( باقة للورد و أخرى للقصيدة) ديوان للشاعر المغربي المبدع إدريس علوش، صدر عن سلسة (آفاق عربية) بالهيئة العامة لقصور الثقافة سنة 2014، وتوحي عتبة العنوان بالتداخل الأصيل بين الفن، والحياة من جهة، وبلاغة الأشياء الصغيرة، وحياتها المجازية المتعلقة بصوت المتكلم، وتداعيات النص، وإنتاجيته من جهة أخرى.
وتقوم كتابة (إدريس علوش) هنا على استعادة زمن الطفولة، وعلاقته بالوعي، واللاوعي، وبأسئلة الموت، والهوية الإبداعية المتجددة، والحياة في مستواها الكوني المتجاوز للحدود، وتعزز القصائد من تعدد العوالم، وصيرورة الأشياء الصغيرة، وعلاقاتها الاستعارية بالذات المتكلمة، وأخيلة الاتساع، والتحول الكامنة في الماء، والهواء، وتتداخل الصور، وتؤول الكينونة، وعلامات المكان الإبداعية، والثقافية، وتنفك المسافة بين الحضور، والغياب في تناقض نيتشوي جمالي بين دائرية الطفولة، والتناثر الجمالي في العلامات، والأشياء، والأطياف المستعادة من التراث الثقافي.
ويمكننا رصد ثلاث تيمات فنية في الديوان؛ هي: بين دائرية حلم الطفولة، والوعي بالزمن، والتشكيل الاستعاري للمكان، والأشياء الصغيرة كمؤولات للذات، والعالم.
أولا: بين دائرية حلم الطفولة، والوعي بالزمن:
إن حلم الطفولة يتجاوز بنيتها الزمنية، ويصير دائريا، أو نسقا تفسيريا جماليا للعالم في الوعي المبدع للمتكلم؛ فثمة بكارة في اكتشافه للعالم، والموت، والحياة، والكينونة، كما يمارس الصوت نشوة اللعب، وإعادة تشكيل الأشياء من منظور المبدع الذي يستعيد روح الطفولة الممتدة خارج زمنها الخاص؛ فهي تقاوم الزمن باتجاه الصيرورة الكونية المرحة التي تجمع بين البهجة، والغياب طبقا لقراءة نيتشه لمولد التراجيديا من تناغم أبولو، وتفكك ديونسيوس.
إن حلم الطفولة يستنزف الطفولة الأولى باتجاه ولاداتها المتكررة في الكتابة، وتجاوزها للنهايات من داخل مرحها الخاص الكامن في مدلول الغياب.
ويشكل الوعي بالولادة الإبداعية تأويلا لوجود المتكلم، ومعاينته لبكارة العالم في قصيدة (منذ ولدت نطفة كانت تأسرني الأحلام)؛ فالطفولة آلية خيالية متكررة، ومنتجة للانطباعات والصور، و التشبيهات التي تعانق الأشياء في كون جمالي متجدد.
يقول:
"تنتهي النطفة اللامرئية رعشة / تستكين للعراء / شذرات رمل / ويمتد وجودي سؤالا / لطفل يعشق عتمات / الأزقة".
إن الوعي التفسيري بالولادة يجمع بين الحياة الطيفية غير المرئية، وتطور الجسد الكامن في علامة النطفة، ثم يبدو الأفق كتشبيه تعانق فيه أحلام الطفولة جماليات المكان، وكأن عتمة الأزقة هي رحم آخر، أو ولادة إبداعية متكررة.
وقد يستعيد الشاعر حلم الاتساع الكوني، وإحساس الطفل بامتلاك العالم؛ ليعيد قراءة الذات في حالة الكتابة، وتحولاتها الأدائية.
يقول:
"طفل راوده ملكوت البحر / فانساق للسماء يلهو".
إنه يعانق تناقضات المياه، وأخيلتها التي تتعلق بالسكون، والتجدد الصاخب معا؛ كي يولد الصوت الإبداعي مرة أخرى من عوالم اللاوعي الفسيحة الكامنة في الطفولة المستعادة، والمتحولة باتجاة اللعب الجمالي للكتابة؛ إذ يمثل اللهو إعادة إنتاج مرحة للذات، والذاكرة، والعلامات الكونية.
ويتجاوز صوت المتكلم حدود الزمان، والمكان، ويستنزف النهايات بالكشف عن جماليات العتمة، وحياة اللاوعي الخفية؛ فالغياب يحتمل تجدد الخصوبة، ووهج البدايات في تناقضات ديونسيوس النيتشوية.
