هل المحاكمات بوسعها أن تتفادى القصص؟ إنها تتجلى كثيرا كحكايات كُتبت في سجلات المحاكم وأضابيرها، أبطالها هم الجناة والمجني عليهم وممثلو الدفاع والقضاة الجالسون على المنصات ليضعوا سطر النهاية، ومكانها معروف ومحدد ومتوارث ومتكرر، وزمانها هو كل العقود والقرون التي عرف فيها البشر مؤسسات العدالة الحديثة بمبانيها ومعانيها ومراميها؟!
إن مجموع هذه القصص يحمل في باطنه وظاهره معا مسار العدالة ومصيرها في بلد ما، ويرسخ معالم الخبرة القانونية التي تصقل فهم اللاحقين مما تركه السابقون في الأقوال والأفعال، من حيل المحامين وحججهم، وبصائر القضاة وتقديرهم، وألاعيب الجناة ومكرهم، ونزاهة الشهود وتزويرهم.
هذه الأطراف الأربعة المتنازعون والمدافعون والذين ينفون التهم أو يثبتونها ومن يقضون بينهم - تتكرر في القصص كأركان ثابتة؛ حيث لا تخلو منها تقريبا أي حكاية في قضية، لكن الحكايات مختلفة بين الأمكنة والأزمنة والثقافات والجهات والطبقات والبيئات الاجتماعية عموما.
وتخرج هذه القصص على الألسنة من أروقة المحاكم ومكاتب المحامين إلى ساحة المجتمع الرحيبة، فتتردد على ألسنة كل المشتبكين مع العدالة في علاقة ما، وترسم خط العدل في المجتمع، بين راضين عنه، وساخطين عليه، ومتشككين فيه. وهذه الحالات النفسية والعقلية الثلاثة قد لا يمكن البرهنة عليها عند أصحابها إن تجنبوا الحكايات تماما.
إن الناس يسعون إلى المحاكم مقبلين أو مترددين، وفي رؤوسهم نصف الحكاية التي صنعتها القضية التي يهتمون بها، ثم يجلسون في قاعات ناظرين إلى المنصة بقضاتها، والصف الأول بمحاميه، والقفص بالمتهمين، منتظرين أن يضيفوا إلى الحكاية نقلة جديدة، قد يكون استرجاعا أو استباقا في مجريات المحاكمة، وقد لا يعدو أن يكون توسعة وإفاضة في التفاصيل، انتظارا لجلسة أخرى، يحدث فيها تقدم إلى الأمام، وأحيانا تظهر حقائق تعيدها إلى الخلف.
ورغم أن القضية إن كانت واحدة في أوراق المحكمة فإنها تدور في أذهان هؤلاء الساعين بطرق متعددة، فكل منهم يمثل "المتلقي" أو "القارئ" الذي يستقبل سير القضية بفهمه ومصلحته وطريقته في التقييم، وما يتمناه لها من نهاية، والتي تتناقض بين الذين هم من أهل الجاني، والذين هم من أهل المجني عليه، أو تتفاوت بين الواقعين في المنتصف من الأقارب أو الجيران أو حتى أولئك الذين يهوون حضور المحاكمات من الجمهور العادي، وأوسعه أولئك الذين يتابعون أخبارها في الصحف لبعض القضايا، التي قد تتقدم ذيوعا لتصير محل اهتمام الرأي العام.
إن القصص لا تنتهي في كل صنوف المحاكمات والتقاضي، سواء كان يتعلق بالأحوال الشخصية أم القضايا المدنية والجنائية، وقد يلعب قانون الإجراءات هنا الدور الذي تمارسه الحيل الفنية التي يوظفها الأديب في سبيل صناعة المفاجأة والدهشة والثغرة التي يستخدمها في إحداث النقلة التي تسهم في تطوير الحكاية إلى الأمام، فضلا عن هذا فإن بعض المخالفات والجنح والجرائم يقوم المخططون لها ومنفذوها بصناعة سيناريوهات مسبقة، يتخذ فيها هؤلاء موضع المؤلفين، ويتركون نهايتها مفتوحة، دون أن يدروا، فحين ينكشف أمرهم، يأتي من يضيف إليها خلال المحاكمة، بينما هم يقفون أحيانا عاجزين عن المساهمة في هذه الإضافة، أو مندهشين حيالها.
ومما يعطي هذه القصص أحيانا جانبا من "الأدبية" أو الشروط الفنية للإبداع الأدبي، تلك البلاغة التي تنطق بها أحيانا أفواه الدفاع وأقلامهم، وكذلك ألسنة القضاة في تعليقاتهم وصياغتهم لحيثيات الأحكام، ومن المؤكد أن الطرفين يخرجان فيما بعد ليتحدثا، بطريقة مختلفة، في حياتهم الخاصة، مع ذويهم وأصدقائهم، وبعضهم قد يقوم بتسجيل وصياغة هذه الحكايات.
إن صورة العدالة في أي دولة لا تتجسد فقط في الدستور والقوانين ودقة ونزاهة الأحكام وتوافر شروط التشريع والتقاضي، إنما يصنعها أيضا إدراك الناس لها، وحديثهم عنها، الذي يأتي غالبا في شكل حكايات أو قصص.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: من الذي يكتب القصص التي تزخر بها المحاكم والنيابات العمومية؟ وبأي طريقة تُكتب؟ وما الحدود الفاصلة بين الواقعي والتخيلي فيها؟ وهل يمكن الاعتماد عليها مصدرا أصيلا في التأريخ للمحاكمات؟ أو علم الاجتماع الجنائي؟
ابتداء، فإن كثيرا من الأدباء جاءوا من بين وكلاء النائب العام والقضاة، بعضهم ترك هذه المهنة متفرغا للأدب مثل توفيق الحكيم.
وهناك من ظل يجمع بين المسارين، فكتب أدبا ليس بالضرورة له علاقة بمهنته مثل أشرف العشماوي.
وهناك فريق ثالث وجد نفسه أمام نهر من الحكايات المتنوعة المنحدرة من بيئات اجتماعية متباينة، بعضه يفوق خيال أي روائي أو قاصّ، فعمل على تسجيلها من واقع مشاركاته أو مشاهدته أو مطالعاته، مثل المستشار بهاء المري.
وما أنتجه الأخير من كتب تحوي حكايات وقصصا للجناة والشكاة والضحايا جعله يشق طريقا واضحا، يوسعه ويعبده على مهل، بتوالي إصداراته مثل "حكايات قضائية.. صور من حياة الأرياف" و"أغرب المحاكمات.. يوميات قاض" و"من المشرحة.. يوميات وكيل نيابة".
