حسونة المصباحي - حركة الطليعة التونسية: هل كانت طليعية فعلًا؟

منذ سنوات، لم نعد نسمع في تونس جدلًا، كما هي الحال في السابق، عن حركة الطليعة التي ظهرت في منتصف عقد الستينات من القرن الماضي، واختفت في اوائل السبعينات. ويعود ذلك الى اسباب عدة، منها اولا رحيل غالبية رموزها من امثال الفنان والقصاص محمود التونسي (12 ابريل/نيسان 2001) والشاعر الطاهر الهمامي (2 مايو/ايار 2009)، والكاتب والمسرحي سمير العيادي (31 مايو 2008)، وانقطاع البعض منهم عن النشر والتاليف مثل عز الدين المدني، الذي يبدو ان التقدم في السن جعله عاجزًا عن متابعة ما يجدّ من تطورات على المستوى الثقافي والابداعي، فبات منكفئًا على نفسه، فلا يظهر الا في مناسبات نادرة.

وصمت محمد صالح بن عمر الذي كان المنظر للحركة المذكورة، صمتًا نهائيًا، بعدما كتب عنها العديد من الدراسات والمقالات، ولم يعد له وجود في المشهد الثقافي. وكذا هي حال اخرين مثل الناقد احمد حاذق العرف. أما الحبيب الزناد الذي كان في بدايات ظهور حركة الطليعة الأكثر اثارة للصخب والجدل فقد ترك العاصمة منذ اوائل السبعينات ليستقر في مسقط راسه، مدينة المنستير الساحلية، منقطعا انقطاعا كليا عن كتابة الشعر، وعن الاهتمام بكل ما يمت إلى الثقافة بصلة.

كانت حركة الطليعة اول حركة ادبية وفنية عرفتها تونس عقب مرور اقل من عقد على استقلالها (1956). وكانت في جرأتها شبيهة الى حد كبير بحركة "جماعة تحت السور" التي لعبت دورا مهما في تحديث الادب التونسي في مطلع عقد الثلاثينات من القرن الماضي من خلال الزجل والقصة القصيرة والنقد الاجتماعي، طارحة افكارا جريئة اثارت حفيظة رجال الدين، واوساط المحافظين والتقليديين، الذين كانوا يعتبرون كل ما هو قديم "مقدسًا"، وبالتالي فان المسّ به او انتقاده محرم، وجريمة لا تغتفر.

وجل الذين انتسبوا الى حركة الطليعة، وتفاعلوا مع اطروحاتها وتوجهاتها، كانوا من ابناء الجيل الجديد الذين تربوا في مدارس وجامعاتها الفتية. وقد تأثروا بالخصوص بالموجات الطليعية في الادب الفرنسي المتمثلة في "الرواية الجديدة" مع كل من الان روب غرييه، وناتالي ساروت، وميشال بيتور، وكلود سيمون، ومسرح العبث الذي جاء به كل من اوجين يونسكو، وصاموئيل بيكت، واداموف. كما تأثروا بالأفكار الماركسية التي كانت تشهد رواجا عالميا منقطع النظير في تلك الفترة.

وكان محمد فريد غازي (1929-1962) الذي درس في جامعة السوربون في فرنسا، وعاد بشهادة دكتوراة دولة أتاحت له التدريس في الجامعة التونسية، أول من روّج لأفكار الموجات الطليعية في فرنسا، التي واكب ظهورها ايام كان طالبًا، متعرفا إلى اصحابها، ومتأثرا بهم. وعرف عن غازي تفاديه الاختلاط بالجامعيين، واصحاب الشهادات العليا، مفضلا عليهم الادباء والفنانين الهامشيين.

