عرفت الدكتور حامد في عام 2011 عندما كان يدرِّس لنا مادة "الشعر الإسباني" في الفرقة الثالثة، كلية اللغات والترجمة، جامعة الأزهر. وكان من عادته أن يدرِّس من كتابيْن أحدهما إسباني والآخر عربي، وكان الكتاب العربي لهذه المادة من تأليفه، بعنوان "رائد الشعر الإسباني الحديث خوان رامون خيمينيث". وقبل أن نلتحق بالجامعة كان لدينا صورة نمطية معينة حول أستاذ الجامعة، فمثلًا ربما لأتفه الأسباب يتعرف على شخصيتك ويعطيك درجة في مادته دون درجة النجاح، كما أنك لا بد أن تشتري كتابه وإلا سترسب. الحق يقال، التحقنا بقسم اللغة الإسبانية ورأينا إنسانية تدرَّس، فلا كتب تباع، ولا معاملة سيئة، ولا شيء من هذا القبيل. ربما هناك حالات استثنائية عابرة. المهم أنه بعد انتهاء أول محاضرة للدكتور حامد طلب من بعض الطلاب أن يصطحبوه إلى مكتبه، فذهبوا معه وعادوا محمَّلين بنسخ كثيرة مجانية من هذا الكتاب، وقال للذين لم يحصلوا على نسخ: "يمكنكم أن تصوروه، لا داعي لشرائه". بعد مواقف كثيرة معه انطبعت في مخيلاتنا صورة مناقضة تمامًا لأستاذ الجامعة، وخصوصا أننا نرى فيه قدوة لنا ولغيرنا، وكنا نضعه في مكانة لا يدانيها أحدهم، لا سيما أنه كان دائم الظهور على شاشات التليفزيون، وكان له برنامج إذاعي اسمه "الإسلام في عيونهم"، كنا ننتظره بفارغ الصبر، فكان يتحدث عن المستشرقين الذين أنصفوا الحضارة الإسلامية. وربما لا زلت أذكر منه بعض المعلومات.
وبعيدًا عن إنسانيته الغامرة، وتبسطه في الحديث، وتلقائيته التي يحيط بها حس الفكاهة من كل جانب، كان عالمًا موسوعيًّا مفعمًا بالأصالة والتجديد في آن. قرأ التراث وهضمه، ورغم ذلك كان يعيش بين التيارات الأدبية الحديثة بوجدانه وقراءاته وأعماله.
ولد حامد حامد يوسف أبو أحمد في طنطا في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين.
حصل على الثانوية الأزهرية عام 1969، وكان الأول على مستوى الجمهورية. ثم التحق بـ"معهد اللغات والترجمة" التابع حينها لكلية اللغة العربية، الذي ما فتئ أن استقل بذاته عام 1972 وأصبح "كلية اللغات والترجمة". التحق بقسم اللغة الإسبانية وتخرج فيه عام 1973، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف. عين بعد ذلك معيدًا بذات القسم، ولكنه قبل أن يسافر إلى إسبانيا كانت قد تلاقت ميوله الأدبية بميوله الفلسفية، فقرر أن يدرس الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، ولصعوبة إجراءات الالتحاق آنذاك، حيث إنه أزهري ومعيد، لم يحصل على الموافقة إلا بعد أن أدى زملاؤه امتحان إحدى المواد، فعزم أن يكمل معهم الامتحانات. العجيب أنه نجح في كل المواد التي أدى امتحاناتها، وانتقل إلى الفرقة الثانية بتلك المادة. خضع لاختبارات الفرقة الثانية ونجح في جميع المواد وكان الأول على دفعته. ولكن القدر كان قد نسج له أمرًا آخر إذ حصل على بعثة للحصول على الماجستير والدكتوراة في إسبانيا. سافر إلى إسبانيا عام 1978، فحصل على الليسانس من قسم اللغة الإسبانية بكلية فقه اللغة بجامعة مدريد المركزية، من خلال امتحان شامل بعد معادلة بعض المواد التي درسها من قبل في جامعة الأزهر. ثم حصل على الماجستير ثم الدكتوراه عام 1983 في الأدب الإسباني بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
عُيِّن بعد عودته من البعثة مدرسًا بكلية اللغات والترجمة، ثم ترقى في السلم العلمي حتى أصبح أستاذًا عام 1994. وقد أعير إلى كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود من عام 1992 إلى 1998. وفي المناصب الإدارية شغل منصب رئيس قسم اللغة الإسبانية جامعة الأزهر من 1998 حتى 2004، ثم عمادة كلية اللغات والترجمة من عام 2004 إلى 2006.
