إبراهيم محمود - أعرفه... لا أعرفه.. لهذا أكتب عنه : عن الشاعر جوزيف إيليا

أعرفه، وكيف لا أعرفه، وبيننا عقود معرفة زمنياً، وأنا أشير إليه " ابن البلد " هنا، مرجع ذكريات مشتركة. السرياني السوري، حيث أكون الكردي السوري، وثمة العربي السوري، وثمة الأرمني السوري. هكذا تبرز مقولة " الدفع الرباعي " الجغرافية السورية في أقصى شمالها الشرقي، هكذا أودعنا هذه الجهة شبكةَ خطانا، أصواتنا، لقاءاتنا، اتصالاتنا.
لا أعرفه، وكيف لي أن أعرفه، وفيه الكثير مما لا يمكن تسميته بيسر طبعاً، والكثير مما يعنيه حقاً، ويترجم سنّي عمره واقعاً، بعيداً عن رؤيتي المباشرة، وحدود عملي، حيث يقيم الآن في ألمانيا، وأنا في إقليم كردستان العراق، منذ قرابة عقد زمني، إنما دون أن نسلخ جغرافية المكان بدفعها الاعتباري الرباعي عنا، عن أنسجتنا المكانية. وهذا يبقي المسافة بيننا محفوظة.
ولأنني أعرفه هناك، لا أعرفه هنا، أجدني مسكونا اللحظة هذه بالكتابة عنه، عن بعض يسير منه، في بعض يسير جداً، مما تسلسلت به جغرافية روحه الشعرية، توثيقاً للمكان السالف ذكره.
الشاعر، أو القس الشاعر، أو الشاعر القس جوزيف إيليا، تجربة تفصح عن ميزتها، وهي أنها تربط المستدق الشعري بالدقيق الديني ورقته. وأن يكون الشاعر بهذا الامتلاء بالحياة، كما تقول كلمته الشعرية، كما تسمّيه صورته الشعرية، وأن يبقى شغوف الكلّية الجسدية بهذه الكلمة الرحالة دائماً، رغم الاغتراب القسري، وهو مسكون بهاجس انتمائه الديني، ويكون عرّاء هذه اللحظة المشتركة، لحظة الهجنة الفاعلة بين صوته الديني وطابعه النسكي، الزهدي، التقشفي، وصوته الدنيوي، الذي ترتسم علاماته إحداثيات ٍ تتقاسم فيه صوته، وظله، وتتالي سنّي عمره، ففي ذلك ما يحفّز على إضاءة جمالية هذه اللحظة الطويلة الواسعة المدى، تقديراً لخصوبتها.
ليس عندي إلا بعض مما أعرف في بعض مما لا أعرف بالتوازي مع هذا الجمع الغفير الأثير مما يحيل إليه القول الشعري.
ولأبدأ بديوان شعري له، وهو " أنا لغة أخرى " والصادر عام 2019، حيث العنوان يستشرف هذه الخاصية الجسمية: الروحية، ولعله كذلك فيما انطلق منه، وفيما آثر بلوغه وحط رحاله هناك، وذلك من خلال مجموعة من الأمثلة التي تنبّه إلى هذا التطعيم الشعري .

وأنا أشير إلى امتلاء خطوته بيقينية المكان ومن فيه:
سائرٌ في دربها لا أبطىء خطوتي ثابتة لا تخطىء
أبتغي منها عطاء دائمــــاً مرة تأبى وأخرى ترجىء . ص8
لا أظنه يتحرك على هواه، وإنما وفق معايير تمد في مساحته المكانية، وقابلية النظر في جهات مفتوحة، استجابة لنداء الأقاصي الذي لا يتوقف عن إثارته من الداخل، والداخل انفتاح.
الصديق الشاعر، الصديق القس الشاعر، لا يخفي مهنته التي عرِف بها في مدينة " ديريك: المالكية، بالتسمية الرسمية " باعتباره قساً، أو رجل دين، جانبه الوعظي، إنما وقد أجرى في القول تحوير مسار، حيث انوجاده في فضاء مفتوح، وما يمنح الكلمة سلاسة أكثر، كما في قصيدته " قل سلاماً " ، وهو يستهل قصيدته هذه بهذه الكلمات، ذات الدلالة:
" اسمحوا لي أن أعظ نفسي قبل أن أعظكم بهذه الأبيات"
:
إن كنت تبغي السلام فصغْه حلواً دواما
بذا تردُّ عـــــــــــــدواً ألقى عليك السهاما . ص 12
وهذا ما نتلمسه في " وهذا اسمي " كذلك:
ألا فاسمع نشيداً لي يــــرقُّ مع الأيام موسيقـــاه عشق
أنا من قبل أن تأتي الحكايا لظلمة من غدت عيناه شرق . ص 20

