي تتجاوز الألف صفحة أنا متأكد أني ما كنت لأتمكن من قراءتها لو لم أكن في ذلك الحين في حرب نفسية مع الوقت..فعندما نكون سعداء يصبح الوقت أقصر ولن يكون بإمكاننا حينها قراءة كتاب بهذا الحجم.. بعض الكتب تحتاج أن نكون تعساء لنتمكن من قراءتها!
هناك أوقات نشعر فيها بالهزيمة، علينا حينها البحث عن كتب تمدنا بطاقة إيجابية.. حينها أٌقرأ روايات أحلام مستغانمي أو غادة السمان أو حنان الشيخ أو ليلى بعلبكي أو كتاب مثل "طعام.. صلاة.. حب"..
في بدايات تأسيسي لمكتبتي الصغيرة كنت أحب عرض كتبي أمام الآخرين وكنت لا أمانع أبداً بإعارتها، إلى أن اكتشفت أن أغلب من يستعير كتبك يريد قراءتك لا قراءة الكتاب، يريد معرفة ما تقرأ وأي قصة حب ترى نفسك فيها، هذا الفضول المقزز لا علاقة له بحب القراءة ولا الكتب، إنه "جحيم الآخرين" فقط، لهذا توصلت لقناعة عدم عرض كتبي أمام أحد وإخفاءها كما يخفي أحد علاقة عشق محرمة، فلا الكتب المعارة تعود ولا الفائدة التي ترجو نقلها لغيرك تصل..
متى أقرأ؟ كل الأوقات التي تخلو من متاعب الحياة والسعي لأجلها هي وقت للقراءة وأجمل القراءات تلك التي تأتي مع هدوء الصباح ورائحة القهوة..