وهي كتب بينها من المتشابهات والمختلفات الكثير، متفاوتة في رحلة انتقالها من التأريخ والتسجيل بلغة لافتة إلى السبك والتخييل، الذي يعني أن المري قد تأمل ما خبره جيدا من قضايا، وأعاد صياغتها وتشكيلها وتلوينها ناقلا إياها من اللغة التقريرية المنضبطة الدلالة والإحالة التي يلتزم بها كاتبو المحاكم إلى اللغة المشحونة بالصور والمجازات.
كما أنه لم يقيد نفسه بما يكتبه قاضٍ من تقرير أو حيثية أو حكم يمضي فيه على خط يبدأ بنقطة معينة ويتقدم إلى الأمام، إنما راح يستبق، ويسترجع، أو ينطلق من منتصف الحكاية أو حتى من نهايتها، وينهيها بمفارقة مدبرة منه ككاتب يميل إلى إدهاش قارئه.
وفي كل كتاب منها، حرص المري على كتابة مقدمة أو تمهيد، وهي مسألة تعكس إدراكه أن ما يكتبه ليس قصصا بالمعنى الأدبي، إنما هو نوع من الحكايات الواقعية، حتى لو صيغ بلغة أدبية، أو اتبع بعض طرائق وشروط فن القصة القصيرة.
فالكاتب هنا لم يفارق عالمه الحكائي الحيز الذي يمضي فيه عمله منذ التحاقه بالنيابة وحتى صار قاضيا كبيرا، فعالمه المهني يمثل النقطة المركزية التي تبدأ منها وفيها الحكايات وتنتهي إليها، وإن ساحت في الجهات الأربعة، عابرة للمدن والقرى والميادين والشوارع والحارات والأزقة والبيوت.
في تقديم الكتاب الأول يصف صاحبه ما فيه بأنه: "قصص ومواقف لأناس طيبين بسطاء، وغيرهم شريرون ذوو دهاء، عشت بعضها خلال فترة من فترات عملي كوكيل للنائب العام في عدد من بقاع الريف في مصرنا الحبيبة، وعايشت أخرى خلال ما نظرته من قضايا أثناء عملي كقاضٍ، وغيرها مما قرأت في تراثنا القضائي الغني بالأحداث والمواقف ذات المعاني والمغازي".
هنا يحدد الكاتب مصادر حكاياته، ثم يبين فيما بُعد دوافع كتابتها وهو "كشف بعض مستور النفس البشرية، وشيء من غرابتها ودقة أسرارها"، ليجعل من بغيته تلك حدا فاصلا بين القصة القصيرة بشروطها الفنية المتعارف عليها، والحكاية الأمثولة أو التي تنطوي على حكمة أو يراد منها استخلاص عبرة وعظة، وهي من المسائل التي تشغل القاضي وهو يفكر في القضايا المعروضة عليه، والأحكام التي يصدرها، والتي يريد في جانب منها أن يعطي مثلا للمتابعين والسامعين، وأقلهم من يحضرون المحاكمة في القاعة، وليس فقط إنزال العقاب على رؤوس الجناة، بل إن بعض هذه الأحكام، وفي قضايا معينة، ترتقي لتصير مصدرا قانونيا فيما بعد، أو دليلا إرشاديا لقضاة آخرين.
يحوي الكتاب حكايات لجرائم فيصفها كاملة، وأخرى مقتطعة من مرافعات ذائعة الصيت، بما فيها مواقف طريفة، وثالثة سجلتها محاضر الشرطة التي اطلعت عليها النيابة، ورابعة تبين نوعا من الجرائم التي كانت غريبة أو موجعة فأثرت في القاضي الكاتب فدون فكرتها، وعاد ليكتبها تفصيلا في صيغة أدبية فيما بعد، أو أنه التقطها طازجة وكتبها في أيام تلقيها أو لقائها، وأعطى كل حكاية منها، أيا كان نوعها، عنوانا أدبيا مثل: "وما زال الجرجاوي حيا" و"ضحكة مدمرة" و"فلاح نابه" و"عطيفي وضيفي" و"جثة لإثبات ملكية" و"الدمع الحزين" و"حلم ومشنقة" و"الشرطة متهمة"... إلخ.
بعض هذه الحكايات بدأ سرديا، أقرب إلى قصة، وبعضها انطلق تقريريا، فبان أقرب إلى مقال أو تدوين حيثيات حكم أو مرافعة وكيل النائب العام. ومن هنا صار الكاتب متنقلا بين قاض متأدب، أي رجل قانون يصيغ قضاياه بصورة أدبية، وفي أخرى بدا أديبا يتخذ من هذه القضايا مادة طيعة لعالمه السردي البسيط.
فها هي حكاية تبدأ قائلة: "الغرفة مغلقة بمفتاح، ويقف على بابها أحد الرجال ليمنع الناس من الدخول حتى تأتي الشرطة"، وهي بداية تنطوي على نوع من تشويق يصنعه الاستباق، لتوفر بهذا أحد أساليب فن القصة القصيرة. وعلى غرارها، بل أزيد منها، جاءت حكاية "فلاح نابه"، التي دخلت في السرد مباشرة، إذ بدأت: "سمعت صوت جلبة وحوار ارتفعت حدة نبرته خارج مكتبي معه الحارس عم عبد الحميد. ضغط زر الجرس، ليدخل. قال:
ـ رجل يريد الدخول ولم يذكر السبب.
ـ وهل كلفناك بمعرفة السبب؟ قلتها في داخلي، وجعلته يدعوه للدخول.
ونحن هنا لسنا أمام سرد فحسب، بل أيضا حوار بين شخصين عن ثالث، يدور في مكان معين، ويمثل مستهل حكاية أو قصة، حافظت على سمتها هذا حتى السطر الأخير، إذ استمر الحوار، وانتهت بمفارقة أو على الأقل بشيء مدهش، حيث اعترف القاضي بأنه ربما لو كان مكان الفلاح ما كان سيتوصل إلى الفكرة التي جاءت إلى رأس الفلاح.
وفي هذا الصنف، بدأت حكاية بالتشويق صانعة جاذبية ما، ابتداء من العنوان الذي انطوى على مفارقة وهو "ضحكة مدمرة"، وانتهاء بالعبارة الأولى التي قالت: "أحسست أن عقلي توقف عن الاستيعاب، أن ذهني لم يعد قادرا على فصل الخيوط عن بعضها، أن عينيَّ ترى السطر الواحد من أوراق تلك القضية سطرين أو ثلاثة على هيئة تموجات تروح وتجيء".