وكان شغله الشاغل الثقافة والأدب، وكيف أن المجتمع يعاني أزمة ثقافية حادة تكشفت سوءاتها في أواخر القرن العشرين. ونادى كثيرًا بالأخذ بأسباب العلم والثقافة في الجرائد الحكومية آنذاك مثل الأهرام. واختير عضوًا في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر ثم رئيسًا له، كما كان عضوًا في نادي القصة وجمعية الأدباء.
وليس الدكتور حامد من أولائك المنهزمين ثقافيًّا كغيره من الذين تديروا بلاد الغرب، أي أنه ليس من أولائك القوم الذي يقدسون الغرب في كل شيء وينتقدون العرب في كل شيء. كما كان يتملكه الحس الديني الصادق، فعندما كان يخرج عن إطار المحاضرة، كان يخبرنا بأن الأذان يبث قوة روحية يتوزعها الجسم فتورثه سكينة وطمأنينة. الحق أنه كان يحب المجتمع الغربي في عدالته وثقافته ونظامه وديمقراطيته، ومع ذلك يقول إننا نضيف أيضًا ونستطيع أن نضيف مثلهم إذا ما توفرت لنا الإمكانات وأخذنا بأسباب العلم وتنسمنا مشاربه الأصيلة. وفي هذا الصدد لم يألُ جهدًا، رغم أنه يعَد مقلًّا في دراساته وأبحاثه مقارنة بقراءاته المتصلة وعلمه الغزير، فكتبه لا تحتوي على معشار علمه. وهو إنسان صادق مع ذاته، ولا يحقِّر من شأن أي إنسان آخر، ويحب مساعدة من يعرف ومن لا يعرف، فتجده يساعد طلاب الليسانس والماجستير والدكتوراه ويحضر لهم من مكتبته الضخمة كتبًا كثيرة، وربما كانوا طلابا من جامعات أخرى. تشعر وأنت بين يدي الدكتور حامد أنك جالس أمام دائرة معارف متنقلة، سواء على المستوى الأدبي أو العلمي أو السياسي أو الاقتصادي.
وقد ألف العديد من الكتب القيمة والمتنوعة. كما أنه نظم الشعر في بادئ حياته إلا أنه تحول عنه بعد ذلك. وبعد أن تشكل وجدانه الأدبي وتشبع بكل التيارات والمناهج الأدبية القديمة والمعاصرة تحول إلى النقد الأدبي الذي برع فيه وانماز عن غيره حتى أشير ولا يزال يشار إليه بالبنان. اختار لنفسه سبيلا تفرد فيها حتى بات اسمه لامعًا في سماء النقد الأدبي في مصر والوطن العربي. وقد أفنى حياته في هذا المضمار، ولذلك قلما تجد أديبا مصريا أو عربيا لم يكتب عنه. فمن كتبه في الأدب العربي: عبد الوهاب البياتي في إسبانيا (1991)؛ مسيرة الرواية في مصر، الجزء الأول (1999)، والجزء الثاني (2001)؛ عبد الوهاب البياتي – القيثارة والذاكرة (2000)؛ تحديث الشعر العربي "تأصيل وتطبيق" (2004) -وحصل به على جائزة مؤسسة يماني الثقافية التي تمنح باسم شاعر مكة محمد حسن فقي عن الإبداع في نقد الشعر لعام 2007-؛ قراءات في القصة القصيرة (2006)؛ الواقعية السحرية في الرواية العربية (2006)؛ نجيب محفوظ والرواية العالمية (2009)؛ رؤى ومواقف (2010).
