في النطاق الفلسفي المفتوح، تتوتر اللغة، كما لو تعيش مخاضاً، تنبىء بمخاض، وتنتقل من مخاض إلى آخر، بمقدار ما تمتد إلى ما وراء الرؤية الحسية، تبعاً للمحرّك الفلسفي الذي يعنى به شخص ما، في موقع ما، واستجابة لمؤثر ما بالتأكيد، وفي نطاق بحثقي ما كذلك. هنا أجدني متحمساً برويَّة، لتأكيد عبارتين بينهما غاية التعارض، وغاية التناغم معاً، كما هي اللعبة الفلسفية على صعيد المفهوم الواحد بالذات: ما أسهل الفلسفة، طبعاً لأنها فلسفة، ما أصعب الفلسفة، طبعاً لأنها فلسفة. يتوقف المعنى بشكل مغاير للآخر، جرياً وراء ثقافة المتفلسف ووسطه الذي يعرَّف به فلسفياً، إذ ليس من مسافة بين سهولة القول الفلسفي وصعوبته إلا من جهة المتعاملين معه، لحظة انطلاق من مقولة المفارقات فيه.
وحين طرحتُ عنواناً كهذا " شرعنة التعالي الفلسفي " فمسوّغ ذلك، ما تقدَّم ذكره، جهة المساحة الرحبة وتنوعها التضاريسي، لكي تؤكد حضورها، في برّيها، مائيَّها، وبرمائيها معاً، كونها بإيجاز لاشديد حدود ما لا يتحدد، ولأن الفلسفة أساساً تُرى في الأعالي، وبها تكون !
أقول ذلك، من منطلق تجربة متواضعة في كتابات مختلفة، وحوارات عابرة للحدود المحلية للعالم الضيق الذي أقيم فيه، تقديراً مني، أن ليس كالفلسفة ما يعدُّ المرء لأن يكون إنساناً، الإنسان الذي ليس بالإنسان وحده يدرك نفسه، إنما بسواه في عالمنا الكبير، حيث تكون الحيوانات، النباتات، الجمادات، والقوى اللامرئية عينها مكونات لجسده الحي عقلاً وروحاً.
بناء عليه، أو ربما من هذا المشار إليه، كان هذا الحوار الآخر الذي يعنيني باحثاً، مع من لا يكون الآخر بالنسبة إلي، لا أمل الكردفاني، ولا خلافه، لحظة النظر في المسافة الفاصلة مكانياً بيننا. ألا ما أشد القرب هنا، طالما يمارس الحوار فاعليته، وفي بنية الكتابة المعمَّدة بالتفلسف، حيث فعل الخلْق يتم في كل معاودة كتابة، أو قراءة تنتفي فيها الحدود المرسومة بشرياً .
أمل الكردفاني مغامر فلسفي، يستسيغ اللعب بالمفهوم، وليس فيه ما يخفيه عما لديه أو فيه من رصيد يخوّله لأن يكون قارىء فلسفة، كاتبها، ناقدها، في السياقات اللامتناهية لهذا " الجُرْم " العظيم للإنسان في الفلسفة، وهو يحيل كل شيء إليه طالما أنه المسئول عما يجري، لتكون الفلسفة أعلى درجات التعبير باللغة عما هو وجودي، حتى المخفي داخل فيه.
الفلسفة بوصفها سياقات
في الممارسة التفلسفية، ينبغي التفريق بين رأي في كتاب، وقولة في موضوع، وكتابة موضوع، وهذا ما نعايشه هنا.
بين الحد الأكثر حسّانية، والحد الأقصى تجريدانية، يكون ظله، طيف فكر يتكلمه، كما لو أنه لا ينشغل إلا بما هو فلسفي.
أشير هنا إلى مراجعته لأحد الكتب التراثية في مقاله " مسكويه.. المعلم الثالث - ملخص كتاب 11 نيسان 2018 " حيث إنه يستعرض الكتاب، ومنذ البداية، يأتي كيل المديح ( في كتاب رائع بعنوان "الفكر السياسي لمسكويه الرازي-قراءة في تكوين العقل السياسي الإسلامي" يتعرض محسن مهاجرنيا للنظرية السياسية التي اختطها المعلم الثالث مسكويه. )، والروعة هنا بالطريقة هذه تفضي إلى نسيان العقل الناقد، وإلى الاندهاش بالآخر، أو على الأقل إلى التنازل عن حقوق الأنا في العقل، لصاحب حقوق الآخر جملةً فيه، وهو ما يعدم مسافة الرؤية، إذ إن التعبير المقدَّم لا يعود ذا نفع، لأن كل ما يأتي ينتهي في مصبه، وما في ذلك من إزاحة الذات المستمتعة حوارياً مع المقروء نفسه، وما من شأنه إعماره أكثر، تأكيد إضافة إليه، في مساءلة فلسفية معينة، مثلاً، وما يخص البعد الأنسي فيه، إن استعنّا بتعبير أركون هنا، وكيف يجري تفعيل أثر ما هو إنساني، وحدوده قبل قرابة ألف عام، ومن منطلق تشيُّعه بالمقابل، وما يصلح فيه راهناً.
وعلي أن أضيف نقطة أخرى ذات قيمة، كما أرى طبعاً، وهي أن " روعنة " الكتاب، إذا جاز التوصيف، تعنيه، ولا تعني قارئه في شيء، ولهذا، تكون قراءة الكتاب، وتمرير مقولة مختلفة، ينار بها، هو الذي يحرّك نبض الروعة في النفس، وفي هذا الجانب، تصبح الروعة اثنينية، وربما ثلاثية مع قارىء ثالث، وهكذا دواليك، بالنسبة لمركَّب الروعة .
وربما كان الذي أثاره في مقاله " تعقيب على مقال فلسفة التفكيك عند جاك دريدا، 25 حزيران 2018 " مندرجاً في هذا المنحى، رغم أن المذكور يعرّف به صاحب رأي، ورأياً نقدياً أحياناً، وإن كان الذي يتقدم به يؤكد على تزكية المقروء وكاتبه، وفي الوقت الذي كان دون حدود قراءته في بعض النقاط المتعلقة بالموضوع، وربما تسرّع بذلك، أو استعجل إطلاق الحكْم .
