من كثرة الجرائم الفردية الصغيرة، والجرائم الدولية الكبيرة، تبدو النفس البشرية كأنها أرض لا ينبت فيها سوى الشوك، والجشع والنهم الذى لا يشبع من المال والبريق. وفجأة تتبدد عتمة ذلك المشهد، بأمل مثل لهب شمعة صغيرة، بإنسان، مثل الدكتور محمد مشالى الذى ما زال وهو فى الخامسة والسبعين يعمل فى عيادته بطنطا من التاسعة صباحًا حتى العاشرة مساء يوميًا، ولا يستريح حتى أيام الجمعة، وقيمة الكشف لديه عشرة جنيهات فقط. ويعمل د. مشالى بهذا النظام منذ نحو نصف قرن، منذ أن استأجر شقة متواضعة وفتح فيها عيادته عام ١٩٧٥. يقول د. مشالى إن قيمة الكشف عنده عندما فتح العيادة كانت عشرة قروش فقط، وظلت هكذا لسنوات طوال.
فى حجرة الكشف لديه، سترى ملفات المرضى وصحفًا وكتبًا مكدسة صفوفًا طويلة، ويقول د. مشالى فى ذلك إنه لا هواية لديه سوى القراءة فى كل المجالات، وإنه لا ينسى تأثير كتاب طه حسين «المعذبون فى الأرض» خاصة الإهداء الذى جاء فى مقدمته: «إلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون»، ويقول إنه أحس بالتعاطف مع الغلابة دائمًا، ربما لأنه هو نفسه نشأ فى أسرة متواضعة. الأغرب من ذلك أن د. مشالى حين ينتهى من عمله فى التاسعة مساء، يتجه ليواصل العمل حتى منتصف الليل فى عيادة أخرى بعيدة بمنطقة «شبشير الحصة»، والسبب فى ذلك أن أهالى تلك المنطقة كانوا يعرفونه حين عمل بينهم فترة، فتوجهوا إليه وطلبوا منه أن يكون معهم، ودبروا هم مقر العيادة على نفقتهم. هناك فى «شبشير الحصة» قيمة الكشف خمسة جنيهات فقط! ود. مشالى لا يكشف ويحدد العلاج فقط بل يتولى بنفسه القيام بالتحاليل اللازمة للمرضى، ليوفر عليهم نفقات المعامل. وللمريض بالخمسة جنيهات كشف، وزيارة استشارة، وتحليل! وحين يغادر الدكتور مشالى عيادة «شبشير»، فإنه يلوح بكفه لأى سيارة مارة، فتتوقف على الفور وتقوم بتوصيله، لأن الجميع يعرفون د. مشالى، إنه الطبيب الذى عمل نصف قرن وليست لديه سيارة، لكن لديه محبة الناس أينما تحرك.
يقول د. مشالى عن حياته العائلية، وعن المشاكل التى قد يسببها عزوفه عن الربح إنه أفهم زوجته منذ أن ارتبط بها أنه متعاطف مع الغلابة وقبلت هى ذلك. ويحكى حادثة بعينها حين جاءته طفلة فى التاسعة تسعل وقالت له: أمى تبيع ذرة مشوية فى الشارع، وأنا مريضة، قلت لأمى نروح للدكتور، فقالت لى انتظرى حتى نبيع شوية ذرة، مفيش فلوس لسه. لكن أنا جئت لك يا دكتور لأنى تعبانة. ويعلق مشالى قائلا: «آخد فلوس من الطفلة دى؟! لا طبعًا. حتى العشرة جنيهات قيمة الكشف يحدث أن تشكو امرأة من أن كل ما لديها هو سبعة جنيهات! الزباين اللى بتيجى لى تصعب على الكافر. أنا شغلى للفئات التى تأتى وقد اقترضت قيمة الكشف، وبدلًا من أن يقترض خمسين جنيهًا، فلتكن عشرة فقط، هذا أهون». ما زالت قيمة الكشف عند د. مشالى عشرة جنيهات، بينما تصل الكشوف عند بعض الأطباء إلى خمسمائة جنيه فى ثلاث دقائق، ولأن مشالى أعطى نموذجًا مختلفًا للطبيب، سارع أطباء البيزنس بمهاجمته، مثلما فعل بجرأة وبلا خجل طبيب يدعى أحمد رفاعى لم يجد فى أسطورة مشالى الإنسانية سوى أن عيادته ليست نظيفة! وإن كانت عيادة مشالى ليست على المستوى، فلماذا لا تتبرع لها بشىء مما اكتنزته من أموال المرضى؟. لقد عرف تاريخ الطب والإنسانية «مشالى» من قبل، عرف هذه الروح الفذة التى تتعاطف مع الآخرين، وتشفق عليهم، وتضحى بحياتها لأجلهم. عرف ذلك النموذج فى الشاعر إبراهيم ناجى صاحب «الأطلال» الذى كانت له عيادتان، واحدة للفقراء وأخرى للأثرياء، وعرف ذلك النموذج فى شخص الكاتب العملاق أنطون تشيخوف الذى كان طبيبًا يعالج المرضى مجانًا، والدكتور محمد محروس الذى رفض مغادرة حى شعبى وظل فيه بكشف رمزى، وهناك بالطبع مثالان ساطعان فى العطاء هما الدكتور مجدى يعقوب، والدكتور محمد غنيم، وغيرهما. يستحق د. مشالى كل تكريم، وأملى أن تكون هناك جائزة «الإنسانية» نقدمها للدكتور العظيم محمد مشالى، لأنه اسم للأمل، ونحن أحوج ما نكون إلى ما يمدنا بالثقة فى النفس البشرية وفى المستقبل وفى الإنسانية. هل تتقدم جهة ما، صحفية، أو نقابية، بتكريم د. مشالى؟.
