الإعدام يوم عيد الأضحى
صباح اليوم الثاني من نونبر 1973، أصدرت وزارة الأنباء بلاغا صحفيا جاء فيه أن المحكوم عليهم بالإعدام في ما سمي بمحاكمة القنيطرة من طرف المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية، المعروفين بقضية «مولاي بوعزة» قد نفذ فيهم الإعدام يوم الفاتح من نونبر 1973 في الساعة السادسة صباحا و 38 دقيقة بالسجن المركزي بالقنيطرة، بحضور رئيس المحكمة ووكيل الملك ومحامي الدفاع.
الذين نفذ فيهم الإعدام في ذلك اليوم الذي صادف احتفالات عيد الأضحى كانوا عمر دهكون، عبد الله بن محمد، أيت لحسن، بارو مبارك، بوشعكوك محمد، حسن الادريسي، موحا نايت بري، تفجيست لحسن، أجداني مصطفى، يونس مصطفى، أمحزون موحى، ولحاج، بيهي عبد الله الملقب بفريكس، دحمان سعيد نايت غريس، أيت زايد لحسن، حديدو موح، محمد بلحسين الملقب بـ «هوشي منه».
من هم؟ ماهي قضيتهم التي استنجدت الدولة المغربية للحد منها إلى العقوبة القصوى؟ كيف تراكبت عناصر السياسة والنضال والقمع، في ثلاثية مستحيلة الحل، إلى أن وصلت بعدة مناضلين إلى الوقوف أمام فرقة الإعدام، وجها لوجه أمام موت؟ وما هي الأحداث التي حدثت في مولاي بوعزة أو أحداث 3 مارس 1997 أولا؟
منذ بداية سنة 1973، اجتاز المغرب موجة من الأعمال المسلحة استهدفت المؤسسات الحكومية في بعض المدن والبوادي، وكانت هذه الأحداث التي أعقبت انقلابي 71 و 72، تتويجا لعمل سرّي فرضته على مجموعة من المناضلين آنذاك ظروف الانحسار السياسي و «التزمت» المؤسساتي في البلاد، ومع بداية شهر مارس 1973 «تسللت» مجموعة من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الحدود الجزائرية ـ المغربية، والتحقت بأعالي الأطلس لإشعال فتيل الثورة المسلحة ضد «النظام» المغربي وموروثه الاستعماري، بناء على التحليل الثوري الحالم وقتها، ولأسباب كثيرة، ليس هذا مجال سردها، انتهت المغامرة بمحاصرة مجموعة المقاتلين الثوريين وتم تبادل الرصاص في فجاج الأطلس وسفوحه ولقي بعض الثوريين حتفهم في تلك المواجهات ومنهم محمد بنونة المعروف باسم محمود، والذي نعتته البيانات الرسمية بـ «زعيم الإرهابيين»، وأسكور محمد وابراهيم التيزنيتي… في حين حاول آخرون العودة الى الجزائر، وقد نجحوا في ذلك، ومن ضمنهم أومدة، في حين تعرض آلاف المناضلين الى الاعتقال، وتم الحكم بالإعدام على مجموعة منهم، ذكرنا بعض الأسماء التي نفذ فيها الحكم، في كل حديث عن تلك الفترة، يعود على لسان أصحابها أو المهتمين بتلافيف دمائها وبشهدائها، اسمان رئيسيان ـ أو هكذا يبدوان لشباب لم يعش الفترة جسديا ـ وهذان الإسمان هما محمود بنونة وعمر دهكون،
سيرة محمد بنونة، مهندس الثورة، وحدها تستوجب عملا جبارا للإحاطة بشخصيته ونضاليته ونهايته المأساوية الاستشهادية هو ومن معه، والتي استحقت عن جدارة، تلك الصفة البليغة التي أطلقها ابنه المهدي على التجربة «أبطال بلا مجد»، لكن قبل ذلك، نذكر أن وزارة الداخلية آنذاك أصدرت بلاغا ـ مفعما بالحبور! ـ تخبر فيه بـ «مقتل زعيم الكوماندوهات الإرهابية»، وألحت أيضا على ألا يعرف قبره حتى «يمحو الموت وجوده من الذاكرات» على حد قول ابنه المهدي، وعندما يحكي عن دفن أبيه، يتذكر الإبن الذي يعيش حاليا في سويسرا ما قاله له شهود عيان، عن وصول ثلاث طائرات مروحية بقيادة ضابط فرنسي إلى مدينة الرشيدية ـ التي كانت تسمى وقتها قصر السوق ـ وعن محاصرة مستشفى المدينة حصارا شديدا ومنع التقاط الصور للجثمانين اللذين سلمهما الضابط الفرنسي المشرف على العملين للعاملين بالمستشفى قصد التعرف عليهما، ويذكر أيضا ما قاله أحد هؤلاء العاملين بمجيء عميد شرطة لاستيلام الجثتين قصد دفنهما:
الجثة الأولى، جثة الزعيم، كانت لمحمود بنونة والثانية لأحد المناضلين معه.