يقول أمل ( قدم الدكتور محمد سالم سعدالله والذي لا أعرفه ولم التقيه سوى عبر مقاله المنشور في صفحة ما بعد الحداثة ؛ قدم مقالا هاما عن تفكيكية دريدا وربما كانت أفضل مقالة تشرح تفكيكية دريدا ، وبالتأكيد عندما يفهم الانسان أمرا ما فإنه يستطيع نقده وتفكيكه أيضا .
وفي الختام المقرَّر: وأخيرا والكلام والنقد يطول ، ما البديل الذي قدمته التفكيكية ؟ إنها لم تقدم بديلا في الواقع بل أدخلتنا في اقصاءات تعسفية متتالية حتى بات النص غريبا عن فاعله ومفعوله. بل أن الأكثر إثارة للدهشة أن التفكيكية تصادر على نفسها بنفسها إذا طبقناها عليها نصيا.)
ما يجدر التذكير به، هو أن أمل في قراءته للمقال الطويل نسبياً لكاتبه، تغاضى عن نقاط مهمة جداً، أوردها سعدالله في مقاله " قرأته أنا في المنار الثقافية الدولية "، من ذلك، أن الكاتب الأكاديمي استعان بجمل شهود عيانه سلباً، ربما للإطاحة بتفكيكية دريدا، وهم على مبعدة عنها، أو على خلاف مع دريدا في تفكيكيته، من ذلك ( وقد حدّد ( كاموف ) التفكيك بقولـه : " التفكيك هو أن تنتهي إلى عمل لاشيء " ، وحدده ( لاينج ) بقوله " التفكيك هو هفوة نقدية " ، أما ( هابرماس ) فقد وصف التفكيك بأنه " عملٌ تعسفيٌّ " ، وحدّده (بورديو ) بقوله : " التفكيك لعبة " ، وحدده ( هاريسون ) بقوله : التفكيك يستلزم تبعات عبثيـة. )، والتفكيكية هنا تفقد تنوعها المعرفي، امتدادها في أكثر من جهة. ماذا لو تابعناها في كتابات عبدالله إبراهيم، عبدالله الغذامي، علي حرب، مطاع صفدي، كيليطو، بنعبدالعالي...الخ؟ لهذا لا يكون المتصرَّف به جهة سعدالله عملاً بحثياً، أو فلسفياً، إنما تواطؤاً ضدياً، ومكاشفة للامسمى في الداخل.
في الجانب الآخر، حين يشير صراحة سعدالله إلى بعض من " فوائدها "، كقوله ( إنّ الركائز التي ينهض عليها المنهج التفكيكي تستند إلى فرضية نقدية مهمة تكمن في البحث عن البديل للكسل الذهني المحيط بالنصوص ، والخروج عن المألوف السائد ، وقد أتاحت هذه الفرضية تماسك أجزاء النقد التفكيكي ومعطياته ، بحيث لا يمكن فصلها إلاّ لأغراض التحليل والدراسة التي تتصيد الظواهر الجديدة ، وتكشف محتواها كلّ على حدة ، فالاختلاف المتأتي من ( خَلَفَ ) و ( إختَلَف ) الذي يحمل معنى التعدد ، ولا يحمل معنى الضدية بالضرورة هو المصطلح الذي يُصوِّر المعنى اللغوي المتعاقب ، الذي يمكن وصفه هنا بأنّه معنى " متواليات " .).
وهذا يزعزع بنية قوله التقويمي ( إنّ الآفاق التي يريد دريدا تقديمها للنقد المعاصر تنطوي على أُسُسٍ خادعة ، ومداعبات يُطلق عليها " الهرطقة " ).
ربما كانت وظيفة الفلسفة كامنة في كيفية توسيع الآخر مع نفسه، وفي نفسه، وتوسيع مساحة الذات مع هذا الآخر بالذات، وما يجعل من الفلسفة مظلة واسعة، عالية، تظلل أكثر من جانب، وليس من احتكار لأي مفهوم عائد إليها .
وبما أننا بصدد التفكيكية وانزياحاتها، لا بد من متابعة إشكالية المثال في مقال جديد له، وهو " خاطرة صغيرة عن التفكيكية والقرآن كنص لغوي، 2 تموز 2020 "، وهي أكثر من كونها خاطرة، طالما أن الموضوع يتطلب تكثيفاً لقوى العقل المعرفية، حيث يتقابل ما هو " غربي: تفكيكي " و" شرقي: ديني إسلامي "، حيث إن أمل يشدد على فاعلية المقرَّر هنا في نصه اللغوي القرآني، إزاء التفكيك الحديث العهد جداً، وما يقوله في جانب من مقاله ( إن المركزية المطلقة انتهت بوفاة ناقل الرسالة (النص)، وانتقلنا من النص الإلهي المحمدي إلى التأويل البشري غير المعتمد، لقد انتقلنا من الإسلام المحمدي (عندما نحصر الإسلام في الرسلة (النص)، إلى إسلامات المُأوِّلين، فالتفكيكية لم تتحقق كنظرية بل كصيرورة أي (حدث تاريخي)، لا نعرف إن كانت قد بلغت ذروتها في عصرنا هذا أم لم تبلغها.).
أرى أن التقابل بين ما كان في أقصى تعاليه دينياً، وما هو كائن دنيوياً، فلسفياً راهناً، يقلّل من أهمية الفكرة نفسها، إلى جانب ما هو خطير في الموضوع، وهو أن أبستمولوجيا ما كان، وبصدد عموم الفلسفات الإسلامية الاعتبار عينها، نطقت بما هو ديني وحتى إيماني، موصول بالغيب، بينما بالنسبة إلى التفكيك، فثمة أبستمولوجيا تسمّي الدنيوي المعلْمن إجمالاً، حتى وإن كان الدين موضوعاً من موضوعات التفكيك، ففي الحالة الأولى، هناك حدود لا ينبغي تجاوزها عقلياً باسم النقل، بالاحتكام إلى ما هو إيماني، وهنا لا حدود، أو سدود من نوع " احذر"، لا مركز محدداً، أي نسف المركزية، وذلك مفيد " لنا " في مواجهة احتكار الحقيقة سلطوياً.
وفي مقاله " منهج النسبية-تقويض التاريخ الثقافي الانساني، 23 نيسان 2018 " يبرز الحضور الفلسفي، ورؤية الأبعد من المسطور، في مقاربة النسبية وبنيتها، عندما يجري التستر على حقيقتها ( والنسبية هي ايضا فوق كونها منهج تفكيكي فإنها اداة لتدعيم الدكتاتوريات والأنظمة القمعية وتثبيت السلطات المتنوعة والتي تسعى جميعها الى السيطرة على الآخر. ولذلك فهي سلاح ذو حدين. ليس هناك اسهل من توريط اي ثقافة عدوة في وحل النسبية ، وليس هناك أداة انجع من استخدام النسبية لتبرير التفوق رغم انها نفسها هي التي يمكن ان نستند اليها لنفي التفوق.).
