" ها قد وصلت الى السجن ،،، الميناء الذي سأرسوا فيه سنين طويلة، هذا الركن الذي علىّ ان أعيش فيه ،،، انني ادخل إليه منقبض القلب وطافح النفس ارتياباً وحذراً، ومن يدري؟ ربما سأتأسف عليه بصدق حينما ينبغي علىّ ان اغادره" ،،، بهذا النص يصف لنا دوستويفسكي إحساسه في اول يوم له في سجن سيبيريا ،،، وستكون المفارقة كبيرة عندما يتأسف فعلاً على فراقه بعدما يعتاد عالمه، ففي نهاية الامر ان الإنسان هو الكائن الذي يتعود كل شيء.
في العام1861 صدرت رواية ذكريات من البيت الميت للكاتب الروسي الكبير فيدور دوستويفسكي، والتي رويت بلسان بطلها " الكسندر بتروفيتش" والذي لم يكن في الحقيقة سوى دوستويفسكي نفسه، يروي لنا ذكرياته ويومياته التي عاشها وذاق طعم المها الجسدي والنفسي في السجن الذي دخله بسبب انتمائه لاحد الجماعات السياسية المحضورة في روسيا في ذلك الوقت، فكان هذا الاسم المستعار بالحقيقة هو كناية عن كاتب الرواية نفسه.
لقد حكم على دوستويفسكي بالإعدام، ومن سخرية القدر ان التنفيذ توقف في اللحظة الأخيرة ليخفف الحكم بأمر من القيصر الى سجن اربع سنوات من الاشغال الشاقة، هذا الامر وهذه التغير المفاجئ في مصيره ترك اثر عميق في نفس دوستويفسكي ، بل انه كان السبب الرئيسي لأصابته بنوبات الصرع، هذا المرض الذي لازمه طول حياته ولازم معظم اعماله العظيمة فيما بعد، فلا يكاد يخلوا عمل من هذه الاعمال من شخص مصاب بهذه النوبات.
في السجن الذي سيقضي فيه سنواته الأربع بدأ دوستويفسكي بتدوين يومياته ومشاهداته، وضلت هذه المذكرات مخبأة زمناً طويلاً لدى احد الموظفين في مستشفى سيبيريا التي يتعالج فيها السجناء المرضى، واخذت طريقها للنشر بعد خروجه وانقضاء فترة حكمه، وستجعل منه هذه التجربة واحد من اعظم الكتاب والروائيين في تاريخ الادب العالمي كله، وهذا ما سيذكره بنفسه في احد رسائله "طالما باركت القدر الذي وهب لي ان اعاني هذه التجربة، لقد كانت السنين الأربع التي قضيتها في السجن فضلاً كبيراً عليّ، ان نفسي وايماني وفكري كله قد تبدل تبديلات عظيمة بفضل هذه التجربة".
أهمية الرواية
بالرغم من مكانة رواية مذكرات من البيت الميت في اعمال دوستويفسكي الأدبية، الا ان أهميتها لا تكمن في اثرها الادبي بقدر ما تكمن في التغييرات التي احدثتها في نظام السجون في روسيا، بعد وصفه الجحيم الذي يعيشه السجناء، وما خلفه من تعاطف ليس على مستوى طبقة القراء فحسب بل ان الامر تعدى ذلك الى عامة الناس وأصحاب القرار والامراء الحاكمين في روسيا، حتى ان "الاسكندر الثاني" قيصر روسيا كانت دموعه تهطل على صفحات هذا الكتاب وهو يطالعه بشغف.
في شهر حزيران من عام 1862 وبعد نشر الفصول التي تصف العقوبات الجسدية الرهيبة التي يتعرض لها السجناء كتب الجنرال الأمير "نيكولاي اورلوف" رسالة الى "الاسكندر الثاني" يرجوه فيها الغاء العقاب الجسدي الذي افرد له دوستويفسكي صفحات طويلة في وصفه ووصف بشاعته فشكلت على اثر ذلك لجنة لمراجعة ومناقشة الامر، وفعلاً تم اصدار قانون بإلغاء العقوبات الجسدية في نيسان من عام 1863 ، فلم يسبق لكتاب ان حضي بهذا التأثير كله .
