أمل الكردفاني - نهاية الآيدولوجيا أم بدايتها؟

هل كانت هناك آيدولوجيا حقيقة؟
كان نابليون يمر بالسيوسيولوجيين، ويصفهم بالآيدولوجين. ربما سخرية نابليون نابعة من فلسفة عميقة وليست رد فعل سلبي سياسي. إن شخصيات كنابليون وبيل جيتس وترامب يمتلكون عقلاً أداتياً، العقل الذي لا يعترف إلا بالفعالية، ولو حقق ذلك إنجازات تخدم البشرية أو تدمرها. لو اتفقنا على هذه النقطة، يمكننا أن نجزم بأن هتلر لم يكن يؤمن بالنازية؛ بل كان يؤمن بنفسه والنازية وسيلة فقط. وحين يكون هناك صراع بين المحورين الشيوعي والرأسمالي، فعلينا أن نعود ونسأل، هل كان صراعاً آيدولوجياً حقاً؟
فهل كان هناك بالفعل آيدولوجيا في هذا العالم، طوال تاريخ البشرية، سواء كانت مادية أم غيبية؟ لقد إستيقظ شاول الطرسوسي وأعلن أنه التقى بالمسيح، وأصبح بولس الرسول، وكذلك حصل مع قسطنطين، الذي رأى العلامة في السماء، فاستقطب المسيحيين وانتصر في حربه ليصبح إمبراطور روما. لكن هل كان شاول مسيحياً، وهل رأى قسطنطين علامة في المنام؟
تبدأ الآيدولوجيا من رأس المثلث الحاد، أي من فرد، ثم تهبط لأسفل وتتسع قاعدة المثلث، وبدون ذلك الفرد لما كانت هناك قاعدة. لكن في الحقيقة يكون رأس المثلث هو الأكثر إدراكاً لخطل الآيدولوجيات. لكنه في نفس الوقت يدرك أن المرء لو آمن بحجر لنفعه. فلابد من خط مفاهيمي لبلوغ القيادة، إذ لا قيادة بلا آيدولوجيا. وعندما يكون كل عقل أفراد الجماعة أداتيا، فإن هذه الجماعة تتفكك بسرعة. فلابد أن يكون هناك دائماً (مؤمنون) يملكون الحماسة الكافية للمضي قدماً حتى النهاية. وبدون هذا الإيمان، لا يمكن بلوغ القيادة إلا بإستخدام القوة المادية. ولكنها ستظل قيادة مضطربة، وقابلة للإنهيار في أي وقت. إن الدول التي تعاني من الصراعات، هي التي تكون شعوبها أكثر ذكاءً من غيرها. فبالرغم من أن الجميع قد يخسر بسبب ذلك الصراع، إلا أن الجميع في الواقع يرفضون السقوط في قاعدة المثلث، وهم بالتالي يرفضون الإيمان.
ولولا وعي القيادة بخطل الآيدولوجيات لما تمكنت تلك القيادة من إمتلاك المرونة اللازمة للتحرك في مسارات أفعوانية لتخطي العوائق التي تقف في طريقها. تقدم القيادة تنازلات بالقدر الذي تحافظ فيه على عدم فقدان قاعدة المثلث لإيمانها حتى لا تخسر قوة الإيمان. وتتعنت في أحيان كثيرة لتحمي ذلك الإيمان. وفي لحظة ما، وعندما يصبح التعارض بين الآيدولوجيا والواقع شديداً، لا تستطيع تلك القيادة سوى المقاومة دفاعاً عن الإيدولوجيا بآخر قطرة دم من دماء القاعدة أولاً ومن دمها ثانياً. فحين خارت قوى جان دارك، أثبتت أنها لم تعد تملك سوى الإستمرار حتى الموت أو النجاة. لقد فضلت النجاة فأدى ذلك الخيار لموتها بعار الإستلام المذل. لقد ثبت أنها لم تكن صالحة لتكون قيادية، مثل الأبطال الذين واصلوا المقاومة حتى تدحرجت رؤوسهم من المقصلة، لأنهم فضلوا الثبات أمام محاكمات التاريخ.
