روى البخاري قصة سردها الصحابي عبد الله بن مسعود جاء فيها أنه لما كان يوم حنين آثر الرسول أناسًا من أشراف العرب في القسمة، كالأقرع بن حابس وعيينة بن حصن، فقال رجل: “والله إن هذه قسمة ما عدل فيها وما أريد بها وجه الله” فلما سمع الرسول مقالة ذلك الرجل تغير وجهه وقال: “يرحم الله موسى قد أوذي بأكثر من هذا فصبر”، وروى أنس بن مالك أنه كان يمشي مع الرسول وعليه برد نجراني غليظ الحاشية، فأدركه أعرابي فجذبه بردائه جذبة شديدة حتى نظرت إلى صفحة عاتق رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أثرت بها حاشية البرد من شدة جذبته، ثم قال: يا محمد مُر لي من مال الله الذي عندك، فالتفت إليه الرسول ثم ضحك وأمر له بعطاء، وروى جابر بن عبد الله أنه عندما قال عبد الله بن أبي – زعيم المنافقين – مقولته البغيضة في حق الرسول (ليخرجن الأعز منها الأذل) بعد غزوة بني المصطلق، امتنع الرسول الكريم عن إيذائه ونهى الصحابة عن البطش به واكتفى بقوله: “لا أريد أن يتحدث الناس أن محمدًا يقتل أصحابه”.
في هذه القصص يتجلى مفهوم التسامح في أبهى صوره من خلال حرية الكلام والتعبير الذي كان يمارسه المسلمون الأوائل، وحرية الرأي من المبادئ الأصيلة التي أرساها الإسلام منذ ظهوره حين دعا إلى مجادلة الناس بالحسنى ورفض الإكراه في الدين، واستمر الحال كذلك طوال حياة الرسول وعهد الخلفاء الراشدين إلى أن تمت مصادرة هذا المبدأ بقوة السيف حين أطلق الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهو على منبر رسول الله مقولته الشهيرة: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”! فبُذرت بذرة الفاشية التي تشرعنت فيما بعد على يد العباسيين حين قام علماؤهم بتدوين التراث – الذاكرة الحضارية لملايين المسلمين – وصياغة الإطار المرجعي الذي يبرر أيدولوجيا الإقصاء والتعصب والانغلاق بل ويربطها – زورًا وبهتانًا – بجوهر الإسلام.
الفاشية في السياسة والحكم
لم يكن التعذيب مألوفًا في المجتمع العربي أيام الجاهلية لأن قيم البداوة تناهض المثلة والتنكيل كالسلخ والحرق وتقطيع الأوصال، وظهرت بعض الممارسات في المدن ولكنها كانت موجهة في المقام الأول للرقيق والعبيد ولم تكن منتشرة على نطاق واسع، وعلى الرغم من أن العقوبات الجسدية في الدين الإسلامي محصورة في القرآن ببتر يد السارق وجلد الزاني والقصاص من القاتل دون المُثلة بجسده ولو كان محاربًا – وذلك بعد استيفاء شروط محددة وواضحة لتلك العقوبات – إلا أن الخلفاء والولاة قد توسعوا فيها بشكل يكشف عن سادية مرعبة تستوطن أعماقهم!
يقال أن أول رأس حُمل في الإسلام هو رأس عمرو بن الحمق أحد أتباع علي بن أبي طالب وقد قتله زياد بن أبيه، وأٌسر قائد من الخوارج يدعى محمد بن عبادة في أيام المعتضد بالله فسُـلخ جلده كما تسلخ الشاة، وكان الأمويون يحرقون الثائرين عليهم كما حصل مع إحراق المغيرة بن سعيد العـِجلي حيًـا بأمر من حاكم العراق حينها الأمير خالد القسري، وتطور الأمر لدى العباسيين إلى “شوي” الضحايا وهم أحياء فوق نار هادئة وهو ما حدث مع محمد بن الحسن المعروف بـ “شيلمة” أحد قادة الزنج في البصرة.