وهو من أولائك الرواد الأفذاذ الذين نقلوا الثقافة الإسبانية إلى العربية، وهو من أوائل من كتبوا في أدب أمريكا اللاتينية، فله في هذا المضمار مجموعة من الكتب القيمة، مثل: رائد الشعر الإسباني الحديث خوان رامون خيمينيث (1986)؛ دراسات نقدية في الأدبين العربي والإسباني (1987)؛ قراءات في أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية (1993)؛ نقد الحداثة (1994) وطبع مرة أخرى عام (2006)؛ في الواقعية السحرية (2002)؛ شعر السبعينيات في إسبانيا (2002)؛ غرناطة في ذاكرة النص (2007).
وله كتاب مهم غاية ما تكون الأهمية في نظريات التلقي بعنوان: الخطاب والقارئ: نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة (1996). ثم طبع مرة أخرى عام (2003).
وكان له على صفحات الجرائد صولات وجولات في النقد السياسي، فكتب عن قضية "التوريث" أيام مبارك، وربما كان هذا السبب في عدم التجديد له في عمادة الكلية، وربما كان هناك أمر آخر، فالدكتور حامد لديه اعتداد المثقف، ولا تُعجِب المسؤولين هذه الشخصية. وفي هذا السياق له كتابان، أولهما كان قبيل ثورة يناير (2011) بعنوان:
الشهاب – ثلاثون عاما من فساد مبارك ونظامه، لم توافق أية دار نشر على طبعه فطبعه هو على نفقته الخاصة في أول يناير. ثم صدرت منه طبعتان بعد ذلك عن دار الحضارة. وهو موجود على الشبكة العنكبوتية. وأما الكتاب الثاني فعنوانه: الكتابات السياسية قبل ثورة 25 يناير (2012).
وكان هذا الكتاب الستار الذي أغلق به مسرح النقد؛ فقد طلَّق الدكتور حامد النقد الأدبي بعد ذلك طلاقًا بائنًا، فكتب الرواية. وقال لي ذات مرة بفكاهة مُرَّة عندما سألته عن ذلك: "يا علي، لم يعد الشعب يولي أهمية للقراءة. فلمن أكتب؟ لنفسي؟" المهم أنه أصدر عام (2013) رواية أسماها "فقراء المثل الأعلى"، واستخدم فيها تكنيك الكولاج، أي أنها رواية في مجملها، ولكن يمكن أن يقوم كل فصل من فصولها بذاته ليكوِّن قصة قصيرة. وهو تكنيك لا يستطيع أن يجدل صورته ويكوِّن مدلوله إلا خبير. ثم أصدر في عام (2017) رواية أخرى بعنوان "صفوان الأكاديمي".
كما أن له العديد من الترجمات المهمة مثل: مسرحية "قصة سلم"، للكاتب الإسباني "أنطونيو بويرو باييخو"؛ ورواية "من قتل موليرو"، للكاتب البيروفي "ماريو بارجاس يوسا"؛ وكتاب "زمن الغيوم"، للشاعر والمفكر المكسيكي "أوكتابيو باث"؛ ورواية "عائلة باسكوال دوارتي"، للروائي الإسباني "كاميلو خوسيه ثيلا"؛ وكتاب "نظرية اللغة الأدبية"، للناقد الإسباني "خوسيه ماريانو بوثويلو إيبانكوس"؛ وكتاب "أثر الإسلام في الأدب الإسباني – من خوان رويث إلى خوان جويتيصولو"، للدكتورة "لوثي لوبث بارالت".
إضافة إلى مراجعة ترجمة عدد كبير من الكتب المنشورة بالمجلس الأعلى للثقافة ضمن الألف كتاب الأولى في المشروع القومي للترجمة.
ومن المفارقات العجيبة أن هذا التاريخ الحافل بالمآثر لم تكرِّمه الدولة، فلم يحصل على جائزة الدولة التشجيعية ولا التقديرية. وعلى مستوى إسبانيا نشر الدكتور جمال عبد الرحمن (أستاذ الأدب الإسباني بجامعة الأزهر) على صفحته قبل وفاة المرحوم الدكتور سليمان العطار بحوالي شهر منشورًا يقول فيه: "وجوائز إسبانيا لم يحصل عليها الطاهر مكي ولا عبد اللطيف عبد الحليم –رحمهما الله- ولا سليمان العطار ولا حامد أبو أحمد ولا أحمد عبد العزيز –بارك الله فيهم ومتعهم بالصحة- فلمن تُمنح؟" وها هو الدكتور العطار قد قضى نحبه. ويبدو أنَّ منْحَ الجوائز سواء في مصر أو في إسبانيا له أبعاد أخرى غير أكاديمية أو ثقافية، ربما تكون سياسية، أو أن الموضوع موضوع علاقات.
