فنون بصرية بشير خلف - الحس الجمالي ونعمة التذوّق..

الإحساس بالجمال ، والميل نحوه مسألة فطرية متجذرة تحيا في أعماق النفس البشرية ؛ فالنفس الإنسانية السويّة تميل إلى الجمال ، وتشتاق إليه ، وتنفر من القبح وتنأى عنه بعيدا . إن الطبيعة الإنسانية تنجذب إلى كل ما هو جميل ؛ وقد ورد عن رسول الله صلّى الله عليه وسلّم : " إنّ الله جميلٌ يحبّ الجمال " . والإحساس بالجمال والوله به ، والاعتناء به ، واقتناء الأشياء الجميلة قد يقوم بها الإنسان تلقائيا بفعل ذاك الميل الفطري المتجذّر في أعماق النفس ... شاء الله سبحانه وتعالى المبدع البديع الخالق أن يجعل من الجمال في شتّى صُوره مَـناطَ رضا وسعادة لدى الإنسان .
إن استصاغة الجمال حقٌّ مُشاعٌ لكلّ إنسان ، والأكيد أن تذوّق الجمال والتمتع به يختلف بين فرد وآخر ،ومن أمة إلى أخرى ، ومن عصر إلى آخر ، لكنه اختلاف محدود قد يمسّ جانبا من الجوانب ، أو عنصرا من العناصر التي تشكّل القيمة الجمالية .
جوْهر الجمال ..!
كيف نعرّف الجمال ؟ وكيف نحدّد جوهره وأسسه الموضوعية ؟ فهل الجمال كل ما ترتاح إليه عينا الإنسان ؟ هل هو كل ما يعجبنا ويفرحنا ويشدّنا إليه ، وما يثير إعجابنا ؟ أم ذاك لا يكفي لتعريف الجمال وتحديد جوهره الحقيقي السامي ..ربما يُخفي " الجمال الظاهري" الذي تراه العينان القبح والبشاعة ..
وننطلق من الطبيعة فهي نبْعُ الجمال الفيّاض ... الذي لا يجفّ ، فإذا جفّ هذا النبع لا يندثر الجمال فحسب ، إنما تفنى الحياة وتموت الكائنات كلها ..أي لا حياة إذا ماتت الطبيعة ، فالحياة مرتبطة بالطبيعة ، والجمال مرتبطٌ بالطبيعة . تُشبع الطبيعة حاجة الإنسان للجمال ، وتُنمّي لديه شعوره به الذي يرتبط بالميل نحْو الطبيعة ، لأننا كبشر نشعر في تنوّع موضوعاتها ، وثرائها بما يُـمْتع أبصارنا ويبعث الراحة في جوانحنا بما تُمثّله من شفافية وطُهْرٍ ونقاء ، فنحن نستمتع بتعدّد ألوان أوراق الشجر ، وبدقة نظامها البنائي ، وبالانسجام العجيب والعلاقات بين خطوطها ، والتي تتّصف بالرشاقة والنقاء .. من ذاك نعثر في الطبيعة على معايير التناسق والتوازن ، وعلى تجسيدات الثراء اللوني ، والإحساس بالرحابة المكانية ، وبالصفاء الضوئي ، وبتناغمات الكائنات في هذه الطبيعة .
والحقيقة أن إعجاب الإنسان بجمال اللون والْـوَلَـه به ، يتجلّى على سبيل المثال في ألوان ريش الطاووس والتناسق في تمدّده ، وخُيلاء الطاووس لمّا يتحرّك ..وكذلك إحساسنا بالرضا والارتياح ونحن نتملّى الجو المشبع باللون في منظر غروب الشمس ، وانبهارنا بالنضارة اللونية في شروقها ، كلّ ذلك يرجع إلى كوْن الإحساس باللون هو من أكثر أنواع الشعور بالجمال شيوعا بين بني البشر، وأشدّهم جذبا.
للألوان تأثيرٌ عميقٌ في دواخل النفوس ، فتظهر بهيئة ملموسة ساحرة تارة تُحفّز أغلب الناس محرّكة فيهم الذوق الجمالي المتماشي مع كلّ إنسان ، وتارة أخرى بنفس إيماني ، وروحانيات ، واعتقادات تتداخل في كنف الدين والأعراف ، وحتى الأسطورة لدى بعض الشعوب ...إن اللون هو صفةٌ للنور والضوْء ، وأن للنور السماوي الآتي من الشمس قدسية وحظوة يكتسيها في جلّ المعتقدات .