يقول في قصيدة (شغب الطفل البحري):
"اكتشفت باخوس / حين أودعني قنينة / لولبية / القطرات / كي أحتفي بها / جرعة / جرعة / في صحة الغائبين قسرا / في غياهب العتمات".
الصوت يلج قلب المأساة، ويكشف عن المرح في قلب نغمات العتمة؛ فهو يستدعي ديونسيوس؛ ليجدد حالة التناثر المختلطة بأخيلة الماء، وبكارة حلم الطفولة؛ وكأنه يؤول صوته الخاص انطلاقا من التناقض الإبداعي في حالة الفعل، أو الأداء الجمالي المؤكد لاتساع مدلول الهوية في النص.
وقد تختلط الأنساق التأويلية في وعي المتكلم؛ لتفكك مركزية كل من مدلولي الحضور، والغياب.
يقول:
"غنيت لنشوة المساء / فرحا بعودة الخطاطيف / إلى سقف جدي / وسألت الثمالة: / هل لي أن أسافر في عرف / السوسنة".
يمتزج صخب الموت المحتمل في النص بحضور جمالي، وغناء ينبع من الغياب؛ ليفكك مركزيته، مثلما يبدو الحضور كأنه غياب في السوسنة، أو كتحول كوني بهيج يتجاوز مركزية الحضور الشخصي.
لقد ولد التأويل الجمالي الطيفي للذات، من تأويل نصي آخر؛ هو أغنية للغياب، والعتمة، والصخب المادي للموت؛ وكأن التأويل الثاني يسخر من الأول، بينما يتصل به أيضا في حالة التناغم التي تشبه أحلام الطفولة.
ثانيا: التشكيل الاستعاري للمكان:
ينبع المكان، ويحيا من داخل أحلامه، و تشبيهاته في الوعي المبدع في ديوان إدريس علوش؛ فأصيلة المغربية تحيا في الأصوات، والصور الفنية، والحضارية الإنسانية العالمية المضافة لأصالتها المحلية، وبنائها الجمالي، كما تتسع جمالياتها؛ فتبدو كحلم كوني يحتفي بسيمفونية الشعر، وأطياف التاريخ الحضاري في صيرورة تتجاوز اللحظة الراهنة.
يقول في قصيدة (فضاءات):
"له أن يتذكر / وجه كارولينا المنفية / في بجعة الغجر / ورقصة الفلامينغو / ساعة يتحول المكان / إلى مستنقع لضفادع مولعة / بصيد الكلام!".
لقد ولدت أصيلة من تشبيهات البحر، وصخب الطفولة، وحلم الاتساع الداخلي في وعي الشاعر، وقد صورت إنتاجية النص روحها الجمالية كاحتفالية إبداعية مرحة للأصوات، والصور، و النقوش، والآثار الفنية للحضارة. أصيلة حضارة متحولة تشبه الكتابة الأولى في تفاعل العوالم الجزئية الكونية، والثقافية، والاتصال غير الواعي بأطياف الماضي، وشخوصه.
وقد تختلط رقصة المكان بأخيلة البحر، والإنتاجية الإبداعية في قصيدة (حين يتسلق لبلاب المدينة موج البحر)؛ فللمدينة جذورها الخيالية، وأصداؤها الحلمية المتحولة في العالم الداخلي للمتكلم.
يقول:
"وكنت أبحث في حدائق البحر / عن منقار من فضة / لحمامة تحط فوق / مئذنة المدينة ... / وعبر الصدى / كان يأتيني / نشيد البجع / لأغني نيلوفر الأحزان".
للمدينة حضور استعاري مرح راقص في النص، وتحيلنا صورتها إلى فعل الإنتاج الإبداعي نفسه، والكامن في أنشودة الصوت المتكلم، وفي تحول العلامات الكونية في فضاء المدينة؛ فالهواء يبدو كثيفا، وله ثقل المياه في النص، والمرح يقترن بغناء البجعة الأخير، وكأنه يقاوم الموت بتلك الرقصة الجمالية للمدينة، وما تحويه من تعاطف بين المعالم الحضارية، والكونية.