وهناك أخرى تبدأ بالقول: "كان مكرم عبيد باشا من نجوم المحاماة في مصر، ومن مشاهير عصره، ومما ذاع في مرافعاته بين العامة حكاية اتلهي، وصحتها لغة اتله، من تلي.. تليت.. اتل". والحكاية التي قبلها بدأت قائلة: "على الرغم من مشاغله السياسية، كان مكرم عبيد باشا يتردد على مدينة قنا مسقط رأسه، للمرافعة في محاكم الجنايات أو الجنح الهامة". وهنا اختلط الإخبار بسرد خجول وتقريرية واضحة، ما يعني الاقتراب من المقال، والابتعاد عن القصة.
ويوجد صنف ثالث من الحكايات بدأت بما لا علاقة له بسرد أو إخبار مثل ما ورد تحت عنوان "الدفاع للدفاع"، حيث جاءت البداية قائلة: "لا تتقدم الأمم ولا تقوم قواعد الملك إلا بالعدل، والعدل فيض من القضاء، ومن المحامين، وبهما معا تتحقق العدالة، أو هما وجهان لعملة واحدة يتداولها أصحاب الحقوق". وعلى منوالها أتت المعنونة بـ"ملك أكثر من الملك"، حيث انطلقت: "يقولون ملك أكثر من الملك، وهي جملة سياسية شاع استخدامها في عصر الملكيات في أوروبا".
ويأتي الكتاب الثاني "أغرب القضايا" ليقرب صاحبه أكثر من عوالم الأدب، موزعا مادته بين ما يقارب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وبعضه يرقى ليكون كذلك، رغم أن الكاتب لم يقصد على وجه التعيين والتحديد أن يكون ما ألفه هنا هو من قبيل هذا النوع الأدبي، وإلا ما أطلق عليه في عنوان فرعي اسم "يوميات قاضٍ".
في الحقيقة، لسنا أمام يوميات، فلا كل قضية تناولها استغرقت يوما واحدا، ولا هو عرج على طرف من حياته الخاصة، وربما أطلق عليها هذا الاسم أو الوصف لأنها، وعلى خلاف الكثير مما ورد في الكتاب السابق، تتعلق به، أو هو كان القاضي الذي فصل فيها، وهو ما يوضحه في مقدمة الكتاب قائلا عنها: "أحداث ووقائع عاشها قاضٍ.. حكايات من الواقع لم يخامرها خيال، أتت بحلوها ومرها وشخوصها لتستقر أمامه على المنصة، ضمن آلاف أوراق متكدسة من قضايا متنوعة، نظرها حينا بعين إنسان يرقب إنسانا من خلال أحداث جسام، وضعته لسبب أو لآخر، بين براثن الاتهام، وحينا آخر بعين قاضٍ يطبق القانون بحرفية بالغة، ثم بعين الرحمة وإعمال العقل والمنطق في أحيان أخرى، ودائما بعين القانون الزاجر متى كان المجرم عاتيا في إجرامه".
لم يسْعَ الكاتب من هذا إلى أن يزيد كتب القصص مجموعة، إنما دفعه انفعاله بما خبره، وإدراكه ما ينطوي عليه من معنى، إلى أن ينبه الغير أو الآخر، الذي لم يكن واقعا في قلب هذه القضايا. وقد جاء الإهداء كاشفا لهذا الدافع، حيث يقول:
"إلى من تسول له نفسه اتباع الشر، لعله يتفكر كثيرا قبل أن يطأه بأقدام الرعونة"، لكنه توسل بالسرد لإيصال هذا المعنى، غير عابئ بتصنيف ما كتب، وإن كان هو في حقيقته ينحو إلى القص، أو ينزع إليه نزوعا جليا، يخرجه كثيرا في هذا الكتاب من سمت القاضي الذي عليه أن ينتقي ألفاظه بعناية كي تكون تعبيرا لا لبس فيه عن الوضع القانوني أو الواقع أو الحقيقة وكذلك الموضوعية إلى الأديب المائل إلى المجاز، والدائر في فضائه، غير معني بسوى التقاط الحكاية من دفاتر مثقلة بأوراق التحقيق ومذكرات الدفاع، ووضعها في قالب فني إلى حد ما.
ومما ساعد الكاتب القاضي هنا على أداء مهمته أنه اختار الغريب والشاذ واللافت والمفجع من سيل الحكايات التي تدفقت عليه في صيغة قضايا فصل فيها، فتوافرت له مفارقات وصور، وتهادت أمامه مصائر بشر، واكتملت سرديات واقعية، صنعها أبطال من لحم ودم، يشتبكون مع مرفق العدالة أو يشتبك معهم، فيؤثر فيهم بقوانينه وممثليه، ويرسمون جزءا من تاريخه بما اقترفوه من خروج على القانون، أو بما لحق بهم من اتهام، قد يكونون منه أبرياء تماما.
في هذا الكتاب شفَّت العبارة وخفت، متخلصة من الشروط والتقاليد والاعتياد الذي يصوغ فيه قاض ما يكتبه، فحضرت المجازات على اختلاف ألوانها، وتركت فراغات لتصير الحكايات أدبا وليست تقارير عن حوادث، ووجدنا راويا عليما، وبدا الكاتب معنيا أكثر بجذب القارئ أو إثارة استغرابه، ولم يتحرج في وصف فجاجة الواقع وقبحه، وبانت المسافة بين موقفه كحكم بين المتخاصمين وهو جالس على منصة القضاء، عليه أن يتحرى النزاهة ويطرد من نفسه الانحياز، وبين انفعاله وانشغاله بحكايات إنسانية، حتى لو كانت مقززة أو حتى بشعة، فإن صانعيها هم أناس عاشوا بيننا، وبعضهم كانوا ضحايا لمجتمع يعاني من عوار شديد. هنا تظهر ذائقة الكاتب ونفسيته متغلبة على موقفه كقاض، طالما أنه بعيد عن المنصة، وتخفف من القيود التي يفرضها عليه منصبه وموقعه بعد أن تقادم الزمن بهذه الحكايات المثيرة، وصار بوسعه أن يشير إلى أبطالها من دون أسماء أو بأول حروفها، موقنا أن الأيام التي حملت في جوفها مزيدا من الجرائم قد أنست الناس قديمها.
هنا ينتصر الكاتب حين يجلس أمام نص مختلف على القاضي المحكوم بتقاليد ونصوص والخاضع للتفتيش القضائي، والذي لا يعنيه أن يقيس مشاعره، إنما مدى التزامه بالقانون، وحفاظه على مظهر القاضي ودوره وصورته التي تعارف عليها الناس. فالكاتب يدرك أن القيمة الأساسية التي تقوده ليست العدالة، حتى لو كان عليه أن ينتصر لها بطريقة غير مباشرة، ولا القانون بنصوصه التي تعكس مصلحة الطبقة المهيمنة، إنما الحرية التي هي شرط أساسي للإبداع.
