بات من النادر أن نُصادف، في السنوات الأخيرة، سيراً ذاتية في الجزائر، وما صدر منها على قلته ينحو إلى تلميع صورة صاحبها، إلى إضفاء مساحيق على تاريخه الشخصي، إظهار محاسنه لا مساوئه، لذلك فإن سيرة «حياتي في دائرة الضوء» (2021) للكاتب بشير خلف تأتي في وقت مهم، كي تكسر قاعدة السير البطولية، المثخنة بقصص لا تُطابق الواقع، فقد أصدر سيرة ضمت قدراً مهماً من الصدق والتجرد من روح البطولة، لم يدع فيها أنه صاحب فضائل، ولم يرتد لباساً لا يُناسب مقاسه، بل ساير فيها التلقائية وبراءة غير معهودة في الكتابة، لم يخف سلبياته ولم يدّع فيها الطهارة، بل سرد فيها أيضاً شيئاً من خشونته وعدم رضاه عن بعض معارفه، لم يستثن خصومه في النقد، ولم يطل في مدح رفاقه، سيرة صادقة يحكي فيها صاحبها ما يربو على ستة عقود من حياته، من زمن ما قبل حرب التحرير إلى مطلع الألفية الجديدة، مع ما عاشه من تقلبات وهشاشة، وتباين في الآراء، وذلك هو أصل الكاتب، ألا يستقر على رأي، بل هو في تغير مستمر، كانت تنقصها ، في بعض المرات ـ جرأة سياسية، لكنها لم تخلُ من فضح ومن مكاشفة.
اكتشاف الثورة
قبل أن يصير بشير خلف (1941) قاصاً، من الجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة في الجزائر، الذي متّن موقعاً له في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فقد كان فدائياً في حرب التحرير، ويحكي كيف بدأت علاقته بالثورة ثم الحكم عليه بخمس عشرة سنة سجناً في واحد من أعتى سجون البلاد، أو ما يسمى سجن لامبيز.
بشير خلف الذي ولد في بطن الصحراء، وجد نفسه قبل أن يتم التاسعة عشرة من عمره، تاجراً في عنابة الساحلية، تلك المدينة التي تعددت فيها خلايا المقاومة، قبل أن ينضم إليها كان يكسب رزقه من محل صغير، جعله يربط علاقات صداقة مع جيش الاستعمار، يبيعهم العطور، الملابس الداخلية وبطاقات بريدية. «بعض أولئكم العساكر من كثرة مجيئهم إليّ صارت تربطني بهم علاقة تعارف. أسألهم من أي منطقة في فرنسا، أو من أي بلد إن كانوا من اللفيف الأجنبي، نتيجة تلكم العلاقة يأتون إليّ في بعض الأحايين، وليس بأيديهم نقود، فأمدهم بما يحتاجون، وللأمانة فإنهم بمجرد ما يستلمون مرتباتهم الشهرية يدفعون ما عليهم». نزع بشير خلف إلى إنسانيته، لم يشيطن جنود الاحتلال وهو يافع غير واعٍ بما كان يحصل على الأرض، لم يكن وعيه قد تفتح، وظلت علاقته بجنود الاحتلال علاقة تاجر مع زبائنه، قبل أن يحصل الانقلاب عام 1960، حين التحق بالحرب كفدائي.
لم تكن حياته كقاص سهلة، إزاء امتعاض مسؤوليه في قطاع التعليم، الذين ـ بحجة الغيرة ـ لم يعجبهم أن يروا زميلاً لهم ينجح في الكتابة، لكن بشير خلف واصل اشتغاله في القصة القصيرة، وبعد كل هذه العقود يجد نفسه شبه معزول، في بلدته الجنوبية، يسعي بجهده الخاصة إلى تنشيط الحياة الثقافية في الصحراء، في جزائر تعودت على التنكر لمبدعيها.
لكن لم تطل الحالة، ألقي القبض عليه، بسبب وشاية، وحكم عليه بخمس عشرة سنة، في تجربة ذاق فيه أنواع التعذيب، قبل أن يصل إلى السجن، وهناك يحكي ظروف سجن المقاومين الجزائريين: «في الأعياد، إضافة إلى المقابلات الرياضية، سُمح لنا بسماع خطبتي العيد وأداء الصلاة في ساحة كبيرة.. إدارة السجن كانت تسمح لأهالي السجناء بإدخال أطعمة وحلويات، تتكرم أيضاً بوجبات خاصة بالمناسبة، كما تسمح لأحد المصورين بالتقاط صور لنا فردية أو جماعية لمن أراد.. كما كانت السلطة الفرنسية في السجن تفتح لنا إذاعة الجزائر، عبر مكبرات الصوت المثبتة أينما تواجد السجناء» قبل أن يستدرك ويعلل أسباب المعاملة الحسنة التي كان يلقاها السجناء: «تلكم الحقوق ما أتت إلا نتيجة انتفاضات داخل السجون، وإضرابات الجوع، وضغوط متواصلة من منظمات حقوقية دولية، منها منظمة الصليب الأحمر التي كثفتها زياراتها للسجون». لم يقض الكاتب أكثر من عام قبل أن يفرج عنه، بعد وقف إطلاق النار ثم استقلال الجزائر صيف 1962، فقضى نزراً من الوقت في الجيش، ثم هجره مفضلاً الانتقال إلى التدريس، متنقلاً بين مدارس صغيرة في قرى بعيدة، لم تكن ـ حينها ـ الجزائر تتوافر على كتب مدرسية، والمعلمون من أمثال بشير خلف يتكلون على كتب مدرسية من مصر، أو دول الجوار، قبل أن يشهد واحداً من أفظع الحوادث التي وقعت في ميناء عنابة، الذي يُشبه إلى حد ما حصل في مرفأ بيروت العام الماضي.