ومع هؤلاء كان يقضي جل اوقاته ناشرًا بينهم أفكاره التي كانت تبهرهم وتبهجهم وتحثهم على ان يكونوا دائمًا اكثر جرأة في اقوالهم وفي افعالهم. وكان عز الدين المدني المولود عام 1936 الأكثر ملازمة لغازي، حتى انه كان يقاسمه الشقة التي كان يقيم فيها بنهج القاهرة في قلب العاصمة. لذا لعب دورا اساسيا في بعث حركة الطليعة، وكان رمزها البارز بعد الرحيل المبكر لغازي وأشرف على الملحق الثقافي لجريدة "العمل"، لسان الحزب الحاكم آنذاك، الحزب الدستوري الاشتراكي، نشر عز الدين المدني نصوصًا لشعراء وكتاب ونقاد شبان ابدوا فيها تحمسهم للقطع مع الثقافة الرسمية والتقليدية.

وفي عام 1968، نشر عز الدين المدني في مجلة "الفكر" التي كان يديرها محمد مزالي، وهو احد اركان النظام البورقيبي، نصا بعنوان "الانسان الصفر" محاولا من خلاله رصد التحولات اللغوية والاجتماعية والأخلاقية في المجتمع التونسي في فترة ما بعد الاستقلال. واثار ذلك النص غضب رجال الدين فهاجموا صاحبه بحدة، ونعتوه بـ"الزنديق"، و"الكافر". ورد عز المدني على خصومه بنص لا يزال حتى الان "البيان الفني والفكري" لحركة الطليعة.

وحمل عنوان "الادب التجريبي". وفي هذه الفترة نفسها، بدأت تظهر في الصحف، وفي الملاحق الثقافية قصائد اطلق عليها اصحابها من امثال الحبيب الزناد، والطاهر الهمامي، وفضيلة الشابي، "في غير العمودي والحر". وجميع هذه القصائد تنتقد الأوضاع السائدة آنذاك على المستوى الاجتماعي والسياسي، وتطالب بالحرية، والتعددية الفكرية، وتدعو الى الثورة على الموروث الشعري القديم. كما كانت قصائد "في غير العمودي والحر" تتغنى بالفلاحين والعمال، وحتى بماسحي الاحذية مثلما فعل الطاهر الهمامي الذي لم يكن يتردد في استعمال الفاظ سوقية مبتذلة متوهمًا ان ذلك قد يقنع القراء بانه "شاعر الشعب".

وكانت تلك القصائد السطحية في مضمونها تصاغ بأسلوب ركيك، وبلغة تفتقر الى ادنى المستويات الفنية والشعرية. في نصوصه النظرية، اشار الناقد محمد صالح بن عمر الى ان هدف حركة الطليعة هو "انشاء ادب تونسي، لاشرقيا ولاغربيا، بهدف تجاوز النمطية في الكتابة الابداعية" في مجال القصة والشعر والنقد الكلاسيكي الانطباعي. وارادت فضيلة الشابي ان تكون حركة الطليعة "مناخا ثقافيا يشمل كل الفنون الاخرى مثل الرسم والسينما والمسرح". وقد استجاب البعض من الرسامين والسينمائيين والمسرحيين لدعوة فضيلة الشابي، وانخرطوا في حركة الطليعة منتجين اعمالا تعكس ركائزها الفنية.

ان ما يتوجب الاقرار به هو ان حركة الطليعة التونسية أنتجت البعض من النصوص الجيدة في مجال القصة والمسرح والنقد الادبي. أما في مجال الشعر فلم تحقق الطموح المرغوب. لذلك جاءت قصائد "في غير العمودي والحر" مفككة البناء، باهتة الصورة، هزيلة اللغة. وهي عبارة عن بيانات سياسية تكثر فيها الشعارات، وتخلو خلوًا تاما من الشعر في معناه العميق. وربما لهذا السبب لم تتمكن حركة الطليعة من ان تبعث للوجود مشروعا ثقافيا وفنيا مقنعا وقادرا على الصمود امام تحولات الزمن مثلما هي حال "مجلة شعر" على سبيل المثال لا الحصر. كما ان هذه الحركة لم تكن "طليعية" بالمفهوم الحقيقي للكلمة، اذ انها توقفت عند سطح الواقع، عاجزة عن اختراقه، مكثرة من الهرج والضجيج. لذا ماتت بسرعة من دون ان تخلف لا النصوص التي تبرر وجودها كحركة طليعية، ولا الرجال القادرين على ان يعيدوا اليها الحياة والمصداقية.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...