هذا ما يمكن النظر فيه كذلك، في مكاشفة لافتة، في مقاله " الكمال لله .. هل هذه الجملة جائزة فلسفيا؟ 19 أيار 2018 " كما في قوله ( لا يمكننا ان ننسب هذا التعريف الى الله لأننا اولا نجهل وظيفة الله بل ولا يجوز لنا ان نفترض ان لله وظيفة ام لا. وفوق هذا فإن اداء الوظيفة على الوجه الاكمل يحتاج منا لقياس معياري وهذا ما لا يمكن تحقيقه ابدا الا ببلوغ الكمال مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة.).
ووجه الحقيقة في نفي التقابل بين المتحدث عن الكمال وهو محدود القوى النفسية، والكمال الذي لا يطال أو لا يحاط به، وما يتطلب ذلك من الاستعانة بخيال، لا يمكنه إخفاء رهبة تحُول دون الحديث عن هذا الكمال المتعالي.
ما يفيد هذا القول هو في مواجهة الذين يتشدقون بتنويعات القول، من فقهاء وأنصاف فقهاء، وهم يحتكرون الحديث عن الغيب، وزعم أنهم على معرفة بالكمال الإلهي، وما يترتب عليه من تجييش وعي " الآخرين " وابتزاز مشاعرهم، بوصفهم يكابدون نقصاً وافتقاراً إلى من يرشدهم.
ولو أننا قرأنا مقاله اللافت بعنوانه " لا تكذب يا ديكارت، 21 كانون الأول 2019 " لتلمسنا فيه، ومن خلال توقفي عنده، ما يخرج ديكارت عن ديكارتيته، ما يستبقي ديكارت ليس هو الذي شغل أذهان جموع الفلاسفة من أقطار شتى، في مذهبه " الشكي: الكوجيتوي "، ودور " الأنا " في ذلك، قبل قرابة أربعة قرون، فأمل يعبّر بما هو أدبي وجداني، وحتى بصيغة إنشائية ( عن القلق المؤلم للإنسان في الحياة، وفي ضوئه كان قول ديكارت " أنا أفكر "وهو ذاته القلق الذي جعل ديكارت يحاول حسمه صارخا:(أنا أفكر).
ثم: لكن ديكارت كان يكذب على نفسه...فلا يمكن حسم هذا القلق أبدا لأن قيمته في سرمدية دورانه داخل الكينونة...
وتالياً: إن هذا القلق هو الذي يجعل كل الأحلام تتقافز أمام عينيك دون أن تستطيع مسكها..ومهما حاولت مد كفك لا تجد سوى اللا شيء..).
لا شأن لديكارت بهذا التجلي الوجداني النفسي، نظير العقلي الذي اعتمده ديكارت، ولو أن أمل تأنى في قراءته، لرأى أن ما قاله وقتذاك، كان يدعم موقع أمل، أو موقعي، أو أياً منا حيث لازالت الفلسفة "غريبة اليد والوجه واللسانى" في مجتمعاتنا، بأكثر من معنى.
كتب وضِعت بلغات شتى، ومن جوانب شتى، حول ديكارت، الفيلسوف الرياضي، حول " مقالة الطريقة " الكتاب الأشهر، وبدعتها التاريخية وقتذاك، ومواجهة هذه الرؤية الفلسفية لما هو ديني بالذات، وما يقوله أمل، كما لو أنه تفحصه عن قرب، وشخَّصه مخبرياً، وثمة فرق كبير، بين التعبير الأدبي والمقاربة النقدية الفلسفية.
ذلك الانشغال يتوسع مساحة وأفقَ نظر، في " فلسفة التشتت Dispersion Philosophy، 16 أيار 2019 " ومقام الفلسفة في عصرنا بالذات، ومأثرة الشذرات، وصلتها بعالم التخصصات الدقيقة " تكنترونيات الرؤية الفلسفية تحديداً " وما يحفّز على التروي، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، أو تمريرها نقدياً كذلك، لدى فوكو، دريدا، هانا أرندت، وما يلي يفصح عن هذا الاعتبار( يمكننا ان نقول بأن الفلسفة تحولت إلى فكر متعدد هو أقرب إلى الفلسفة الثقافية ، قد تكون السلطة -على سبيل المثال- هو مشروع فوكو الرئيسي ، لكنه في الواقع لا يعبأ كثيرا بتحويله إلى مقرر أكاديمي ، إنه ينحو على العكس من ذلك إلى تشتيته في مجرات متباعدة..
ربما تعاني فلسفة التشتت مما تعاني منه الثقافة في مواجهة التخصص الدقيق. لكنها تعتبر مرنة بحيث تستطيع تجاهل محددات التخصص. مع ذلك فهي تظل أقل موثوقية .. ولكن.. ماذا نعني بالموثوقية عندما نتحدث عن خلخلة اليقين؟. ).
السؤال الأخير، أول الحنجلة في الطريق الطويل للفلسفة المتشعبة بموضوعاتها، وليس من موثوقية، وإنما ما يجعل من اللايقين الفلسفي مكاشفة لليقين الفلسفي، حيث مفهوم " الكاوس " يتراءى شبحاً حياً في سماء الراهن الفلسفي أو المنعرفي " الغربي "، ما يشغل اللاعقلي مسائلاً العقلي وتحاورهما، وهو ما يسنده ويرفده العلم بتقنياته الكبرى، وينوّع في البرديغمات، أو ما يجعل الأثر آثاراً ناطقة ومستنطِقة، حيث يكون السيستام المعرفي انفجارياً.
ولعل المفيد في هذا المسعى، هو في كيفية الدخول في هذه الرحابة " الضيقة " والمكثفة" الذرّية " تماماً، وتحريها.