ثالثا: الأشياء الصغيرة كمؤولات للذات، و العالم:
يؤول الصوت حضوره الجسدي من خلال الحياة الخفية الكامنة في الأشياء الصغيرة؛ مثل الكرسي، وفرو الذئب، والحذاء، وغيرها؛ فهي تمتلك ما يمكن تسميته بالحياة الشيئية المؤولة للذات، و العالم؛ إذ يكمن بداخلها صخب خفي للذاكرة، وأطيافها الجمالية، وكذلك التشيؤ المادي القابل لإعادة التشكيل في الحياة اليومية؛ إنها أشياء تؤول وقوع الكائن بين الحضور، والعدم؛ فهو في حالة اختفاء بهيج مرح يقع وراء الأشياء الصغيرة، وتحولاتها.
يقول في قصيدة (الذئب الذي كان):
"الذئب / الذي كان؟؟!! / أضحى قطعة فرو / تمسك بمقود قطع غيار / قديمة / توصل إلى شتات مسالك / ... استعار من عرائس كانت له / مدارا لصمت الحملان / واختفى يعد سكنات ذيله / كطاووس...".
الصوت يكتشف هويته السردية الأخرى – وفق مفهوم ريكور - في مسيرة الشيء / فرو الذئب – الإبداعية؛ وكأن الموت حياة مجازية للشيء / الذات، تتداخل فيه الأصوات، والصور، وأطياف السينما؛ فالفرو هو أثر الشيء، وبعث لجذوره الحية في الوعي، واللاوعي.
ويبلغ التوحد التأويلي بالأشياء الصغيرة ذروته في قصيدة (الليل مهنة الشعراء وكفى)؛ إذ يطل الصوت في البهجة الإبداعية للأشياء الصغيرة التي تنبعث من النصوص، ومن أطيافها الخفية في الحياة اليومية في آن.
يقول:
"أبحر هكذا في القصيدة .. في انسياب اللاشيء، في تصدع الفلسفة ... في محو الشكل، في رقص النافورة، في هذيان الشك ... في بهو الصحو، في شرفة أنسى الحاج، في غليون تروتسكي".
تؤكد الذات حياتها الإبداعية في تلك المؤولات الصغيرة، واستبدالاتها المتوهجة فيما وراء الزمن، وتجديدها للحظات فريدة من التاريخ الحضاري بصورة أفقية تتجاوز الماضي، وتبعث روائحه، و صخبه المادي.
وأرى أن للأشياء الصغيرة دلالة ثقافية تتعلق بتعددية العالم الأصيلة، وتأكيد ثراء الحياة الهامشية، و تجاوزها لأي مركز مسبق.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر
وتقوم كتابة (إدريس علوش) هنا على استعادة زمن الطفولة، وعلاقته بالوعي، واللاوعي، وبأسئلة الموت، والهوية الإبداعية المتجددة، والحياة في مستواها الكوني المتجاوز للحدود، وتعزز القصائد من تعدد العوالم، وصيرورة الأشياء الصغيرة، وعلاقاتها الاستعارية بالذات المتكلمة، وأخيلة الاتساع، والتحول الكامنة في الماء، والهواء، وتتداخل الصور، وتؤول الكينونة، وعلامات المكان الإبداعية، والثقافية، وتنفك المسافة بين الحضور، والغياب في تناقض نيتشوي جمالي بين دائرية الطفولة، والتناثر الجمالي في العلامات، والأشياء، والأطياف المستعادة من التراث الثقافي.
ويمكننا رصد ثلاث تيمات فنية في الديوان؛ هي: بين دائرية حلم الطفولة، والوعي بالزمن، والتشكيل الاستعاري للمكان، والأشياء الصغيرة كمؤولات للذات، والعالم.
أولا: بين دائرية حلم الطفولة، والوعي بالزمن:
إن حلم الطفولة يتجاوز بنيتها الزمنية، ويصير دائريا، أو نسقا تفسيريا جماليا للعالم في الوعي المبدع للمتكلم؛ فثمة بكارة في اكتشافه للعالم، والموت، والحياة، والكينونة، كما يمارس الصوت نشوة اللعب، وإعادة تشكيل الأشياء من منظور المبدع الذي يستعيد روح الطفولة الممتدة خارج زمنها الخاص؛ فهي تقاوم الزمن باتجاه الصيرورة الكونية المرحة التي تجمع بين البهجة، والغياب طبقا لقراءة نيتشه لمولد التراجيديا من تناغم أبولو، وتفكك ديونسيوس.
إن حلم الطفولة يستنزف الطفولة الأولى باتجاه ولاداتها المتكررة في الكتابة، وتجاوزها للنهايات من داخل مرحها الخاص الكامن في مدلول الغياب.