في العقيدة الإسلامية جاءت دلالات اللون تعبيرية أو رمزية أو حسّية أو جمالية ، وارتبط اللون بمصدرين جوهريين : أولهما ، النور القادم من السماء المقترن بالخالق الأعلى ، فهو ( نور الله ) سبحانه وتعالى ، أو ( نور القلوب ) بما يعنيه الإيمان المنوِّر لدواخل النفس المظلمة ..وثمّة تداخلٌ لغوي ذو دلالات بين كلمتي " ظلمة " و " ظلم " المقترن بقُبْح الظلم والطغيان المنافي لجمال العدل ، وهكذا فكل انحراف واختلال هو قُبْح لأنه ابتعادٌ عن الجمال الواجب اقترانه بإرادة الله ؛ وبذلك فإن اللون وجماله يقترن مع وجود الضياء ، ثم يتداخل المفهوم مع العدل والقسطاس الإلهي . وأصبح الأسود المظلم لدى أغلب شعوب الأرض رمزا للحزن ، والألوان المشعّة الفاتحة دليلا على الحبور والمسرّة في الأعراف الشعبية .
العين منْفذ المشاهدة
ثاني الحوافز المرتبطة باللون والتي تؤدي إلى التذوق الجمالي،هي العين كأداةٍ جاسّة للنور واللون .والعين ذكرها الله في مُجمل نعمه على الناس ..ناهيك عن اعتبار اختلاف الألوان في ناموس الطبيعة والخَلْق في حدّ ذاته معجزة ربّانية تدعو الانتباه ، وإن تكريسها ما كان ولم يكن عبثا ، كما ورد ذلك في الذكر الحكيم : (أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ . وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ ) (فاطر:27) و: (من الآية28 ).
قد يطرح القارئ السؤال التالي وما علاقة الألوان بالجمال وتذوّقه ؟ وأيّ الألوان أجمل ؟ وهذا بطبيعة الحال يجرّنا إلى أقوال بعض علماء النفس الذين من بينهم العالم النفساني الألماني " فشنر " إذْ يقول : ( صحيحٌ أن اللون الأحمر جميلٌ إذا ظهر على وجْـنة الفتاة ، ولكنه ليس جميلا إذا برز في أرنبة الأنف .) وهكذا نحسّ بجمال اللون من خلال مضمونه وأهميته ، وبذلك تكون نظرتنا إلى وهَج الغسق الأحمر مختلفة عن احمرار الوجه البشري . كما أن للطبيعة المحيطة وصورة الكون حضورُهما في المدى الفلسفي للألوان ، فالأزرق يلْقى الحظوة لارتباطه بالسماء ولوّن الماء الذي هو جوهر الحياة : ( وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُـلَّ شـْيءٍ حَيٍّ ) . واللون الأخضر يرمز إلى الأمل والخصوبة والخلود المرتبطة أساسا مع بُعْدي اللونين المكوّنين له وهما الأزرق الدّالّ على الماضي والأصفر الدّالّ على المستقبل ، وما يعاكسهما في ذلك والذي يمثّل الزمن الحاضر فيبدو احمر اللون .
أساسيات ..للتذوّق الجمالي
يقفز أمامنا والحالة هذه سؤال مهمٌّ : هل كلُّ كائن قادر على تذوّق الجمال والإحساس به ، والتعرّف على الجمال الحقيقي الأصيل ؟ أم أن الإحساس بالجمال والتعرّف عليه يحتاج إلى طاقة وقدرات ، وملكات رفيعة ، بل وخبرة ومستوى معرفي معيّن .. ونعتقد كما يعتقد العديد من ذوي الخبرة والاختصاص ،أن ليس كل إنسان يملك القدرة لاستيعاب وإدراك الجمال .
تذوّق الجمال في رأينا يحتاج منّا :
1. ـ إلى عقْلٍ نشطٍ ناضج ، فالعقل الخامل الذي تغلب عليه البلادة ، وتطغى عليه الغرائز والنوازع البهيمية لا يملك القدرة على العثور على الجمال ، ولا التعرّف على ميزات الجمال ، ومن ثمّ الإحساس به ، وتحديد جوهره ، وتذوّقه والتنعّم به .
