بعد الحكم في قضية الروائي، أحمد ناجي، وجد المثقّفون في مصر أنفسهم في صدام واضح مع الدولة أو النظام بالأحرى، وبدا أنهم يحاربون اليوم من أجل حرية كلّ منهم. لم يكن هذا هو الإحساس العام الوحيد، الذي طغى على أجواء لقاء جمع عدداً من المثقّفين والكتّاب والفنانين في "دار التنوير" وسط القاهرة، للتضامن مع ناجي، الذي يقضي حكماً بالسجن لمدّة عامين لإدانته بـ "خدش الحياء العام" في روايته "استخدام الحياة" كما أصبح معروفاً، لكن شعوراً آخر وجد طريقه إلى كلمات المتحدّثين وأسئلة الحاضرين، هو الإحساس بالمسؤولية الأخلاقية نحو ناجي، وسؤال حقيقي عمّا يمكن فعله.
القصة بدأت مع "مواطن مصري" تقدّم ببلاغ إلى نيابة "الجلاء" اختصم فيه أحمد ناجي وطارق الطاهر رئيس تحرير "أخبار الأدب" بالتسبّب في إصابته بانخفاض في ضغط الدم، لهول ما قرأه وخدش حياءه في الفصل المنشور.
ناجي والطاهر حصلا فعلاً على حكم بالبراءة في أول درجة تقاضٍ، وتم رفض الدعوى المدنية، مما جعل النيابة العامة تستأنف على الحكم، لتضع نفسها في موقع الخصم رسمياً، ومن ثمّ يُحكَم على ناجي بالحبس عامين كأقصى عقوبة، وعلى رئيس التحرير بأقصى غرامة، وتبلغ عشرة آلاف جنيه مصري، بينما تمّ ترحيل الكاتب إلى سجن "طرّة".
في افتتاحية الندوة التضامنية، أمس، بدأ الأكاديمي والناقد ووزير الثقافة الأسبق، شاكر عبد الحميد، كلمته المقتضبة والنظرية بعنوان "الحرية والإبداع"، بالتأكيد على أن الحبس ضد أي مبدع مرفوض تماماً من حيث المبدأ، طالما لم يرتكب جرماً في حق أحد، وعدّد بعض الظواهر الاجتماعية التي ينشأ في ظلّها تقييد حرية الرأي بعمومها والإبداع خصوصاً؛ مثل "الكساد الاقتصادي وشيوع التنجيم مثلاً"، وأضاف أن إحدى الخطوات التي ينبغي عملها هي "الضغط لتغيير كل القوانين السالبة للحرية".
"
النيابة ساعدت المشتكي في صياغة اتهامه للكاتب
"
الروائي محمود الورداني، لفت النظر إلى التناقض السافر بين مواد تلك القوانين والمواد الدستورية، التي تحمي المبدعين من سيف الحبس. لكنه من جهة أخرى، أضاف أن رد الفعل السريع على حبس ناجي فاجأه "خصوصاً مع حالة موات المجال العام، الذي يضيق يوماً بعد يوم".
وفي ما يبدو أنه انتقاد حاد للنائب العام، لفت الورداني النظر إلى سابقة سفر الإعلامي، أحمد موسى، في الوفد المرافق للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، رغم الحكم عليه بعامين واجبَي النفاذ في قضية سب وقذف، في انتهاك صارخ للقانون، متسائلاً: "لماذا لا يقوم النائب العام بإيقاف حبس ناجي حتى تقديم النقض؟!".
بدوره، أشار المخرج السينمائي، يسري نصر الله، إلى الجانب المقابل لحبس أي مبدع، وهو البديهيات الأولية المتعلّقة بحرية الاختيار، لكن في ما يبدو أنها تغيب عن أذهان أصحاب السلطة في مصر، أضاف بسخرية "لا نريد من يقرّر عنا، القراءة اختيار، وعدم إقرار هذا الحق هو إهدار حقيقي للحياة".
ولم تقف سخريته السوداء عند هذا الحد، لكنه ألمح إلى خطاب السيسي الذي ألقاه قبل لقاء التضامن بساعات مطالباً فيه المصريين أن "يصبّحوا على مصر" بجنيه يومياً لتعضيد الاقتصاد المتهالك، ما جعل نصر الله يصرّح بعصبية "بدلاً من أن يوضَع هذا الجنيه في جيوبهم، أريده أن يُصرَف على تعليم الناس وتثمين فعل القراءة"، وختم كلمته بسؤال عن إصرار النيابة والقضاء المصري على تقديم صورة سلبية عنهما.