وإذا كنا قد انشغلنا بموضوعات تنتسب إلى " الآخر: الغربي " وإشكاليتها على صعيد الفكر العربي- الإسلامي، وعلى صعيد التفكير العربي الراهن ومفارقاته، من هذا المنطلق المعرفي نفسه، نجد المثار في مقاله "أزمة الإستنارة، 9 حزيران 2020" ومدى صواب عبارة " فكر بنفسك " وهي كانطية النَّسب، حيث يعترض أمل على صيغتها، أي بوصفها أمرية، موجهة، أو آمرة ( هكذأ يبدأ التنوير الكانطي، لكن كان لابد أن تكون البداية: (لا شأن لي بك(.
هذه البداية كانت لتكون تنويراً مقبولاً أكثر من فعل الأمر او التوجيه (فكر)..، فعل الوصاية الذي يصادر على المطلوب، إذ أنك تأمرني بالتفكير، ولكن التفكير بنفسي، فتحول التفكير بنفسي إلى أمر مفروض من الغير.
ثم: إن فكر بنفسك تعني في الحقيقة (فكر كما أفكر)، وهي من ثمً دكتاتورية بقناع ليبرالي.).
ليس محاججة، إن قلت، إن صيغة كانط لا تعتمد حكْماً هرمياً " من- إلى "، حيث التنوير بصيغته هذه، يمكن أن يشغل كل الآخذين به، أو يشغلهم، وإن لم يتداولوه كمفهوم فيما بينهم، إذ في اللحظة التي تُسمَع أو تقرأ فيها العبارة تلك " فكّر بنفسك "، سرعان ما تتحول إلى الآخر، المقابل، أو الغائب، وهذا بدوره، يحيلها إلى غائب آخر، وهكذا دواليك، فكل من يقرأها أو يسمعها، ومن ثم يتهجاها، يكون المتلقي والمخاطِب الضمني أو المسموع لحظة سماعها منه، ومن جهة أخرى، إن الدرس التنويري الكانطي، ومن ثم الفوكوي " في الأنوار " بعد مائتي عام، وكيفية انتقال أثره إلى الساحة الثقافية العربية، كما علَّقت عليه ذات يوم " الذات وسؤال التنوير عربياً، في مجلة: الفكر العربي المعاصر، بيروت،ع: 108-109/ 1991" والذي تردد صداه هنا وهناك، لازال يبحث عن مهبط يتناسب ومحتواه الفلسفي القائم على حرية الذات، حرية التعبير عما هو داخلي، والخروج إلى العالم، وإدراج كل ما هو موجود في نطاق المكاشفة الفلسفية، وهذا ما لم يتحقق بعد، إلى درجة أنه يمكنني القول، أن الفلسفة، رغم الكم الهائل من الكتب التي وضِعت باسمها في نطاق الفلسفة العربية- الإسلامية، والعربية " المحض " حديثاً، لم تنل حقها في التعبير الفعلي، وحقها في الانتشار والتداول، وحقها في التمثيل الثقافي على صعيد التواصل الاجتماعي، السياسي، والفكري، في أوساطنا التي تقاد نقلياً أو بالتقليدية كثيراً، وليس لدي شك في أن الذي يحفّز أمل على كتابة ذات معلَم فلسفي هو هذا المسعى إلى ذاته الأخرى التي يشعر بها، حيث يًصغى إليها، في عالم لا يمكن الإقامة فيه دون رصيد فلسفي، أو ثقافة فلسفية، تمكّن من تحقيق فاعلية التواصل.
وأخطر ما في الموضوع، هوالمتعلق بـ" المفهوم " والذي توسَّع أمل في شأنه نسبياً، في " المفهوم الفلسفي عند دولوز وغيتاري..من زاوية قانونية، 18 حزيران 2020 " ، إنه المقال البحثي الذي يؤكد مدى انهمامه بالتنوير الذي يرتكز أساساً على كيفية تبيئة المفهوم، كيفية الارتقاء بالمفهوم الموصول، كما هو المتاح عميقاً بالذات الشخصية، ومكانة الفرد في مجتمع يعترف به مبدعاً ومنتج فكر بالمقابل، وهنا أشير إلى بعض المقتطفات، حيث القانون، بمرجعه الجنائي، يتراءى هنا مفهوماً :
( تتشكل المفاهيم في القانون بعدة وسائل، الأولى جمع مشكلات متعددة عبر قاسم مشترك، ومنحها مفهوما شاملاً يعبر عنها، وأحيانا يتم ذلك عبر تحليل مشكلة معينة إلى عناصرها..ومع ذلك فالمسألة سيان، إذ هما ليسا أكثر من طريقتين منعكستين، يبدو المفهوم في الأولى مصطنعاً وفي الثانية طبيعياً..أو يتمتع بوجود وفعالية مسبقين.
ينظر دولوز للمفهوم دائما خارج الذات وليس داخلها، سنرى أنه عندما تعرض للكوجيتو الديكارتي، قد وقع في مشكلة الذات والوعي بالذات إذ يجب أن تكون الأنا آخراً وفي نفس الوقت ذاتاً..لذلك فدولوز يقترح (الشخصية المفهومية) كوسيط،
يمكننا فهم أن المفهوم داخل مسطح المحايثة أو مقام الإنوجاد ليس مركباً ماهويا، ففي القصد الجنائي، لن يهتم المشرع أو الفقيه أو القاضي كثيراً بتعريف للإنسان، ولا تعريف حاسم للإرادة..).
كتاب " ما هي الفلسفة " لكل من دولوز- غوتاري، ينبني على قاعدة " المفهوم " الضخمة، كون الفلسفة ذاتها تتنفس برئة مفهومية، وما هو متمايز ثقافياً يتسجل مفهومياً، والشخصية المفهومية تعرّف ببراعتها، وتمايزها أيضاً.
المفهوم، مركَّب، تعددي، انشطاري، زئبقي، نهري، ينبوي، جذموري " إن استعنا هنا بعبارة دولوز عن التكاثر في الفلسفة وكيفية تنامي ثرائها المفهومي، حيث يكون المرء نفسه شجرياً يتوسع بقاعدته "، والمجتمع ببنيانه العلمي، المعرفي، والفكري هو العرّاب الأكبر له .