2. ـ إلى قلْب مُحبٍّ ، فالمحبة هي التي تنير الطريق على مَواطن الجمال والتوقف عندها والتأثر بها .
3. ـ إلى عين نشطة ومشاعر مرهفة حسّاسة ، فالإنسان الذي اعتاد أن يقضي حياته بين جدران أربعة ، لا يدرك جمال نهر تعانقه المروج والبساتين ، والذي لا يرى من الحياة غير وجهها الحالك ، لا يدرك الجمال ولا يعيه البتّة ، والنفس التي ترى من الحياة غير جانبها المادّي وقد صارت عبدا مملوكا للمال ، لعمري فالجمال تراه إلاّ فيما يُضاف كل يوم لها من عقارات وأوراق نقدية .
4. إلى نفس طيّبة ، متّزنة ، سويّة ، متسامحة ترى الوجود كله جميلا .. إلى أخلاق رفيعة سامية..نفس تنطوي على الخير والحبّ والجمال ، والفضيلة ، غير ميّالة للقبح والبشاعة في أذى الغير ..نفس طيّبة تعتقد الطيبة في غيرها .
5. ـ إلى خبرة بالحياة ومكوناتها ، وإلى إدراك للوجود ، وإلى قناعة بالموازنة بين الجانب الروحي ، والجانب المادّي ، وبين الجانب الحسّي والجانب المعنوي .
إن الجمال يلبّي ويروي لنا حاجة إنسانية سامية ، وعلينا هنا أن نميّز بين الحاجات الإنسانية السامية للإنسان وبين الحاجات الوضيعة ، وإدراك قيمة الشيء معناه معرفته ، على سبيل المثال إذا لم ندرك ونقدّر ونعرف قيمة الوطن ، فهل يمكن أن نشعر بجمال الوطن ؟ قد نختلف حول العديد من القضايا ؛ إلا أننا لا يمكن أن نختلف حول الوطن الذي نعتبره أسمى وأرقى وأنبل مراتب الجمال .
الإنسان هو الوحيد من بين الكائنات قادرٌ على التطوّر ..قادر على استكمال ميزاته الإنسانية التي تُميّزه عن باقي الكائنات ، لأنه يملك العقل والإرادة ..الإنسان يملك غرائز نبيلة سامية نافعة ، ويملك بالمقابل غرائز عدوانية وحشية مخرّبة ضارّة ..إلاّ أن نزعة الخير موجودة أصلا فيه ..والجمال قادر على إبرازها وتوظيفها في سبيل الخير . والإنسان هو الوحيد من بين الكائنات كلّها ، قادرٌ على مجاراة الطبيعة التي هي نبْعُ الجمال ، في أن يكون جميلا ، وهو القادر على حماية الطبيعة لتكون مصدر قوّته وإلهامه ..بإمكانه أن يرفد ينابيع الجمال فيها ؛ وقدرته هذه تنبع من طموحاته وأحلامه .. فطموحات الإنسان وأحلامه تعبّر أيضا عن جانبٍ مهمٍّ للكشف عن القيم الجمالية ، والتواصل معها ، وتعبّر عن جانب مهمٍّ من طموح الإنسان وسعْيه ، واجتهاده لكي يكون جميلا .
القيم الجمالية غذاءٌ للروح ..حُرم منها الكثيرُ
إن القيم الجمالية هي غذاء الروح ، وغذاء الروح لا يقلّ أهمية عن الغذاء المادّي للإنسان ؛ إنْ لم نقل : إن الغذاء الروحي أكثر وأشدّ أهمية من الغذاء الطبيعي المادّي للإنسان ..ونعني بالغذاء الروحي ، كل ما يساعدنا على أن يبقى عالمنا جميلا يسرّ العين والروح ، ويقي الجسد .