سحابة جثث
في 23 يونيو 1964، وقع انفجار مروع، في العاشرة ليلاً، لباخرة «نجمة الإسكندرية» في ميناء عنابة. هذه الواقعة، التي تكاد تمحى من الذاكرة، رغم فداحتها، ما يزال يتذكرها بشير خلف، وكان شاهد عيان يومها. «تحول الميناء إلى كتلة من اللهب أضاءت سماء المدينة، التي امتلأت أجواؤها بتطاير شظايا الكتل الحديدية، التي وصل مدى تساقطها على بعد 5 كيلومترات.. امتلأت المستشفيات الثلاثة للمدينة بعشرات الجثث والجرحى.. الخسائر البشرية فاقت 150 قتيلاً.. من بينهم 26 ضحية مفقودة نهائياً بفعل انصهار أجسادهم مع حمم اللهيب و32 ضحية انشطرت أجسادهم.. في ما بلغ عدد الجرحى 3000 شخص، بينهم 250 شخصاً بعاهات مستديمة» يوم قامت القيامة في عنابة كان بشير خلف شاباً في الثالثة والعشرين من العمر، اليوم وقد أتم عقده الثمانين لا يزال يذكر تفاصيلها، ففي عنابة اكتشف الحياة والثورة، منها سيق إلى السجن، وهناك بعد الإفراج عنه، درس فيها وشاهد ميناءها يتفحم، ثم رأى دماء الجزائريين على الحيطان عقب انقلاب 1965، فهجرها عائداً إلى الجنوب، ثم بلدته البعيدة المسماة (قمار) ليشرع في حياة جديدة، حياة قاص وأديب.
لم تكن حياته كقاص سهلة، إزاء امتعاض مسؤوليه في قطاع التعليم، الذين ـ بحجة الغيرة ـ لم يعجبهم أن يروا زميلاً لهم ينجح في الكتابة، لكن بشير خلف واصل اشتغاله في القصة القصيرة، وبعد كل هذه العقود يجد نفسه شبه معزول، في بلدته الجنوبية، يسعي بجهده الخاصة إلى تنشيط الحياة الثقافية في الصحراء، في جزائر تعودت على التنكر لمبدعيها.
www.alquds.co.uk
اكتشاف الثورة
قبل أن يصير بشير خلف (1941) قاصاً، من الجيل الثاني من كتاب القصة القصيرة في الجزائر، الذي متّن موقعاً له في أوائل الثمانينيات من القرن الماضي، فقد كان فدائياً في حرب التحرير، ويحكي كيف بدأت علاقته بالثورة ثم الحكم عليه بخمس عشرة سنة سجناً في واحد من أعتى سجون البلاد، أو ما يسمى سجن لامبيز.
بشير خلف الذي ولد في بطن الصحراء، وجد نفسه قبل أن يتم التاسعة عشرة من عمره، تاجراً في عنابة الساحلية، تلك المدينة التي تعددت فيها خلايا المقاومة، قبل أن ينضم إليها كان يكسب رزقه من محل صغير، جعله يربط علاقات صداقة مع جيش الاستعمار، يبيعهم العطور، الملابس الداخلية وبطاقات بريدية. «بعض أولئكم العساكر من كثرة مجيئهم إليّ صارت تربطني بهم علاقة تعارف. أسألهم من أي منطقة في فرنسا، أو من أي بلد إن كانوا من اللفيف الأجنبي، نتيجة تلكم العلاقة يأتون إليّ في بعض الأحايين، وليس بأيديهم نقود، فأمدهم بما يحتاجون، وللأمانة فإنهم بمجرد ما يستلمون مرتباتهم الشهرية يدفعون ما عليهم». نزع بشير خلف إلى إنسانيته، لم يشيطن جنود الاحتلال وهو يافع غير واعٍ بما كان يحصل على الأرض، لم يكن وعيه قد تفتح، وظلت علاقته بجنود الاحتلال علاقة تاجر مع زبائنه، قبل أن يحصل الانقلاب عام 1960، حين التحق بالحرب كفدائي.