لا أعني بذلك أنني على معرفة معمقة بالمفهوم مجتمعاً وثقافة وتاريخاً، فأقصي الكاتب أمل بمسعاه المعرفي الدؤوب عما أنوّه إليه، فهذا يقصينا معاً عن " صداقة المفهوم " عن الاستئناس به، على الأقل، إنما ما أعنيه، هو أن المفهوم، بتاريخه الطويل، وموسّعته الفلسفية، لم يتجنس في الثقافة العربية حتى الآن، بالصورة التي تمهّد لبناء مجتمع الإنسان الذي ما كان لمنشغل مكتو ٍ بما هو فكري وثقافي، كأمل الكردفاني، أن يطرح نفسه، بصورة ما اسخيلوسياً، إذا كان وسطه مأهولاً بمثل هذه الغرسات الفلسفية، وبيئتها الثقافية المؤكسجة إنسانياً، وما أبعدنا عن هذه " المواطنة " المعتبَرة بجلاء !؟
حكاياتية أمل الكردفاني " 6 "
وحين طرحتُ عنواناً كهذا " شرعنة التعالي الفلسفي " فمسوّغ ذلك، ما تقدَّم ذكره، جهة المساحة الرحبة وتنوعها التضاريسي، لكي تؤكد حضورها، في برّيها، مائيَّها، وبرمائيها معاً، كونها بإيجاز لاشديد حدود ما لا يتحدد، ولأن الفلسفة أساساً تُرى في الأعالي، وبها تكون !
أقول ذلك، من منطلق تجربة متواضعة في كتابات مختلفة، وحوارات عابرة للحدود المحلية للعالم الضيق الذي أقيم فيه، تقديراً مني، أن ليس كالفلسفة ما يعدُّ المرء لأن يكون إنساناً، الإنسان الذي ليس بالإنسان وحده يدرك نفسه، إنما بسواه في عالمنا الكبير، حيث تكون الحيوانات، النباتات، الجمادات، والقوى اللامرئية عينها مكونات لجسده الحي عقلاً وروحاً.
بناء عليه، أو ربما من هذا المشار إليه، كان هذا الحوار الآخر الذي يعنيني باحثاً، مع من لا يكون الآخر بالنسبة إلي، لا أمل الكردفاني، ولا خلافه، لحظة النظر في المسافة الفاصلة مكانياً بيننا. ألا ما أشد القرب هنا، طالما يمارس الحوار فاعليته، وفي بنية الكتابة المعمَّدة بالتفلسف، حيث فعل الخلْق يتم في كل معاودة كتابة، أو قراءة تنتفي فيها الحدود المرسومة بشرياً .
أمل الكردفاني مغامر فلسفي، يستسيغ اللعب بالمفهوم، وليس فيه ما يخفيه عما لديه أو فيه من رصيد يخوّله لأن يكون قارىء فلسفة، كاتبها، ناقدها، في السياقات اللامتناهية لهذا " الجُرْم " العظيم للإنسان في الفلسفة، وهو يحيل كل شيء إليه طالما أنه المسئول عما يجري، لتكون الفلسفة أعلى درجات التعبير باللغة عما هو وجودي، حتى المخفي داخل فيه.
الفلسفة بوصفها سياقات
في الممارسة التفلسفية، ينبغي التفريق بين رأي في كتاب، وقولة في موضوع، وكتابة موضوع، وهذا ما نعايشه هنا.
بين الحد الأكثر حسّانية، والحد الأقصى تجريدانية، يكون ظله، طيف فكر يتكلمه، كما لو أنه لا ينشغل إلا بما هو فلسفي.
أشير هنا إلى مراجعته لأحد الكتب التراثية في مقاله " مسكويه.. المعلم الثالث - ملخص كتاب 11 نيسان 2018 " حيث إنه يستعرض الكتاب، ومنذ البداية، يأتي كيل المديح ( في كتاب رائع بعنوان "الفكر السياسي لمسكويه الرازي-قراءة في تكوين العقل السياسي الإسلامي" يتعرض محسن مهاجرنيا للنظرية السياسية التي اختطها المعلم الثالث مسكويه. )، والروعة هنا بالطريقة هذه تفضي إلى نسيان العقل الناقد، وإلى الاندهاش بالآخر، أو على الأقل إلى التنازل عن حقوق الأنا في العقل، لصاحب حقوق الآخر جملةً فيه، وهو ما يعدم مسافة الرؤية، إذ إن التعبير المقدَّم لا يعود ذا نفع، لأن كل ما يأتي ينتهي في مصبه، وما في ذلك من إزاحة الذات المستمتعة حوارياً مع المقروء نفسه، وما من شأنه إعماره أكثر، تأكيد إضافة إليه، في مساءلة فلسفية معينة، مثلاً، وما يخص البعد الأنسي فيه، إن استعنّا بتعبير أركون هنا، وكيف يجري تفعيل أثر ما هو إنساني، وحدوده قبل قرابة ألف عام، ومن منطلق تشيُّعه بالمقابل، وما يصلح فيه راهناً.
وعلي أن أضيف نقطة أخرى ذات قيمة، كما أرى طبعاً، وهي أن " روعنة " الكتاب، إذا جاز التوصيف، تعنيه، ولا تعني قارئه في شيء، ولهذا، تكون قراءة الكتاب، وتمرير مقولة مختلفة، ينار بها، هو الذي يحرّك نبض الروعة في النفس، وفي هذا الجانب، تصبح الروعة اثنينية، وربما ثلاثية مع قارىء ثالث، وهكذا دواليك، بالنسبة لمركَّب الروعة .
وربما كان الذي أثاره في مقاله " تعقيب على مقال فلسفة التفكيك عند جاك دريدا، 25 حزيران 2018 " مندرجاً في هذا المنحى، رغم أن المذكور يعرّف به صاحب رأي، ورأياً نقدياً أحياناً، وإن كان الذي يتقدم به يؤكد على تزكية المقروء وكاتبه، وفي الوقت الذي كان دون حدود قراءته في بعض النقاط المتعلقة بالموضوع، وربما تسرّع بذلك، أو استعجل إطلاق الحكْم .
يقول أمل ( قدم الدكتور محمد سالم سعدالله والذي لا أعرفه ولم التقيه سوى عبر مقاله المنشور في صفحة ما بعد الحداثة ؛ قدم مقالا هاما عن تفكيكية دريدا وربما كانت أفضل مقالة تشرح تفكيكية دريدا ، وبالتأكيد عندما يفهم الانسان أمرا ما فإنه يستطيع نقده وتفكيكه أيضا .
وفي الختام المقرَّر: وأخيرا والكلام والنقد يطول ، ما البديل الذي قدمته التفكيكية ؟ إنها لم تقدم بديلا في الواقع بل أدخلتنا في اقصاءات تعسفية متتالية حتى بات النص غريبا عن فاعله ومفعوله. بل أن الأكثر إثارة للدهشة أن التفكيكية تصادر على نفسها بنفسها إذا طبقناها عليها نصيا.)