إن هذه اليوميات التي هي بالأحرى حكايات متقطعة تضرب مثلا ناصعا على أن الأدب له قدرة ونفاذية قوية بوسعها أن تتغلب على قيود أي وظيفة، وأن من يبذل جهدا في كبتها، أكثر مما يفعل في سبيل تنميتها، فإنه يخسر خسرانا مبينا، إذ إن بمكنتها الانفلات، فإن كان صاحبها ممعنا وبارعا في التعمية والكبت، فإنها تصيبه باعتلال نفسي من دون شك.
لكن المسألة قد لا تعود إلى اختيار شخصي، فالحكايات الغريبة تضغط على أعصاب أي إنسان، وقد يثرثر بها من حضروا المحاكمات، أو قرأوا عن بعض تفاصيلها في الصحف، لكن أيا منهم قد لا يعنيه أن يعيد صياغتها كتابة، حتى لو فعل هذا شفاهة، بطرق مختلفة، كلما استعاد الحكاية أمام سامعيه، بما في ذلك الجناة بالطبع، الذين بوسعهم أن يسردوا حكاياتهم على مسامع رفاقهم في السجون، أو أولئك الذين يكون لديهم استعداد لسماعها بعد أن يقضوا مدة عقوبتهم، ويذهبوا بعيدا عن السجن، ويلتقوا بأولئك الذين قد يتذكرونهم أو يقبلون إقامة علاقة معهم.
لكن القاضي قد يكون أغنى أولئك الذين ليس بوسعهم جمع نثار هذه الحكايات المتتابعة، ممن يرومون عبرة أو عظة أو حتى تسجيل وتحليل جانب من المسار الاجتماعي في زمن ما، يبدو هنا جارحا إلى حد كبير.
فنحن أمام جرائم قتل يرتكبها زناة حتى في محارمهم، وبغاة وجناة قتلوا وسرقوا ونصبوا واحتالوا وتاجروا في المخدرات وشهدوا زورا، وخونة وفاقدو نخوة وديوثون وداعرون وشواذ جنسيا ومتبادلو زوجات، ومتحايلون ومخادعون بلا أخلاق أو كرامة من أجل المال أو العيال، وواقعون في تدين مغشوش، ومضطرون للانحراف في سبيل توفير ما يسد رمقهم، ومتجبرون يتصرفون كأنهم في غابة، ومدفوعون إلى الجنون تحت ضغط الحياة القاسية.
ومن يطالع هذا الكتاب صغير الحجم كبير الفائدة، يعتقد أننا نعيش في مجتمع متهالك وآيل للسقوط، إذ إنها في النهاية هي تلك التي مرت أمام قاضٍ واحد، ومن دون شك أن مثلها قد مر أمام قضاة آخرين في طول البلاد وعرضها، لكنهم لم يدونوها، تاركين إياها في سجلات المحاكم، ماثلة أمام أي روائي أو قاصّ يبحث عن موضوع كتابة، أو باحث اجتماعي أو قانوني.
لكن من يقفز إلى هذا الاستنتاج ينسى ثلاثة أمور أساسية هنا:
أولها أن الكتاب يحوي حكايات وقعت على فترات متباعدة، حتى لو كانت قد كتبت في زمن وجيز.
وثانيها أنه لا يوجد مجتمع بلا جريمة، بما فيها الغريب والشاذ منها.
وثالثها أنه في مقابل هؤلاء المتورطين في الجرائم هناك أضعافُ أضعافٍ ممن لم يسقطوا. ومع هذا، فإن وجود مثل هذه الجرائم في مجتمعنا يدل على أن هناك خللا ما، نتيجة الفقر والجهل وغياب التربية الأخلاقية.
أما الكتاب الثالث، فوصفه المؤلف بأنه "يوميات وكيل نيابة"، وهو في نظره حصيلة انفعاله بكثير من المواقف التي هزته خلال عمله وكيلا للنائب العام في بقاع عدة من مصر، وهنا يقول: "كنت ألتقي بالمجرم والجريمة ليل نهار، وكان البحث عن الحقيقة وتقصي الدليل، يغوص بي في أغوار النفس وأحوال البشر، فرأيت من عجائبها ما لم أتخيله، وقابلت من غرائبها ما لم أتوقعه، فتأملت، وتألمت، وتعمقت ووعيت وسخرت وضحكت، ومن جماع هذا وذاك اهتزت مشاعري، واستقرت في نفسي معان كثيرة، أبى القلم إلا أن يسجلها".
هكذا يقر الكاتب منذ البداية أننا أمام عمل تسجيلي، يغلب الواقع فيه الخيال، بل يأتي عليه تماما، لحساب "الحقيقة" التي تم تقصيها، وبذل ما وسع من الجهد في سبيل الوصول إليها عبر مسار قانوني، وخبرة في التحقيق، الأمر الذي استدعى منه أن يحيل إلى مواد قانونية وإجراءات، ويسهب في شر الدلائل والبراهين، بما يجعله أحيانا أقرب إلى من ينقل تجربته إلى غيره من وكلاء النيابة ليستفيد منها. وكل هذا يتخلل الحكاية، التي تقترب من تقارير نيابة مصوغة بأسلوب جيد، منها إلى القصة القصيرة بشكلها الفني، وهي مسألة لا تنقص منها بالطبع، لأن المؤلف قصد هذا.
وهذا القصد ليس استنتاجا جزافيا إنما أحيل فيه إلى ما كتبه المؤلف نفسه من قصص ظهرت في مجموعتيه "لحظة انهيار" و"برجولا"، اللتين يدور عالمهما في أشياء أخرى غير التي تناولتها كتبه الثلاثة السابقة. فهنا تظهر مهارة الكاتب في القص، ويبان لمن يقارن بين الحالتين أنه يمتلك الأدوات الفنية للقصة القصيرة، والتي توسل ببعضها أحيانا في سرد حكاياته القضائية، سواء وقفت على باب القصة مثل الكتاب الثاني، أو ابتعدت كثيرا وصارت أشبه بحيثيات وديباجات مثل الكتاب الثالث، أو وقفت في منطقة وسطى مثل الكتاب الأول.
وفي الكتب الثلاثة، حرص المؤلف على عدم ذكر الأسماء، والاستعاضة عنها بالضمائر، وقد خلق هذا ارتباكا أحيانا في السرد، لكنه كان أمرا لا يمكن لقاضٍ أن يتجنبه، فهو لو ذكر الأسماء الحقيقية، لوقع في مشكلة أخلاقية، وهي فضح المتقاضين أمامه، وإن استبدل بها أسماء مستعارة، فهو يفقد الحكايات واقعيتها، لكن هذه السمة أيضا غلبت حتى على قصص مجموعتيه؛ ما يجعلنا نعزو هذا الحرص إلى سيطرة ذهنية القاضي على الكاتب، حتى وهو في رحاب لون من الأدب يحتاج بالطبع إلى قدر أكبر من التحرر.
www.masrawy.com
إن مجموع هذه القصص يحمل في باطنه وظاهره معا مسار العدالة ومصيرها في بلد ما، ويرسخ معالم الخبرة القانونية التي تصقل فهم اللاحقين مما تركه السابقون في الأقوال والأفعال، من حيل المحامين وحججهم، وبصائر القضاة وتقديرهم، وألاعيب الجناة ومكرهم، ونزاهة الشهود وتزويرهم.