ويشكل الموقف من القيم الجمالية ، والإبداع الجمالي ، والتعامل مع الجمال بُعْدا أساسيا في الحضارة الإنسانية ..فالحضارة التي تخلو من الجمال ، وتنتفي وسائل التعبير عنه فيها ، وتنعدم صناعة موضوعاته فيها ، لهي حضارة متخلفة ، لا تتجاوب مع مشاعر الإنسان ، ولا تلبّي أشواقه النفسية ونزعته الفطرية إلى الخير والحقّ والجمال ، ولا تعبّر في الآن نفسه عن إنسانيته .
قد لعب الجمال والفن بمعناه الواسع دورا كبيرا في حياة الإنسان ، إذْ كان وما يزال مظهرا من مظاهر تميّز الإنسان العاقل عن باقي المخلوقات ، ووسيلة تعبير هذا الإنسان عمّا يحسّه من مشاعر وانفعالات ، وكلما ارتفع مستوى هذا التعبير ، ارتفع معه مستوى هذا الإنسان ، ومستوى الحضارة التي يعيش فيها .
إن المجتمع الذي يُعنى بالفن والجمال ، هو مجتمعٌ يستطيع أن يحافظ على توازنه وترابطه ، ويسمو بأفراده إلى مراتب تساعدهم على الوئام مع محيطهم ، والحرص على تحسين واقعهم ..مجتمع يرتفع بأفراده فوق مستوى الحياة العادية ، ويمنحهم خبْرات إيجابية ، ويشحنهم بطاقات روحية يسْمون بها فوق الروتين اليومي ، فيحقّقون ذواتهم أفرادا ومجتمعا .
يقول المرحوم الدكتور زكي نجيب محمود :
" الإنسان العادي من جمهور الناس ، إذا عرف في حياته الجارية كيف يفرّق بين ما هو جميل وما هو قبيح فيما يحيط به من أشياء ، فإنه في معرفته تلك ، يظلّ بعيدا أشدّ البعد عن القدرة على بيان الأسس التي إذا توافرت في شيء ما ، كان ذلك الشيء جميلا ، وإذا غابت عن شيء ما ، كان ذلك الشيء مسلوب الجمال ، بمقدار ما غاب عنه من تلك الأسس ، وقد يحدث هنا أن يتصدّى للمشكلة مفكر موهوب في عمق التفكير ودقّته ، فيتناول هذه التفرقة بين الجمال والقبح ، حتى يصوغ أسسها ومبادئها وشروطها ، وعندئذ يُقال عن مثل هذا المفكر : إنه فيلسوفٌ ، كما يقال عمّا يكتبه في هذا الموضوع : " إنه فلسفة الجمال " ولنلحظْ هنا أن عملية النقد في مجال الفن والأدب ، إنما هي فرْعٌ يتفرّع عن فلسفة الجمال ، ولذلك فقد يختلف النقاد في الأساس الذي يقيمون عليه نقدهم ، باختلافهم في المذهب الفلسفي الذي يناصرونه "
يطرح بعد ذلك الدكتور زكي نجيب محمود عدة أسئلة حول فهم الناس للجمال ، فإذا هم اتفقوا حول الفهم وربّما حتى التعريف ، فإنهم تأكيدا سيختلفون في التفسير والتعليل ، وما هو المقياس الذي يجعل ذلك الشيء قبيحا وهذا جميلا :
(( ... قد تلتقي أنظار الناس جميعا على الشيء الجميل فتتفق على جماله ، ثم يبدأ اختلاف الرأي فيما بينهم حين يبدؤون في التفسير والتعليل ، فماذا في هذا الشيء أو ذاك قد جعله في أعين الناس جميلا ؟ أهو ـ في نهاية التحليل ـ ما به ممّا ينفع الناس في حياتهم الكاملة ؟ أم هو صورة بنائه وتكوينه ، بغضّ النظر عمّا ينفع وما لا ينفع ، أم هو شيء غير هذا وذاك ؟ )) .
ويربط المرحوم الدكتور نجيب محمود تذوّقنا للجمال بالجانب الروحي المتأصّل فينا والمستمد من عالم الروح ، وما نصفه بالقبح يتنافر مع ذلك ؛ فيرى أن الجمال في الأشياء الجميلة ما هي إلاّ صفةٌ ندركها ، فندرك أن بينها وبين الجانب الروحي فينا شيئا من حيث الجوهر ؛ وعلى عكس ذلك الشيء الذي نصفه بالقبح ، إنما هو شيء يحمل صفة تتنافر مع حقيقة أرواحنا ، فالأشياء الجميلة تُذكّر الروح فينا بطبيعتها الروحانية ، وذلك لأن هذه الأشياء الجميلة كلها تشترك في " الصورة " المستمدة من عالم الروح ، وإذا ما خلا شيء من تلك الصورة كان قبيحا .