عذابات دوستويفسكي
لقد عمد دوستويفسكي بكل براعة وعمق الى تحليل الدوافع النفسية والإنسانية لأفراد من المجتمع معظمهم من القتلة المجرمين ولصوص اوقطاع طرق، ولعل قسوة القدر التي دفعت دوستويفسكي الى سنوات الاشغال الشاقة قد اسدت خدمة كبيرة للأدب العالمي وعلم النفس السجون في كل انحاء روسيا، ليروي لنا فيما بعد كيف يبدوا من الداخل ذلك الجحيم البشري الذي أعاد للأذهان صورة جحيم دانتي في كتابه الشهير الكوميديا الالهية، ولكن بصورة اكثر قسوة وبشاعة، فلم يكن هذا الجحيم خيالياً كما تصوره دانتي بل كان جحيم حقيقياً على الأرض، وفيه من يصرخ من لهيبه ويكتوي بناره.
ان عذابات دوستويفسكي التي عاشها خلال سنواته الأربع، لا يكمن في قيوده وحريته المستلبة بقدر ما تكمن في اضطراره للعيش مع عديمي الوعي والثقافة من القتلة والمجرمين، فكان هذا هو جحيمه الحقيقي، وهذا ما يصفه لنا بنفسه (كانت المصاحبة المستمرة الدائمة للأخرين تفعل في نفسي فعل السم، وما تألمت من شيء خلال تلك السنوات الأربع كما تألمت من ذلك العذاب الذي لا يطاق)
وهناك العداوة الشديدة التي ابداها معظم السجناء نحوه، بسبب انتمائه الى طبقة السادة الذين طالما اضطهدوا أبناء الشعب وعاملوهم بكل قسوة وكبرياء وغرور، بل ان عذابه لم يقف عند هذا الحد فحتى من كان ينتمي لهذه الطبقة من السجناء على قلة عددهم لم يشعر نحوهم دوستويفسكي باي مودة، ولم يجذبه اليهم أي شيء، وهذا ما تركه في حالة انعزال وانطواء على ذاته زادت من سواد أيامه في هذه السنوات الأربع .
ولعل المفارقة ان كل تلك العذابات وتلك العزلة اسدت خدمة كبرى للأدب العالمي من خلال التأثير الانساني والرؤيا التحليلية والنفسية والعمق الادبي الذي خرج به في نهاية المطاف، ودفعه نحو تحليل سلوك المجرم وتأثير القيود والحبس عليه، وجدوى السجون وواقعية عقوباتها، وما اتسمت به هذه الدراسات من عمق وواقعية، قد لا يستطيع معظم الباحثين النفسيين ان يدركوها ويسبروا اغوارها ما داموا يتنفسون هواء الحرية العذب بعيد عن الرائحة الخانقة للسجون.
روح القانون
قد يقتل الانسان من اجل شيء تافه قد يكون بصلة، وقد يقتل الانسان مضطراً رجلاً فاسق سرق زوجته او ابنته، فكيف يمكن ان يكون الجرم واحد والعقوبة واحدة ؟؟ يطرح دوستويفسكي هذا السؤال الأخلاقي والقانوني حول العقوبات المفروضة على الجرائم المتماثلة، ومدى واقعيتها وملامستها للعدالة وروح القانون.
ففي السجن رجال غلاظا افظاظاً لا يعرفون الخجل ولا الندم وهم فجرة مستهترون ولا قيمة للأخلاق ولامعنى للضمير عندهم، بل ان بعظهم يكاد يكون تجسيد للشر المطلق، مثل قاطع الطريق الرهيب "اورلوف" الذي يقتل الصغار والشيوخ بهدوء وبرود، وكان يتميز بإرادة عظيمة يستهون معها كل عقاب ويحتمل أي قصاص، ومنهم التتري "غازين" صاحب القوة الخارقة الذي يشبه عنكبوت عملاق ويجد لذة عظيمة في ذبح الأطفال بعد ساعات من افزعهم وترويعهم لإرواء نفسه المريضة، وهناك "آرستوف" المنحل الفاجر الذي يصفه دوستويفسكي بانه عبارة عن تشوه روحي اشبه بتشوه "بكازيمودو" الجسدي بطل رواية احدب نوتردام ،،،
وفي ذات الوقت كانت جدران السجن وقضبانه تضم رجالاً يمكن على الاقل ان تتفهم جرائمهم، او حتى ان تجد لهم العذر من الناحية الأخلاقية، مثل "بالكوشين" الرجل المرح الذي قتل منافسه بالحب بالخطأ وكان كل ما أراده ان يروعه بمسدسه فقط، وهناك الشيخ الكبير "ستارودوب" المؤمن الذي اشعل النار في الكنيسة الارثوذوكسية المخالفة لاعتقاده انه بذلك يخدم الدين، وهذا "لوقا" المتشرد البسيط الذي اعتقل بدون سبب حقيقي فلما سمع الميجر يقول له "انا القيصر، انا الله" لم يحتمل سماع هذا التجديف فقام بقتله.