المحامي محمود عثمان، المسؤول عن قضية ناجي والمحامي في "مؤسّسة حرية الفكر والتعبير"، قدّم صورة بانورامية لتفاصيل القضية بدأها بما يشبه إجابة على سؤال نصر الله، إذ أبدى دهشته من تعنّت النيابة بوضع نفسها موضع الخصم "مع أن مواد الدستور تفترض أن تصطف النيابة العامة وراء المبدع لحمايته من قضايا الحسبة، وتأخذ جانبه لتحميه من تكرار البلاغات السالبة لحريته في ممارسة إبداعه من غير تهديد مجتمعي".
وفي تأكيد على موضع الخصومة الذي ارتضته النيابة لنفسها، أكّد عثمان أن صاحب الدعوى حالما قدّمها تحجّج بأن ابنته قرأت الفصل المنشور فأحسّت بالخجل، لكن النيابة أرشدته إلى تعديل دعوى الاتهام ليكون هو القارئ بدلاً من ابنته الأقل من 18 عاماً، والتي يراها القانون طفلة لا تتوجّه "أخبار الأدب" بالكتابة لمن هم في عمرها.
"
نشهد حالة موات في مجال عام يضيق يوماً بعد يوم
"
كما أشار عثمان إلى التفات المشرّع منتصف التسعينيات لاطّراد قضايا "الحسبة" ضد المبدعين بعد قضية المفكّر نصر حامد أبوزيد، ما أدى إلى تعديل على التشريعات الخاصة بالإبداع، بحيث يُناط بالنيابة مسؤولية قبول الدعاوى أو رفضها طالما كانت من غير ذي صفة. من هنا، تُعتَبر قضية ناجي سابقة خطيرة، حيث "قُبلت الدعوى في حكم الاستئناف من شخص غير ذي صفة قانونية، ما يفتح الباب لتكرار الأمر مع مبدعين آخرين".
الزخم الذي أحدثته قضية ناجي طوال الأيام الفائتة انتقلت آثاره إلى مواقع التواصل الاجتماعي، مما أعطى القضية بعداً عربياً وحتى دولياً، بعد أن تناولتها صحف أميركية وبريطانية وإسبانية وفرنسية، كما كتب المستعرب الفرنسي، ريشار جاكمون، مقالاً حول الموضوع. وفي مشاركة أخرى، فوجىء المشاركون في المؤتمر بحضور الروائي اللبناني، إلياس خوري، الذي قال: "أنقل إليكم تضامني الشخصي وتضامن الأصدقاء في لبنان، ويقيننا ثابت بأن حرية الإبداع هي خط الدفاع الأول عن حرية المجتمع ككل".
في تحرّك نحو خطوات عملية بخلاف التحركّات القانونية الخاصة بالإفراج عن ناجي، اقترح الناشر محمد البعلي، صاحب ومدير دار "صفصافة"، "اكتتاب عدد من الناشرين المصريين لإصدار طبعة شعبية من الرواية لإتاحتها لمن يرغب، كذلك إعادة نشر فصل الرواية المتسبّب في حبس ناجي في أكبر عدد من الصحف".
اقتراحات أخرى حملت طابعاً رمزياً، كالتوجّه إلى حرق الكتب أمام مكتب النائب العام، أو تقديم المبدعين أنفسهم للمحاكمة كون كتاباتهم سلكت نفس المسلك، الذي سلكه ناجي في كتابته، لكن يبدو أن رياح المقترحات تسير في اتجاه مطالبة النائب العام والضغط عليه لإيقاف حبس الروائي لحين تقديم نقض للحكم في آخر درجة تقاضٍ يتمنّى معها الكثيرون إسقاط الحكم عنه.
ردّة الفعل الواسعة تجاه قضية ناجي تمسّ في واحد من أبعادها مَنْ تموضع في معسكر الثورة ككاتب وروائي شاب يوجّه في مقالاته الصحافية نقداً لاذعاً مليئاً بسخرية مريرة من النظام المصري وممارساته ورئيسه.
البعض يشير إلى أن هذه المقالات ربما تكون سبباً رئيسياً في الحكم المشدّد عليه. خلافا لسابقيه إسلام بحيري وفاطمة ناعوت، المتّهمَين بشكل منفصل في قضيّتي ازدراء للدين الإسلامي، حيث يقضي الأول عقوبة السجن لمدة عام، بينما حُكم على الثانية بثلاث سنوات في حكم أول درجة، في ما وصفه الروائي، محمود الورداني، بالقول: "تحتجز الدولة منّا ثلاث رهائن"، لكن قضية ناجي المحكوم عليه فيها بتهمة خدش الحياء العام ستكون سابقة تفتح الباب واسعاً أمام هذا النوع من القضايا، الأمر الذي يفسّر تكتّل الجماعة الثقافية واصطفافها في هذه اللحظة، وهو التكتّل الذي يتمنّى الكثيرون أن ينتهي بمكاسب واضحة للثقافة والمثقّفين ولناجي نفسه.