فى حجرة الكشف لديه، سترى ملفات المرضى وصحفًا وكتبًا مكدسة صفوفًا طويلة، ويقول د. مشالى فى ذلك إنه لا هواية لديه سوى القراءة فى كل المجالات، وإنه لا ينسى تأثير كتاب طه حسين «المعذبون فى الأرض» خاصة الإهداء الذى جاء فى مقدمته: «إلى الذين يجدون ما لا ينفقون، وإلى الذين لا يجدون ما ينفقون»، ويقول إنه أحس بالتعاطف مع الغلابة دائمًا، ربما لأنه هو نفسه نشأ فى أسرة متواضعة. الأغرب من ذلك أن د. مشالى حين ينتهى من عمله فى التاسعة مساء، يتجه ليواصل العمل حتى منتصف الليل فى عيادة أخرى بعيدة بمنطقة «شبشير الحصة»، والسبب فى ذلك أن أهالى تلك المنطقة كانوا يعرفونه حين عمل بينهم فترة، فتوجهوا إليه وطلبوا منه أن يكون معهم، ودبروا هم مقر العيادة على نفقتهم. هناك فى «شبشير الحصة» قيمة الكشف خمسة جنيهات فقط! ود. مشالى لا يكشف ويحدد العلاج فقط بل يتولى بنفسه القيام بالتحاليل اللازمة للمرضى، ليوفر عليهم نفقات المعامل. وللمريض بالخمسة جنيهات كشف، وزيارة استشارة، وتحليل! وحين يغادر الدكتور مشالى عيادة «شبشير»، فإنه يلوح بكفه لأى سيارة مارة، فتتوقف على الفور وتقوم بتوصيله، لأن الجميع يعرفون د. مشالى، إنه الطبيب الذى عمل نصف قرن وليست لديه سيارة، لكن لديه محبة الناس أينما تحرك.
يقول د. مشالى عن حياته العائلية، وعن المشاكل التى قد يسببها عزوفه عن الربح إنه أفهم زوجته منذ أن ارتبط بها أنه متعاطف مع الغلابة وقبلت هى ذلك. ويحكى حادثة بعينها حين جاءته طفلة فى التاسعة تسعل وقالت له: أمى تبيع ذرة مشوية فى الشارع، وأنا مريضة، قلت لأمى نروح للدكتور، فقالت لى انتظرى حتى نبيع شوية ذرة، مفيش فلوس لسه. لكن أنا جئت لك يا دكتور لأنى تعبانة. ويعلق مشالى قائلا: «آخد فلوس من الطفلة دى؟! لا طبعًا. حتى العشرة جنيهات قيمة الكشف يحدث أن تشكو امرأة من أن كل ما لديها هو سبعة جنيهات! الزباين اللى بتيجى لى تصعب على الكافر. أنا شغلى للفئات التى تأتى وقد اقترضت قيمة الكشف، وبدلًا من أن يقترض خمسين جنيهًا، فلتكن عشرة فقط، هذا أهون». ما زالت قيمة الكشف عند د. مشالى عشرة جنيهات، بينما تصل الكشوف عند بعض الأطباء إلى خمسمائة جنيه فى ثلاث دقائق، ولأن مشالى أعطى نموذجًا مختلفًا للطبيب، سارع أطباء البيزنس بمهاجمته، مثلما فعل بجرأة وبلا خجل طبيب يدعى أحمد رفاعى لم يجد فى أسطورة مشالى الإنسانية سوى أن عيادته ليست نظيفة! وإن كانت عيادة مشالى ليست على المستوى، فلماذا لا تتبرع لها بشىء مما اكتنزته من أموال المرضى؟. لقد عرف تاريخ الطب والإنسانية «مشالى» من قبل، عرف هذه الروح الفذة التى تتعاطف مع الآخرين، وتشفق عليهم، وتضحى بحياتها لأجلهم. عرف ذلك النموذج فى الشاعر إبراهيم ناجى صاحب «الأطلال» الذى كانت له عيادتان، واحدة للفقراء وأخرى للأثرياء، وعرف ذلك النموذج فى شخص الكاتب العملاق أنطون تشيخوف الذى كان طبيبًا يعالج المرضى مجانًا، والدكتور محمد محروس الذى رفض مغادرة حى شعبى وظل فيه بكشف رمزى، وهناك بالطبع مثالان ساطعان فى العطاء هما الدكتور مجدى يعقوب، والدكتور محمد غنيم، وغيرهما. يستحق د. مشالى كل تكريم، وأملى أن تكون هناك جائزة «الإنسانية» نقدمها للدكتور العظيم محمد مشالى، لأنه اسم للأمل، ونحن أحوج ما نكون إلى ما يمدنا بالثقة فى النفس البشرية وفى المستقبل وفى الإنسانية. هل تتقدم جهة ما، صحفية، أو نقابية، بتكريم د. مشالى؟.