ما يجدر التذكير به، هو أن أمل في قراءته للمقال الطويل نسبياً لكاتبه، تغاضى عن نقاط مهمة جداً، أوردها سعدالله في مقاله " قرأته أنا في المنار الثقافية الدولية "، من ذلك، أن الكاتب الأكاديمي استعان بجمل شهود عيانه سلباً، ربما للإطاحة بتفكيكية دريدا، وهم على مبعدة عنها، أو على خلاف مع دريدا في تفكيكيته، من ذلك ( وقد حدّد ( كاموف ) التفكيك بقولـه : " التفكيك هو أن تنتهي إلى عمل لاشيء " ، وحدده ( لاينج ) بقوله " التفكيك هو هفوة نقدية " ، أما ( هابرماس ) فقد وصف التفكيك بأنه " عملٌ تعسفيٌّ " ، وحدّده (بورديو ) بقوله : " التفكيك لعبة " ، وحدده ( هاريسون ) بقوله : التفكيك يستلزم تبعات عبثيـة. )، والتفكيكية هنا تفقد تنوعها المعرفي، امتدادها في أكثر من جهة. ماذا لو تابعناها في كتابات عبدالله إبراهيم، عبدالله الغذامي، علي حرب، مطاع صفدي، كيليطو، بنعبدالعالي...الخ؟ لهذا لا يكون المتصرَّف به جهة سعدالله عملاً بحثياً، أو فلسفياً، إنما تواطؤاً ضدياً، ومكاشفة للامسمى في الداخل.
في الجانب الآخر، حين يشير صراحة سعدالله إلى بعض من " فوائدها "، كقوله ( إنّ الركائز التي ينهض عليها المنهج التفكيكي تستند إلى فرضية نقدية مهمة تكمن في البحث عن البديل للكسل الذهني المحيط بالنصوص ، والخروج عن المألوف السائد ، وقد أتاحت هذه الفرضية تماسك أجزاء النقد التفكيكي ومعطياته ، بحيث لا يمكن فصلها إلاّ لأغراض التحليل والدراسة التي تتصيد الظواهر الجديدة ، وتكشف محتواها كلّ على حدة ، فالاختلاف المتأتي من ( خَلَفَ ) و ( إختَلَف ) الذي يحمل معنى التعدد ، ولا يحمل معنى الضدية بالضرورة هو المصطلح الذي يُصوِّر المعنى اللغوي المتعاقب ، الذي يمكن وصفه هنا بأنّه معنى " متواليات " .).
وهذا يزعزع بنية قوله التقويمي ( إنّ الآفاق التي يريد دريدا تقديمها للنقد المعاصر تنطوي على أُسُسٍ خادعة ، ومداعبات يُطلق عليها " الهرطقة " ).
ربما كانت وظيفة الفلسفة كامنة في كيفية توسيع الآخر مع نفسه، وفي نفسه، وتوسيع مساحة الذات مع هذا الآخر بالذات، وما يجعل من الفلسفة مظلة واسعة، عالية، تظلل أكثر من جانب، وليس من احتكار لأي مفهوم عائد إليها .
وبما أننا بصدد التفكيكية وانزياحاتها، لا بد من متابعة إشكالية المثال في مقال جديد له، وهو " خاطرة صغيرة عن التفكيكية والقرآن كنص لغوي، 2 تموز 2020 "، وهي أكثر من كونها خاطرة، طالما أن الموضوع يتطلب تكثيفاً لقوى العقل المعرفية، حيث يتقابل ما هو " غربي: تفكيكي " و" شرقي: ديني إسلامي "، حيث إن أمل يشدد على فاعلية المقرَّر هنا في نصه اللغوي القرآني، إزاء التفكيك الحديث العهد جداً، وما يقوله في جانب من مقاله ( إن المركزية المطلقة انتهت بوفاة ناقل الرسالة (النص)، وانتقلنا من النص الإلهي المحمدي إلى التأويل البشري غير المعتمد، لقد انتقلنا من الإسلام المحمدي (عندما نحصر الإسلام في الرسلة (النص)، إلى إسلامات المُأوِّلين، فالتفكيكية لم تتحقق كنظرية بل كصيرورة أي (حدث تاريخي)، لا نعرف إن كانت قد بلغت ذروتها في عصرنا هذا أم لم تبلغها.).
أرى أن التقابل بين ما كان في أقصى تعاليه دينياً، وما هو كائن دنيوياً، فلسفياً راهناً، يقلّل من أهمية الفكرة نفسها، إلى جانب ما هو خطير في الموضوع، وهو أن أبستمولوجيا ما كان، وبصدد عموم الفلسفات الإسلامية الاعتبار عينها، نطقت بما هو ديني وحتى إيماني، موصول بالغيب، بينما بالنسبة إلى التفكيك، فثمة أبستمولوجيا تسمّي الدنيوي المعلْمن إجمالاً، حتى وإن كان الدين موضوعاً من موضوعات التفكيك، ففي الحالة الأولى، هناك حدود لا ينبغي تجاوزها عقلياً باسم النقل، بالاحتكام إلى ما هو إيماني، وهنا لا حدود، أو سدود من نوع " احذر"، لا مركز محدداً، أي نسف المركزية، وذلك مفيد " لنا " في مواجهة احتكار الحقيقة سلطوياً.
وفي مقاله " منهج النسبية-تقويض التاريخ الثقافي الانساني، 23 نيسان 2018 " يبرز الحضور الفلسفي، ورؤية الأبعد من المسطور، في مقاربة النسبية وبنيتها، عندما يجري التستر على حقيقتها ( والنسبية هي ايضا فوق كونها منهج تفكيكي فإنها اداة لتدعيم الدكتاتوريات والأنظمة القمعية وتثبيت السلطات المتنوعة والتي تسعى جميعها الى السيطرة على الآخر. ولذلك فهي سلاح ذو حدين. ليس هناك اسهل من توريط اي ثقافة عدوة في وحل النسبية ، وليس هناك أداة انجع من استخدام النسبية لتبرير التفوق رغم انها نفسها هي التي يمكن ان نستند اليها لنفي التفوق.).