.
القصة بدأت مع "مواطن مصري" تقدّم ببلاغ إلى نيابة "الجلاء" اختصم فيه أحمد ناجي وطارق الطاهر رئيس تحرير "أخبار الأدب" بالتسبّب في إصابته بانخفاض في ضغط الدم، لهول ما قرأه وخدش حياءه في الفصل المنشور.
ناجي والطاهر حصلا فعلاً على حكم بالبراءة في أول درجة تقاضٍ، وتم رفض الدعوى المدنية، مما جعل النيابة العامة تستأنف على الحكم، لتضع نفسها في موقع الخصم رسمياً، ومن ثمّ يُحكَم على ناجي بالحبس عامين كأقصى عقوبة، وعلى رئيس التحرير بأقصى غرامة، وتبلغ عشرة آلاف جنيه مصري، بينما تمّ ترحيل الكاتب إلى سجن "طرّة".
في افتتاحية الندوة التضامنية، أمس، بدأ الأكاديمي والناقد ووزير الثقافة الأسبق، شاكر عبد الحميد، كلمته المقتضبة والنظرية بعنوان "الحرية والإبداع"، بالتأكيد على أن الحبس ضد أي مبدع مرفوض تماماً من حيث المبدأ، طالما لم يرتكب جرماً في حق أحد، وعدّد بعض الظواهر الاجتماعية التي ينشأ في ظلّها تقييد حرية الرأي بعمومها والإبداع خصوصاً؛ مثل "الكساد الاقتصادي وشيوع التنجيم مثلاً"، وأضاف أن إحدى الخطوات التي ينبغي عملها هي "الضغط لتغيير كل القوانين السالبة للحرية".
"
النيابة ساعدت المشتكي في صياغة اتهامه للكاتب
"
الروائي محمود الورداني، لفت النظر إلى التناقض السافر بين مواد تلك القوانين والمواد الدستورية، التي تحمي المبدعين من سيف الحبس. لكنه من جهة أخرى، أضاف أن رد الفعل السريع على حبس ناجي فاجأه "خصوصاً مع حالة موات المجال العام، الذي يضيق يوماً بعد يوم".
وفي ما يبدو أنه انتقاد حاد للنائب العام، لفت الورداني النظر إلى سابقة سفر الإعلامي، أحمد موسى، في الوفد المرافق للرئيس المصري، عبد الفتاح السيسي، رغم الحكم عليه بعامين واجبَي النفاذ في قضية سب وقذف، في انتهاك صارخ للقانون، متسائلاً: "لماذا لا يقوم النائب العام بإيقاف حبس ناجي حتى تقديم النقض؟!".
بدوره، أشار المخرج السينمائي، يسري نصر الله، إلى الجانب المقابل لحبس أي مبدع، وهو البديهيات الأولية المتعلّقة بحرية الاختيار، لكن في ما يبدو أنها تغيب عن أذهان أصحاب السلطة في مصر، أضاف بسخرية "لا نريد من يقرّر عنا، القراءة اختيار، وعدم إقرار هذا الحق هو إهدار حقيقي للحياة".
ولم تقف سخريته السوداء عند هذا الحد، لكنه ألمح إلى خطاب السيسي الذي ألقاه قبل لقاء التضامن بساعات مطالباً فيه المصريين أن "يصبّحوا على مصر" بجنيه يومياً لتعضيد الاقتصاد المتهالك، ما جعل نصر الله يصرّح بعصبية "بدلاً من أن يوضَع هذا الجنيه في جيوبهم، أريده أن يُصرَف على تعليم الناس وتثمين فعل القراءة"، وختم كلمته بسؤال عن إصرار النيابة والقضاء المصري على تقديم صورة سلبية عنهما.
المحامي محمود عثمان، المسؤول عن قضية ناجي والمحامي في "مؤسّسة حرية الفكر والتعبير"، قدّم صورة بانورامية لتفاصيل القضية بدأها بما يشبه إجابة على سؤال نصر الله، إذ أبدى دهشته من تعنّت النيابة بوضع نفسها موضع الخصم "مع أن مواد الدستور تفترض أن تصطف النيابة العامة وراء المبدع لحمايته من قضايا الحسبة، وتأخذ جانبه لتحميه من تكرار البلاغات السالبة لحريته في ممارسة إبداعه من غير تهديد مجتمعي".