وسيرة عمر دهكون أيضا سيرة مركبة، غنية بالأسماء والأماكن والمواقيت، تتقاطع فيها سلاسة الحلم والرومانسية الثورية بصلابة الواقع السياسي بخزائن العنف المنظم بأخاديد البؤس الاجتماعي التي انحفرت في التربة المحلية للبلاد،
أمام المحكمة التي سترسم طريقه الى الرصاص، والقبر بعدها، لم ينف دهكون عمر بن أحمد بن ابراهيم، حسب المنطوق المدني للحالة العدلية، أنه منذ 1967 وإلى حدود يوم 22 مارس 1973، تاريخ إلقاء القبض عليه، وهو يقوم بنشاط متواصل في إطار منظمة سرية تعمل على تغيير النظام، وأنه عمل على تنظيم الاستقطاب لهذا التنظيم السري، وأقر أيضا بأنه توجه صحبة رفاق الخلايا السرية إلى دولة أجنبية وبها تدربوا على استعمال السلاح، بكل أنواعه المتوفرة وعلى حرب العصابات،
وبعد التداريب عاد عمر دهكون، حسب ما جاء أمام المحكمة، وكون عدة خلايا بكل من البيضاء والرباط، وعمل أيضا على تسريب كمية ضخمة من الأسلحة وضعها رهن إشارة من نعتهم صك الاتهام بأفراد الخلايا، ولعمر دهكون نُسبت أيضا محاولة اغتيال «المسمى الورادي في أواخر شهر دجنبر 1972، عندما أطلق عليه ثلاث رصاصات بمدينة سلا، محاولا قتله، وذلك بعد نهب سيارة من الدار البيضاء استعملها لهذه العملية»، حسب صك الاتهام دوما.
وفي أوائل مارس من سنة 1973، قام بتعاون مع خلاياه بصنع قنابل متفجرة وضع بعضها بنفسه والبعض الآخر بواسطة بعض هؤلاء الأفراد في كل من مسرح محمد الخامس بالرباط والمكتبة الأمريكية بها وبدار أمريكا وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالبيضاء، وإليه أيضا نسب الاتهام قيامه بوضع قنابل في مقر صحيفة «الصباح» (لوماتان) بالبيضاء وفي الدائرتين الخامسة والثامنة للأمن الوطني يوم 29 أكتوبر 1971»،
وأمام المحكمة، أجاب عمر دهكون بالإيجاب على هذه التهمة،
وكان قد أجاب عن أسئلة تفصيلية طرحتها رئاسة المحكمة في جلسة سابقة، لعلنا نسلط «بعض» الضوء على تلك الهَبّة الثورية التي اعتبرت، كنيزك، اللحظات السادرة في عتمة المغرب الحديث.
معمر فرنسي يقتل شقيقة
دهكون وشقيقه
عمر دهكون سليل أسرة سوسية بسيطة، تتكون من 11 طفلة وطفلا، عندما تم إعدامه كان عمره لا يتجاوز 37 سنة،
كان أبوه أحمد بن ابراهيم من دوار كنارن قبيلة سكتانة ـ تالوين ـ إقليم تارودانت، دفعت به ظروف الاستعمار وعميله الكلاوي الى النزوح الى الدار البيضاء في العشرينيات من القرن الماضي، استقر به الحال في عين السبع، حيث بدأ عمله كمراقب بالسكك الحديدية، تزوج سنة 1933 من رقية بولغة بنت محمد التي تنحدر من نفس المنطقة التي ينتمي إليها، كان عمر ثالث أطفالهما بعد كل من أخته الكبرى زينة وأخيه لكبير، يحكي أحد أفراد العائلة من أسرة الوالد: «عرف عنه هو وأخوه مواقف نضالية ضمن حزب الاستقلال إبان الاحتلال الفرنسي مما جعلهما في مواجهات مباشرة مع المعمرين المتواجدين بعين السبع»، وكانت نتيجة ذلك أن ذهب الإبن والإبنة ضحية الغطرسة الاستعمارية، فقد دهستهما ـ يقول المصدر نفسه ـ سيارة المعمر الفرنسي فرونسوا أوليجيني فأردتهما قتيلين ولم يُتِمَّا بعد عقدهما الأول»، ورغم هذه الجريمة فلم يتعرض مرتكبها لأية عقوبة ولم يتلق الأب تعويضا يسليه عن فقدان فلذة كبده.