فكيف يمكن ان يكون الجرم واحد والعقوبة واحدة ؟؟؟
السجن
ما هو المغزى الحقيقي للسجن وما هو الهدف والغاية من وجوده ؟؟ وهل يمكن ان يكون السجن مكانًا حقيقيًا للإصلاح والتهذيب ؟؟ سؤال من العديد من الأسئلة التي يطرحها دوستويفسكي ويحاول ان يجد لها الإجابة التي تكمن أهميتها لكون هذه الاجابات تحمل واقعية المجرب الذي عاش الصراع النفسي وذاق الم العقاب الجسدي والروحي داخل غياهب واحد من اقسى سجون العالم، وان كانت اجاباته تحمل في طياتها المزيد من الأسئلة الوليدة التي لا تنفك تحيط بك كلما اوغلت في الإجابة.
يؤكد لنا دوستويفسكي ان المجرم لا تصلحه سجون، ولا معتقلات ولا اشغال شاقة، ولعلها توقع به القصاص وتسكن روع المجتمع ولكنها لا تصلحه ابداً، ولكن ليس في وسع سوى ان تفاقم في هؤلاء الرجال الحقد العميق والعطش الى الملذات المحرمة، فالمجرم الذي تمرد على المجتمع يكرهه ويعتبر نفسه دائماً على حق، والمجتمع في نظره مخطئ.
أن دوستويفسكي على يقين ان السجن الانفرادي والذي يمثل احد اهم الأدوات الرادعة في السجن لا يحقق سوى غرض ظاهري خادع، فهو يبتز من المجرم كل قوته وطاقته، فيضعفها ليخرج بعد ذلك مومياء جافة وشبه مجنونة ،، لكنه في كل الأحوال يبقى بعيد عن الإصلاح والتوبة.
ولعل من اغرب ما كتب دوستويفسكي في هذه الرواية هو انه لم يسبق ان لاحظ طوال سنوات سجنه أي علامة للندم ولا أي قلق من أي جريمة مرتكبة، بل ان معظم السجناء كانوا يعتقدون في قرارة انفسهم انهم أبرياء، لا لانهم لم يرتكبوا الجرم الذين سجنوا بسببه، بل لان من حقهم يتصرفوا كما يروق لهم، وانه ليس بالإمكان افضل مما كان، وفضلاً عن ذلك فان لسان حال المجرم دائماً ما يقول الم انل عقابي؟ فهو بالتالي يرى نفسه بريئاً ونقياً كالحليب الطازج، ويستدرك دوستويفسكي ليخبرنا ان السجن هو المكان الوحيد بالعالم الذي يشح فيه الندم، بل يوجد فيه من يحكي وهو يضحك مثل الطفل اشد قصص الجرائم وحشية وغرابة وفظاعة.
أحلام السجناء
لعل من اعمق أفكار دوستويفسكي التي طرحها وأكثرها اصالة هي فكر الامل بالحرية، فان السجناء بالرغم من اختلافهم وتنازعهم الا انهم يشتركون في امر واحد وهو الامل في ان يكون القادم افضل ، وبدون هذا الامل فان مصير الكثير منهم هو الموت او الانتحار او الجنون.
فقد تكون القضبان والجدران والاسلاك الشائكة والحبس الانفرادي وعقوبة الاشغال الشاقة او العقوبات الجسدية عائق كبير امام النزلاء تقيد حركتهم، وتمتص راحتهم وتسحقهم بين اطباقها، لكنها لم تتمكن ابداً من ان تسلبهم خيالهم وذكرياتهم واهم هاجس يرافقهم وهو الامل بالقادم والحلم بالحرية، فجميع السجناء في الحقيقة حالمون كبار.
الحرية التي يخبرنا دوستويفسكي بأنها الحلم الذي يولد مع كل من يدخل الى بيت الأموات وتغذى ويكبر من عذابهم وآلامهم، ومنذ اليوم الاول الذي يطئون فيه أرض سيبيريا، وبالرغم من ان مدة سجن البعض منهم قد تكون عشرين سنة او اكثر من ذلك يفقد خلالها العديد من الأشياء مثل صحته وقوته، ولكنه دائما ما يبقى متشبث بكل قوته بحلمه بالحرية، ومهما طال الامل فانه يراه قريب.