ومهما يكن من أمر، فللدكتور حامد علينا أياد بيضاء؛ نهلنا من علمه، وتأدبنا بأدبه. فكان بكل كلمة يكتبها أو يلقيها على مسامعنا يزيل بها عن أعيننا غشاوة ومن قلوبنا ظلمة حتى أضحى سراجًا نهتدي بنوره في حلكة الليل البهيم. وما دام أستاذنا الدكتور حامد بيننا بروحه وجسده وكتاباته فلن نتوه عن الدرب ولن يجف النهر حتى في هذا الزمن الرديء، الذي طفا على سطحه التوافه والنفايات. ظل أستاذنا الدكتور حامد حاملا شعلة النور يذود عن حياض العلم ضد هذا الجهل الذي أطل برأسه في عصر تقهقر العروبة الصُّرَاح. ذلك الجهل الذي سرى في أوصال أمتنا واستبد بها استبدادًا ثقيلا، ولكنها لم تمت ولن تموت ما دام فيها أمثال هذه القامة والقيمة العلمية الكبيرة.
ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نحصر شمائل أستاذنا في هذه الكلمات المتواضعة، فهي أكثر من أن تُحصر، وأكبر من أن تُذكر في مقالة. لأننا –إضافة إلى ثقافته الموسوعية- عرفناه بسيطا، متواضعا، ناصع القلب، هينا لينا، كريما كرما حاتميا، موفور النشاط في محاضراته، منضبطا في مواعيده وفي كلامه، يحب الحق ويسعى إليه، ولا يحب إلا الحق ولا يسعى إلا إليه، حتى يسفِرَ الهدى ويبين الحق. عرفناه أبا ومعلما وأديبا ومربيا. عرفناه إنسانًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. لم تفتر عزيمته يوما، تلك العزيمة التي أتعبت جسده وتتعب أي جسد وتكلفه ما لا يطيق.
وأخيرًا وليس بآخر، أرجو أن يمن الله على أستاذنا بالشفاء وأن يجعل جميع ما قدم لخدمة دينه ووطنه في ميزان حسناته. كما نرجو الدولة أن تلتفت، فيما نستقبل، إلى تكريم علمائها، الذين لولاهم لن تتبوأ مصر المكانة التي تستحقها بين الدول. آن الأوان لمصر أن تتباهى بأبنائها في جميع المحافل فهي أهل لذلك وهم جديرون بالتكريم.
علي إبراهيم أبو الفتوح
وبعيدًا عن إنسانيته الغامرة، وتبسطه في الحديث، وتلقائيته التي يحيط بها حس الفكاهة من كل جانب، كان عالمًا موسوعيًّا مفعمًا بالأصالة والتجديد في آن. قرأ التراث وهضمه، ورغم ذلك كان يعيش بين التيارات الأدبية الحديثة بوجدانه وقراءاته وأعماله.
ولد حامد حامد يوسف أبو أحمد في طنطا في أواخر العقد الرابع من القرن العشرين.