المقاييس الحسّية وحدها تُجرّد الجمالَ جوهره السّاميَ
ومن الخطإ أن نعتقد أن للجمال مقاييسه الحسية وحدها ، تلك التي تقع عليها العين ، أو تسمعها الأذن ، أو يشمها الأنف ، أو يتذوقها اللسان ، أو تتحرك بها لمسات الأطراف العصبية ... فالجمال مادة وروح ، وإحساس وشعورٌ ، وعقل ووجدان ، فإذا التقى فلاسفة الجمال في بعض الجوانب أو العناصر ، فستظلّ هناك في عالم الجمال مناطق يعجز الفكر الفلسفي عن إدراك كنهها ، والوصول إلى أبعادها . فليس العقل وحده هو القوة القادرة على استكناه كل أسرار الوجود وما خفي فيه ، ولحكمة يقول الله تعالى في كتابه العزيز ( ...فَإِنَّهَا لا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ.) (الحج: من الآية46)
وبعيدا عن الفلسفة وأهلها ، فالإنسان العادي السوي مثلما يشاهد الجمال في عالم الطبيعة يشاهده ويتذوّقه في الأشياء الجميلة التي يقتنيها ، ويلحظه في الإبداع الفني الذي يصنعه الإنسان كالعمارة التي يبدع فيها المهندسون والبنّاؤون ، والطرق الفسيحة التي تحاذيها من الجانبين مساحات ظللتها أشجار وارفة وزخرفتها زهور وورود تفوح عطرا ، وساحات بديعة ,ومساجد تألقت بعمارتها الإسلامية المميزة ، كما أن الإنسان السوي يشاهد الجمال وينعم به في اللوحة الفنية ، الملابس الزاهية ، ترتيب غُرف المنزل ، الكُتب المزخرفة ، الخط ، ترتيل القرآن الكريم ، الزخارف والنقوش ، في الأواني والأبنية والفُرُش والزرابي ، في الإيقاع الموسيقي الأصيل والصوت الشجيّ ، والوزن الشعري العذب ، في الكلام الحسن ، في الحوار الهادئ ، في الاحترام المتبادل ، في فنّ الإصغاء للغير ، في حُسْن التعامل مع الجار ، مع الأصدقاء ، في صلة الرحم ، مع الزملاء في العمل ، في آداب الأكل ، في سلوك النظافة في داخل المنزل وخارجه ، في الحفاظ على البيئة .
الجمال نعمةٌ ربّانيّةٌ
وكما نشاهد الجمال ونتذوقه في الإبداع الذي يصنعه غيرنا ونصنعه نحن أيضا ، فإن موضوعات الجمال التي كرّم الله بها عباده في الطبيعة أفسحُ وأجملُ وأكثرُ جاذبية ؛ حيث يغمرنا الجمال في عالم الأزهار والطيور وسفوح الجبال ، وجداول الأنهار ، وشلالات المياه المنحدرة ، وكثبان الرمال الذهبية ،والنخيل الباسق ، ، ومغيب الشمس ، وفي شكل الإنسان الذي قال الخالق عزّ وعلا في شأن تكريمه : ( وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلاً) (الاسراء:70) وقال أيضا : ( لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ) (التين:4) .. كما نسْعد بالجمال ونحن نتذوقه في سماء الليل الصافية ، وفي النجوم المتلألئة ، والقمر وهو يغمر الكون بضيائه ..نتذوّق الجمال في الغيمة ، في قوس قزح ، في الضباب وهو يدثّـرُ ما حولنا بغُلالة شفافة منعشة ، نتذوقه في نزول الغيث وتجمُّع قطراته وهي تنساب والأرض تتشرّبها في نشوة ..الجمال نتذوّقه في عيون الضباء ، وفي عيون المها وابتسامات الأطفال ، في ألوان الأسماك وشاطئ البحر ورماله الذهبية ، وأمواجه ..في حقول الزرع المترامية ، في السنابل الناضجة وهي متمايلة بما حملت من ثمار الخير ..في الخضار بألوانها المختلفة ..في الأشجار المثمرة وتدلّي الثمار بألوانها وأشكالها يانعة شهية في عراجين النخلة وهي مدلاّة ، مثقلة بحبات التمر في لونها الذهبي الرائق الشفاف ..وفي الأزهار بألوانها وأريجها .. وفي ملكها الورد بدون منازع ..ولدى الإنسان العامل وقد أبدع وأجاد وأتقن ، لدى الموظف وقد أخلص ، لدى البائع وقد أحسن عرْض بضاعته واستقبل الزبون باشّا وكان رحيما في تسعيرة بضائعه ، ولدى ... ولدى ..ولدى ..