تخلق تلك القيادات الآيدولوجيات، لتمتلك أسلحة تعلن من خلالها وجودها كلاعب أساسي في موسوعة التاريخ. أما القاعدة من المتحمسين، فهي التي تقاتل لتعلن من خلال قتالها ليس فقط وجود الآيدولوجيا في موسوعة التاريخ بل لتعلن نصرها الحاسم على قانون الطبيعة الكوني، ولذلك فهي لا تدرك أنها ستنهزم لا محالة. إن الديالكتيك لا ينتج إلا عن تعارض القانون الواحد مع التنوع اللا متناهي للقوانين التي تحكم العالم. إن الشيوعية كانت ستنهزم لا محالة، لأن العالم لا يتحمل نظرية واحدة تحكمه، كما لم يتحمل حكم دين واحد له. وكذا الحال بالنسبة للرأسمالية، لذلك تظهر نظريات تتعارض بدوغمائيتها مع الواقع فتنهزم...وهكذا. فالديالكتيك، ليس صراعاً طبقياً، بل هو صراع القانون الواحد مع تعقيدات العالم. لقد استمر نظام العبودية حتى وقت قريب، حيث كان هناك إستسلام تام ليس للطبقية فقط بل للقيمة الإنسانية نفسها. واليوم هناك أيضاً إستسلام لمنظومة العمل، التي هي طبقية بطبيعتها. وفي الأنظمة العشائرية أيضاً لا يمكن تطبيق النظرية الديموقراطية، لأن المنظومة كلها ستنهار، عندما يتم نقل الوعي من الوعي بالجماعة إلى الوعي بالذات، وعندما يتم كسر التراتبية التي يُعتمد عليها في القيادة والخضوع، التوجيه والإنجاز، التفكير والفعل، الإيمان بالمنظومة بطبقيتها وتراتبيتها، وتسلطها، لكي يحمي الفرد مصالح الجماعة وتحمي الجماعة مصالح الفرد... ولذلك فالديموقراطية، تستنفر الوعي بالذات. وتحطم الإيمان بالآيدولوجيا. وهذه نقطة ضعفها الأساسية. لذلك تنهار الديموقراطيات بسرعة، عندما يزداد وعي الأفراد الذين تتكون منهم القاعدة بخطل الإيدولوجيات. هنا يتطلع الجميع لرأس المثلث، ومن هنا يبدأ الصراع، الذي يفضي إلى إنهيار الصنم الديموقراطي نفسه كآيدولوجيا. إذ تقوِّض الآولوجيا نفسها. لذلك لا بد أن تكون هناك دائماً قيادة مركزية للديموقراطية. قيادة خفية أو واضحة، تحافظ على الديموقراطية نفسها كآيدولوجيا، أي تحافظ على الإيمان لدى القاعدة. إن النظريات المادية تدرك تلك الثغرة الخطيرة في الديموقراطية، ولذلك تتجاهلها وتستبدل مفردة الحرية بها. وتحت الحرية تندرج مفاهيم متعددة أهمها السلطة، القانون، الحقوق، العدالة، المساواة. ولكن كل تلك المفردات تستخدم بشكل غامض وعاطفي. وبمجرد تحول تلك النظريات إلى آيدولوجيا، ومن آيدولوجيا لطرف في الصراع، ومن طرف لمنتصر، حتى تتواجه مع تلك المفردات ذاتها، التي تضعها في زاوية ضيقة تكشف عوارها وعورتها. فالمفردات تستخدم بذاتها كآيدولوجيات داخل الآيدولوجيا في الخطاب الإستقطابي العام، فتبث فيها الضعف بدلاً عن القوة.
إن الآيدولوجيات لا تبدأ ولا تنتهي، لأنها المحرك الأول للتفاعلات البشرية، رغم انها تشتغل في التحريك للإتجاه المعاكس للوعي، لأنها تتناقض مع الوعي ولا تحيا في بيئته.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...