ويشكل الوعي بالولادة الإبداعية تأويلا لوجود المتكلم، ومعاينته لبكارة العالم في قصيدة (منذ ولدت نطفة كانت تأسرني الأحلام)؛ فالطفولة آلية خيالية متكررة، ومنتجة للانطباعات والصور، و التشبيهات التي تعانق الأشياء في كون جمالي متجدد.
يقول:
"تنتهي النطفة اللامرئية رعشة / تستكين للعراء / شذرات رمل / ويمتد وجودي سؤالا / لطفل يعشق عتمات / الأزقة".
إن الوعي التفسيري بالولادة يجمع بين الحياة الطيفية غير المرئية، وتطور الجسد الكامن في علامة النطفة، ثم يبدو الأفق كتشبيه تعانق فيه أحلام الطفولة جماليات المكان، وكأن عتمة الأزقة هي رحم آخر، أو ولادة إبداعية متكررة.
وقد يستعيد الشاعر حلم الاتساع الكوني، وإحساس الطفل بامتلاك العالم؛ ليعيد قراءة الذات في حالة الكتابة، وتحولاتها الأدائية.
يقول:
"طفل راوده ملكوت البحر / فانساق للسماء يلهو".
إنه يعانق تناقضات المياه، وأخيلتها التي تتعلق بالسكون، والتجدد الصاخب معا؛ كي يولد الصوت الإبداعي مرة أخرى من عوالم اللاوعي الفسيحة الكامنة في الطفولة المستعادة، والمتحولة باتجاة اللعب الجمالي للكتابة؛ إذ يمثل اللهو إعادة إنتاج مرحة للذات، والذاكرة، والعلامات الكونية.
ويتجاوز صوت المتكلم حدود الزمان، والمكان، ويستنزف النهايات بالكشف عن جماليات العتمة، وحياة اللاوعي الخفية؛ فالغياب يحتمل تجدد الخصوبة، ووهج البدايات في تناقضات ديونسيوس النيتشوية.
يقول في قصيدة (شغب الطفل البحري):
"اكتشفت باخوس / حين أودعني قنينة / لولبية / القطرات / كي أحتفي بها / جرعة / جرعة / في صحة الغائبين قسرا / في غياهب العتمات".
الصوت يلج قلب المأساة، ويكشف عن المرح في قلب نغمات العتمة؛ فهو يستدعي ديونسيوس؛ ليجدد حالة التناثر المختلطة بأخيلة الماء، وبكارة حلم الطفولة؛ وكأنه يؤول صوته الخاص انطلاقا من التناقض الإبداعي في حالة الفعل، أو الأداء الجمالي المؤكد لاتساع مدلول الهوية في النص.
وقد تختلط الأنساق التأويلية في وعي المتكلم؛ لتفكك مركزية كل من مدلولي الحضور، والغياب.
يقول:
"غنيت لنشوة المساء / فرحا بعودة الخطاطيف / إلى سقف جدي / وسألت الثمالة: / هل لي أن أسافر في عرف / السوسنة".
يمتزج صخب الموت المحتمل في النص بحضور جمالي، وغناء ينبع من الغياب؛ ليفكك مركزيته، مثلما يبدو الحضور كأنه غياب في السوسنة، أو كتحول كوني بهيج يتجاوز مركزية الحضور الشخصي.
لقد ولد التأويل الجمالي الطيفي للذات، من تأويل نصي آخر؛ هو أغنية للغياب، والعتمة، والصخب المادي للموت؛ وكأن التأويل الثاني يسخر من الأول، بينما يتصل به أيضا في حالة التناغم التي تشبه أحلام الطفولة.
ثانيا: التشكيل الاستعاري للمكان:
ينبع المكان، ويحيا من داخل أحلامه، و تشبيهاته في الوعي المبدع في ديوان إدريس علوش؛ فأصيلة المغربية تحيا في الأصوات، والصور الفنية، والحضارية الإنسانية العالمية المضافة لأصالتها المحلية، وبنائها الجمالي، كما تتسع جمالياتها؛ فتبدو كحلم كوني يحتفي بسيمفونية الشعر، وأطياف التاريخ الحضاري في صيرورة تتجاوز اللحظة الراهنة.
