سعيد محمود - من باب الحنين..

من وقت لآخر، أحب من باب الحنين والنوستالجيا، أن أتردد على مراتع الطفولة وملاعب الصبا( كما يقول الأدباء دائما) أي إلى الأحياء والشوارع ، التي شهدت فترات طفولتي وصباي وشبابي، وعشت فيها ردحاً طويلاً من عمري. المنطقة التي شهدت طفولتي من نهاية الخمسينيات إلى عام 1963، وهي شارع المساحة بالدقي والشوارع الجانبية المتفرعة منه يمينا وشمالاً، تغيرت معالمها لحد كبير، واختفت عمارات كثيرة ، ومحلات عديدة، وقام محلها عمارات شاهقة، ومحلات ليس به أي شبه بتلك بالقديمة. واحتمال العثور على أحد مما كنت أعرفه في هذه المنطقة ضئيل جداً، واحد أو اثنين على الأكثر، هذا إذا ما اسعدني الحظ، أما الباقون فقد غابوا بالرحيل عن المنطقة أو بالرحيل عن الدنيا كلها. أما المنطقة التي عشت فيها جزء من فترة الصبا ومرحلة الشباب وبداية الرجولة فهي منطقة العجوزة( شارع المراغي والشوارع المتفرعة منه) وهي من اجمل المناطق في محافظة الجيزة، فمعالمها في معظمها مازالت كما هي :فالعمارات مازالت قائمة، والمحلات أيضا، وأن كان من يقوم بالبيع فيها وجوه جديدة تختلف عن الوجوه التي ألفنا رؤيتها في هذه المحلات قديما. في هذه المنطقة من الممكن أن أجد عدداً من المعارف والأصدقاء، أما الغالبية العظمى منهم فقد رحلت عن الحي. فعندما تجلس مع صديق قديم من اصدقائك في هذه المنطقة، وتسأله عن مصائر الأصدقاء واحداً واحداً تجده يقول لك أن هذا ترك العجوزة وسكن في الهرم، أو استقر في مصر الجديدة، أو المقطم، وغير ذلك من المناطق الجديدة في الجيزة والقاهرة، أو حتى في مدن غيرهما مثل الاسماعيلية أو الاسكندرية. كما تفاجأ أيضا وهو ما يحزنني بأن عددا منهم قد رحلوا عن الدنيا، وتندهش اشد الاندهاش عندما تسمع أن فلانا قد توفى في حين أنه كان وافر الصحة، قوي البنية( بطلا لكمال الأجسام مثلا) أو كان وضعه الصحي أو العائلي بشكل عام جيدا، فلا تملك إلا التحسر على رحيلهم وهم الذين كانوا ملء السمع والبصر. كما أندهش أيضا للتحولات الاقتصادية والاجتماعية التي طرأت على البعض، فتسمع أن عائلة مثلا كانت ميسورة الحال قد تدهور بها الحال تدهورا كبيرا، واصبحت على حافة الانهيار، وتسمع أن شخصا كان يعمل مساعد بقال وكان رقيق الحال قد اصبح يمتلك عدة عمائر ومحلات سوبر ماركت في منطقة من المناطق الجديدة. اخبار كثيرة اسمعها في كل زيارة إلى هذه المناطق تثير في نفسي مشاعر متناقضة. وأكثر ما يحزنني ما أره من تغير الطابع العام لتلك المنطقة ففي شبابنا كانت الشوارع تعج بالحركة، وأمام كل عمارة يلعب اطفال ويقف شباب كثيرون، وبلكوناتها جميعا مفتوحة للهواء ويجلس فيها افراد العائلة وخاصة الأب والأم في العصاري والمغارب والأمسيات. كل ذلك اختفى الآن فنتيجة لكثرة أعداد السيارات والزحام لم يعد احد يلعب في الشوارع، ومعظم البلكونات مغلقة، والنوافذ معتمة، ولا أحد يقف أمام البنايات، والحركة محدودة إلى أقصى حد، وحالة من الهدوء تسود تسود المشهد بتشكل عام ذلك المشهد الذي كان عامرا بالحياة والحيوية في فترة زاهية من فترات العمر.رعى الله تلك الأيام وسقاها.



تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...