إبراهيم محمود - النسخة المفقودة: إضاءة أولية لكتابات أمل الكردفاني " 1 "

بين محاولة إيجاد نقاط ارتكاز في الكتابة، ورؤية هدف لها، ومن ثم الانفتاح على جهات مختلفة، والدخول في أكثر من نطاق بحثي، نقدي، وأدبي، وتأكيد حضور الذات، والانتقال بها كتابياً أبعد مما هي فيه وعليه، والسعي إلى الرهان على الاسم ودونه، على أنه هو وليس هو، يبرز القلق المعرفي والأدبي، إلى جانب سمة جلية لخاصية " انظر حولك في غضب وامض "، لدى الكاتب، الباحث، الأديب، أو المأخوذ بشغف الكتابة النقدية والفكرية أمل الكردفاني.

ما تبيّن لدي، أو تلمَّسته، من خلال متابعتي للكم اللافت من كتاباته المشهود له بالتنوع، هو ما اجتهدت، أو رمتُ الاجتهاد في تسميته بـ" النسخة المفقودة " ممّا يريد الظهور به، أو اتخاذه علامة فارقة له، حيث تفصح كتاباته عن كونها تمارين تفكير وتعبير موزَّعة بين فنون القول المعروفة، كأنّي به، في كل فن قولي يودِع بعضاً من قلقه الطافح، من سخطه على ما يجري، من انتمائه إلى شرق لا يخفي نقمته عليه، وتشبثه به في آن، ومن ارتباطه الرئيوي النفسي والفكري بالغرب، دون أن يجهر بهوىً مباشر يشده إليه، وإن كان في نبرته ما يشير إلى هذه العلاقة، إذ اللغة في حالات منها، لا تقول ما يريد منها كاتبها، وإنما ما لا يريد الاعتراف الفوري به، جرّاء تمزقات واقع، أو تصدعات العيش اليومي، وعلى الصعيد الثقافي بالمقابل.

لقد انشغلت لبعض الوقت بهذه الكتابات، حيث أعايش مغامرة التنوع والمتعة معاً فيها، وهي في كثرتها وتنوعها، وهي في تفاوتها الكبير واللافت بالمقابل، بين حضور يد لها مهارة التسطير والتحرك دون تلكؤ أو تعثر، أو ارتجاف، ترجمان مخيال مدعم بالثقة، ويد لا يخطىء النظر في ترددها، وفي وقفاتها، أو كيفية التنفيس عما هو داخلي لسان بحث أو أدب أو نقد.

أعلي أن أقول جرّاء هذا التدافع، والاختلاف الكتابي: ما أكثر أمل الكردفاني، ما أقل أمل الكردفاني، ما أوسع أمل الكردفاني، ما أضيق أمل الكردفاني، ما أشده نباهة ووجاهة فكرة وتعبير، وما أصدمه للنفس وأبعث على الاستغراب، في لقاء نص أدبي " شعري خصوصاً " دون كتاباته الأخرى أفق رؤية، وعمق أثر، وتردد أصداء بالمقابل ؟!

وحين أنوّه إلى مثل هذه النقاط البارزة لدي، بعيداً عن التفصيل والتقويل، لا أخفي تقديري لانبثاقات نفسية كهذه، وهي تحاول بناء بيت فكري وأدبي من منازل عديدة، بيت يحمل اسمه، بالخط العريض، وهذا من حقه، يحققه لسان إرادته الأدبية والبحثية والنقدية طبعاً، وله حضور في متتاليات موع " الأنطولوجيا " إلى جانب إدارته لصحيفة " أسخيلوس " المتنوعة، وهي تسمية بدورها لا تقصينا ، على وجه التقدير، عما يتوق إليه أمل، بتصوري، وتنشده روحه.

ولقد حاولتُ بداية أن أسمّي هذا المبحث النقدي بـ" الأسخيلوسية: قراءة في كتابات أمل الكردفاني " شعوراً نفسياً وعقلياً منّي، أن ما اعتمده أمل في كتاباته المختلفة هذه، بمقياس ذائقتي كذلك، إنما هو كيفية تلبُّس أسخيلوس، مسْرَحته داخل نصوصه المختلفة الأنساب جمالياً واعتبارياً، كيف يكونه في مقتبل القرن الحادي والعشرين، وهو الذي عاش قبل خمسة وعشرين قرناً، ولدى ذلك الأول، كانت الحياة وأوزارها، كانت الشرور وأصنافها، وكانت الصدمات المختلفة، أو التراجيديا التي تبقي المرء مواجهاً ما لا يسر باستمرار، وكيف يمكن للإنسان الارتقاء بذاته في وجه التحديات، كيف ينتقل من " بروميثيوس مصفداً " إلى ": بروميثيوس " طليقاً " وهما مسرحيتا أسخيلوس، وسوى ذلك من المسائل الوجودية التي يشكّل العبث سهماً نافذاً في بنيتها الجسدية، وكأني بأمل يقاوم بالكتابة، وينوّع كي يوسّع في جهات مكره نفسياً .

أمل الباحث في قضية فكرية أو فلسفية، ليس هو الباحث في موضوع نقدي بداهة، ليس أمل المدلي بدلوه في مشكل فني، أو ديني حقيقةً، ليس أمل كاتب قصة حصراً، ولا هذا أمل كاتب النثر مقاربةَ قراءة، ولا هذا بكاتب النص المسرحي ثقافةً ، ولا هذا بكاتب الشعر تذوقاً...

يشعر القارىء، وأعنيه قارئي هنا قبل أي كان، قرائي الذين أتخيلهم وأصنّفهم ضمناً، يشعر بتفاوت الحضور، والمقدور على إدارة الكلمة وتوجيها وتلوينها تبعاً للحالة الموصوفة، أو الموضوع المطروح للنقاش، أو الجارية مناقشته، أو حتى سجاله ...الخ.

لعل ذلك يشكّل حافزاً منشطاً على لقاء هذه التعددية وما يربط عناصرها بعضها بالبعض الآخر، ما يدعم الروابط الفكرية والأدبية بين أمل وآخر، على مستوى الكتابة، ومغزى هذا التفاوت، لحظة مساءلة الثغور القائمة، أو تحرّي خيوط اللعبة في الكتابة، ومن أين تتأتى، أو تكون بؤرة توترها، أو كيفية رسمها لخطوط انتشارها وإحداثية موقعها فكراً وأدباً .

ومن المؤكد أن انتشاراً أدبياً وبحثياً، وما يشكل مشاريع بحث، من هذا القبيل، يتطلب بالمقابل، نوعاً من الرصد القاعي، المحيطي، ويقظة موسَّعة، أو المعايشة المتأنية، ومرفقاتها من الارتباك في عملية الانتقال من نشاط كتابي إلى آخر، حيث تختلف مناخات الكتابة، دون الحسم في التقويم، إنما هي مكاشفة دلالية، واستنطاق الكاتب من خلال نصه، وهو يعيش تحولات كبيرة، في اليوم الواحد أحياناً، حين يكتب أكثر من مادة، واختلاف طبيعتها عن غيرها، وفي المحصلة، تكون العملية لقاء قارىء بقارىء، وزحمة قرّاء، في الوسط الحسابي لعملية تداول نصوصه، لصالح الكتابة عينها هنا، وهل من إطلالة قراءة دون كتابة ؟

سوف أحاول تناول هذه الاهتمامات، في حيوزات مختلفة، لكلّ منها حقله الإجرائي طبعاً.

لو أن أمل الكردفاني كان قاصاً فقط " 2 "

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...