بما أنني ولدت في بدايات القرن العشرين وعشته كاملاً حتى نهايته، فقد كنت أحد شهوده، ودوما يطلب مني الكلام عنه. أعتقد أنه من غير اللائق أن أحكم على الأحداث التراجيدية التي وسمته. لعل هذا يخص من ينظرون إليه بقسوة، بينما تمنعني الأحداث المتلاحقة من ذلك، وهذا هو درس مهنتي الذي أثر فيَّ بقوة. وإذا كانت الاثنولوجيا، التي تمكننا من التساؤل، علما أو فنا (أو، ربما، الاثنين معا في آن واحد)، سنجد أنها تمد شيئاً من جذورها إلى العصر القديم وشيئاً من هذه الجذور أيضاً إلى عصرنا الحالي.
حينما أعاد رجال نهاية العصر الوسيط وعصر النهضة اكتشاف العصر الإغريقي – الروماني، وحينما جعل اليسوعيون من اليونانية واللاتينية قاعدة تعليمهم، ألم يمارسوا شكلا أوليا للاثنولوجيا؟
نعرف أن أي حضارة لا تستطيع التفكير في ذاتها إذا لم ترصد حضارات أخرى تضعها محل مقارنة. ولقد وجد عصر النهضة في الأدب القديم وسيلة لوضع ثقافته الأصلية تحت المجهر، بمقابلة التصورات المعاصرة بتصورات أزمنة أخرى وأفكار أخرى.
والاختلاف الوحيد بين الثقافة الكلاسيكية والثقافة الاثنوغرافية يرجع إلى أبعاد العالم المعروف بالنسبة إلى عصوره من منظوره، في بداية عصر النهضة، كان العالم الإنساني محصوراً في حوض البحر المتوسط، أما بقية العالم، فلا يمكن لنا سوى الارتياب في وجودها.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اتسعت الإنسانية مع تطور الكشوف الجغرافية وانضمت الصين والهند إلى الخارطة.
مصطلحنا الأكاديمي، الذي يشير إلى دراساتهما تحت عنوان (فقه اللغة Philologie) غير الكلاسيكي بسبب عدم قدرته على إبداع مصطلح أصيل، يعترف أن الأمر يتعلق بصورة طبيعية بنفس الحركة الإنسانية التي امتدت إلى أراض جديدة. وبالاهتمام بالحضارتين الأخيرتين المستخف بقدْرِهما - المجتمعات البدائية كما قيل - اجتازت الاثنولوجيا المرحلة الثالثة من الإنسانية.
ولاختراق المجتمعات ذات المداخل الصعبة كان لا بد لأنماط معرفة الاثنولوجيا عن العلوم السابقة عليها، أن تنتقل من الخارج (الأنثروبولوجيا الفيزيقية، ما قبل التاريخية، التقنية) إلى الداخل، من خلال تماهي الاثنولوجي بالجماعة، حيث يقتسم وجوده معها واهتماماته القصوى التي تربطه بتفرد حياة أهل البلاد الطبيعية.
دوما، تجاوزت الاثنولوجيا ناحية الإنسانية التقليدية، في كافة الاتجاهات. ساحتها تتضمن جملة الأرض المسكونة، بينما منهجها يدمج كافة المناهج والأساليب التي تنبثق من أشكال المعرفة: العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.
بيد أن ميلاد الاثنولوجيا تأتي من اعتبارات متأخرة ومن نسق آخر،
على مدى القرن الثامن عشر، اكتسب الغرب الاعتقاد الراسخ بكون الانتشار المتنامي لحضارته أمر لا مفر منه وأنه بات يهدد آلاف المجتمعات المتواضعة والهشة حيث كانت اللغات والاعتقادات والفنون والمؤسسات شهادات فريدة للثراء وتعدد الإبداعات الإنسانية.
إذا وددنا في يوم من الأيام معرفة ماهية الإنسان، يكفي أن نجمع، خلال وجوده، كافة هذه الوقائع الثقافية التي لا تدين بشيء إلى إسهامات الغرب وما فرضه عليه.