لم تكن حياته كقاص سهلة، إزاء امتعاض مسؤوليه في قطاع التعليم، الذين ـ بحجة الغيرة ـ لم يعجبهم أن يروا زميلاً لهم ينجح في الكتابة، لكن بشير خلف واصل اشتغاله في القصة القصيرة، وبعد كل هذه العقود يجد نفسه شبه معزول، في بلدته الجنوبية، يسعي بجهده الخاصة إلى تنشيط الحياة الثقافية في الصحراء، في جزائر تعودت على التنكر لمبدعيها.
لكن لم تطل الحالة، ألقي القبض عليه، بسبب وشاية، وحكم عليه بخمس عشرة سنة، في تجربة ذاق فيه أنواع التعذيب، قبل أن يصل إلى السجن، وهناك يحكي ظروف سجن المقاومين الجزائريين: «في الأعياد، إضافة إلى المقابلات الرياضية، سُمح لنا بسماع خطبتي العيد وأداء الصلاة في ساحة كبيرة.. إدارة السجن كانت تسمح لأهالي السجناء بإدخال أطعمة وحلويات، تتكرم أيضاً بوجبات خاصة بالمناسبة، كما تسمح لأحد المصورين بالتقاط صور لنا فردية أو جماعية لمن أراد.. كما كانت السلطة الفرنسية في السجن تفتح لنا إذاعة الجزائر، عبر مكبرات الصوت المثبتة أينما تواجد السجناء» قبل أن يستدرك ويعلل أسباب المعاملة الحسنة التي كان يلقاها السجناء: «تلكم الحقوق ما أتت إلا نتيجة انتفاضات داخل السجون، وإضرابات الجوع، وضغوط متواصلة من منظمات حقوقية دولية، منها منظمة الصليب الأحمر التي كثفتها زياراتها للسجون». لم يقض الكاتب أكثر من عام قبل أن يفرج عنه، بعد وقف إطلاق النار ثم استقلال الجزائر صيف 1962، فقضى نزراً من الوقت في الجيش، ثم هجره مفضلاً الانتقال إلى التدريس، متنقلاً بين مدارس صغيرة في قرى بعيدة، لم تكن ـ حينها ـ الجزائر تتوافر على كتب مدرسية، والمعلمون من أمثال بشير خلف يتكلون على كتب مدرسية من مصر، أو دول الجوار، قبل أن يشهد واحداً من أفظع الحوادث التي وقعت في ميناء عنابة، الذي يُشبه إلى حد ما حصل في مرفأ بيروت العام الماضي.
سحابة جثث
في 23 يونيو 1964، وقع انفجار مروع، في العاشرة ليلاً، لباخرة «نجمة الإسكندرية» في ميناء عنابة. هذه الواقعة، التي تكاد تمحى من الذاكرة، رغم فداحتها، ما يزال يتذكرها بشير خلف، وكان شاهد عيان يومها. «تحول الميناء إلى كتلة من اللهب أضاءت سماء المدينة، التي امتلأت أجواؤها بتطاير شظايا الكتل الحديدية، التي وصل مدى تساقطها على بعد 5 كيلومترات.. امتلأت المستشفيات الثلاثة للمدينة بعشرات الجثث والجرحى.. الخسائر البشرية فاقت 150 قتيلاً.. من بينهم 26 ضحية مفقودة نهائياً بفعل انصهار أجسادهم مع حمم اللهيب و32 ضحية انشطرت أجسادهم.. في ما بلغ عدد الجرحى 3000 شخص، بينهم 250 شخصاً بعاهات مستديمة» يوم قامت القيامة في عنابة كان بشير خلف شاباً في الثالثة والعشرين من العمر، اليوم وقد أتم عقده الثمانين لا يزال يذكر تفاصيلها، ففي عنابة اكتشف الحياة والثورة، منها سيق إلى السجن، وهناك بعد الإفراج عنه، درس فيها وشاهد ميناءها يتفحم، ثم رأى دماء الجزائريين على الحيطان عقب انقلاب 1965، فهجرها عائداً إلى الجنوب، ثم بلدته البعيدة المسماة (قمار) ليشرع في حياة جديدة، حياة قاص وأديب.
لم تكن حياته كقاص سهلة، إزاء امتعاض مسؤوليه في قطاع التعليم، الذين ـ بحجة الغيرة ـ لم يعجبهم أن يروا زميلاً لهم ينجح في الكتابة، لكن بشير خلف واصل اشتغاله في القصة القصيرة، وبعد كل هذه العقود يجد نفسه شبه معزول، في بلدته الجنوبية، يسعي بجهده الخاصة إلى تنشيط الحياة الثقافية في الصحراء، في جزائر تعودت على التنكر لمبدعيها.
من السجن إلى الأدب: سيرة كاتب في السلم والحرب | القدس العربي
بات من النادر أن نُصادف، في السنوات الأخيرة، سيراً ذاتية في الجزائر، وما صدر منها على قلته ينحو إلى تلميع صورة صاحبها، إلى إضفاء مساحيق على تاريخه الشخصي، إظهار محاسنه لا مساوئه، لذلك فإن سيرة «حياتي في دائرة الضوء» (2021) للكاتب بشير خلف تأتي في وقت مهم، كي تكسر قاعدة السير البطولية، المثخنة...