ويروي لنا دوستويفسكي حكاية واقعية عن أهمية الامل في حياة السجناء، من خلال اشخاص شاهدهم بأم عينه وهم مقيدين بسلاسل يبلغ طولها مترين، تقيدهم وتربطهم بالجدار لمدة قد تصل لخمسة عشر سنة، يعيشون وينامون ويأكلون ويشربون وهم يرتدوها وهي تقيدهم وتربطهم بالحائط، ولكن ومع كل ذاك فانهم هؤلاء التعساء كانوا يتصرفون بطريقة تكاد تكون مثالية، وكان كل واحد منهم يبدوا سعيداً وينتظر الخلاص بفارغ الصبر،،، لكن الخلاص من ماذا ؟؟؟
من اغلاله والخروج من زنزانته المنخفضة العفنة الخانقة الى فناء السجن ،،، وهذا كل شيء !! فلن يسمح له بمغادرة السجن، بل انه قد يقضي في فنائه ما تبقى من عمره، ولكن مع ذلك عاش سنوات طويلة على فكرة الخلاص من اغلاله والخروج لفناء السجن، ويتساءل دوستويفسكي لولا هذه الفكرة وهذا الامل هل يستطيع البقاء مربوطاً الى الجدار بأغلاله لمدة خمسة او ستة او عشرة سنوات دون ان يموت او يجن ؟؟ هل يستطيع مقاومة ذلك؟؟؟
ترجمات الرواية
تجدر الاشارة الى ان الرواية ترجمت الى اللغة العربية بعنوانين مختلفين، حيث ترجمها الاستاذ ادريس الملياني بعنوان "مذكرات من البيت الميت" في حين ترجمها الدكتور سامي الدروبي بعنوان "ذكريات من منزل الأموات" ويمكن اعتبارها من أوائل الكتابات الأدبية التي اهتمت بالسجون والسجناء واسهمت في تأسيس ما يعرف بأدب السجون، وتعد بحق بداية النضج الادبي والفكري لدستويفسكي، الذي سيواصل الرقي بكتاباته الى ان يصل بالقارئ الى قمة ابداعاته بدءاً من الجريمة والعقاب وحتى يختم مسيرته الابداعية بالإخوة كارامازوف والتي نشرها قبل اربع أشهر من وفاته في عام 1880.
كلمات تولستوي
لو قدر لدوستويفسكي ان يختار وصفا او تقديم لروايته فلا اعتقد ان هناك اعظم من رسالة الكاتب الروسي العظيم تولستوي التي أرسلها الى نقولا ستراخوف عام 1880 والتي يقول فيها " كنت أشعر في هذه الأيام بضيق شديد فتناولت كتاب "ذكريات من منزل الأموات" فأعدت قراءته، كنت قد نسيت كثيرًا منه، فلما أعدت قراءته أيقنت أن ليس في الأدب الجديد كله كتاب واحد يفوقه، حتى ولا كُتب بوشكين!!! ليست النبرة هي الشيء الرائع فيه، بل وجهة النظر التي يشتمل عليها إنه صادق طبيعي مسيحي، إنه كتاب يعلّم الدين، فإذا رأيت دوستويفسكي فقل له أني أحبه".
الخاتمة
قبل ختام هذه القراءة لعل من الواجب الإشارة الى انه من العسير والشائك جداً في هذه الورقة تقديم مراجعة وافية لرواية بحجم واهمية مذكرات من البيت الميت للكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي، ولعل الإيفاء بهذا العمل يحتاج الى اكثر من دراسة متشعبة وعميقة ومن اشخاص اكثر تخصص ودقة، لما يحوي هذا الكتاب من دراسات نفسية وسيكولوجية عميقة، وبحوث جادة جداً في سبر اغوار الانسان في اعقد الظروف التي يمكنان يقع بها، والتي تختلف اختلافات كلياً عن الظرف الطبيعي للإنسان.
وما قد يزيد من صعوبة المراجعة المختزلة هو دوستويفسكي نفسه الذي لم يترك شاردة ولا واردة في حياة السجناء دون ان يذكرها ويحلل سلوكها وارهاصاتها على السلوك الشخصي للفرد، بل انه عمد حتى الى ذكر الحيوانات التي كانت موجودة في السجن وتأثيرها النفسي على السجناء، بالإضافة الى عشرات المواقف المواضيع مثل المستشفى، وفترة الاعياد، والأموال. وتأثيرها على السجناء، والعمل الشخصي الذي يتقنه السجين والفرق بينه وبين اشغال السجن، والخمر، والتهريب، والعقوبات الجسدية، والقيود، والجلاد والمسرح، والمشادات التي تحصل بين السجناء ، والعديد من الأمور التي لو اردنا مراجعتها كلها فلن يكفي اضعاف هذه المراجعة.