حصل على الثانوية الأزهرية عام 1969، وكان الأول على مستوى الجمهورية. ثم التحق بـ"معهد اللغات والترجمة" التابع حينها لكلية اللغة العربية، الذي ما فتئ أن استقل بذاته عام 1972 وأصبح "كلية اللغات والترجمة". التحق بقسم اللغة الإسبانية وتخرج فيه عام 1973، بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف. عين بعد ذلك معيدًا بذات القسم، ولكنه قبل أن يسافر إلى إسبانيا كانت قد تلاقت ميوله الأدبية بميوله الفلسفية، فقرر أن يدرس الفلسفة بكلية الآداب، جامعة القاهرة، ولصعوبة إجراءات الالتحاق آنذاك، حيث إنه أزهري ومعيد، لم يحصل على الموافقة إلا بعد أن أدى زملاؤه امتحان إحدى المواد، فعزم أن يكمل معهم الامتحانات. العجيب أنه نجح في كل المواد التي أدى امتحاناتها، وانتقل إلى الفرقة الثانية بتلك المادة. خضع لاختبارات الفرقة الثانية ونجح في جميع المواد وكان الأول على دفعته. ولكن القدر كان قد نسج له أمرًا آخر إذ حصل على بعثة للحصول على الماجستير والدكتوراة في إسبانيا. سافر إلى إسبانيا عام 1978، فحصل على الليسانس من قسم اللغة الإسبانية بكلية فقه اللغة بجامعة مدريد المركزية، من خلال امتحان شامل بعد معادلة بعض المواد التي درسها من قبل في جامعة الأزهر. ثم حصل على الماجستير ثم الدكتوراه عام 1983 في الأدب الإسباني بتقدير ممتاز مع مرتبة الشرف.
عُيِّن بعد عودته من البعثة مدرسًا بكلية اللغات والترجمة، ثم ترقى في السلم العلمي حتى أصبح أستاذًا عام 1994. وقد أعير إلى كلية اللغات والترجمة جامعة الملك سعود من عام 1992 إلى 1998. وفي المناصب الإدارية شغل منصب رئيس قسم اللغة الإسبانية جامعة الأزهر من 1998 حتى 2004، ثم عمادة كلية اللغات والترجمة من عام 2004 إلى 2006.
وكان شغله الشاغل الثقافة والأدب، وكيف أن المجتمع يعاني أزمة ثقافية حادة تكشفت سوءاتها في أواخر القرن العشرين. ونادى كثيرًا بالأخذ بأسباب العلم والثقافة في الجرائد الحكومية آنذاك مثل الأهرام. واختير عضوًا في مجلس إدارة اتحاد كتاب مصر ثم رئيسًا له، كما كان عضوًا في نادي القصة وجمعية الأدباء.
وليس الدكتور حامد من أولائك المنهزمين ثقافيًّا كغيره من الذين تديروا بلاد الغرب، أي أنه ليس من أولائك القوم الذي يقدسون الغرب في كل شيء وينتقدون العرب في كل شيء. كما كان يتملكه الحس الديني الصادق، فعندما كان يخرج عن إطار المحاضرة، كان يخبرنا بأن الأذان يبث قوة روحية يتوزعها الجسم فتورثه سكينة وطمأنينة. الحق أنه كان يحب المجتمع الغربي في عدالته وثقافته ونظامه وديمقراطيته، ومع ذلك يقول إننا نضيف أيضًا ونستطيع أن نضيف مثلهم إذا ما توفرت لنا الإمكانات وأخذنا بأسباب العلم وتنسمنا مشاربه الأصيلة. وفي هذا الصدد لم يألُ جهدًا، رغم أنه يعَد مقلًّا في دراساته وأبحاثه مقارنة بقراءاته المتصلة وعلمه الغزير، فكتبه لا تحتوي على معشار علمه. وهو إنسان صادق مع ذاته، ولا يحقِّر من شأن أي إنسان آخر، ويحب مساعدة من يعرف ومن لا يعرف، فتجده يساعد طلاب الليسانس والماجستير والدكتوراه ويحضر لهم من مكتبته الضخمة كتبًا كثيرة، وربما كانوا طلابا من جامعات أخرى. تشعر وأنت بين يدي الدكتور حامد أنك جالس أمام دائرة معارف متنقلة، سواء على المستوى الأدبي أو العلمي أو السياسي أو الاقتصادي.