هذه الأطراف الأربعة المتنازعون والمدافعون والذين ينفون التهم أو يثبتونها ومن يقضون بينهم - تتكرر في القصص كأركان ثابتة؛ حيث لا تخلو منها تقريبا أي حكاية في قضية، لكن الحكايات مختلفة بين الأمكنة والأزمنة والثقافات والجهات والطبقات والبيئات الاجتماعية عموما.
وتخرج هذه القصص على الألسنة من أروقة المحاكم ومكاتب المحامين إلى ساحة المجتمع الرحيبة، فتتردد على ألسنة كل المشتبكين مع العدالة في علاقة ما، وترسم خط العدل في المجتمع، بين راضين عنه، وساخطين عليه، ومتشككين فيه. وهذه الحالات النفسية والعقلية الثلاثة قد لا يمكن البرهنة عليها عند أصحابها إن تجنبوا الحكايات تماما.
إن الناس يسعون إلى المحاكم مقبلين أو مترددين، وفي رؤوسهم نصف الحكاية التي صنعتها القضية التي يهتمون بها، ثم يجلسون في قاعات ناظرين إلى المنصة بقضاتها، والصف الأول بمحاميه، والقفص بالمتهمين، منتظرين أن يضيفوا إلى الحكاية نقلة جديدة، قد يكون استرجاعا أو استباقا في مجريات المحاكمة، وقد لا يعدو أن يكون توسعة وإفاضة في التفاصيل، انتظارا لجلسة أخرى، يحدث فيها تقدم إلى الأمام، وأحيانا تظهر حقائق تعيدها إلى الخلف.
ورغم أن القضية إن كانت واحدة في أوراق المحكمة فإنها تدور في أذهان هؤلاء الساعين بطرق متعددة، فكل منهم يمثل "المتلقي" أو "القارئ" الذي يستقبل سير القضية بفهمه ومصلحته وطريقته في التقييم، وما يتمناه لها من نهاية، والتي تتناقض بين الذين هم من أهل الجاني، والذين هم من أهل المجني عليه، أو تتفاوت بين الواقعين في المنتصف من الأقارب أو الجيران أو حتى أولئك الذين يهوون حضور المحاكمات من الجمهور العادي، وأوسعه أولئك الذين يتابعون أخبارها في الصحف لبعض القضايا، التي قد تتقدم ذيوعا لتصير محل اهتمام الرأي العام.
إن القصص لا تنتهي في كل صنوف المحاكمات والتقاضي، سواء كان يتعلق بالأحوال الشخصية أم القضايا المدنية والجنائية، وقد يلعب قانون الإجراءات هنا الدور الذي تمارسه الحيل الفنية التي يوظفها الأديب في سبيل صناعة المفاجأة والدهشة والثغرة التي يستخدمها في إحداث النقلة التي تسهم في تطوير الحكاية إلى الأمام، فضلا عن هذا فإن بعض المخالفات والجنح والجرائم يقوم المخططون لها ومنفذوها بصناعة سيناريوهات مسبقة، يتخذ فيها هؤلاء موضع المؤلفين، ويتركون نهايتها مفتوحة، دون أن يدروا، فحين ينكشف أمرهم، يأتي من يضيف إليها خلال المحاكمة، بينما هم يقفون أحيانا عاجزين عن المساهمة في هذه الإضافة، أو مندهشين حيالها.
ومما يعطي هذه القصص أحيانا جانبا من "الأدبية" أو الشروط الفنية للإبداع الأدبي، تلك البلاغة التي تنطق بها أحيانا أفواه الدفاع وأقلامهم، وكذلك ألسنة القضاة في تعليقاتهم وصياغتهم لحيثيات الأحكام، ومن المؤكد أن الطرفين يخرجان فيما بعد ليتحدثا، بطريقة مختلفة، في حياتهم الخاصة، مع ذويهم وأصدقائهم، وبعضهم قد يقوم بتسجيل وصياغة هذه الحكايات.
إن صورة العدالة في أي دولة لا تتجسد فقط في الدستور والقوانين ودقة ونزاهة الأحكام وتوافر شروط التشريع والتقاضي، إنما يصنعها أيضا إدراك الناس لها، وحديثهم عنها، الذي يأتي غالبا في شكل حكايات أو قصص.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا: من الذي يكتب القصص التي تزخر بها المحاكم والنيابات العمومية؟ وبأي طريقة تُكتب؟ وما الحدود الفاصلة بين الواقعي والتخيلي فيها؟ وهل يمكن الاعتماد عليها مصدرا أصيلا في التأريخ للمحاكمات؟ أو علم الاجتماع الجنائي؟
ابتداء، فإن كثيرا من الأدباء جاءوا من بين وكلاء النائب العام والقضاة، بعضهم ترك هذه المهنة متفرغا للأدب مثل توفيق الحكيم.
وهناك من ظل يجمع بين المسارين، فكتب أدبا ليس بالضرورة له علاقة بمهنته مثل أشرف العشماوي.
وهناك فريق ثالث وجد نفسه أمام نهر من الحكايات المتنوعة المنحدرة من بيئات اجتماعية متباينة، بعضه يفوق خيال أي روائي أو قاصّ، فعمل على تسجيلها من واقع مشاركاته أو مشاهدته أو مطالعاته، مثل المستشار بهاء المري.
وما أنتجه الأخير من كتب تحوي حكايات وقصصا للجناة والشكاة والضحايا جعله يشق طريقا واضحا، يوسعه ويعبده على مهل، بتوالي إصداراته مثل "حكايات قضائية.. صور من حياة الأرياف" و"أغرب المحاكمات.. يوميات قاض" و"من المشرحة.. يوميات وكيل نيابة".
وهي كتب بينها من المتشابهات والمختلفات الكثير، متفاوتة في رحلة انتقالها من التأريخ والتسجيل بلغة لافتة إلى السبك والتخييل، الذي يعني أن المري قد تأمل ما خبره جيدا من قضايا، وأعاد صياغتها وتشكيلها وتلوينها ناقلا إياها من اللغة التقريرية المنضبطة الدلالة والإحالة التي يلتزم بها كاتبو المحاكم إلى اللغة المشحونة بالصور والمجازات.