في العام1861 صدرت رواية ذكريات من البيت الميت للكاتب الروسي الكبير فيدور دوستويفسكي، والتي رويت بلسان بطلها " الكسندر بتروفيتش" والذي لم يكن في الحقيقة سوى دوستويفسكي نفسه، يروي لنا ذكرياته ويومياته التي عاشها وذاق طعم المها الجسدي والنفسي في السجن الذي دخله بسبب انتمائه لاحد الجماعات السياسية المحضورة في روسيا في ذلك الوقت، فكان هذا الاسم المستعار بالحقيقة هو كناية عن كاتب الرواية نفسه.
لقد حكم على دوستويفسكي بالإعدام، ومن سخرية القدر ان التنفيذ توقف في اللحظة الأخيرة ليخفف الحكم بأمر من القيصر الى سجن اربع سنوات من الاشغال الشاقة، هذا الامر وهذه التغير المفاجئ في مصيره ترك اثر عميق في نفس دوستويفسكي ، بل انه كان السبب الرئيسي لأصابته بنوبات الصرع، هذا المرض الذي لازمه طول حياته ولازم معظم اعماله العظيمة فيما بعد، فلا يكاد يخلوا عمل من هذه الاعمال من شخص مصاب بهذه النوبات.
في السجن الذي سيقضي فيه سنواته الأربع بدأ دوستويفسكي بتدوين يومياته ومشاهداته، وضلت هذه المذكرات مخبأة زمناً طويلاً لدى احد الموظفين في مستشفى سيبيريا التي يتعالج فيها السجناء المرضى، واخذت طريقها للنشر بعد خروجه وانقضاء فترة حكمه، وستجعل منه هذه التجربة واحد من اعظم الكتاب والروائيين في تاريخ الادب العالمي كله، وهذا ما سيذكره بنفسه في احد رسائله "طالما باركت القدر الذي وهب لي ان اعاني هذه التجربة، لقد كانت السنين الأربع التي قضيتها في السجن فضلاً كبيراً عليّ، ان نفسي وايماني وفكري كله قد تبدل تبديلات عظيمة بفضل هذه التجربة".
أهمية الرواية
بالرغم من مكانة رواية مذكرات من البيت الميت في اعمال دوستويفسكي الأدبية، الا ان أهميتها لا تكمن في اثرها الادبي بقدر ما تكمن في التغييرات التي احدثتها في نظام السجون في روسيا، بعد وصفه الجحيم الذي يعيشه السجناء، وما خلفه من تعاطف ليس على مستوى طبقة القراء فحسب بل ان الامر تعدى ذلك الى عامة الناس وأصحاب القرار والامراء الحاكمين في روسيا، حتى ان "الاسكندر الثاني" قيصر روسيا كانت دموعه تهطل على صفحات هذا الكتاب وهو يطالعه بشغف.
في شهر حزيران من عام 1862 وبعد نشر الفصول التي تصف العقوبات الجسدية الرهيبة التي يتعرض لها السجناء كتب الجنرال الأمير "نيكولاي اورلوف" رسالة الى "الاسكندر الثاني" يرجوه فيها الغاء العقاب الجسدي الذي افرد له دوستويفسكي صفحات طويلة في وصفه ووصف بشاعته فشكلت على اثر ذلك لجنة لمراجعة ومناقشة الامر، وفعلاً تم اصدار قانون بإلغاء العقوبات الجسدية في نيسان من عام 1863 ، فلم يسبق لكتاب ان حضي بهذا التأثير كله .
عذابات دوستويفسكي
لقد عمد دوستويفسكي بكل براعة وعمق الى تحليل الدوافع النفسية والإنسانية لأفراد من المجتمع معظمهم من القتلة المجرمين ولصوص اوقطاع طرق، ولعل قسوة القدر التي دفعت دوستويفسكي الى سنوات الاشغال الشاقة قد اسدت خدمة كبيرة للأدب العالمي وعلم النفس السجون في كل انحاء روسيا، ليروي لنا فيما بعد كيف يبدوا من الداخل ذلك الجحيم البشري الذي أعاد للأذهان صورة جحيم دانتي في كتابه الشهير الكوميديا الالهية، ولكن بصورة اكثر قسوة وبشاعة، فلم يكن هذا الجحيم خيالياً كما تصوره دانتي بل كان جحيم حقيقياً على الأرض، وفيه من يصرخ من لهيبه ويكتوي بناره.