هذا ما يمكن النظر فيه كذلك، في مكاشفة لافتة، في مقاله " الكمال لله .. هل هذه الجملة جائزة فلسفيا؟ 19 أيار 2018 " كما في قوله ( لا يمكننا ان ننسب هذا التعريف الى الله لأننا اولا نجهل وظيفة الله بل ولا يجوز لنا ان نفترض ان لله وظيفة ام لا. وفوق هذا فإن اداء الوظيفة على الوجه الاكمل يحتاج منا لقياس معياري وهذا ما لا يمكن تحقيقه ابدا الا ببلوغ الكمال مما يجعلنا ندور في حلقة مفرغة.).
ووجه الحقيقة في نفي التقابل بين المتحدث عن الكمال وهو محدود القوى النفسية، والكمال الذي لا يطال أو لا يحاط به، وما يتطلب ذلك من الاستعانة بخيال، لا يمكنه إخفاء رهبة تحُول دون الحديث عن هذا الكمال المتعالي.
ما يفيد هذا القول هو في مواجهة الذين يتشدقون بتنويعات القول، من فقهاء وأنصاف فقهاء، وهم يحتكرون الحديث عن الغيب، وزعم أنهم على معرفة بالكمال الإلهي، وما يترتب عليه من تجييش وعي " الآخرين " وابتزاز مشاعرهم، بوصفهم يكابدون نقصاً وافتقاراً إلى من يرشدهم.
ولو أننا قرأنا مقاله اللافت بعنوانه " لا تكذب يا ديكارت، 21 كانون الأول 2019 " لتلمسنا فيه، ومن خلال توقفي عنده، ما يخرج ديكارت عن ديكارتيته، ما يستبقي ديكارت ليس هو الذي شغل أذهان جموع الفلاسفة من أقطار شتى، في مذهبه " الشكي: الكوجيتوي "، ودور " الأنا " في ذلك، قبل قرابة أربعة قرون، فأمل يعبّر بما هو أدبي وجداني، وحتى بصيغة إنشائية ( عن القلق المؤلم للإنسان في الحياة، وفي ضوئه كان قول ديكارت " أنا أفكر "وهو ذاته القلق الذي جعل ديكارت يحاول حسمه صارخا:(أنا أفكر).
ثم: لكن ديكارت كان يكذب على نفسه...فلا يمكن حسم هذا القلق أبدا لأن قيمته في سرمدية دورانه داخل الكينونة...
وتالياً: إن هذا القلق هو الذي يجعل كل الأحلام تتقافز أمام عينيك دون أن تستطيع مسكها..ومهما حاولت مد كفك لا تجد سوى اللا شيء..).
لا شأن لديكارت بهذا التجلي الوجداني النفسي، نظير العقلي الذي اعتمده ديكارت، ولو أن أمل تأنى في قراءته، لرأى أن ما قاله وقتذاك، كان يدعم موقع أمل، أو موقعي، أو أياً منا حيث لازالت الفلسفة "غريبة اليد والوجه واللسانى" في مجتمعاتنا، بأكثر من معنى.
كتب وضِعت بلغات شتى، ومن جوانب شتى، حول ديكارت، الفيلسوف الرياضي، حول " مقالة الطريقة " الكتاب الأشهر، وبدعتها التاريخية وقتذاك، ومواجهة هذه الرؤية الفلسفية لما هو ديني بالذات، وما يقوله أمل، كما لو أنه تفحصه عن قرب، وشخَّصه مخبرياً، وثمة فرق كبير، بين التعبير الأدبي والمقاربة النقدية الفلسفية.
ذلك الانشغال يتوسع مساحة وأفقَ نظر، في " فلسفة التشتت Dispersion Philosophy، 16 أيار 2019 " ومقام الفلسفة في عصرنا بالذات، ومأثرة الشذرات، وصلتها بعالم التخصصات الدقيقة " تكنترونيات الرؤية الفلسفية تحديداً " وما يحفّز على التروي، وعدم التسرع في إطلاق الأحكام، أو تمريرها نقدياً كذلك، لدى فوكو، دريدا، هانا أرندت، وما يلي يفصح عن هذا الاعتبار( يمكننا ان نقول بأن الفلسفة تحولت إلى فكر متعدد هو أقرب إلى الفلسفة الثقافية ، قد تكون السلطة -على سبيل المثال- هو مشروع فوكو الرئيسي ، لكنه في الواقع لا يعبأ كثيرا بتحويله إلى مقرر أكاديمي ، إنه ينحو على العكس من ذلك إلى تشتيته في مجرات متباعدة..
ربما تعاني فلسفة التشتت مما تعاني منه الثقافة في مواجهة التخصص الدقيق. لكنها تعتبر مرنة بحيث تستطيع تجاهل محددات التخصص. مع ذلك فهي تظل أقل موثوقية .. ولكن.. ماذا نعني بالموثوقية عندما نتحدث عن خلخلة اليقين؟. ).
السؤال الأخير، أول الحنجلة في الطريق الطويل للفلسفة المتشعبة بموضوعاتها، وليس من موثوقية، وإنما ما يجعل من اللايقين الفلسفي مكاشفة لليقين الفلسفي، حيث مفهوم " الكاوس " يتراءى شبحاً حياً في سماء الراهن الفلسفي أو المنعرفي " الغربي "، ما يشغل اللاعقلي مسائلاً العقلي وتحاورهما، وهو ما يسنده ويرفده العلم بتقنياته الكبرى، وينوّع في البرديغمات، أو ما يجعل الأثر آثاراً ناطقة ومستنطِقة، حيث يكون السيستام المعرفي انفجارياً.
ولعل المفيد في هذا المسعى، هو في كيفية الدخول في هذه الرحابة " الضيقة " والمكثفة" الذرّية " تماماً، وتحريها.
وإذا كنا قد انشغلنا بموضوعات تنتسب إلى " الآخر: الغربي " وإشكاليتها على صعيد الفكر العربي- الإسلامي، وعلى صعيد التفكير العربي الراهن ومفارقاته، من هذا المنطلق المعرفي نفسه، نجد المثار في مقاله "أزمة الإستنارة، 9 حزيران 2020" ومدى صواب عبارة " فكر بنفسك " وهي كانطية النَّسب، حيث يعترض أمل على صيغتها، أي بوصفها أمرية، موجهة، أو آمرة ( هكذأ يبدأ التنوير الكانطي، لكن كان لابد أن تكون البداية: (لا شأن لي بك(.