كما أنه لم يقيد نفسه بما يكتبه قاضٍ من تقرير أو حيثية أو حكم يمضي فيه على خط يبدأ بنقطة معينة ويتقدم إلى الأمام، إنما راح يستبق، ويسترجع، أو ينطلق من منتصف الحكاية أو حتى من نهايتها، وينهيها بمفارقة مدبرة منه ككاتب يميل إلى إدهاش قارئه.
وفي كل كتاب منها، حرص المري على كتابة مقدمة أو تمهيد، وهي مسألة تعكس إدراكه أن ما يكتبه ليس قصصا بالمعنى الأدبي، إنما هو نوع من الحكايات الواقعية، حتى لو صيغ بلغة أدبية، أو اتبع بعض طرائق وشروط فن القصة القصيرة.
فالكاتب هنا لم يفارق عالمه الحكائي الحيز الذي يمضي فيه عمله منذ التحاقه بالنيابة وحتى صار قاضيا كبيرا، فعالمه المهني يمثل النقطة المركزية التي تبدأ منها وفيها الحكايات وتنتهي إليها، وإن ساحت في الجهات الأربعة، عابرة للمدن والقرى والميادين والشوارع والحارات والأزقة والبيوت.
في تقديم الكتاب الأول يصف صاحبه ما فيه بأنه: "قصص ومواقف لأناس طيبين بسطاء، وغيرهم شريرون ذوو دهاء، عشت بعضها خلال فترة من فترات عملي كوكيل للنائب العام في عدد من بقاع الريف في مصرنا الحبيبة، وعايشت أخرى خلال ما نظرته من قضايا أثناء عملي كقاضٍ، وغيرها مما قرأت في تراثنا القضائي الغني بالأحداث والمواقف ذات المعاني والمغازي".
هنا يحدد الكاتب مصادر حكاياته، ثم يبين فيما بُعد دوافع كتابتها وهو "كشف بعض مستور النفس البشرية، وشيء من غرابتها ودقة أسرارها"، ليجعل من بغيته تلك حدا فاصلا بين القصة القصيرة بشروطها الفنية المتعارف عليها، والحكاية الأمثولة أو التي تنطوي على حكمة أو يراد منها استخلاص عبرة وعظة، وهي من المسائل التي تشغل القاضي وهو يفكر في القضايا المعروضة عليه، والأحكام التي يصدرها، والتي يريد في جانب منها أن يعطي مثلا للمتابعين والسامعين، وأقلهم من يحضرون المحاكمة في القاعة، وليس فقط إنزال العقاب على رؤوس الجناة، بل إن بعض هذه الأحكام، وفي قضايا معينة، ترتقي لتصير مصدرا قانونيا فيما بعد، أو دليلا إرشاديا لقضاة آخرين.
يحوي الكتاب حكايات لجرائم فيصفها كاملة، وأخرى مقتطعة من مرافعات ذائعة الصيت، بما فيها مواقف طريفة، وثالثة سجلتها محاضر الشرطة التي اطلعت عليها النيابة، ورابعة تبين نوعا من الجرائم التي كانت غريبة أو موجعة فأثرت في القاضي الكاتب فدون فكرتها، وعاد ليكتبها تفصيلا في صيغة أدبية فيما بعد، أو أنه التقطها طازجة وكتبها في أيام تلقيها أو لقائها، وأعطى كل حكاية منها، أيا كان نوعها، عنوانا أدبيا مثل: "وما زال الجرجاوي حيا" و"ضحكة مدمرة" و"فلاح نابه" و"عطيفي وضيفي" و"جثة لإثبات ملكية" و"الدمع الحزين" و"حلم ومشنقة" و"الشرطة متهمة"... إلخ.
بعض هذه الحكايات بدأ سرديا، أقرب إلى قصة، وبعضها انطلق تقريريا، فبان أقرب إلى مقال أو تدوين حيثيات حكم أو مرافعة وكيل النائب العام. ومن هنا صار الكاتب متنقلا بين قاض متأدب، أي رجل قانون يصيغ قضاياه بصورة أدبية، وفي أخرى بدا أديبا يتخذ من هذه القضايا مادة طيعة لعالمه السردي البسيط.
فها هي حكاية تبدأ قائلة: "الغرفة مغلقة بمفتاح، ويقف على بابها أحد الرجال ليمنع الناس من الدخول حتى تأتي الشرطة"، وهي بداية تنطوي على نوع من تشويق يصنعه الاستباق، لتوفر بهذا أحد أساليب فن القصة القصيرة. وعلى غرارها، بل أزيد منها، جاءت حكاية "فلاح نابه"، التي دخلت في السرد مباشرة، إذ بدأت: "سمعت صوت جلبة وحوار ارتفعت حدة نبرته خارج مكتبي معه الحارس عم عبد الحميد. ضغط زر الجرس، ليدخل. قال:
ـ رجل يريد الدخول ولم يذكر السبب.
ـ وهل كلفناك بمعرفة السبب؟ قلتها في داخلي، وجعلته يدعوه للدخول.
ونحن هنا لسنا أمام سرد فحسب، بل أيضا حوار بين شخصين عن ثالث، يدور في مكان معين، ويمثل مستهل حكاية أو قصة، حافظت على سمتها هذا حتى السطر الأخير، إذ استمر الحوار، وانتهت بمفارقة أو على الأقل بشيء مدهش، حيث اعترف القاضي بأنه ربما لو كان مكان الفلاح ما كان سيتوصل إلى الفكرة التي جاءت إلى رأس الفلاح.
وفي هذا الصنف، بدأت حكاية بالتشويق صانعة جاذبية ما، ابتداء من العنوان الذي انطوى على مفارقة وهو "ضحكة مدمرة"، وانتهاء بالعبارة الأولى التي قالت: "أحسست أن عقلي توقف عن الاستيعاب، أن ذهني لم يعد قادرا على فصل الخيوط عن بعضها، أن عينيَّ ترى السطر الواحد من أوراق تلك القضية سطرين أو ثلاثة على هيئة تموجات تروح وتجيء".
وهناك أخرى تبدأ بالقول: "كان مكرم عبيد باشا من نجوم المحاماة في مصر، ومن مشاهير عصره، ومما ذاع في مرافعاته بين العامة حكاية اتلهي، وصحتها لغة اتله، من تلي.. تليت.. اتل". والحكاية التي قبلها بدأت قائلة: "على الرغم من مشاغله السياسية، كان مكرم عبيد باشا يتردد على مدينة قنا مسقط رأسه، للمرافعة في محاكم الجنايات أو الجنح الهامة". وهنا اختلط الإخبار بسرد خجول وتقريرية واضحة، ما يعني الاقتراب من المقال، والابتعاد عن القصة.
