فراس زوين - قراءة في رواية الفقراء .. دوستويفسكي

تعد رواية الفقراء هي الرواية الأولى للكاتب الروسي الكبير فيديور دوستويفسكي والتي انجزها عام ١٨٤٦ واثبت من خلالها براعته ونبوغه المبكر، وبالرغم من ان هذا العمل الادبي لم يظهر كل امكانياته الا انه قد افصح عن عمق الرؤيا وبراعة السرد الادبي الكاشف للذات الإنسانية بكل انحناءاتها وتعقيداتها، ولعل دهشة (بيلنسكي) وهو احد اهم النقاد في تاريخ روسيا بعد ان قرء مسودة هذه الرواية وقوله لدوستويفسكي " هل تستوعب حقاً أيها الشاب كل تلك الحقيقة التي كتبت عنها ؟؟؟ لا انت لن تقوى على ادراك ذلك وانت في العشرين من عمرك ،،، انما هو الالهام الفني ،، تلك الموهبة المستمدة من الأعالي هي التي الهمتك ،، فاحترم فيك هذه الموهبة ،، ستصبح كاتباً كبيراً " هي اول تنبئ لنبوغ هذا الكاتب وعلو شأنه في عالم الرواية والادب العالمي ذات يوم .

قد تكون هذه الرواية هي الأولى في تاريخ الادب التي تناولت أسلوب الرسائل في طرح مضمونها وبناء حبكتها الدرامية، من خلال الرسائل متبادلة بين الموظف البسيط الأربعيني (ماكار دييفوشكين) والفتاة اليتيمة (فرفارا ماتوشكا) وهي شابة في مقتبل العمر مات ابواها بظروف مأساوية واضطرها العوز والفقر ان تدخل في رعاية امرأة ميسورة الحال تربطهما صلة قرابة بعيدة، ولم تتوانى هذه المرأة للحظة من اللحظات عن تقريعها، والتمنن بإحسانها وتعطفها، وتذكيرها بأنها قد آوتها وامها بعد وفاة والدها، مما دفع (ماتوشكا) الى ترك هذه المرأة مختارة حياة الفقر والعوز والفاقة على حياتها المليئة بالإذلال وانتقاص القيمة ،، وفي تلك الاثناء يتكفلها ( ماكار دييفوشكين) الموظف الذي لا يمنعه فقره المدقع وشحة ما لديه من مال من رعايتها والاهتمام بها وبتلبية احتياجاتها المادية بكل ما يملكه ويستطيع، بل انها حين تمرض يقوم طائعاً ببيع ملابسه ويقترض اموالاً بفوائد كبيرة خوفاً على صحتها ،، وقد يتفاجأ القارئ اذا علم انه مع كل هذا الاهتمام والتضحيات لا يكاد يراها، بل انه لا يجرء ان يزورها في المكان الذي تسكن فيها مخافة النمائم وتقول الناس على الفتاة التي يحبها كما لو كانت ابنته، ومن جهة أخرى فأنه ينفق اخر قرش يملكه عليها.

ان عذابات بطلنا (ماكار دييفوشكين) لم تكن قط بسبب فقره المدقع ولا بسبب اسماله الرثة والبالية، ولا حذائه الممزق الذي يظهر نصف قدمه، بل كانت بسبب بؤسه وشعوره بالأذلال وخسارته احترام الناس وتقديرهم، وان يرى نفسه اهون من حشرة في اعين من حوله، واحساسه ان لا فرق بينه وبين أي ذبابة، بل ان دخول الذبابة الى أي غرفة قد يثير الاهتمام والانتباه اكثر مما يثيرها دخول رجل فقير معدم كحالته الى نفس هذه الغرفة، فلم يكن الرجل يمانع ان يكون فقيراً لكنه يرفض ان يكون بائس وان يهان بسبب هذا البؤس، وقد يخسر الانسان كل شيء وهو لايزال انسان، اما ان خسر ذاته واحترامه بين جنسه فلن يكون سوى حشرة !! وهذا ما صوره لنا دوستويفسكي بمنتهى الروعة في احدى صفحات هذه الرواية حينما يفرح (ماكار) بشكل كبير جداً لا من اجل المال التي يقبضه من صاحب العمل (رغم حاجته الملحة) بل لان صاحب العمل صافحه بيده كما يصافح أي انسان محترم وذا قيمة !!!


وللقارئ الكريم ان يسأل نفسه، او ان يسأل دوستويفسكي عن سر هذا الاهتمام بالفتاة من قبل شخص فقير فقر مدقع بالكاد قادر على كفالة نفسة وتلبية حاجاته بعد ان امتص الفقر لحمه وطحن المجتمع عظمه ؟؟؟ ان الإجابة على هذا السؤال قد تعود بنا الى كلمة لدوستويفسكي في روايته الخالدة (الجريمة والعقاب) حيث يجيبنا (مارميلادوف) احد شخوصها بقوله " لا بد لكل إنسان من أن يجد ولو مكانا يذهب إليه ، لأن الإنسان تمر به لحظات لا مناص له فيها من الذهاب إلى مكان ما ، إلى أي مكان ،،، هل تدرك يا سيدي الكريم ،، هل تدرك ما معنى أن لا يكون للإنسان مكان يذهب إليه ؟؟؟". ان هذه العبارة تمثل الإجابة عن السؤال، فأن هذه الفتاة هي المكان الذي كان يذهب اليه أي بمعنى انها انتمائه والانسان الوحيد الذي يهتم بأمره ، بل انها الهدف من وجوده ورغبته في الحياة، وكان هذا جواب (ماكار) عندما ارسلت له (ماتوشكا) تقول بانها لا تفيده بشيء وانها ليست اكثر من عالة تثقل عليه حياته، فكان جوابه " فماذا عسى يقع لو سافرت ؟؟؟ لسوف امضي الى شاطئ نهر نيفيا وينتهي الامر (ينتحر) نعم هكذا ستجري الأمور، يا فارنكا ،، يافارنكا ،، ماذا تريدين ان اصبح بدونك ؟؟ اه يا فارنكا يا حياتي يا روحي اتراك تتمنين لي ان تحملني عربة موتى الى مقبرة فولوكوفو في يوم قريب وان تسير وراء نعشي امرأة فقيرة شحاذة بأسمالها البالية الخلقة وحدها في الجنازة ،،، انه لأثم ،،، انه لأثم شهد الله انه لأثم ان تقولي ما قلته يا ماتوشكا". وانما أوردت المقطع كاملاً لروعته وجمال أسلوبه ولأنه يختصر كل الرواية ، ولعل هذه هي النهاية المكتوبة على بطلنا بعدما يتقدم لها رجل ثري في الخمسين من عمره كانت تجمعهما علاقة سابقة فتختار قبول عرضه بالزواج والسفر بعيدا، رغم الفوارق الكثيرة بينهما، هرباً من واقعها الى واقع قد يكون اسوء واكثر قسوة، تحت ضغط فقرها وبؤسها وسمعتها التي بدأت تصبح حديث الناس، ليبقى الرجل الذي كان لها الاب والصديق والمعين وحيداً بلا معنى للحياة ولا هدف للوجود، وحيث أيامه الأخيرة التي قد لا يصحوا فيها من سكره وحزنه .

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...