ومع نهي رسول الإسلام عن المثلة والتعذيب بوضوح وصراحة في نصوص دينية كثيرة (أعف الناس قِـتلة أهل الإيمان) إلا أن ذلك لم يثنِ حكام الدولة الإسلامية طوال التاريخ الإسلامي من عهد الأمويين وحتى آل عثمان عن اختراع أساليب متنوعة لتعذيب ضحاياهم حتى الموت مثل: تنور الزيات، والقتل بالطشت المحمي، والتعذيب بالمقدحة، والموت بالنـورة، والتعطيش، والتبريد بعد الجلد، والتكسير بالعيدان الغليظة، وقرض اللحم، وقلع الأظافر والأضراس، والتعذيب بالقصب، والتعذيب الجنسي، إلخ! وهي في مجملها ترجمة صادقة لحالة انتقام شخصي وثأر بالغ الإفراط في وحشيته.
وإذا كانت الأمانة العلمية تقتضي ذكر معارضة ثلة من العلماء الربانيين لهذه التجاوزات، إلا أن المحقق في التراث الإسلامي يرصد وجود تيارات مغالية في أفكارها واجتهاداتها الدينية بشكل يجعل منها بطانة حقيقية لشرعنة تلك الممارسات اللاإنسانية بصورة غير مباشرة، فالتطرف في عالم الأذهان سيتولد عنه حتمًا تطرف مماثل في عالم الأعيان وكل طغيان سياسي يؤازره طغيان فكري في الغالب، والرأي والنظر الذي يتوسل الدين من أجل إلغاء آدمية المخالف عن طريق الإقصاء والنبذ والهجر والتحريض لا يقل خطورة عن الحاكم الذي يتجاهل آدمية ضحاياه حتى ينزل بهم أشد العذاب!
الفاشية في تراث الفقهاء
الشدة والقسوة في معاملة الآخر هي إحدى التجليات الواضحة للاتجاهات الفاشية في تراثنا الإسلامي، في البداية والنهاية ذكر ابن كثير أنه وُجد نصراني يشرب الخمر مع مسلمة في نهار رمضان، فحكم نائب دمشق للمنصور ابن قلاوون بإحراق النصراني وجلد المسلمة (تأملوا الحكم الفاشي ضد النصراني!) فأُحرق بسوق الخيل سنة 687 هـ، ولقد كانت الفاشية الإسلامية بجناحيها الديني والسياسي سببًا رئيسيًا في سقوط دولتين عظيمتين قامتا في المغرب والأندلس وهما دولة المرابطين (أسسها يوسف بن تاشفين) ودولة الموحدين (أسسها عبد المؤمن بن علي).
انتشرت بين زعماء هاتين الدولتين أيدولوجيا متطرفة تجلت في غلو فقهاء المرابطين الذين ذهبوا إلى تكفير كل من يعارضهم وإحراق كتب المخالفين وإشاعة “مكارثية” حقيقية قادها الفقيه أبو القاسم ابن حمدين تسببت في انهيار الدولة نتيجة تلاعب الفقهاء بالحكومة، وأسرف الموحدون في إراقة الدماء تحت إشراف زعيمهم الروحي المهدي بن تومرت حتى غدى القتل ولغة الدماء الوسيلة المثلى للموحدين في الرد على خصومهم، وفي نهاية المطاف “انقلب السحر على الساحر” وأصبحت تلك الوسيلة “المثلى” هي ذات الوسيلة لمعالجة خلافاتهم الداخلية، فأهلك الموحدون أنفسهم وخربوا بيوتهم بأيديهم واستحـر القتل بين ظهرانيهم حتى زالت دولتهم.
يُعتبر العلامة أبو حامد الغزالي رمزًا دينيًا كبيرًا في التراث الإسلامي إلا أن مقولاته الاجتهادية تكشف أبعادًا “فاشية” تجاه المرأة! فخطابه الديني ينضح بالعداء لكل ما يمت للمرأة بصلة، في كتابه (السبر المسبوك في نصيحة الملوك) شبه المرأة بمجموعة من الحيوانات كالخنزير والقردة والحية والفأرة والعقرب والكلب، إلخ!