يقول في قصيدة (فضاءات):
"له أن يتذكر / وجه كارولينا المنفية / في بجعة الغجر / ورقصة الفلامينغو / ساعة يتحول المكان / إلى مستنقع لضفادع مولعة / بصيد الكلام!".
لقد ولدت أصيلة من تشبيهات البحر، وصخب الطفولة، وحلم الاتساع الداخلي في وعي الشاعر، وقد صورت إنتاجية النص روحها الجمالية كاحتفالية إبداعية مرحة للأصوات، والصور، و النقوش، والآثار الفنية للحضارة. أصيلة حضارة متحولة تشبه الكتابة الأولى في تفاعل العوالم الجزئية الكونية، والثقافية، والاتصال غير الواعي بأطياف الماضي، وشخوصه.
وقد تختلط رقصة المكان بأخيلة البحر، والإنتاجية الإبداعية في قصيدة (حين يتسلق لبلاب المدينة موج البحر)؛ فللمدينة جذورها الخيالية، وأصداؤها الحلمية المتحولة في العالم الداخلي للمتكلم.
يقول:
"وكنت أبحث في حدائق البحر / عن منقار من فضة / لحمامة تحط فوق / مئذنة المدينة ... / وعبر الصدى / كان يأتيني / نشيد البجع / لأغني نيلوفر الأحزان".
للمدينة حضور استعاري مرح راقص في النص، وتحيلنا صورتها إلى فعل الإنتاج الإبداعي نفسه، والكامن في أنشودة الصوت المتكلم، وفي تحول العلامات الكونية في فضاء المدينة؛ فالهواء يبدو كثيفا، وله ثقل المياه في النص، والمرح يقترن بغناء البجعة الأخير، وكأنه يقاوم الموت بتلك الرقصة الجمالية للمدينة، وما تحويه من تعاطف بين المعالم الحضارية، والكونية.
ثالثا: الأشياء الصغيرة كمؤولات للذات، و العالم:
يؤول الصوت حضوره الجسدي من خلال الحياة الخفية الكامنة في الأشياء الصغيرة؛ مثل الكرسي، وفرو الذئب، والحذاء، وغيرها؛ فهي تمتلك ما يمكن تسميته بالحياة الشيئية المؤولة للذات، و العالم؛ إذ يكمن بداخلها صخب خفي للذاكرة، وأطيافها الجمالية، وكذلك التشيؤ المادي القابل لإعادة التشكيل في الحياة اليومية؛ إنها أشياء تؤول وقوع الكائن بين الحضور، والعدم؛ فهو في حالة اختفاء بهيج مرح يقع وراء الأشياء الصغيرة، وتحولاتها.
يقول في قصيدة (الذئب الذي كان):
"الذئب / الذي كان؟؟!! / أضحى قطعة فرو / تمسك بمقود قطع غيار / قديمة / توصل إلى شتات مسالك / ... استعار من عرائس كانت له / مدارا لصمت الحملان / واختفى يعد سكنات ذيله / كطاووس...".
الصوت يكتشف هويته السردية الأخرى – وفق مفهوم ريكور - في مسيرة الشيء / فرو الذئب – الإبداعية؛ وكأن الموت حياة مجازية للشيء / الذات، تتداخل فيه الأصوات، والصور، وأطياف السينما؛ فالفرو هو أثر الشيء، وبعث لجذوره الحية في الوعي، واللاوعي.
ويبلغ التوحد التأويلي بالأشياء الصغيرة ذروته في قصيدة (الليل مهنة الشعراء وكفى)؛ إذ يطل الصوت في البهجة الإبداعية للأشياء الصغيرة التي تنبعث من النصوص، ومن أطيافها الخفية في الحياة اليومية في آن.
يقول:
"أبحر هكذا في القصيدة .. في انسياب اللاشيء، في تصدع الفلسفة ... في محو الشكل، في رقص النافورة، في هذيان الشك ... في بهو الصحو، في شرفة أنسى الحاج، في غليون تروتسكي".
تؤكد الذات حياتها الإبداعية في تلك المؤولات الصغيرة، واستبدالاتها المتوهجة فيما وراء الزمن، وتجديدها للحظات فريدة من التاريخ الحضاري بصورة أفقية تتجاوز الماضي، وتبعث روائحه، و صخبه المادي.
وأرى أن للأشياء الصغيرة دلالة ثقافية تتعلق بتعددية العالم الأصيلة، وتأكيد ثراء الحياة الهامشية، و تجاوزها لأي مركز مسبق.
د. محمد سمير عبد السلام – مصر