رشا الفوال - تأويل الحُلم عبر الذاكرة في رواية " كيميا"

الأعمال الروائية والقصصية هى الأعمال الأكثر اقترابًا من مجال التحليل النفسي، ذلك أن " الدوافع والإنفعالات أساسان مهمان لفهم العمل الأدبي، بل لفهم السلوك البشري بصفة عامة وتفسيرة"(1)، من هذا المنطلق سيكون تناولنا لرواية " كيميا" للكاتب " وليد علاء الدين"، التي تنفرد أحداثها بارتفاع ( صوت الحُلم) وخصوصية (الذاكرة) تأكيدًا على السمات الشخصية المقموعة للبطل، وكأن الخلاص من الماضي يتم عبر الفرار إلى ( الحُلم التخييلي) متبعًا لآلية ( الإسترجاع)، يمكننا أيضًا الربط بين ( الإسقاط والترميز) " حيث يموضع الكاتب أحاسيسه في شىء ما، وبذلك يتسنىَّ له أن يفصل بينها وبين الذات"(2)؛ فالبطل كان شديد الحرص على تدوين أحلامه، ذلك التدوين الذي يتحول إلى وسيطًا كتابيًا لاستحضار الماضي من أجل نقله إلى خانات التوثيق الذي يجعل الحُلم في مرتبة النصوص؛ إذ تقتصر " كلمة نَص على كل خطاب تم تثبيته بواسطة الكتابة"(3)، إلا أن الحُلم المُدوَّن يستحيل بمجرد كتابته إلى ماض نصي، ويصبح مرهونًا بأحداث عصرُه؛ لذلك يقع المتلقي في المنطقة الوسطىَّ بين آليات النص الحاضرة كتابيًا ( الغائبة زمانيًا)، والتي لايمكن فهمها أو تجاوزها إلا من خلال التأويل " فكل عنصر غائب من النَص على قدر كبير من الحضور في الذاكرة"(4)، والبطل يستدعي من الذاكرة مايتفق مع اللحظة الراهنة متبعًا آلية ( الإنتقاء)؛ لتنفرد النصوص المقموعة بالتعبير عن الأبعاد النفسية لشخصية صاحبها؛ ذلك أن الإحساس بالخوف ومايصاحبه من قلق يكون معه الزمن محسوسًا أكثر، وكأن تدوين الأحلام آلية للإحتماء من القلق، لذلك نجد أن البطل في حالة هروب دائم من الذاكرة إلى الأحلام؛ تلك الذاكرة غير التتابعية" لاتعكس تسلسلًا مطردًا؛ بل تعكس ترتيبًا ديناميًا للأحداث"(5)، فيصبح غياب الزمان عن الأحلام في أحداث الرواية دالًا على محاولات البطل الذاتية للتغلب على عوامل القمع وسعيُه لعدم تمكين البُعد ( الحسِي الواقعي) للأحداث، وفتح مسارات متعددة التأويل يدركها المتلقي دلاليًا، يتضح ذلك في تكرار كلمة ( الخوف) و دلالاتها التي تشى بالقلق غير المُعلن والذي يُترجم ظاهريًا بالسعي لكشف قصة موت"كيميا" ليتضح الفارق بين ( الذات الفردية) التي تم قمعها و( الذات المتحررة) التي تسعىَّ للإنطلاق من خلال التأويل والكشف، هو الأمر الذي يفسر كيف كانت الأحلام أكثر حرية من الذكريات، وكيف اتسمت الأوهام التي تتخذ صفة ( الحُلم) بالطابع ( الإيهامي)

أولًا: شعرية المكان ورمزية الإيقاع
الرواية تتسم بالفضاء التاريخي، والكتابة هُنا ذات طابع ( بصري مكاني) والذاكرة الحُلمية " توفر لنا معرفة حقيقية بالروحي والأزلي والحُر، وليس في عالم الروح قوانين ميكانيكية"(6)، ولأن الرغبة في الكشف قرينة الجوانب الإيجابية؛ كان التركيز على الأبعاد المكانية، وتوضيح صورة الصُروح التاريخية عبر حبكة سردية متقنة، وكان تصميت الأحداث الحميمة وتجاوزها آلية لإبراز ( استقلالية الذات)، فحركة البطل كانت بمثابة هروب من(البنية النظامية للنَص)، والمشاهد المرسومة من الذاكرة تعتبر ( ومضات إدراكية) لمحاولة الفهم تمنحها الأحلام للبطل على مستوىَّ حِسِي، فنراه لايرسم المشاهد فقط وإنما ينتقي منها إحساسه واندهاشه الذي يمثل نقاط التحول في استيقاظ الوعي؛ ذلك الوعي الذي يؤسس لنفسه في الحاضر ليكسب تفرده وأصالته عبر حضور كامل للماضي، فأثناء أحداث الرواية يقوم البطل بخلق وهم وفجأة يدمرُه ضمنيًا؛ لتأتي الأحلام ( ذات الطابع الإرتدادي) على هيئة شذرات وعلى المتلقي أن يسعىَّ إلى التأويل، كما أن ( الإيقاع) في الأحلام جاء سريعًا باعثًا على الحركة بينما جاء في اللحظات الفاصلة بين الذاكرة والحُلم بطيئًا باعثًا على الخوف والقلق، والدفاع العاطفي عن " كيميا" هو دليل تماهى الكاتب معها، في محاولة للهروب من الحرية المقموعة إلى مكان أوسع عبر يقظة الوعى أحيانًا وعبر الأحلام أحينًا أخرىَّ؛ فالمَشاهد المُركبة تحمل دلالات إشارية كامنة تم رسمها اعتمادًا على آلية ( التكثيف Condensation) وهى " عملية عقلية رمزية يكون فيها المحتوىَّ الظاهر متضمنًا لعدة محتويات باطنية"(7)؛ فيتكرر ذِكر البطل للناى الذي يئن ويشكو ويشرح الفراق، والناى عنصر طبيعي مقتطع من القصب، الذى تمتد جذورة في أعماق الأرض لتمتزج بالتراب والماء، لذلك كان الناى القصبي أصدق تعبيرًا عن ( الإقتلاع والتمزق)، " فعندما تصبح التجارب التي يسجلها السرد متوائمة مع تجاربنا العقلية فإنا نقول دون شك أن هذا السرد صادق"(8)