وبلغت كراهيته للنساء حدًا جعله يقول: “المرأة أسير الرجل، ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن، وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر بأمرهن ولا يلتفت إلى أقوالهن!”، ومع أن القرآن يدعو إلى محاورة المخالفين “غير المسلمين” بالتي هي أحسن إلا أن بعض علماء السلف يصر إصرارًا غريبا على عدم الاكتفاء بأدب الحوار وتأكيد كره المخالف “ديانة” والدعوة إلى إيذائه بشتى السبل! قال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمـن الصابوني حاكيًا مذهب السلف أهل الحديث: “واتفقـوا على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم، والتقرب إلى الله – عز وجل – بمجانبتهم ومهاجرتهم”!
وينعكس الإرهاب “الفاشي” في الخطابات السجالية التي يستعملها المتعصبون، وعناوين الكتب خير دليل على ذلك (الصواعق المحرقة، سلاسل الحديد، إلجام العوام، الصارم المسلول، إلخ)، وكان بعض الوعاظ يدعو بالفناء والدمار على جميع المخالفين ويبرر مسلكه هذا بعقيدة “عذاب الاستئصال”، ويقصد به إبادة قوم من العصاة بُـعث إليهم نبي رفضوا طاعته فأصابهم غضب إلهي يطال نساءهم وشيوخهم وأطفالهم، في مماهاة عجيبة بين شخصه كفقيه أو واعظ وبين مقام الأنبياء والمرسلين.
بل وصل الحال ببعضهم إلى تجاهل العبادات والفرائض كالصلاة والصيام والحج كأداة شرعية لقياس مدى الالتزام الديني لدى الناس والتوجه عوضًا عن ذلك إلى قياس منسوب الكراهية لغير المسلمين كدليل على محبة الله واتباع الرسول! فهذا العلامة أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول بصراحة: “إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة”!
خطر الفاشية على السلام العالمي
من الملاحظ أن الوعاظ المصابين بـ “فيروس الفاشية” يضعون أوصافًا لجهنم لم ترد في القرآن وصحيح السنة وإنما نسجها خيالهم الذي يكشف عن نفس إرهابي موغل في الكراهية، وغالبًا ما يعجز هؤلاء عن استيعاب الطبيعة التعددية لحضارة الإسلام، وهذا هو السبب – فيما يبدو – في استفحال ظاهرة القمع في أية بيئة اجتماعية يسيطر على فضائها الثقافي هؤلاء الفاشيون! يقول الباحث العراقي هادي العلوي: (إن التجارب المستفادة من الأديان تزودنا بأداة للاستنتاج يمكن أن نستخلص منها قابلية العوامل المكونة للسلوك الديني لتكوين شخصية دموية فاشية المزاج معادية للإنسان، وللأديان أدوار مشتركة في هذا المضمار تتفاقم في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان – دينية وزمنية – حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي الإكليروسي)!
وإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء الغلاة لا يكتفون بإغلاظ القول فقط لمن يخالفهم بل يستعدون الحاكم ضده ويحرضونه لمعاقبته وأحيانًا لقتله كما في قصة أحمد بن أبي دؤاد حينما فجر في خصومته بشكل فج مع أحمد بن حنبل وقال للخليفة: (اقتله يا أمير المؤمنين ودمه في رقبتي)! أقول إذا استحضرنا ذلك؛ فإننا أمام اتجاه “فاشي” يتلبس بالدين ويعطي شرعية لكل الممارسات التي لا يتخيلها البشر.
من هنا تأتي أهمية إشاعة المقولات الإنسانية والأوامر الإلهية التي تؤكد البعد التقديسي لكيان الإنسان وتذم التعصب وتحارب الغلو والتشدد، ولم يحذر رسول الإسلام من آفة تصيب المتبعين لرسالته أكثر من تحذيره من آفة “التنطع في الدين”، لقد تكاتفت أمم العالم المتحضر للوقوف في وجه النازية والفاشية التي مثلت انتهاكًا صارخًا للقيم الإنسانية السامية، وهذا يوجب على العقلاء من رجال الدين المسلمين أن يتصدوا بحزم وقوة لأية محاولة لإحياء النزعات “الفاشية” في تراثنا – سواء تحت شعار تعزيز الهوية أو مزاعم اتباع السلف! – والتي لا يختلف اثنان أنها ستفتح على المسلمين أبواب الجحيم في عصر التجاذبات والاستقطابات الدولية التي لن ترحم صوتًا نشازا يهدد السلام العالمي بين بني البشر.