هناك مسألة ملحة للغاية، وتتمثل في أن هذه المجتمعات، التي لم تتملك أي صورة من صور الكتابة أبدا، لم تقدم وثائق مكتوبة، ولا حتى آثارا مصورة في غالب الأحيان. ومع ذلك، وحتى قبل أن تكون المسألة متقدمة بصورة كافية، كل هذا يدخل في طور التلاشي أو، على أقل تقدير، التغير العميق.
الشعوب الصغيرة التي نطلق عليها اسم (الأصلية) Indigenes تتلقى اليوم اهتمام هيئة الأمم المتحدة. ونحن كمدعوين إلى الملتقيات الدولية، يعي كل منا وجود الآخر، الهنود الأميركيون، قبائل الماوريس بنيوزيلندا، قبائل الآبوريجان الأستراليين معروفة نوعاً ما وتحوز على أهمية نسبية. يتحرر الوعي الجمعي الكامن ما وراء النزعات الإقليمية التي أعطت لكل ثقافة نوعيتها. وفي نفس الوقت، كل إقليم تم اختراقه بمناهج وتقنيات وقيم الغرب. بيد أن هذا التأحيد Uniformisation (نسبة إلى واحد) غير شامل أبدا. إذ أن هناك اختلافات أخرى تتبدى اليوم، وبذلك تمنح البحث الاثنولوجي مادة جديدة.
ولكن، داخل متن إنسانية أصبحت متضامنة، فإن الاختلافات ذات الطبيعة المغايرة ليست خارجة عن الحضارة الغربية، وأنما قابعة في الأشكال الهجينة لهذه الحضارة الممتدة إلى كافة بقاع الأرض.
كان عدد السكان يبلغ يوم مولدي مليارا ونصف المليار. وحينما دخلت إلى الحياة العملية نحو 1930، ارتفع العدد إلى مليارين. أما اليوم فيبلغ السكان ستة مليارات نسمة، وسوف يتجاوز التسعة مليارات نسمة خلال عقود، بتبني تكهنات الديموغرافيا.
بالتأكيد، يقال لنا إن هذا الرقم الأخير قمة الجبل وأن عدد السكان سينحدر بالتالي، سريعاً، ويضيف البعض أن تهديداً سيؤثر على بقاء نوعنا.
على أي حال، ستختبر الديموغرافيا دمارها على التعددية، ليست فقط الثقافية وأنما أيضاً البيولوجية التي تعمل على محو كميات من الأنواع الحيوانية والنباتية. ومع هذا الاختفاء، سيكون الإنسان من دون شك هو المسبب، وأفعاله ستعود إليه.
ربما، لن تكون هناك دراما معاصرة لا تجد أصلها المباشر أو غير المباشر في الصعوبات المتنامية للعيش معا، المتأثرة لاشعوريا بإنسانية ضحية الاستغلال الديموغرافي و- مثل دود الطحين الذي يتسمم في الأكياس المنغلقة عليه قبل أن ينتهي غذاءه – يمقت نفسه لأن بصيرته الخفية تحذره بأن عدد السكان سيتضاعف إلى درجة أن كل فرد من هؤلاء الأفراد يستطيع أن يتمتع بهذه الخيرات الضرورية بكل حرية، وهذه الخيرات تتمثل في الفضاء الحر، المياه النقية، والهواء غير الملوث.
أيضاً الفرصة الوحيدة المهداة إلى الإنسانية، والتي أصبحت ضحيته، تتمثل في معرفة هذا الظرف الذي وضعته على قدم المساواة مع كافة الأشكال الأخرى للحياة التي استغلت وتستمر في الاستغلال حتى الفناء.
ولكن إذا كان الإنسان يمتلك في بادئ الأمر حقوق أن يبقى حياً، يتبقى أن هذه الحقوق، المعروفة إنسانيا كنوع، تقابل حدودها الطبيعية في حقوق الأنواع الأخرى.
تنتهي حقوق الإنسانية لحظة يتهدد فيها بقاء الأنواع الأخرى. حق الحياة وحق التطور الحر للأنواع الحية الموجودة على الأرض، من الممكن أن يكونا غير قابلين للتقادم، بسبب حجة بسيطة للغاية تتمثل في أن اختفاء أي نوع يحفر ثغرة، متعذر ترميمها، على صعيدنا، في نسق الخلق. فقط هذه الطريقة لملاحظة الإنسان تستطيع أن تتحصل على قبول الحضارات كافة.