ثانيًا: مركزية المرأة والزمن النفسي
المرأة لها مكانة مركزية في أحداث الرواية من حيث سيطرتها على الآليات التي تمتزج فيها روح الطبيعة مع روح الأنثى كمحددات للصورة الكلية، وحيث أن الرواية تحمل طابعًا أدبيًا قائمًا على الخيال والذاكرة مع الهروب من القمع في شكل أحلام؛ ليصبح المستقبل في خانة الأوهام؛ جاءت الأحلام لتمثل قطيعة زمنية بين الماضي والمستقبل، وجاء التسلسل الزمني متشظيًا وكأنه يمارس قمعًا من نوع آخر لإعاقة تطلعات البطل، وهو الأمر الذي يوحي بفقدان الأمل، لذلك تجنب البطل النظر إلى تعرجات الماء؛ ذلك التجنب الناجم عن فقدان الأمان، وإختزال الأفكار في عبارات مثل " شفاء العليل لقاء الخليل" و" انتظرتك طويلًا، ليس أمامنا مزيد من الوقت، كن مستعدًا"، ولأن الزمن النفسي هو " الزمن الذي ينتج بعد تحويل الذات له بحيث يصير الطويل قصيرًا والقصير طويلًا في فترات الشقاء"(9)، جاءت الكتابة بالحروف الملغزة للتعبير عن فضاءات خيالية مثل " سن بن علاء الدين ولد تر سن"، هنا يتضح أن المسكوت عنه في الذاكرة يمثل فجوات مهملة حاول الكاتب توظيفها عبر الحُلم والتدوين وكأن " الذهن هو الذي يرتب العلاقات بين أقسام الزمن"(10)

_ خاتمة
انطلاقًا من كون " القراءة النفسانية للإنتاج الأدبي تهتم بالعلاقات واكتشاف الصور والتداعيات المُلحة في العمل الأدبي"(11)؛ نرىَّ أن الكاتب استثمر ما للحُلم من طاقة في كتابة أحداث تتسم بالتكثيف اللغوي وانتصر للأوهام على حساب الذاكرة، فـــ" كيميا" مقموعة والبطل مقموع أيضًا، لم يستطع التحرر، لكنه كان قادرًا على الفهم الدقيق للماضي، لذلك ابتعد الكاتب عن الصيغ الجاهزة، ولأن الذاكرة في معظم الأحيان تحتوي على قصص متباينة مبنية على أحداث؛ جاءت " الصور السردية ناتجة عن تداخل الوصف مع السرد"(12)



_ المراجع
1_ صلاح مخيمر، وعبده ميخائيل رزق (1968)، " سيكولوجية الشخصية"، مكتبة الأنجلو المصرية، القاهرة، ط1، ص 150
2_ مصطفى سويف، (1969)،"الأسس النفسية للإبداع العربى"، دار المعارف، ط3،ص 207
3_ وليد منير(1997)، " النَص القرآني من الجملة إلى العالم"، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، ط1، القاهرة، صــ92
4_ فاضل ثامر (2004)، " المقموع والمسكوت عنه في السرد العربي"، دار المدىَّ، ط1، دمشق، صــ9
5_ هانزميرهوف (1972)، " الزمن في الأدب"، ترجمة: أسعد رزوق، مؤسسة سجل العرب، ط1، صـ28
6_ ميرى ورنوك (1992)، " التفسير الفلسفي للذاكرة"، ترجمة: فلاح رحيم، مجلة آفاق عربية، صــ87
7_ عبد المجيد سالمى، ونور الدين خالد،(1998)،"معجم مصطلحات علم النفس، دار الكتاب المصرى، القاهرة، الطبعة الأولى
8_ عبد الفتاح الديدي(1985)،" فلسفة الجمال"، مصر، صـ18_19
9_ عبد الملك مرتاض(1998)،" في نظرية الرواية، بحث في تقنيات السرد"، سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت، ع 240،صـــ51
10_ St Augusin, les confessions,trad du latin par Louis de Mandadon et Pierre Horay, Ed du Seuil, Paris 1982, p. 317
11_ حسين الواد،(1984)،"مناهج الدراسات الأدبية"، سلسلة قراءات منشورات الجامعة:الطبعة المغربية
12_ سيزا قاسم(1984)،" بناء الرواية، دراسة مقارنة لثلاثية نجيب محفوظ"، الهيئة المصرية العامة للكتاب


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...