هذه البداية كانت لتكون تنويراً مقبولاً أكثر من فعل الأمر او التوجيه (فكر)..، فعل الوصاية الذي يصادر على المطلوب، إذ أنك تأمرني بالتفكير، ولكن التفكير بنفسي، فتحول التفكير بنفسي إلى أمر مفروض من الغير.
ثم: إن فكر بنفسك تعني في الحقيقة (فكر كما أفكر)، وهي من ثمً دكتاتورية بقناع ليبرالي.).
ليس محاججة، إن قلت، إن صيغة كانط لا تعتمد حكْماً هرمياً " من- إلى "، حيث التنوير بصيغته هذه، يمكن أن يشغل كل الآخذين به، أو يشغلهم، وإن لم يتداولوه كمفهوم فيما بينهم، إذ في اللحظة التي تُسمَع أو تقرأ فيها العبارة تلك " فكّر بنفسك "، سرعان ما تتحول إلى الآخر، المقابل، أو الغائب، وهذا بدوره، يحيلها إلى غائب آخر، وهكذا دواليك، فكل من يقرأها أو يسمعها، ومن ثم يتهجاها، يكون المتلقي والمخاطِب الضمني أو المسموع لحظة سماعها منه، ومن جهة أخرى، إن الدرس التنويري الكانطي، ومن ثم الفوكوي " في الأنوار " بعد مائتي عام، وكيفية انتقال أثره إلى الساحة الثقافية العربية، كما علَّقت عليه ذات يوم " الذات وسؤال التنوير عربياً، في مجلة: الفكر العربي المعاصر، بيروت،ع: 108-109/ 1991" والذي تردد صداه هنا وهناك، لازال يبحث عن مهبط يتناسب ومحتواه الفلسفي القائم على حرية الذات، حرية التعبير عما هو داخلي، والخروج إلى العالم، وإدراج كل ما هو موجود في نطاق المكاشفة الفلسفية، وهذا ما لم يتحقق بعد، إلى درجة أنه يمكنني القول، أن الفلسفة، رغم الكم الهائل من الكتب التي وضِعت باسمها في نطاق الفلسفة العربية- الإسلامية، والعربية " المحض " حديثاً، لم تنل حقها في التعبير الفعلي، وحقها في الانتشار والتداول، وحقها في التمثيل الثقافي على صعيد التواصل الاجتماعي، السياسي، والفكري، في أوساطنا التي تقاد نقلياً أو بالتقليدية كثيراً، وليس لدي شك في أن الذي يحفّز أمل على كتابة ذات معلَم فلسفي هو هذا المسعى إلى ذاته الأخرى التي يشعر بها، حيث يًصغى إليها، في عالم لا يمكن الإقامة فيه دون رصيد فلسفي، أو ثقافة فلسفية، تمكّن من تحقيق فاعلية التواصل.
وأخطر ما في الموضوع، هوالمتعلق بـ" المفهوم " والذي توسَّع أمل في شأنه نسبياً، في " المفهوم الفلسفي عند دولوز وغيتاري..من زاوية قانونية، 18 حزيران 2020 " ، إنه المقال البحثي الذي يؤكد مدى انهمامه بالتنوير الذي يرتكز أساساً على كيفية تبيئة المفهوم، كيفية الارتقاء بالمفهوم الموصول، كما هو المتاح عميقاً بالذات الشخصية، ومكانة الفرد في مجتمع يعترف به مبدعاً ومنتج فكر بالمقابل، وهنا أشير إلى بعض المقتطفات، حيث القانون، بمرجعه الجنائي، يتراءى هنا مفهوماً :
( تتشكل المفاهيم في القانون بعدة وسائل، الأولى جمع مشكلات متعددة عبر قاسم مشترك، ومنحها مفهوما شاملاً يعبر عنها، وأحيانا يتم ذلك عبر تحليل مشكلة معينة إلى عناصرها..ومع ذلك فالمسألة سيان، إذ هما ليسا أكثر من طريقتين منعكستين، يبدو المفهوم في الأولى مصطنعاً وفي الثانية طبيعياً..أو يتمتع بوجود وفعالية مسبقين.
ينظر دولوز للمفهوم دائما خارج الذات وليس داخلها، سنرى أنه عندما تعرض للكوجيتو الديكارتي، قد وقع في مشكلة الذات والوعي بالذات إذ يجب أن تكون الأنا آخراً وفي نفس الوقت ذاتاً..لذلك فدولوز يقترح (الشخصية المفهومية) كوسيط،
يمكننا فهم أن المفهوم داخل مسطح المحايثة أو مقام الإنوجاد ليس مركباً ماهويا، ففي القصد الجنائي، لن يهتم المشرع أو الفقيه أو القاضي كثيراً بتعريف للإنسان، ولا تعريف حاسم للإرادة..).
كتاب " ما هي الفلسفة " لكل من دولوز- غوتاري، ينبني على قاعدة " المفهوم " الضخمة، كون الفلسفة ذاتها تتنفس برئة مفهومية، وما هو متمايز ثقافياً يتسجل مفهومياً، والشخصية المفهومية تعرّف ببراعتها، وتمايزها أيضاً.
المفهوم، مركَّب، تعددي، انشطاري، زئبقي، نهري، ينبوي، جذموري " إن استعنا هنا بعبارة دولوز عن التكاثر في الفلسفة وكيفية تنامي ثرائها المفهومي، حيث يكون المرء نفسه شجرياً يتوسع بقاعدته "، والمجتمع ببنيانه العلمي، المعرفي، والفكري هو العرّاب الأكبر له .
لا أعني بذلك أنني على معرفة معمقة بالمفهوم مجتمعاً وثقافة وتاريخاً، فأقصي الكاتب أمل بمسعاه المعرفي الدؤوب عما أنوّه إليه، فهذا يقصينا معاً عن " صداقة المفهوم " عن الاستئناس به، على الأقل، إنما ما أعنيه، هو أن المفهوم، بتاريخه الطويل، وموسّعته الفلسفية، لم يتجنس في الثقافة العربية حتى الآن، بالصورة التي تمهّد لبناء مجتمع الإنسان الذي ما كان لمنشغل مكتو ٍ بما هو فكري وثقافي، كأمل الكردفاني، أن يطرح نفسه، بصورة ما اسخيلوسياً، إذا كان وسطه مأهولاً بمثل هذه الغرسات الفلسفية، وبيئتها الثقافية المؤكسجة إنسانياً، وما أبعدنا عن هذه " المواطنة " المعتبَرة بجلاء !؟
حكاياتية أمل الكردفاني " 6 "