ان عذابات دوستويفسكي التي عاشها خلال سنواته الأربع، لا يكمن في قيوده وحريته المستلبة بقدر ما تكمن في اضطراره للعيش مع عديمي الوعي والثقافة من القتلة والمجرمين، فكان هذا هو جحيمه الحقيقي، وهذا ما يصفه لنا بنفسه (كانت المصاحبة المستمرة الدائمة للأخرين تفعل في نفسي فعل السم، وما تألمت من شيء خلال تلك السنوات الأربع كما تألمت من ذلك العذاب الذي لا يطاق)
وهناك العداوة الشديدة التي ابداها معظم السجناء نحوه، بسبب انتمائه الى طبقة السادة الذين طالما اضطهدوا أبناء الشعب وعاملوهم بكل قسوة وكبرياء وغرور، بل ان عذابه لم يقف عند هذا الحد فحتى من كان ينتمي لهذه الطبقة من السجناء على قلة عددهم لم يشعر نحوهم دوستويفسكي باي مودة، ولم يجذبه اليهم أي شيء، وهذا ما تركه في حالة انعزال وانطواء على ذاته زادت من سواد أيامه في هذه السنوات الأربع .
ولعل المفارقة ان كل تلك العذابات وتلك العزلة اسدت خدمة كبرى للأدب العالمي من خلال التأثير الانساني والرؤيا التحليلية والنفسية والعمق الادبي الذي خرج به في نهاية المطاف، ودفعه نحو تحليل سلوك المجرم وتأثير القيود والحبس عليه، وجدوى السجون وواقعية عقوباتها، وما اتسمت به هذه الدراسات من عمق وواقعية، قد لا يستطيع معظم الباحثين النفسيين ان يدركوها ويسبروا اغوارها ما داموا يتنفسون هواء الحرية العذب بعيد عن الرائحة الخانقة للسجون.
روح القانون
قد يقتل الانسان من اجل شيء تافه قد يكون بصلة، وقد يقتل الانسان مضطراً رجلاً فاسق سرق زوجته او ابنته، فكيف يمكن ان يكون الجرم واحد والعقوبة واحدة ؟؟ يطرح دوستويفسكي هذا السؤال الأخلاقي والقانوني حول العقوبات المفروضة على الجرائم المتماثلة، ومدى واقعيتها وملامستها للعدالة وروح القانون.
ففي السجن رجال غلاظا افظاظاً لا يعرفون الخجل ولا الندم وهم فجرة مستهترون ولا قيمة للأخلاق ولامعنى للضمير عندهم، بل ان بعظهم يكاد يكون تجسيد للشر المطلق، مثل قاطع الطريق الرهيب "اورلوف" الذي يقتل الصغار والشيوخ بهدوء وبرود، وكان يتميز بإرادة عظيمة يستهون معها كل عقاب ويحتمل أي قصاص، ومنهم التتري "غازين" صاحب القوة الخارقة الذي يشبه عنكبوت عملاق ويجد لذة عظيمة في ذبح الأطفال بعد ساعات من افزعهم وترويعهم لإرواء نفسه المريضة، وهناك "آرستوف" المنحل الفاجر الذي يصفه دوستويفسكي بانه عبارة عن تشوه روحي اشبه بتشوه "بكازيمودو" الجسدي بطل رواية احدب نوتردام ،،،
وفي ذات الوقت كانت جدران السجن وقضبانه تضم رجالاً يمكن على الاقل ان تتفهم جرائمهم، او حتى ان تجد لهم العذر من الناحية الأخلاقية، مثل "بالكوشين" الرجل المرح الذي قتل منافسه بالحب بالخطأ وكان كل ما أراده ان يروعه بمسدسه فقط، وهناك الشيخ الكبير "ستارودوب" المؤمن الذي اشعل النار في الكنيسة الارثوذوكسية المخالفة لاعتقاده انه بذلك يخدم الدين، وهذا "لوقا" المتشرد البسيط الذي اعتقل بدون سبب حقيقي فلما سمع الميجر يقول له "انا القيصر، انا الله" لم يحتمل سماع هذا التجديف فقام بقتله.