مواطن الجمال .. تعدّدت وتنوّعت
عموما ، فالجمال قد يكون متعلقا بالإنسان ، أو الحيوان ، أو النبات ، أو الصخور ، أو الجبال ، أو البحار ، أو السماء ، أو حتى السحب وتشكيلاتها ، تهاطل الأمطار ، تساقط الثلوج ، أو التعبير الإنساني خاصة في الفنون المختلفة ، وقد يكون مرتبطا بالجانب المادي ، أو الحسّي ، وقد يكون متعلقا بالجانب العقلي أو المعرفي ، أو التأمّلي قد يتمثّل في حالات صامتة ، أو حالات متحرّكة ، أو في مزيجٍ من الصمت والحركة ، وقد يكون في وجْهٍ جميل ، أو جسد جميل ، أو مسرحية جميلة ، أو مقطوعة موسيقية جميلة ، أو فيلم جميل ، أو لوحة فنية جميلة ، أو حديقة طبيعية جميلة لم تطلها أيدي البشر ، أو حديقة أخرى تولاّها الإنسان بالرعاية والاهتمام .
اختلافات هائلة بين تكوينات وحالات الجمال وتنويعاته ، فوصفنا العام لها بالجميلة إلاّ لكونها تثيرنا وتبعث المتعة والراحة في نفوسنا ؛ حيث يوجد الجمال في جميع مظاهر الحياة ، في الطبيعة والمباني والبشر والفنون واللغة ... كما يوجد في العلوم ، فالفيزيائي ريتشارد فينمان يرى بأن " المرْء يمكن أن يستبين الحقيقة بفضل جمالها وبساطتها " ويعلن فيزيائي آخر بقوله : " إن الجمال في العلوم الدقيقة وفي الفنون على السواء هو أهمّ مصدر من مصادر الاستنارة والوضوح " .
كـلٌّ تلك موضوعات تجسّد الجمال ، بل الطبيعة بأسرها لوحة فنية تفيض بالحسن والجمال ، والنفوس السوية تثير لديها الإعجاب ، وتتفاعل معها روحيا ، إذْ تتحوّل لديها شعرا ، أنشودة ، عبادة وإجلالا وتسبيحا وتعظيما لمبدع هذه الطبيعة وخالقها .
أين نحن من هذا العطاء الربّاني ؟ هل نحسّ بهذا الجمال الفياض في سلوكنا اليومي ؟ هل نتذوق القليل أو الكثير في يومياتنا وليالينا ؟ ...هي أسئلة مطروحة علينا أفرادا وجماعات ، ولا أعتقد أننا نجهل واقعنا وسلوكنا الذي يجهل في أغلب الحالات كُنه الجمال ومفهومه ، ومعاداتنا لكل ما هو جميل ، وإنْ جَهِـلْنا التذوقَ الجماليَّ فإننا في نفس الوقت نترفع عن تعلّم التذوق الجمالي ونرى بأنه من الصغائر التي ننزل إليها ، والبعض يراه أنه من الضعف والدونية .. نحن أغلبنا معطوبٌ من الداخل. لكن كيف السبيل إلى إصلاح هذا العطب ؟
الجمال يحيط بنا من كل جانب .. وسرّ الجمال يتمثّل في القدرة الإلهية التي خلقت وأبدعت ، لكننا نفتقر إلى استشعار هذا الجمال ، لأن ذاك يحتاج إلى تنشئة وتربية تستمرّ مع الإنسان ولا تتوقّف عند مرحلة محدودة من العمر ؛ فالشخص الذي يتعوّد على تناول الأشياء من زواياها النفعية ، تأكيدا لا يرى فيها جمالا ، لأن الأشياء في نظره لها مدلولات مادية حسّية ، إذْ هو يرى البرتقال ليأكله ، وينظر إلى المقعد ليستريح عليه ، ويركب السيارة لتُسْرع في نقْله من مكان إلى آخر ؛ لكنه حينما يبحث عن شكْل البرتقال ولونه ، وملامس سطوحه ، وكيانه الكُلّي ، ويعجب بهيئته حين يقارنها بفاكهة أخرى ، فإن إعجابه وسروره في هذه الحالة يؤدّي له وظيفة أخرى ..هي الاستمتاع والتذوّق ..وهكذا في بقية الأشياء
القبْح عـمَّ ..هلاّ الْتفتنا إلى تربية تكون الجمالية في صدارتها !!