كاتب صومالي
في هذه القصص يتجلى مفهوم التسامح في أبهى صوره من خلال حرية الكلام والتعبير الذي كان يمارسه المسلمون الأوائل، وحرية الرأي من المبادئ الأصيلة التي أرساها الإسلام منذ ظهوره حين دعا إلى مجادلة الناس بالحسنى ورفض الإكراه في الدين، واستمر الحال كذلك طوال حياة الرسول وعهد الخلفاء الراشدين إلى أن تمت مصادرة هذا المبدأ بقوة السيف حين أطلق الخليفة الأموي عبد الملك بن مروان وهو على منبر رسول الله مقولته الشهيرة: “والله لا يأمرني أحد بتقوى الله بعد مقامي هذا إلا ضربت عنقه”! فبُذرت بذرة الفاشية التي تشرعنت فيما بعد على يد العباسيين حين قام علماؤهم بتدوين التراث – الذاكرة الحضارية لملايين المسلمين – وصياغة الإطار المرجعي الذي يبرر أيدولوجيا الإقصاء والتعصب والانغلاق بل ويربطها – زورًا وبهتانًا – بجوهر الإسلام.
الفاشية في السياسة والحكم
لم يكن التعذيب مألوفًا في المجتمع العربي أيام الجاهلية لأن قيم البداوة تناهض المثلة والتنكيل كالسلخ والحرق وتقطيع الأوصال، وظهرت بعض الممارسات في المدن ولكنها كانت موجهة في المقام الأول للرقيق والعبيد ولم تكن منتشرة على نطاق واسع، وعلى الرغم من أن العقوبات الجسدية في الدين الإسلامي محصورة في القرآن ببتر يد السارق وجلد الزاني والقصاص من القاتل دون المُثلة بجسده ولو كان محاربًا – وذلك بعد استيفاء شروط محددة وواضحة لتلك العقوبات – إلا أن الخلفاء والولاة قد توسعوا فيها بشكل يكشف عن سادية مرعبة تستوطن أعماقهم!
يقال أن أول رأس حُمل في الإسلام هو رأس عمرو بن الحمق أحد أتباع علي بن أبي طالب وقد قتله زياد بن أبيه، وأٌسر قائد من الخوارج يدعى محمد بن عبادة في أيام المعتضد بالله فسُـلخ جلده كما تسلخ الشاة، وكان الأمويون يحرقون الثائرين عليهم كما حصل مع إحراق المغيرة بن سعيد العـِجلي حيًـا بأمر من حاكم العراق حينها الأمير خالد القسري، وتطور الأمر لدى العباسيين إلى “شوي” الضحايا وهم أحياء فوق نار هادئة وهو ما حدث مع محمد بن الحسن المعروف بـ “شيلمة” أحد قادة الزنج في البصرة.
ومع نهي رسول الإسلام عن المثلة والتعذيب بوضوح وصراحة في نصوص دينية كثيرة (أعف الناس قِـتلة أهل الإيمان) إلا أن ذلك لم يثنِ حكام الدولة الإسلامية طوال التاريخ الإسلامي من عهد الأمويين وحتى آل عثمان عن اختراع أساليب متنوعة لتعذيب ضحاياهم حتى الموت مثل: تنور الزيات، والقتل بالطشت المحمي، والتعذيب بالمقدحة، والموت بالنـورة، والتعطيش، والتبريد بعد الجلد، والتكسير بالعيدان الغليظة، وقرض اللحم، وقلع الأظافر والأضراس، والتعذيب بالقصب، والتعذيب الجنسي، إلخ! وهي في مجملها ترجمة صادقة لحالة انتقام شخصي وثأر بالغ الإفراط في وحشيته.