حدث ظل يسكن ذاكرة عمر دهكون، وحكى قصته لكل من التقوه من بعد، ولعلها المأساة التي فتحت عينيه على اختلالات العالم، وعن العدالة التي تظل عمياء، بعصابة على العينين، حتى وهي تحمل الميزان.
ورث عمر دهكون الجرحين وظل يقيم في المسافة الجارحة بينهما دما قابلا للفوران، وما من شك أن تلك الفاجعة ركّبت الغضب والحلم في الوجدان، وكانت بمثابة الحجر الأسود التي نقش عليه الوصف البشع للعالم والرؤية التي سيحملها عنه، وإن قاومها بسلوكه الطيب والإنساني تجاه من يقفون معه على نفس الضفة لمشاهدة الحياة المفعمة بالبؤس،
هذه الفاجعة لا يتردد أحد أصدقائه والمعتقلين معه سابقا، محمد أزغار في وصفها بالعقدة، يقول رفيق عمر دهكون، في تصريح للزميل العربي رياض ولكاتب هذه السطور: كانت هناك عقدة تسكن دواخله، عانى منها طويلا معاناة مريرة، وتتمثل في كون أحد المعمرين، أقدم في يوم من الأيام على قتل أخويه بمنطقة البرنوصي، حيث دهس الأول بسيارته وبعد أيام أعاد الكرة مرة أخرى مع الأخت .. لكن الملف أقبر» ولم يُقبر الجرح في روح عمر دهكون.
وعن طفولته الأولي، حكت لنا أخته خديجة دهكون أنه بدأ دراسته بالكتاب المتواجد آنذاك بدوار الواسطي وبعد ذلك انتقل الى مدرسة الهدى المتواجدة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة، وفي فترة لاحقة انتقل الى مدينة الرباط حيث تابع دروس الضرب على الآلة الكاتبة بكوليج الليمون».
وفي الرباط ربط أولى علاقاته مع الطلبة وأولى الخطوات في العالم السياسي، حيث «كان يشارك في التجمعات التي كان ينظمها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحت قيادة المهدي بن بركة» وقادة آخرين،
وجاءت مرحلة سلا، ومدرسة النهضة التي كان يديرها آنذاك المجاهد أبو بكر القادري وابن أخيه أحمد، واكتفى عمر دهكون وبعض زملائه بالإقامة في ضريح مولاي الكمري بالمدينة، وهناك حصل على شهادة الدروس الثانوية الحرة في النصف الأول من الستينيات.
كان الاستعمار قد رحل، لكن عمر دهكون كان يحدس حضوره الدائم في كل لحظة ظلم، أو عضة جوع، وكان يواجه بشاعة تلك الأوضاع بالدفء الإنساني الذي يسبغه على كل زملائه، كما يحكي زميله ورفيقه أزغار «كان حنونا إلى أقصى حد بحيث كان يبذل كل ما في وسعه لمساعدة الزملاء المعوزين ويستقبل في بيته بالبيضاء كل الطلبة القادمين من مدن بعيدة، كما عرف عنه الاستقامة والانضباط، ويذكر أفراد أسرته كلهم سعة صدره وتقدريه لكل من عاشروه واهتمامه باخوته وأهله «سواء حين كان يتواجد بالمغرب أو حين يسافر الى فرنسا أو ألمانيا»
وانخرط عمر في العمل السياسي بسيدي البرنوصي بالدار البيضاء في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولما احتدم الصراع داخل الاتحاد بين ما كان يسمى بالتيار الثوري والتيار المسمى بالمهادن، كان هو ـ في البداية ـ يميل الى التيار الثاني، لكن مع توالي الاعتقالات والقمع ودخول إخوانه إلى غياهب السجون شعر، وكأن هناك نية مبيتة واتفاق قبلي على التخلص بعد الاستقلال من الوطنيين الذين حاربوا المستعمر الذي ترك حلفاءه في البلاد لينتقموا له، حسب شهادة أزغار الذي كان يستضيف عمر دهكون في بيته، سواء في فترة الدراسة أو بعدها في الفعل الاحتجاجي،
كانت مدرسة النهضة أيضا مختبرا للصداقات العادية التي تتحول بفعل صناعة سياسية في تلك المرحلة، إلى صداقة قدرية قادت العديد ممن عانقوها إلى الموت رميا بالرصاص صباح ذلك اليوم من نونبر 1973?
- مجموعة دهكون، من رفاقية المدرسة إلى رفاقية الموت!