إن الإيمان بالجمال والعمل على تنميته ملكاته ، وغرْس الميول المختلفة المساعدة على الذوق الرفيع لدى أبنائنا شيءٌ حيويٌّ وضروريٌّ لتنشئة أجيال تتذوّق الحياة بروحٍ ملْؤها المرح والبهجة والسرور .إن الطفل الذي ينشأ على حُبّ الجمال ، ويتعوّد مشاهدته ، ومعايشته داخل أسرته نظراً وسمْعا وعلاقات ، وأسلوب حياة هو طفلٌ سعيدٌ ، مستبشرٌ ، مطمئنٌّ ، هادئ النفس ، متحرّر من العُقد النفسية ، رقيق الطبع والذوق ، قادر على الحبّ والعطاء ، قادر على ولوج معترك الحياة بثقة .
والنفس البشرية لا يمكن أن ترقى بأحاسيسها السامية ، وتنهض بمستوياتها الوجدانية والفكرية ، إلاّ من خلال البحث عن الجمال ومَوَاطنه ، وتذوّقه ..فالجمال يهذّب النفس ، ويُدخل عليها الطمأنينة والسرور ، ويخفّف عنها حِدّة التوتّر والقلق ، والشعور بالاكتئاب والتشاؤم ..وما أحوجنا إلى ذلك في عصْر سيطر فيه الخوف والقلق والتوتر والتشاؤم المستمرّ .
التعامل مع كلّ ما هو جميلٌ يجعل الدنيا مشرقة في أعْيننا بصفة دائمة ، ويُزيل عنّا الهمّ والحزن والملل والضيق ، ويُخفّف من أعباء الحياة علينا ..هذا الجمال لا يحتاج إلى قدرة مادية ، أو نمطٍ خاصٍّ ، أو أسلوب معيشي معيّن ، وإنما هو أسلوب حياة أساسه الحدبث النبوي الشريف : ( اللّهمّ إنّي أسألك نفْسًا مطمئنّةً تُؤمن بلقائكَ وترضى بقضائكَ وتقنع بعطائكَ .)
صُور الجمال في الكون والحياة ، دليل على قدرة الله تعالى وعظمته وحكمته ، والقيم العليا في الديانات السماوية ، سيّـما في الدين الإسلامي الحنيف ، ترمز إلى نواحٍ جمالية مثلى ، لأنها ينبوع السعادة الحقيقية المتمثلة في الحق والخير والجمال ، للبشر في كل زمان ومكان ، فالخير والفضيلة ، والحب والصدق ، والعدل والرحمة ، والتآخي والبرّ ، والطهر والعفاف ، وغيرها من الصفات والسلوكات الإنسانية الحميدة التي تبعث في النفس الطمأنينة والأمن والأمان ..جميعها ينابيع للخير والوفاق وجمال النفس والكون في شموليته الواسعة ، والبيئة المحيطة بالإنسان .

الهوامش :
1 ـ د/ علي ثويني .الألوان في الفنون والعمارة الإسلامية .
2 ـ د / أحمد زكي . في سبيل موسوعة علمية .
3 ـ أ / صبحي سعيد . القيم الجمالية في الأدب والحياة .
4 ـ د / زكي نجيب محمود . هموم المثقفين .
5 ـ د/ شاكر عبد الحميد . التفضيل الجمالي . سلسلة عالم المعرفة / الكويت .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...