ويوجد صنف ثالث من الحكايات بدأت بما لا علاقة له بسرد أو إخبار مثل ما ورد تحت عنوان "الدفاع للدفاع"، حيث جاءت البداية قائلة: "لا تتقدم الأمم ولا تقوم قواعد الملك إلا بالعدل، والعدل فيض من القضاء، ومن المحامين، وبهما معا تتحقق العدالة، أو هما وجهان لعملة واحدة يتداولها أصحاب الحقوق". وعلى منوالها أتت المعنونة بـ"ملك أكثر من الملك"، حيث انطلقت: "يقولون ملك أكثر من الملك، وهي جملة سياسية شاع استخدامها في عصر الملكيات في أوروبا".
ويأتي الكتاب الثاني "أغرب القضايا" ليقرب صاحبه أكثر من عوالم الأدب، موزعا مادته بين ما يقارب القصة القصيرة والقصة القصيرة جدا، وبعضه يرقى ليكون كذلك، رغم أن الكاتب لم يقصد على وجه التعيين والتحديد أن يكون ما ألفه هنا هو من قبيل هذا النوع الأدبي، وإلا ما أطلق عليه في عنوان فرعي اسم "يوميات قاضٍ".
في الحقيقة، لسنا أمام يوميات، فلا كل قضية تناولها استغرقت يوما واحدا، ولا هو عرج على طرف من حياته الخاصة، وربما أطلق عليها هذا الاسم أو الوصف لأنها، وعلى خلاف الكثير مما ورد في الكتاب السابق، تتعلق به، أو هو كان القاضي الذي فصل فيها، وهو ما يوضحه في مقدمة الكتاب قائلا عنها: "أحداث ووقائع عاشها قاضٍ.. حكايات من الواقع لم يخامرها خيال، أتت بحلوها ومرها وشخوصها لتستقر أمامه على المنصة، ضمن آلاف أوراق متكدسة من قضايا متنوعة، نظرها حينا بعين إنسان يرقب إنسانا من خلال أحداث جسام، وضعته لسبب أو لآخر، بين براثن الاتهام، وحينا آخر بعين قاضٍ يطبق القانون بحرفية بالغة، ثم بعين الرحمة وإعمال العقل والمنطق في أحيان أخرى، ودائما بعين القانون الزاجر متى كان المجرم عاتيا في إجرامه".
لم يسْعَ الكاتب من هذا إلى أن يزيد كتب القصص مجموعة، إنما دفعه انفعاله بما خبره، وإدراكه ما ينطوي عليه من معنى، إلى أن ينبه الغير أو الآخر، الذي لم يكن واقعا في قلب هذه القضايا. وقد جاء الإهداء كاشفا لهذا الدافع، حيث يقول:
"إلى من تسول له نفسه اتباع الشر، لعله يتفكر كثيرا قبل أن يطأه بأقدام الرعونة"، لكنه توسل بالسرد لإيصال هذا المعنى، غير عابئ بتصنيف ما كتب، وإن كان هو في حقيقته ينحو إلى القص، أو ينزع إليه نزوعا جليا، يخرجه كثيرا في هذا الكتاب من سمت القاضي الذي عليه أن ينتقي ألفاظه بعناية كي تكون تعبيرا لا لبس فيه عن الوضع القانوني أو الواقع أو الحقيقة وكذلك الموضوعية إلى الأديب المائل إلى المجاز، والدائر في فضائه، غير معني بسوى التقاط الحكاية من دفاتر مثقلة بأوراق التحقيق ومذكرات الدفاع، ووضعها في قالب فني إلى حد ما.
ومما ساعد الكاتب القاضي هنا على أداء مهمته أنه اختار الغريب والشاذ واللافت والمفجع من سيل الحكايات التي تدفقت عليه في صيغة قضايا فصل فيها، فتوافرت له مفارقات وصور، وتهادت أمامه مصائر بشر، واكتملت سرديات واقعية، صنعها أبطال من لحم ودم، يشتبكون مع مرفق العدالة أو يشتبك معهم، فيؤثر فيهم بقوانينه وممثليه، ويرسمون جزءا من تاريخه بما اقترفوه من خروج على القانون، أو بما لحق بهم من اتهام، قد يكونون منه أبرياء تماما.
في هذا الكتاب شفَّت العبارة وخفت، متخلصة من الشروط والتقاليد والاعتياد الذي يصوغ فيه قاض ما يكتبه، فحضرت المجازات على اختلاف ألوانها، وتركت فراغات لتصير الحكايات أدبا وليست تقارير عن حوادث، ووجدنا راويا عليما، وبدا الكاتب معنيا أكثر بجذب القارئ أو إثارة استغرابه، ولم يتحرج في وصف فجاجة الواقع وقبحه، وبانت المسافة بين موقفه كحكم بين المتخاصمين وهو جالس على منصة القضاء، عليه أن يتحرى النزاهة ويطرد من نفسه الانحياز، وبين انفعاله وانشغاله بحكايات إنسانية، حتى لو كانت مقززة أو حتى بشعة، فإن صانعيها هم أناس عاشوا بيننا، وبعضهم كانوا ضحايا لمجتمع يعاني من عوار شديد. هنا تظهر ذائقة الكاتب ونفسيته متغلبة على موقفه كقاض، طالما أنه بعيد عن المنصة، وتخفف من القيود التي يفرضها عليه منصبه وموقعه بعد أن تقادم الزمن بهذه الحكايات المثيرة، وصار بوسعه أن يشير إلى أبطالها من دون أسماء أو بأول حروفها، موقنا أن الأيام التي حملت في جوفها مزيدا من الجرائم قد أنست الناس قديمها.
هنا ينتصر الكاتب حين يجلس أمام نص مختلف على القاضي المحكوم بتقاليد ونصوص والخاضع للتفتيش القضائي، والذي لا يعنيه أن يقيس مشاعره، إنما مدى التزامه بالقانون، وحفاظه على مظهر القاضي ودوره وصورته التي تعارف عليها الناس. فالكاتب يدرك أن القيمة الأساسية التي تقوده ليست العدالة، حتى لو كان عليه أن ينتصر لها بطريقة غير مباشرة، ولا القانون بنصوصه التي تعكس مصلحة الطبقة المهيمنة، إنما الحرية التي هي شرط أساسي للإبداع.
إن هذه اليوميات التي هي بالأحرى حكايات متقطعة تضرب مثلا ناصعا على أن الأدب له قدرة ونفاذية قوية بوسعها أن تتغلب على قيود أي وظيفة، وأن من يبذل جهدا في كبتها، أكثر مما يفعل في سبيل تنميتها، فإنه يخسر خسرانا مبينا، إذ إن بمكنتها الانفلات، فإن كان صاحبها ممعنا وبارعا في التعمية والكبت، فإنها تصيبه باعتلال نفسي من دون شك.