حضارتنا بداية، إذ أن المفهوم الذي لخصته لتوي يعبر عن التشريع الروماني، الملقح بتأثيرات رواقية، الذي يعرف القانون الطبيعي كمجمل العلاقات العامة التي ثبتتها الطبيعة بين الكائنات الحية لأجل حفظ النوع المشترك، وكذا حضارات الشرق الأدنى والشرق الأقصى الكبرى، المتأثرة بالهندوسية والبوذية، حضارة الشعوب المسماة نامية، وحتى الشعوب البسيطة، المجتمعات من دون كتابة التي يدرسها الاثنولوجيون.
من خلال التقاليد الحكيمة، والتي سنخطئ إذا أقصيناها إلى صف الخرافات، يتحدد استهلاك الإنسان للأنواع الحية الأخرى، وهكذا يفرض عليه احترامها الأخلاقي، من خلال توحيد قواعد صارمة للغاية لكي تضمن استهلاكها. وهذه المجتمعات الأخيرة، تتفق على جعل الإنسان جزءاً مستحوذاً، وليس سيد عملية الخلق.
أياً كان الدرس الذي تلقاه الاثنولوجي منها، فهو يأمل أن تتفق الأمم المتحدة على الحفاظ على هذه المجتمعات، وأن تعرف كيف تستلهم مثالها.
----------------
(*) Claude Lévi-Strauss، «La difficulté croissante de vivre ensemble...»، Nouvel Observateur، 9 Juin 2005.
الفكر البري
من بين كتبه، تتبدى جلياً «البنى الأساسية للقرابة» لدى الشعوب البدائية، «الانثروبولوجيا البنيوية»، من جزأين، مطبقاً على كل الممارسات الإنسانية ذات الطبيعة الرمزية منهج البنيوية الذي يعين أشكالاً ثابتة في قلب المحتوى المتغير، و«الفكر البري» 1962، «لا يتعلق الأمر بفكر البدائيين، وإنما بالأحرى بالفكر البري. إنه شكل الامتياز للإنسانية، ومن الممكن أن نجده في دواخلنا، بيد أننا نفضل على نحو مألوف الذهاب إلى المجتمعات الغرائبية».
كما كتب «وعندما شرح لنا كيف أن الفكر البري يقبع في دواخل كل فرد منا، لم يعد هناك تمييز للوظيفة العقلية بين البدائي وبيننا. إنها ثورة ثقافية جديرة بالاعتبار»، حسب الفيلسوفة كاترين كلمنت في دراستها عنه.
حينما أعاد رجال نهاية العصر الوسيط وعصر النهضة اكتشاف العصر الإغريقي – الروماني، وحينما جعل اليسوعيون من اليونانية واللاتينية قاعدة تعليمهم، ألم يمارسوا شكلا أوليا للاثنولوجيا؟
نعرف أن أي حضارة لا تستطيع التفكير في ذاتها إذا لم ترصد حضارات أخرى تضعها محل مقارنة. ولقد وجد عصر النهضة في الأدب القديم وسيلة لوضع ثقافته الأصلية تحت المجهر، بمقابلة التصورات المعاصرة بتصورات أزمنة أخرى وأفكار أخرى.
والاختلاف الوحيد بين الثقافة الكلاسيكية والثقافة الاثنوغرافية يرجع إلى أبعاد العالم المعروف بالنسبة إلى عصوره من منظوره، في بداية عصر النهضة، كان العالم الإنساني محصوراً في حوض البحر المتوسط، أما بقية العالم، فلا يمكن لنا سوى الارتياب في وجودها.
في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، اتسعت الإنسانية مع تطور الكشوف الجغرافية وانضمت الصين والهند إلى الخارطة.
مصطلحنا الأكاديمي، الذي يشير إلى دراساتهما تحت عنوان (فقه اللغة Philologie) غير الكلاسيكي بسبب عدم قدرته على إبداع مصطلح أصيل، يعترف أن الأمر يتعلق بصورة طبيعية بنفس الحركة الإنسانية التي امتدت إلى أراض جديدة. وبالاهتمام بالحضارتين الأخيرتين المستخف بقدْرِهما - المجتمعات البدائية كما قيل - اجتازت الاثنولوجيا المرحلة الثالثة من الإنسانية.