وهذا ما يمكن تبينُّه في مجمل نصوص ديوانه الشعري، وما في ذلك من مؤاساة، ومن دعوة روحية إلى الانفتاح إلى الآخر، وقد عم الخراب الأمكنة، وأناسها كثيراً، ومن باب الإخلاص لما هو عليهمن الداخل، كما في قصيدته " يا أخي "
هَب لحقلي وردكا
في يدي ضع يدكا
كي ترى إشراقتي
قد أضاءت عندكا . ص 57
وما يذكّرنا بالمرسم الفضائي بعائديته الدينية مسيحياً، في قصيدة " واصعد "
واصعد لا تنزل عن جبلِكْ أنت الأسمـــى عش في أملكْ
واسحق يأســـــاً يبني عشاً في غصنك واهرب من زللك
فبذا تحيا حراً تبــــــــــغي خُلداً لا تخشى مــــــــن أجَلك. ص 81
ما الغرابة أن يرتقي كل منا درب الجلجة، أن يكون حامل صليب كوني، كما هو أطلس الكاتب، والذي لا يفارق متخيل الباحث والمتنور الحصيف في وضع كهذا؟ ومن موقع المسئولية ؟!
وما ينبض وعياً محيطياً في قصيدة " كن "
كن روحاً في جسد الموتى
حتــــــــــى لا ينتشر العفنُ
وغطّـــــــــــي دنيانا الكفن
كن عطــــــر حياة لا موتا . ص 101
وكذلك في قصيدة " فن الحديث "
في الحديث المبتغى كن جميلا فالجمال المشتهى أن تقولا
واحذر البخل هنا ليس حلــــواً فــي حديث أن تكون بخيلا
ليتك الآن تربّـــــــــــــي لساناً لست فيـــــــــه قاتلاًأو قتيلا . ص 116
حيث إن أول ما يمكن لقارئه أن يجلو حقيقته، هو هذا المسمى بالتوتر العالمي، الجفاء العالمي، التنافر العالمي، بدءاً من التشظي العائلي، لتكون الحاجة إلى هذه الألفة ضرورة أخلاقية قصوى بالتأكيد، بحثاً عن أمان بات في أوهى حالة له .
والشاعر إيليا لا يخفي صلته بوطنه، وفي ذلك ما ينوّع في الموضوعات، ويوحّدها معاً، كما في قصيدة " في وطني "، ومأساة الجاري، ورعب المقدَّر، وفظاعة المعيش اليومي:
يحاصرني موجُ بحر اللهب وتلقى عليّ صخور التعبْ
ففي وطني الحب محتقرٌ على خشب الحقد فينا انصلب . ص 27
وهذا يمضي بي، إلى نماذج شعرية أخرى، لطالما كان يرسلها إلي، تعبيراً عن هذه العلاقة الوارفة الظلال، وعن هم مشترك، كما في قصيدته " قلقٌ " حيث تتملكه مخاوف مما يجري:

أخشى أنْ أصحوَ في يومٍ
وأرى الشِّعرَ بصدري يابسْ

آهٍ ما أقساهُ قلَقًا
يُدخلُني لشتاءٍ قارسْ

تتجمّدُ فيهِ شراييني
وصباحي يأتيني عابسْ

يغزو الّلامعنى أفكاري
وغنائي مجروحٌ بائسْ

بالشِّعرِ أصيرُ أنا وطنًا
يطلبُهُ منفيٌّ يائسْ

وما في صلاته بالمستجد في البلد المشترك " سوريا " ورعب الدائر، وتحديات الخارج، كما في قصيدته التيرفعها عالية تعبيراً عن هذه العلاقة، رفضاً للغزو التركي " لن تمرّوا "


