ميادة سفر - الأدب في مـواجـهـة الـكــوارث

الأدب هو نتاج تجربة إنسانية ودائما ما تكون شخصية، إلا أنّ الأدب في قضايا كونية مثل الحروب والأزمات الاقتصادية يعمل على صياغة الذات في مفهوم الكل الإنساني،

وكما أنّ الحربين العالميتين أنتجتا أدباً ثراً، فإنَّ توجهات التحرر وقضايا الأمم نالت جانباً من اهتمام الأدب، وأنتجت أعمالاً أقلُّ ما يقال عنها أنها غيرت وجهة نظر العالم.

ولأن الآداب والفنون وغيرها من متعلقات الحياة الثقافية، تعتبر مرآة للمجتمعات تنعكس من خلالها الأحداث والحيوات التي يعيشها الإنسان، وتعبر عن مكنونات النفس الإنسانية ومتغيرات الحياة التي تمس الفرد مباشرة، لذلك ظهر العديد من الأعمال الأدبية الروائية منها والقصصية والأعمال المسرحية، التي عكست ولامست الواقع الإنساني المعاش سواء أثناء الحروب والأزمات وحتى الأوبئة التي اجتاحت كثيراً من البلدان عبر التاريخ، أعمال كانت تحاكي الواقع الاجتماعي والنفس الإنسانية وتظهر تفاصيل اللحظات الموجعة في أغلب الأحيان.

عبر التاريخ الإنساني ظهر الكثير من الأعمال الأدبية التي تناولت الحروب التي نشبت في العالم من العصور القديمة وحتى يومنا هذا، وإذا ما رجعنا بالزمن إلى عصور ما قبل الميلاد وجدنا الأثر الذي تركته الحرب ممثلاً في ملحمتي الشاعر اليوناني هوميروس (ق 9 ق.م – ق 8 ق.م) الإلياذة والأوديسة، التي تحكي عن حرب طروادة الأشهر في التاريخ.

لتتوالى الأعمال الأدبية لاحقاً في العصر الحديث إن صحت التسمية، فكان للأدب الروسي الحضور الأكثر أثراً لاسيما إبان الثورة البلشفية وما تخللها وتبعها من أحداث وما تركته من آثار اجتماعية ونفسية، ذلك الأدب الذي لا يزال محط اهتمام من قبل القارئ العربي إلى يومنا هذا، ولعل رواية مكسيم غوركي (1868-1936) "الأم" الصادرة عام 1905 التي يندر أن تجد شغوفاً بالقراءة لم تمر بين يديه، واحدة من أشهر الروايات التي صورت معاناة العمال في تلك الفترة، متحدثاً عن الأوضاع المعيشية والظروف المؤلمة التي عاشتها تلك الأم التي ستتحول إلى أم مناضلة بعد وفاة زوجها، تلك الأم التي أرادها غوركي رمزاً للوطن الذي انتقل من الخوف إلى الثورة.

رواية "الحرب والسلم" 1869 للروائي الروسي ليو تولستوي (1828-1910) واحدة من أشهر روايات الحرب، فيها يسلط الروائي الضوء على أحوال الناس وأوضاعهم وانفعالاتهم المختلطة بين الحب والأشواق والأمل والإخفاق، رواية تدور أحداثها أثناء الحروب النابليونية على روسيا وما خلفته من خراب ودمار، فكانت واحدة من أعظم روايات الأدب العالمي، جسد فيها تولستوي من خلال رؤية فلسفية جملة من مختلف القضايا الاجتماعية والسياسية في البلاد.

"للحب وقت وللموت وقت" الصادرة 1954 للروائي الألماني إريش ماريا ريمارك، تتحدث الرواية عن جندي ألماني يحارب على الجبهة الشرقية في روسيا خلال الحرب العالمية الثانية في الفترة ما بين 1943-1944 حين تبدأ الهزائم تتوالى على الجبهة الألمانية، سيكتب ريمارك في عام 1961 روايته "ليلة لشبونة" التي لن تبتعد عن الأخرى في حكايتها عن الحرب والهروب والأسر، فيها يروي مآسي وحكايات المهاجرين الألمان الفارين من النازية.

كثيرة هي الأعمال الأدبية التي تناولت الحياة الإنسانية أثناء الحروب، لكنها لم تكن لتسهم بالحؤول دون وقوعها مرة أخرى، لم يسهم الأدب إلا في تصوير واقع أناس عاشوا في أزمنة سابقة، مع ما كابدوه من معاناة ومآسي لأشخاص لم يرتدعوا ولم يتعلموا دروساً من التاريخ، قد يكون ساهم بخلق شيء من التعاطف من القراء لأولئك الأبطال المفترضين.