لكن المسألة قد لا تعود إلى اختيار شخصي، فالحكايات الغريبة تضغط على أعصاب أي إنسان، وقد يثرثر بها من حضروا المحاكمات، أو قرأوا عن بعض تفاصيلها في الصحف، لكن أيا منهم قد لا يعنيه أن يعيد صياغتها كتابة، حتى لو فعل هذا شفاهة، بطرق مختلفة، كلما استعاد الحكاية أمام سامعيه، بما في ذلك الجناة بالطبع، الذين بوسعهم أن يسردوا حكاياتهم على مسامع رفاقهم في السجون، أو أولئك الذين يكون لديهم استعداد لسماعها بعد أن يقضوا مدة عقوبتهم، ويذهبوا بعيدا عن السجن، ويلتقوا بأولئك الذين قد يتذكرونهم أو يقبلون إقامة علاقة معهم.
لكن القاضي قد يكون أغنى أولئك الذين ليس بوسعهم جمع نثار هذه الحكايات المتتابعة، ممن يرومون عبرة أو عظة أو حتى تسجيل وتحليل جانب من المسار الاجتماعي في زمن ما، يبدو هنا جارحا إلى حد كبير.
فنحن أمام جرائم قتل يرتكبها زناة حتى في محارمهم، وبغاة وجناة قتلوا وسرقوا ونصبوا واحتالوا وتاجروا في المخدرات وشهدوا زورا، وخونة وفاقدو نخوة وديوثون وداعرون وشواذ جنسيا ومتبادلو زوجات، ومتحايلون ومخادعون بلا أخلاق أو كرامة من أجل المال أو العيال، وواقعون في تدين مغشوش، ومضطرون للانحراف في سبيل توفير ما يسد رمقهم، ومتجبرون يتصرفون كأنهم في غابة، ومدفوعون إلى الجنون تحت ضغط الحياة القاسية.
ومن يطالع هذا الكتاب صغير الحجم كبير الفائدة، يعتقد أننا نعيش في مجتمع متهالك وآيل للسقوط، إذ إنها في النهاية هي تلك التي مرت أمام قاضٍ واحد، ومن دون شك أن مثلها قد مر أمام قضاة آخرين في طول البلاد وعرضها، لكنهم لم يدونوها، تاركين إياها في سجلات المحاكم، ماثلة أمام أي روائي أو قاصّ يبحث عن موضوع كتابة، أو باحث اجتماعي أو قانوني.
لكن من يقفز إلى هذا الاستنتاج ينسى ثلاثة أمور أساسية هنا:
أولها أن الكتاب يحوي حكايات وقعت على فترات متباعدة، حتى لو كانت قد كتبت في زمن وجيز.
وثانيها أنه لا يوجد مجتمع بلا جريمة، بما فيها الغريب والشاذ منها.
وثالثها أنه في مقابل هؤلاء المتورطين في الجرائم هناك أضعافُ أضعافٍ ممن لم يسقطوا. ومع هذا، فإن وجود مثل هذه الجرائم في مجتمعنا يدل على أن هناك خللا ما، نتيجة الفقر والجهل وغياب التربية الأخلاقية.
أما الكتاب الثالث، فوصفه المؤلف بأنه "يوميات وكيل نيابة"، وهو في نظره حصيلة انفعاله بكثير من المواقف التي هزته خلال عمله وكيلا للنائب العام في بقاع عدة من مصر، وهنا يقول: "كنت ألتقي بالمجرم والجريمة ليل نهار، وكان البحث عن الحقيقة وتقصي الدليل، يغوص بي في أغوار النفس وأحوال البشر، فرأيت من عجائبها ما لم أتخيله، وقابلت من غرائبها ما لم أتوقعه، فتأملت، وتألمت، وتعمقت ووعيت وسخرت وضحكت، ومن جماع هذا وذاك اهتزت مشاعري، واستقرت في نفسي معان كثيرة، أبى القلم إلا أن يسجلها".
هكذا يقر الكاتب منذ البداية أننا أمام عمل تسجيلي، يغلب الواقع فيه الخيال، بل يأتي عليه تماما، لحساب "الحقيقة" التي تم تقصيها، وبذل ما وسع من الجهد في سبيل الوصول إليها عبر مسار قانوني، وخبرة في التحقيق، الأمر الذي استدعى منه أن يحيل إلى مواد قانونية وإجراءات، ويسهب في شر الدلائل والبراهين، بما يجعله أحيانا أقرب إلى من ينقل تجربته إلى غيره من وكلاء النيابة ليستفيد منها. وكل هذا يتخلل الحكاية، التي تقترب من تقارير نيابة مصوغة بأسلوب جيد، منها إلى القصة القصيرة بشكلها الفني، وهي مسألة لا تنقص منها بالطبع، لأن المؤلف قصد هذا.
وهذا القصد ليس استنتاجا جزافيا إنما أحيل فيه إلى ما كتبه المؤلف نفسه من قصص ظهرت في مجموعتيه "لحظة انهيار" و"برجولا"، اللتين يدور عالمهما في أشياء أخرى غير التي تناولتها كتبه الثلاثة السابقة. فهنا تظهر مهارة الكاتب في القص، ويبان لمن يقارن بين الحالتين أنه يمتلك الأدوات الفنية للقصة القصيرة، والتي توسل ببعضها أحيانا في سرد حكاياته القضائية، سواء وقفت على باب القصة مثل الكتاب الثاني، أو ابتعدت كثيرا وصارت أشبه بحيثيات وديباجات مثل الكتاب الثالث، أو وقفت في منطقة وسطى مثل الكتاب الأول.
وفي الكتب الثلاثة، حرص المؤلف على عدم ذكر الأسماء، والاستعاضة عنها بالضمائر، وقد خلق هذا ارتباكا أحيانا في السرد، لكنه كان أمرا لا يمكن لقاضٍ أن يتجنبه، فهو لو ذكر الأسماء الحقيقية، لوقع في مشكلة أخلاقية، وهي فضح المتقاضين أمامه، وإن استبدل بها أسماء مستعارة، فهو يفقد الحكايات واقعيتها، لكن هذه السمة أيضا غلبت حتى على قصص مجموعتيه؛ ما يجعلنا نعزو هذا الحرص إلى سيطرة ذهنية القاضي على الكاتب، حتى وهو في رحاب لون من الأدب يحتاج بالطبع إلى قدر أكبر من التحرر.
حكايات حول العدالة.. قراءة في كتابات القاضي الأديب بهاء المري
حكايات حول العدالة قراءة في كتابات القاضي الأديب بهاء المري | مصراوى