لا لن تمرّوا هذه أرضُنا
فضاؤنا وإنّها روضُنا

بها وَلدْنا نجمةً تُشتهى
في كلِّ عَتْمٍ يُرتجى ومْضُنا

هنا رسَمْنا وجهَنا لوحةً
خالدةً يزهو بها عَرْضُنا

" سوريّةٌ " هيكلُ أقداسِنا
شريانُنا أجفانُنا نبْضُنا

يظلُّ نَسْرُها يجوبُ المدى
صعبٌ أيا أعداءنا خضُّنا

ولن تمرّوا إنّنا سَيْلُها
جميعُنا للصَدِّ لا بعضُنا
ودون أن يعزل نفسه عن المصاب الكوني الجلل " كورونا " وإخضاعها " لمنطقه الشعري وتصويراً لذائقة شعرية قائمة :

أتى بالموتِ " كورونا "
فصارَ الكلُّ محزونا

كجيشٍ بربريٍّ قد
سعى للحربِ مجنونا

ولمْ يتركْ وقد أبلى
دياناتٍ ولا لونا

جميعُ النّاسِ أسراهُ
من البلوى يأنّونا

معي قُلْ طالبًا عفوًا :
أيا ربّاهُ كنْ عونا

لأهلِ الطِّبِ هَبْ فهمًا
وهم في البحثِ يسعَونا

ومتّعْنا بدنيانا
لهذا نحنُ آتونا
هي حالة نفسية، توثيق لهذه اللحظة، وإن بدت الكلمات عادية، لكنها الحالة التي تحتفظ بخطورتها، بأهميتها، ببدعتها، وما يكون للشعر نفسه من إسهام في تطويب زماني .
ودون أن يعزل نفسه عما هو مجتمعي، وهو يحتفي بعيد كردي، قومي الطابع، بمناسبة كردية سنوية، وهي " نوروز "، وما في ذلك من روح مضيافية بالتأكيد:

ألِقًا يأتينا " نَوروزُ "
بفؤادِ الدّنيا مركوزُ

يحملُنا لفضاءِ بهاءٍ
فيهِ بالأفراحِ نفوزُ

ما أجملَهُ يعطي أملًا
أنَّ صقيعَ الأرضِ يجوزُ

لن يبلى للصّرخةِ سيفٌ
في عنقِ الخيبةِ مغروزُ

ستظلُّ بلابلُنا تشدو
ويظلُّ يصافحُنا الّلوزُ


لا سوطٌ فيــهِ يجلِدُنا
وبهِ ما نرجو مكنوزُ
21-3/ 2020
وما هو داخل في مواجهة الطغيان بالذات، ما يحرّره من كل تأطير، ويضفي على روحه الشعرية جمالية حضور أكثر تنويراً، في قصيدته " غنِّي بموتكِ لا " حيث نقرأ في التعريف بها هذه الكلمات :
إلى الشّهيدة المغنّية التّركيّة الكرديّة اليساريّة " هيلين بوليك"
الّتي أضربت عن الطّعام حتّى الموت احتجاجًا على الطّغيان والقهر والظّلم
فلا للطّغيان حيثما وجد ولا للظّلم حيثما شاع
ثم هذه الأبيات الشعرية:
بغناءِ " لا " هُزّي سجونَ الصّمتِ
وافْنِي شياطينَ الرّدى والكبْتِ

" لا " تُرهِبُ الباغيْ وترجُمُ سمْعَهُ
ولهُ تقِضُّ رقادَهُ في التَّخْتِ

" لا " تشتهيها أذْنُ أرضٍ لوِّثَتْ
بكلامِ زَيفٍ كلُّهُ مِنْ زِفْتِ

" لا " موجُها طاغٍ يخيفُ شواطئًا
يبِستْ بها عطَشًا عروقُ النَّبْتِ
6-4/ 2020

لقد قال الصديق الشاعر القس جوزيف إيليا، ما يبقيه حاضراً بأثره، بلهفة الوجدان، وألق التعبير المفصِح عن لقاء الآخر، عن معايشة التنوع، وهو الإجراء الوحيد الذي يصلنا بالينبوع الكوكبي العميق والدفاق، على مستوى عالمي، أبعد من حدود الأنساب الضيقة والاستعدائية: إنسانيتنا!

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...