وقد ألف العديد من الكتب القيمة والمتنوعة. كما أنه نظم الشعر في بادئ حياته إلا أنه تحول عنه بعد ذلك. وبعد أن تشكل وجدانه الأدبي وتشبع بكل التيارات والمناهج الأدبية القديمة والمعاصرة تحول إلى النقد الأدبي الذي برع فيه وانماز عن غيره حتى أشير ولا يزال يشار إليه بالبنان. اختار لنفسه سبيلا تفرد فيها حتى بات اسمه لامعًا في سماء النقد الأدبي في مصر والوطن العربي. وقد أفنى حياته في هذا المضمار، ولذلك قلما تجد أديبا مصريا أو عربيا لم يكتب عنه. فمن كتبه في الأدب العربي: عبد الوهاب البياتي في إسبانيا (1991)؛ مسيرة الرواية في مصر، الجزء الأول (1999)، والجزء الثاني (2001)؛ عبد الوهاب البياتي – القيثارة والذاكرة (2000)؛ تحديث الشعر العربي "تأصيل وتطبيق" (2004) -وحصل به على جائزة مؤسسة يماني الثقافية التي تمنح باسم شاعر مكة محمد حسن فقي عن الإبداع في نقد الشعر لعام 2007-؛ قراءات في القصة القصيرة (2006)؛ الواقعية السحرية في الرواية العربية (2006)؛ نجيب محفوظ والرواية العالمية (2009)؛ رؤى ومواقف (2010).
وهو من أولائك الرواد الأفذاذ الذين نقلوا الثقافة الإسبانية إلى العربية، وهو من أوائل من كتبوا في أدب أمريكا اللاتينية، فله في هذا المضمار مجموعة من الكتب القيمة، مثل: رائد الشعر الإسباني الحديث خوان رامون خيمينيث (1986)؛ دراسات نقدية في الأدبين العربي والإسباني (1987)؛ قراءات في أدب إسبانيا وأمريكا اللاتينية (1993)؛ نقد الحداثة (1994) وطبع مرة أخرى عام (2006)؛ في الواقعية السحرية (2002)؛ شعر السبعينيات في إسبانيا (2002)؛ غرناطة في ذاكرة النص (2007).
وله كتاب مهم غاية ما تكون الأهمية في نظريات التلقي بعنوان: الخطاب والقارئ: نظريات التلقي وتحليل الخطاب وما بعد الحداثة (1996). ثم طبع مرة أخرى عام (2003).
وكان له على صفحات الجرائد صولات وجولات في النقد السياسي، فكتب عن قضية "التوريث" أيام مبارك، وربما كان هذا السبب في عدم التجديد له في عمادة الكلية، وربما كان هناك أمر آخر، فالدكتور حامد لديه اعتداد المثقف، ولا تُعجِب المسؤولين هذه الشخصية. وفي هذا السياق له كتابان، أولهما كان قبيل ثورة يناير (2011) بعنوان:
الشهاب – ثلاثون عاما من فساد مبارك ونظامه، لم توافق أية دار نشر على طبعه فطبعه هو على نفقته الخاصة في أول يناير. ثم صدرت منه طبعتان بعد ذلك عن دار الحضارة. وهو موجود على الشبكة العنكبوتية. وأما الكتاب الثاني فعنوانه: الكتابات السياسية قبل ثورة 25 يناير (2012).
وكان هذا الكتاب الستار الذي أغلق به مسرح النقد؛ فقد طلَّق الدكتور حامد النقد الأدبي بعد ذلك طلاقًا بائنًا، فكتب الرواية. وقال لي ذات مرة بفكاهة مُرَّة عندما سألته عن ذلك: "يا علي، لم يعد الشعب يولي أهمية للقراءة. فلمن أكتب؟ لنفسي؟" المهم أنه أصدر عام (2013) رواية أسماها "فقراء المثل الأعلى"، واستخدم فيها تكنيك الكولاج، أي أنها رواية في مجملها، ولكن يمكن أن يقوم كل فصل من فصولها بذاته ليكوِّن قصة قصيرة. وهو تكنيك لا يستطيع أن يجدل صورته ويكوِّن مدلوله إلا خبير. ثم أصدر في عام (2017) رواية أخرى بعنوان "صفوان الأكاديمي".
كما أن له العديد من الترجمات المهمة مثل: مسرحية "قصة سلم"، للكاتب الإسباني "أنطونيو بويرو باييخو"؛ ورواية "من قتل موليرو"، للكاتب البيروفي "ماريو بارجاس يوسا"؛ وكتاب "زمن الغيوم"، للشاعر والمفكر المكسيكي "أوكتابيو باث"؛ ورواية "عائلة باسكوال دوارتي"، للروائي الإسباني "كاميلو خوسيه ثيلا"؛ وكتاب "نظرية اللغة الأدبية"، للناقد الإسباني "خوسيه ماريانو بوثويلو إيبانكوس"؛ وكتاب "أثر الإسلام في الأدب الإسباني – من خوان رويث إلى خوان جويتيصولو"، للدكتورة "لوثي لوبث بارالت".