لم تكن الحرب وحدها الحاضرة في الأعمال الأدبية، ولأننا نعيش اليوم زمن وباء كورونا "كوفيد 19" فلابدّ أن نستذكر بعضاً من الروايات التي دونت تاريخ الأوبئة التي تفشت في العالم من أزمنة سابقة، مصورة أحوال الناس ومعاناتهم، والتغيرات التي طرأت على حياتهم كما التغيرات التي نعيشها اليوم.

لعل رواية "الطاعون" 1947 للكاتب الفرنسي ألبير كامو (1913- 1930) الحائز على جائزة نوبل للآداب، التي تدور أحداثها في مدينة وهران الجزائرية مع بدء تفشي مرض الطاعون من خلال مجموعة من الجرذان التي وجدت ميتة في الشوارع ومداخل البنايات، لينتقل بعدها للإنسان ويودي بحياة آلاف الضحايا، يناضل أبطال الرواية كل من مكانه وعلى طريقته بصورة تكاد تكون عبثية لمواجهة هذا الوباء القاتل، مع تزايد الأخبار الكاذبة من قبل السلطات الرافضة للاعتراف بتفشي الوباء، والخزعبلات الدينية، للوهلة الأولى تشكّ في أنها تستلهم من واقعنا الحالي، وتحكي عنه وترسم واقعه، لا بأس فهذا هو المرجو من الأدب أن يقدم للأجيال قراءات مستقبلية تاركاً الباب موارباً لمن أراد.

لم يخل الأدب العربي من روايات وقصص تحاكي واقع الحروب والكوارث والأوبئة التي عانت منها المجتمعات العربية، ففي "ملحمة الحرافيش" 1977 للروائي المصري نجيب محفوظ (1911-2006)، تدور أحداثها على خلفية وباء الطاعون الذي فتك بالمصريين، ودمرّ كل شيء حتى لم يبق منهم إلا رجل واحد، فيها يصور الروائي "الحائز على جائزة نوبل للآداب" التشابه بين البشر من خلال تكرار أخطائهم كيفما كانت أوضاعهم وظروفهم، بملحمة يبدأها عاشور الناجي الأول، وأنهاها عاشور العاشر كناج أخير، في مجموعة من عشر قصص تحكي تاريخ عشرة أجيال متعاقبة.

تنوعت الأعمال الإبداعية وتعددت المواضيع التي تناولتها، غاصت في أعماق النفس الإنسانية فأخرجت خليطاً من مشاعر الحب والفراق والألم، فكانت صورة صادقة عن المعاناة التي عاشها الإنسان، ومن غير المبدع يمكنه التعبير عن كل ذلك الفيض من المشاعر والآلام والأوجاع؟، فأغنوا المكتبة العالمية بتلك الأعمال التي رصدت الأهوال والمخاطر، وانعكاساتها على الإنسان في نواح اجتماعية ونفسية واقتصادية وسياسية، فأخرجت الذات الفردية للإنسان وصاغتها بمفهوم الجمع والكل الإنساني، فكان الحضور الجمعي جلياً في معظم تلك الأعمال لمواجهة المخاطر، كما هو الحال اليوم لإنساننا المعاصر الذي يعايش تفشي وباء جديد أطلق عليه علمياً "وباء كورونا" أو "كوفيد19"، حاصداً آلاف الضحايا وملايين من المصابين في انحاء العالم، هذا الوباء الذي فرض على حياة الإنسان متغيرات كثيرة بدأت بوادرها من الحظر المنزلي وما نتجت عنه من أمور ستكون محط حديث وتقص ممن سيقوم بتدوين هذه المرحلة من التاريخ البشري، وصولاً إلى التغيرات الاقتصادية والسياسية المنتظرة.

أما من الناحية الأدبية ما من شكٍ بأن هذا الوباء سيكون فاتحة لأدب جديد وفنون جديدة، لابدّ أنّ الإنسانية ستستيقظ بعد حين من جلاء الوباء وانحساره، على عهد إبداعي جديد، يحاكي الأوضاع الإنسانية "زمن كورونا" مظهراً تلك الجوانب والمتغيرات الاجتماعية التي عاشها إنسان اليوم على مستوى العالم.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...