وفي تأكيد على موضع الخصومة الذي ارتضته النيابة لنفسها، أكّد عثمان أن صاحب الدعوى حالما قدّمها تحجّج بأن ابنته قرأت الفصل المنشور فأحسّت بالخجل، لكن النيابة أرشدته إلى تعديل دعوى الاتهام ليكون هو القارئ بدلاً من ابنته الأقل من 18 عاماً، والتي يراها القانون طفلة لا تتوجّه "أخبار الأدب" بالكتابة لمن هم في عمرها.
"
نشهد حالة موات في مجال عام يضيق يوماً بعد يوم
"
كما أشار عثمان إلى التفات المشرّع منتصف التسعينيات لاطّراد قضايا "الحسبة" ضد المبدعين بعد قضية المفكّر نصر حامد أبوزيد، ما أدى إلى تعديل على التشريعات الخاصة بالإبداع، بحيث يُناط بالنيابة مسؤولية قبول الدعاوى أو رفضها طالما كانت من غير ذي صفة. من هنا، تُعتَبر قضية ناجي سابقة خطيرة، حيث "قُبلت الدعوى في حكم الاستئناف من شخص غير ذي صفة قانونية، ما يفتح الباب لتكرار الأمر مع مبدعين آخرين".
الزخم الذي أحدثته قضية ناجي طوال الأيام الفائتة انتقلت آثاره إلى مواقع التواصل الاجتماعي، مما أعطى القضية بعداً عربياً وحتى دولياً، بعد أن تناولتها صحف أميركية وبريطانية وإسبانية وفرنسية، كما كتب المستعرب الفرنسي، ريشار جاكمون، مقالاً حول الموضوع. وفي مشاركة أخرى، فوجىء المشاركون في المؤتمر بحضور الروائي اللبناني، إلياس خوري، الذي قال: "أنقل إليكم تضامني الشخصي وتضامن الأصدقاء في لبنان، ويقيننا ثابت بأن حرية الإبداع هي خط الدفاع الأول عن حرية المجتمع ككل".
في تحرّك نحو خطوات عملية بخلاف التحركّات القانونية الخاصة بالإفراج عن ناجي، اقترح الناشر محمد البعلي، صاحب ومدير دار "صفصافة"، "اكتتاب عدد من الناشرين المصريين لإصدار طبعة شعبية من الرواية لإتاحتها لمن يرغب، كذلك إعادة نشر فصل الرواية المتسبّب في حبس ناجي في أكبر عدد من الصحف".
اقتراحات أخرى حملت طابعاً رمزياً، كالتوجّه إلى حرق الكتب أمام مكتب النائب العام، أو تقديم المبدعين أنفسهم للمحاكمة كون كتاباتهم سلكت نفس المسلك، الذي سلكه ناجي في كتابته، لكن يبدو أن رياح المقترحات تسير في اتجاه مطالبة النائب العام والضغط عليه لإيقاف حبس الروائي لحين تقديم نقض للحكم في آخر درجة تقاضٍ يتمنّى معها الكثيرون إسقاط الحكم عنه.
ردّة الفعل الواسعة تجاه قضية ناجي تمسّ في واحد من أبعادها مَنْ تموضع في معسكر الثورة ككاتب وروائي شاب يوجّه في مقالاته الصحافية نقداً لاذعاً مليئاً بسخرية مريرة من النظام المصري وممارساته ورئيسه.
البعض يشير إلى أن هذه المقالات ربما تكون سبباً رئيسياً في الحكم المشدّد عليه. خلافا لسابقيه إسلام بحيري وفاطمة ناعوت، المتّهمَين بشكل منفصل في قضيّتي ازدراء للدين الإسلامي، حيث يقضي الأول عقوبة السجن لمدة عام، بينما حُكم على الثانية بثلاث سنوات في حكم أول درجة، في ما وصفه الروائي، محمود الورداني، بالقول: "تحتجز الدولة منّا ثلاث رهائن"، لكن قضية ناجي المحكوم عليه فيها بتهمة خدش الحياء العام ستكون سابقة تفتح الباب واسعاً أمام هذا النوع من القضايا، الأمر الذي يفسّر تكتّل الجماعة الثقافية واصطفافها في هذه اللحظة، وهو التكتّل الذي يتمنّى الكثيرون أن ينتهي بمكاسب واضحة للثقافة والمثقّفين ولناجي نفسه.
.