وإذا كانت الأمانة العلمية تقتضي ذكر معارضة ثلة من العلماء الربانيين لهذه التجاوزات، إلا أن المحقق في التراث الإسلامي يرصد وجود تيارات مغالية في أفكارها واجتهاداتها الدينية بشكل يجعل منها بطانة حقيقية لشرعنة تلك الممارسات اللاإنسانية بصورة غير مباشرة، فالتطرف في عالم الأذهان سيتولد عنه حتمًا تطرف مماثل في عالم الأعيان وكل طغيان سياسي يؤازره طغيان فكري في الغالب، والرأي والنظر الذي يتوسل الدين من أجل إلغاء آدمية المخالف عن طريق الإقصاء والنبذ والهجر والتحريض لا يقل خطورة عن الحاكم الذي يتجاهل آدمية ضحاياه حتى ينزل بهم أشد العذاب!
الفاشية في تراث الفقهاء
الشدة والقسوة في معاملة الآخر هي إحدى التجليات الواضحة للاتجاهات الفاشية في تراثنا الإسلامي، في البداية والنهاية ذكر ابن كثير أنه وُجد نصراني يشرب الخمر مع مسلمة في نهار رمضان، فحكم نائب دمشق للمنصور ابن قلاوون بإحراق النصراني وجلد المسلمة (تأملوا الحكم الفاشي ضد النصراني!) فأُحرق بسوق الخيل سنة 687 هـ، ولقد كانت الفاشية الإسلامية بجناحيها الديني والسياسي سببًا رئيسيًا في سقوط دولتين عظيمتين قامتا في المغرب والأندلس وهما دولة المرابطين (أسسها يوسف بن تاشفين) ودولة الموحدين (أسسها عبد المؤمن بن علي).
انتشرت بين زعماء هاتين الدولتين أيدولوجيا متطرفة تجلت في غلو فقهاء المرابطين الذين ذهبوا إلى تكفير كل من يعارضهم وإحراق كتب المخالفين وإشاعة “مكارثية” حقيقية قادها الفقيه أبو القاسم ابن حمدين تسببت في انهيار الدولة نتيجة تلاعب الفقهاء بالحكومة، وأسرف الموحدون في إراقة الدماء تحت إشراف زعيمهم الروحي المهدي بن تومرت حتى غدى القتل ولغة الدماء الوسيلة المثلى للموحدين في الرد على خصومهم، وفي نهاية المطاف “انقلب السحر على الساحر” وأصبحت تلك الوسيلة “المثلى” هي ذات الوسيلة لمعالجة خلافاتهم الداخلية، فأهلك الموحدون أنفسهم وخربوا بيوتهم بأيديهم واستحـر القتل بين ظهرانيهم حتى زالت دولتهم.
يُعتبر العلامة أبو حامد الغزالي رمزًا دينيًا كبيرًا في التراث الإسلامي إلا أن مقولاته الاجتهادية تكشف أبعادًا “فاشية” تجاه المرأة! فخطابه الديني ينضح بالعداء لكل ما يمت للمرأة بصلة، في كتابه (السبر المسبوك في نصيحة الملوك) شبه المرأة بمجموعة من الحيوانات كالخنزير والقردة والحية والفأرة والعقرب والكلب، إلخ!
وبلغت كراهيته للنساء حدًا جعله يقول: “المرأة أسير الرجل، ويجب على الرجال مداراة النساء لنقص عقولهن، وبسبب نقص عقولهن لا يجوز لأحد أن يتدبر بأمرهن ولا يلتفت إلى أقوالهن!”، ومع أن القرآن يدعو إلى محاورة المخالفين “غير المسلمين” بالتي هي أحسن إلا أن بعض علماء السلف يصر إصرارًا غريبا على عدم الاكتفاء بأدب الحوار وتأكيد كره المخالف “ديانة” والدعوة إلى إيذائه بشتى السبل! قال الإمام أبو عثمان إسماعيل بن عبد الرحمـن الصابوني حاكيًا مذهب السلف أهل الحديث: “واتفقـوا على القول بقهر أهل البدع، وإذلالهم، وإخزائهم، وإبعادهم، وإقصائهم، والتباعد منهم ومن مصاحبتهم، والتقرب إلى الله – عز وجل – بمجانبتهم ومهاجرتهم”!