ولاختراق المجتمعات ذات المداخل الصعبة كان لا بد لأنماط معرفة الاثنولوجيا عن العلوم السابقة عليها، أن تنتقل من الخارج (الأنثروبولوجيا الفيزيقية، ما قبل التاريخية، التقنية) إلى الداخل، من خلال تماهي الاثنولوجي بالجماعة، حيث يقتسم وجوده معها واهتماماته القصوى التي تربطه بتفرد حياة أهل البلاد الطبيعية.
دوما، تجاوزت الاثنولوجيا ناحية الإنسانية التقليدية، في كافة الاتجاهات. ساحتها تتضمن جملة الأرض المسكونة، بينما منهجها يدمج كافة المناهج والأساليب التي تنبثق من أشكال المعرفة: العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية.
بيد أن ميلاد الاثنولوجيا تأتي من اعتبارات متأخرة ومن نسق آخر،
على مدى القرن الثامن عشر، اكتسب الغرب الاعتقاد الراسخ بكون الانتشار المتنامي لحضارته أمر لا مفر منه وأنه بات يهدد آلاف المجتمعات المتواضعة والهشة حيث كانت اللغات والاعتقادات والفنون والمؤسسات شهادات فريدة للثراء وتعدد الإبداعات الإنسانية.
إذا وددنا في يوم من الأيام معرفة ماهية الإنسان، يكفي أن نجمع، خلال وجوده، كافة هذه الوقائع الثقافية التي لا تدين بشيء إلى إسهامات الغرب وما فرضه عليه.
هناك مسألة ملحة للغاية، وتتمثل في أن هذه المجتمعات، التي لم تتملك أي صورة من صور الكتابة أبدا، لم تقدم وثائق مكتوبة، ولا حتى آثارا مصورة في غالب الأحيان. ومع ذلك، وحتى قبل أن تكون المسألة متقدمة بصورة كافية، كل هذا يدخل في طور التلاشي أو، على أقل تقدير، التغير العميق.
الشعوب الصغيرة التي نطلق عليها اسم (الأصلية) Indigenes تتلقى اليوم اهتمام هيئة الأمم المتحدة. ونحن كمدعوين إلى الملتقيات الدولية، يعي كل منا وجود الآخر، الهنود الأميركيون، قبائل الماوريس بنيوزيلندا، قبائل الآبوريجان الأستراليين معروفة نوعاً ما وتحوز على أهمية نسبية. يتحرر الوعي الجمعي الكامن ما وراء النزعات الإقليمية التي أعطت لكل ثقافة نوعيتها. وفي نفس الوقت، كل إقليم تم اختراقه بمناهج وتقنيات وقيم الغرب. بيد أن هذا التأحيد Uniformisation (نسبة إلى واحد) غير شامل أبدا. إذ أن هناك اختلافات أخرى تتبدى اليوم، وبذلك تمنح البحث الاثنولوجي مادة جديدة.
ولكن، داخل متن إنسانية أصبحت متضامنة، فإن الاختلافات ذات الطبيعة المغايرة ليست خارجة عن الحضارة الغربية، وأنما قابعة في الأشكال الهجينة لهذه الحضارة الممتدة إلى كافة بقاع الأرض.
كان عدد السكان يبلغ يوم مولدي مليارا ونصف المليار. وحينما دخلت إلى الحياة العملية نحو 1930، ارتفع العدد إلى مليارين. أما اليوم فيبلغ السكان ستة مليارات نسمة، وسوف يتجاوز التسعة مليارات نسمة خلال عقود، بتبني تكهنات الديموغرافيا.
بالتأكيد، يقال لنا إن هذا الرقم الأخير قمة الجبل وأن عدد السكان سينحدر بالتالي، سريعاً، ويضيف البعض أن تهديداً سيؤثر على بقاء نوعنا.
على أي حال، ستختبر الديموغرافيا دمارها على التعددية، ليست فقط الثقافية وأنما أيضاً البيولوجية التي تعمل على محو كميات من الأنواع الحيوانية والنباتية. ومع هذا الاختفاء، سيكون الإنسان من دون شك هو المسبب، وأفعاله ستعود إليه.