فكيف يمكن ان يكون الجرم واحد والعقوبة واحدة ؟؟؟
السجن
ما هو المغزى الحقيقي للسجن وما هو الهدف والغاية من وجوده ؟؟ وهل يمكن ان يكون السجن مكانًا حقيقيًا للإصلاح والتهذيب ؟؟ سؤال من العديد من الأسئلة التي يطرحها دوستويفسكي ويحاول ان يجد لها الإجابة التي تكمن أهميتها لكون هذه الاجابات تحمل واقعية المجرب الذي عاش الصراع النفسي وذاق الم العقاب الجسدي والروحي داخل غياهب واحد من اقسى سجون العالم، وان كانت اجاباته تحمل في طياتها المزيد من الأسئلة الوليدة التي لا تنفك تحيط بك كلما اوغلت في الإجابة.
يؤكد لنا دوستويفسكي ان المجرم لا تصلحه سجون، ولا معتقلات ولا اشغال شاقة، ولعلها توقع به القصاص وتسكن روع المجتمع ولكنها لا تصلحه ابداً، ولكن ليس في وسع سوى ان تفاقم في هؤلاء الرجال الحقد العميق والعطش الى الملذات المحرمة، فالمجرم الذي تمرد على المجتمع يكرهه ويعتبر نفسه دائماً على حق، والمجتمع في نظره مخطئ.
أن دوستويفسكي على يقين ان السجن الانفرادي والذي يمثل احد اهم الأدوات الرادعة في السجن لا يحقق سوى غرض ظاهري خادع، فهو يبتز من المجرم كل قوته وطاقته، فيضعفها ليخرج بعد ذلك مومياء جافة وشبه مجنونة ،، لكنه في كل الأحوال يبقى بعيد عن الإصلاح والتوبة.
ولعل من اغرب ما كتب دوستويفسكي في هذه الرواية هو انه لم يسبق ان لاحظ طوال سنوات سجنه أي علامة للندم ولا أي قلق من أي جريمة مرتكبة، بل ان معظم السجناء كانوا يعتقدون في قرارة انفسهم انهم أبرياء، لا لانهم لم يرتكبوا الجرم الذين سجنوا بسببه، بل لان من حقهم يتصرفوا كما يروق لهم، وانه ليس بالإمكان افضل مما كان، وفضلاً عن ذلك فان لسان حال المجرم دائماً ما يقول الم انل عقابي؟ فهو بالتالي يرى نفسه بريئاً ونقياً كالحليب الطازج، ويستدرك دوستويفسكي ليخبرنا ان السجن هو المكان الوحيد بالعالم الذي يشح فيه الندم، بل يوجد فيه من يحكي وهو يضحك مثل الطفل اشد قصص الجرائم وحشية وغرابة وفظاعة.
أحلام السجناء
لعل من اعمق أفكار دوستويفسكي التي طرحها وأكثرها اصالة هي فكر الامل بالحرية، فان السجناء بالرغم من اختلافهم وتنازعهم الا انهم يشتركون في امر واحد وهو الامل في ان يكون القادم افضل ، وبدون هذا الامل فان مصير الكثير منهم هو الموت او الانتحار او الجنون.
فقد تكون القضبان والجدران والاسلاك الشائكة والحبس الانفرادي وعقوبة الاشغال الشاقة او العقوبات الجسدية عائق كبير امام النزلاء تقيد حركتهم، وتمتص راحتهم وتسحقهم بين اطباقها، لكنها لم تتمكن ابداً من ان تسلبهم خيالهم وذكرياتهم واهم هاجس يرافقهم وهو الامل بالقادم والحلم بالحرية، فجميع السجناء في الحقيقة حالمون كبار.
الحرية التي يخبرنا دوستويفسكي بأنها الحلم الذي يولد مع كل من يدخل الى بيت الأموات وتغذى ويكبر من عذابهم وآلامهم، ومنذ اليوم الاول الذي يطئون فيه أرض سيبيريا، وبالرغم من ان مدة سجن البعض منهم قد تكون عشرين سنة او اكثر من ذلك يفقد خلالها العديد من الأشياء مثل صحته وقوته، ولكنه دائما ما يبقى متشبث بكل قوته بحلمه بالحرية، ومهما طال الامل فانه يراه قريب.