إضافة إلى مراجعة ترجمة عدد كبير من الكتب المنشورة بالمجلس الأعلى للثقافة ضمن الألف كتاب الأولى في المشروع القومي للترجمة.
ومن المفارقات العجيبة أن هذا التاريخ الحافل بالمآثر لم تكرِّمه الدولة، فلم يحصل على جائزة الدولة التشجيعية ولا التقديرية. وعلى مستوى إسبانيا نشر الدكتور جمال عبد الرحمن (أستاذ الأدب الإسباني بجامعة الأزهر) على صفحته قبل وفاة المرحوم الدكتور سليمان العطار بحوالي شهر منشورًا يقول فيه: "وجوائز إسبانيا لم يحصل عليها الطاهر مكي ولا عبد اللطيف عبد الحليم –رحمهما الله- ولا سليمان العطار ولا حامد أبو أحمد ولا أحمد عبد العزيز –بارك الله فيهم ومتعهم بالصحة- فلمن تُمنح؟" وها هو الدكتور العطار قد قضى نحبه. ويبدو أنَّ منْحَ الجوائز سواء في مصر أو في إسبانيا له أبعاد أخرى غير أكاديمية أو ثقافية، ربما تكون سياسية، أو أن الموضوع موضوع علاقات.
ومهما يكن من أمر، فللدكتور حامد علينا أياد بيضاء؛ نهلنا من علمه، وتأدبنا بأدبه. فكان بكل كلمة يكتبها أو يلقيها على مسامعنا يزيل بها عن أعيننا غشاوة ومن قلوبنا ظلمة حتى أضحى سراجًا نهتدي بنوره في حلكة الليل البهيم. وما دام أستاذنا الدكتور حامد بيننا بروحه وجسده وكتاباته فلن نتوه عن الدرب ولن يجف النهر حتى في هذا الزمن الرديء، الذي طفا على سطحه التوافه والنفايات. ظل أستاذنا الدكتور حامد حاملا شعلة النور يذود عن حياض العلم ضد هذا الجهل الذي أطل برأسه في عصر تقهقر العروبة الصُّرَاح. ذلك الجهل الذي سرى في أوصال أمتنا واستبد بها استبدادًا ثقيلا، ولكنها لم تمت ولن تموت ما دام فيها أمثال هذه القامة والقيمة العلمية الكبيرة.
ولا نستطيع بطبيعة الحال أن نحصر شمائل أستاذنا في هذه الكلمات المتواضعة، فهي أكثر من أن تُحصر، وأكبر من أن تُذكر في مقالة. لأننا –إضافة إلى ثقافته الموسوعية- عرفناه بسيطا، متواضعا، ناصع القلب، هينا لينا، كريما كرما حاتميا، موفور النشاط في محاضراته، منضبطا في مواعيده وفي كلامه، يحب الحق ويسعى إليه، ولا يحب إلا الحق ولا يسعى إلا إليه، حتى يسفِرَ الهدى ويبين الحق. عرفناه أبا ومعلما وأديبا ومربيا. عرفناه إنسانًا بكل ما تحمل الكلمة من معنى. لم تفتر عزيمته يوما، تلك العزيمة التي أتعبت جسده وتتعب أي جسد وتكلفه ما لا يطيق.
وأخيرًا وليس بآخر، أرجو أن يمن الله على أستاذنا بالشفاء وأن يجعل جميع ما قدم لخدمة دينه ووطنه في ميزان حسناته. كما نرجو الدولة أن تلتفت، فيما نستقبل، إلى تكريم علمائها، الذين لولاهم لن تتبوأ مصر المكانة التي تستحقها بين الدول. آن الأوان لمصر أن تتباهى بأبنائها في جميع المحافل فهي أهل لذلك وهم جديرون بالتكريم.
علي إبراهيم أبو الفتوح