ربما، لن تكون هناك دراما معاصرة لا تجد أصلها المباشر أو غير المباشر في الصعوبات المتنامية للعيش معا، المتأثرة لاشعوريا بإنسانية ضحية الاستغلال الديموغرافي و- مثل دود الطحين الذي يتسمم في الأكياس المنغلقة عليه قبل أن ينتهي غذاءه – يمقت نفسه لأن بصيرته الخفية تحذره بأن عدد السكان سيتضاعف إلى درجة أن كل فرد من هؤلاء الأفراد يستطيع أن يتمتع بهذه الخيرات الضرورية بكل حرية، وهذه الخيرات تتمثل في الفضاء الحر، المياه النقية، والهواء غير الملوث.
أيضاً الفرصة الوحيدة المهداة إلى الإنسانية، والتي أصبحت ضحيته، تتمثل في معرفة هذا الظرف الذي وضعته على قدم المساواة مع كافة الأشكال الأخرى للحياة التي استغلت وتستمر في الاستغلال حتى الفناء.
ولكن إذا كان الإنسان يمتلك في بادئ الأمر حقوق أن يبقى حياً، يتبقى أن هذه الحقوق، المعروفة إنسانيا كنوع، تقابل حدودها الطبيعية في حقوق الأنواع الأخرى.
تنتهي حقوق الإنسانية لحظة يتهدد فيها بقاء الأنواع الأخرى. حق الحياة وحق التطور الحر للأنواع الحية الموجودة على الأرض، من الممكن أن يكونا غير قابلين للتقادم، بسبب حجة بسيطة للغاية تتمثل في أن اختفاء أي نوع يحفر ثغرة، متعذر ترميمها، على صعيدنا، في نسق الخلق. فقط هذه الطريقة لملاحظة الإنسان تستطيع أن تتحصل على قبول الحضارات كافة.
حضارتنا بداية، إذ أن المفهوم الذي لخصته لتوي يعبر عن التشريع الروماني، الملقح بتأثيرات رواقية، الذي يعرف القانون الطبيعي كمجمل العلاقات العامة التي ثبتتها الطبيعة بين الكائنات الحية لأجل حفظ النوع المشترك، وكذا حضارات الشرق الأدنى والشرق الأقصى الكبرى، المتأثرة بالهندوسية والبوذية، حضارة الشعوب المسماة نامية، وحتى الشعوب البسيطة، المجتمعات من دون كتابة التي يدرسها الاثنولوجيون.
من خلال التقاليد الحكيمة، والتي سنخطئ إذا أقصيناها إلى صف الخرافات، يتحدد استهلاك الإنسان للأنواع الحية الأخرى، وهكذا يفرض عليه احترامها الأخلاقي، من خلال توحيد قواعد صارمة للغاية لكي تضمن استهلاكها. وهذه المجتمعات الأخيرة، تتفق على جعل الإنسان جزءاً مستحوذاً، وليس سيد عملية الخلق.
أياً كان الدرس الذي تلقاه الاثنولوجي منها، فهو يأمل أن تتفق الأمم المتحدة على الحفاظ على هذه المجتمعات، وأن تعرف كيف تستلهم مثالها.
----------------
(*) Claude Lévi-Strauss، «La difficulté croissante de vivre ensemble...»، Nouvel Observateur، 9 Juin 2005.
الفكر البري
من بين كتبه، تتبدى جلياً «البنى الأساسية للقرابة» لدى الشعوب البدائية، «الانثروبولوجيا البنيوية»، من جزأين، مطبقاً على كل الممارسات الإنسانية ذات الطبيعة الرمزية منهج البنيوية الذي يعين أشكالاً ثابتة في قلب المحتوى المتغير، و«الفكر البري» 1962، «لا يتعلق الأمر بفكر البدائيين، وإنما بالأحرى بالفكر البري. إنه شكل الامتياز للإنسانية، ومن الممكن أن نجده في دواخلنا، بيد أننا نفضل على نحو مألوف الذهاب إلى المجتمعات الغرائبية».
كما كتب «وعندما شرح لنا كيف أن الفكر البري يقبع في دواخل كل فرد منا، لم يعد هناك تمييز للوظيفة العقلية بين البدائي وبيننا. إنها ثورة ثقافية جديرة بالاعتبار»، حسب الفيلسوفة كاترين كلمنت في دراستها عنه.