ويروي لنا دوستويفسكي حكاية واقعية عن أهمية الامل في حياة السجناء، من خلال اشخاص شاهدهم بأم عينه وهم مقيدين بسلاسل يبلغ طولها مترين، تقيدهم وتربطهم بالجدار لمدة قد تصل لخمسة عشر سنة، يعيشون وينامون ويأكلون ويشربون وهم يرتدوها وهي تقيدهم وتربطهم بالحائط، ولكن ومع كل ذاك فانهم هؤلاء التعساء كانوا يتصرفون بطريقة تكاد تكون مثالية، وكان كل واحد منهم يبدوا سعيداً وينتظر الخلاص بفارغ الصبر،،، لكن الخلاص من ماذا ؟؟؟
من اغلاله والخروج من زنزانته المنخفضة العفنة الخانقة الى فناء السجن ،،، وهذا كل شيء !! فلن يسمح له بمغادرة السجن، بل انه قد يقضي في فنائه ما تبقى من عمره، ولكن مع ذلك عاش سنوات طويلة على فكرة الخلاص من اغلاله والخروج لفناء السجن، ويتساءل دوستويفسكي لولا هذه الفكرة وهذا الامل هل يستطيع البقاء مربوطاً الى الجدار بأغلاله لمدة خمسة او ستة او عشرة سنوات دون ان يموت او يجن ؟؟ هل يستطيع مقاومة ذلك؟؟؟
ترجمات الرواية
تجدر الاشارة الى ان الرواية ترجمت الى اللغة العربية بعنوانين مختلفين، حيث ترجمها الاستاذ ادريس الملياني بعنوان "مذكرات من البيت الميت" في حين ترجمها الدكتور سامي الدروبي بعنوان "ذكريات من منزل الأموات" ويمكن اعتبارها من أوائل الكتابات الأدبية التي اهتمت بالسجون والسجناء واسهمت في تأسيس ما يعرف بأدب السجون، وتعد بحق بداية النضج الادبي والفكري لدستويفسكي، الذي سيواصل الرقي بكتاباته الى ان يصل بالقارئ الى قمة ابداعاته بدءاً من الجريمة والعقاب وحتى يختم مسيرته الابداعية بالإخوة كارامازوف والتي نشرها قبل اربع أشهر من وفاته في عام 1880.
كلمات تولستوي
لو قدر لدوستويفسكي ان يختار وصفا او تقديم لروايته فلا اعتقد ان هناك اعظم من رسالة الكاتب الروسي العظيم تولستوي التي أرسلها الى نقولا ستراخوف عام 1880 والتي يقول فيها " كنت أشعر في هذه الأيام بضيق شديد فتناولت كتاب "ذكريات من منزل الأموات" فأعدت قراءته، كنت قد نسيت كثيرًا منه، فلما أعدت قراءته أيقنت أن ليس في الأدب الجديد كله كتاب واحد يفوقه، حتى ولا كُتب بوشكين!!! ليست النبرة هي الشيء الرائع فيه، بل وجهة النظر التي يشتمل عليها إنه صادق طبيعي مسيحي، إنه كتاب يعلّم الدين، فإذا رأيت دوستويفسكي فقل له أني أحبه".
الخاتمة
قبل ختام هذه القراءة لعل من الواجب الإشارة الى انه من العسير والشائك جداً في هذه الورقة تقديم مراجعة وافية لرواية بحجم واهمية مذكرات من البيت الميت للكاتب الروسي فيدور دوستويفسكي، ولعل الإيفاء بهذا العمل يحتاج الى اكثر من دراسة متشعبة وعميقة ومن اشخاص اكثر تخصص ودقة، لما يحوي هذا الكتاب من دراسات نفسية وسيكولوجية عميقة، وبحوث جادة جداً في سبر اغوار الانسان في اعقد الظروف التي يمكنان يقع بها، والتي تختلف اختلافات كلياً عن الظرف الطبيعي للإنسان.
وما قد يزيد من صعوبة المراجعة المختزلة هو دوستويفسكي نفسه الذي لم يترك شاردة ولا واردة في حياة السجناء دون ان يذكرها ويحلل سلوكها وارهاصاتها على السلوك الشخصي للفرد، بل انه عمد حتى الى ذكر الحيوانات التي كانت موجودة في السجن وتأثيرها النفسي على السجناء، بالإضافة الى عشرات المواقف المواضيع مثل المستشفى، وفترة الاعياد، والأموال. وتأثيرها على السجناء، والعمل الشخصي الذي يتقنه السجين والفرق بينه وبين اشغال السجن، والخمر، والتهريب، والعقوبات الجسدية، والقيود، والجلاد والمسرح، والمشادات التي تحصل بين السجناء ، والعديد من الأمور التي لو اردنا مراجعتها كلها فلن يكفي اضعاف هذه المراجعة.