وينعكس الإرهاب “الفاشي” في الخطابات السجالية التي يستعملها المتعصبون، وعناوين الكتب خير دليل على ذلك (الصواعق المحرقة، سلاسل الحديد، إلجام العوام، الصارم المسلول، إلخ)، وكان بعض الوعاظ يدعو بالفناء والدمار على جميع المخالفين ويبرر مسلكه هذا بعقيدة “عذاب الاستئصال”، ويقصد به إبادة قوم من العصاة بُـعث إليهم نبي رفضوا طاعته فأصابهم غضب إلهي يطال نساءهم وشيوخهم وأطفالهم، في مماهاة عجيبة بين شخصه كفقيه أو واعظ وبين مقام الأنبياء والمرسلين.
بل وصل الحال ببعضهم إلى تجاهل العبادات والفرائض كالصلاة والصيام والحج كأداة شرعية لقياس مدى الالتزام الديني لدى الناس والتوجه عوضًا عن ذلك إلى قياس منسوب الكراهية لغير المسلمين كدليل على محبة الله واتباع الرسول! فهذا العلامة أبو الوفاء ابن عقيل الحنبلي يقول بصراحة: “إذا أردت أن تعلم محل الإسلام من أهل الزمان، فلا تنظر إلى زحامهم في أبواب الجوامع، ولا ضجيجهم في الموقف بلبيك، وإنما انظر إلى مواطأتهم أعداء الشريعة”!
خطر الفاشية على السلام العالمي
من الملاحظ أن الوعاظ المصابين بـ “فيروس الفاشية” يضعون أوصافًا لجهنم لم ترد في القرآن وصحيح السنة وإنما نسجها خيالهم الذي يكشف عن نفس إرهابي موغل في الكراهية، وغالبًا ما يعجز هؤلاء عن استيعاب الطبيعة التعددية لحضارة الإسلام، وهذا هو السبب – فيما يبدو – في استفحال ظاهرة القمع في أية بيئة اجتماعية يسيطر على فضائها الثقافي هؤلاء الفاشيون! يقول الباحث العراقي هادي العلوي: (إن التجارب المستفادة من الأديان تزودنا بأداة للاستنتاج يمكن أن نستخلص منها قابلية العوامل المكونة للسلوك الديني لتكوين شخصية دموية فاشية المزاج معادية للإنسان، وللأديان أدوار مشتركة في هذا المضمار تتفاقم في الحالات التي تجتمع فيها سلطتان متكاملتان – دينية وزمنية – حيث تتداخل عوامل الخوف الروحي من القوى الخارقة مع الإرهاب الحكومي الإكليروسي)!
وإذا أضفنا إلى ذلك أن هؤلاء الغلاة لا يكتفون بإغلاظ القول فقط لمن يخالفهم بل يستعدون الحاكم ضده ويحرضونه لمعاقبته وأحيانًا لقتله كما في قصة أحمد بن أبي دؤاد حينما فجر في خصومته بشكل فج مع أحمد بن حنبل وقال للخليفة: (اقتله يا أمير المؤمنين ودمه في رقبتي)! أقول إذا استحضرنا ذلك؛ فإننا أمام اتجاه “فاشي” يتلبس بالدين ويعطي شرعية لكل الممارسات التي لا يتخيلها البشر.
من هنا تأتي أهمية إشاعة المقولات الإنسانية والأوامر الإلهية التي تؤكد البعد التقديسي لكيان الإنسان وتذم التعصب وتحارب الغلو والتشدد، ولم يحذر رسول الإسلام من آفة تصيب المتبعين لرسالته أكثر من تحذيره من آفة “التنطع في الدين”، لقد تكاتفت أمم العالم المتحضر للوقوف في وجه النازية والفاشية التي مثلت انتهاكًا صارخًا للقيم الإنسانية السامية، وهذا يوجب على العقلاء من رجال الدين المسلمين أن يتصدوا بحزم وقوة لأية محاولة لإحياء النزعات “الفاشية” في تراثنا – سواء تحت شعار تعزيز الهوية أو مزاعم اتباع السلف! – والتي لا يختلف اثنان أنها ستفتح على المسلمين أبواب الجحيم في عصر التجاذبات والاستقطابات الدولية التي لن ترحم صوتًا نشازا يهدد السلام العالمي بين بني البشر.
كاتب صومالي