في مدرسة النهضة بسلا، تعرف عمر دهكون على ثلة من الشبان المغاربة، انخرطوا في ما بعد في العمل السياسي، ومنهم من دخل التنظيم السري من اجل كفاح مسلح اعتبر ان الظروف، الموضوعية والذاتية منها، تفرض اللجوء اليه.
كان اغتيال الشهيد المهدي بنبركة الحدث الاساسي في تحولات المسار السياسي لمجموعة من المناضلين، والاقتناع بان «الدواء الوحيد لهذا النظام هو اجتثاثه»، كما كانت الادبيات المعارضة انذاك تصف المرحلة، واصبحت مقولة «بيننا وبين القصر جثة المهدي» التي نسبت الى الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد مقولة ثابتة، مهيكلة للخطاب الاتحادي، خصوصا في اوساط مثقفيه الثوريين وشبابه المتحفز.
وجاءت هزيمة 1967 لتدق اجراس اليأس من المكابدة السياسية والنضال المؤسساتي، واليأس ايضا من فئات البرجوازية الحاكمة وفشلها الطبقي» في تحرير الانسان والارض? ومن ثم بدأ العمل على تشكيل المنظمة السرية او الجناح المسلح، الذي سيعمل على قلب المعادلة في البلاد،
ومنذ 1967 شرع عمر دهكون في هذا الاختيار الكفاحي ولا أحد يستطيع ان يحدد بالضبط، حسب ما علمنا، التاريخ الذي غاص فيه عمر دهكون وزملاؤه في عتمة التنظيم السري، لكن من المؤكد ان مجموعة دهكون، كما اصطلح على ذلك فيما بعد لم تتشكل في لحظة ميلاد واحدة، بل كان الاستقطاب اليها تدريجيا وعلى فترات، اذ ان تاريخ التحاق الملياني الادريسي رحمه الله مثلا، ليس هو لحظة انخراط اقذاف احمد اطال الله في عمره او اجدايني مصطفى الذي اعدم في تلك الصبيحة البارحة من نونبر 1973 ، ولم يكن كل الذين مثلوا امام المحكمة العسكرية في القضية الجنائية 8754/1748 يوم الخامس والعشرين من يونيو 1973 على نفس المسافة من شهداء 1973.
فالادريسي الملياني المزداد سنة 1940 بسلا، من والده الهاشمي بن عبد الرحمان ووالدته فاطمة بنت محمد، كان لايزال اعزب ساعة اطلقت فرقة الاعدام عليه النار، وقد جاء في حيثيات اعدامه انه اطلع في شهر فبراير 1969، بواسطة عمر دهكون على وجود منظمة سرية، او ما عرف في حوليات الاتحاد الوطني بالتنظيم الموازي، يهدف الى القضاء على النظام الملكي واقامة نظام بديل له، وقبل الانخراط في التجربة? وفي 15 يوليوز 1971 ، توجه الى فرنسا بطلب من عمر دهكون، وكان الغرض من السفر هو الانتقال الى «دولة اجنبية للتدريب في معسكراتها تدريبا عسكريا حتى يكون مهيأ للعمل المسلح»، لكن الامور اتخذت وجهة اخرى، و لم يتم المطلوب لانه اخطأ في الموعد وجاء بعد ان سافرت المجموعة التي كانت سترافقه الى معسكرات التدريب، وعاد الى المغرب «على نفقة المنظمة» واتهم المرحوم الملياني الادريسي ايضا بانه قام، بمعية عمر دهكون، بوضع القنبلة المتفجرة التي استهدفت دار امريكا بالرباط، في الثاني من مارس 1973 اي قبل احداث مولاي بوعزة بيوم واحد، ومن المعلوم أيضا أن الإدريسي الملياني كان يسلم لعمر دهكون مفتاح البيت لينام فيه من وقت لآخر، لاسيما بعد أن أصبح هذا الأخير مطاردا بعد محاكمة مراكش الشهيرة، وكان الملياني مكلفا بالتدريس في سلا، ولم يسبق له أن تعرض للاعتقال أو المحاكمة.
وأمام المحكمة، نفى المرحوم الإدريسي الأفعال المنسوبة إليه واعتبر ما ورد في المحاضر نتيجة للتعذيب الوحشي الذي نهش جسده وجاء في تصريحه لرئيس المحكمة، الأستاذ محمد اللعبي «أنه لم يلتق بدهكون قبل سنة 1971» وإن كان قد تعرف عليه منذ 1962 عندما كانا في اعدادية النهضة بسلا ونفى أن يكون له علم مسبق بأن عمر دهكون مطارد من طرف الشرطة، أو أن هذا الأخير قد طلب منه استقطاب زملاء أساتذة، كما نفى أن يكون قد تلقب بلقب «سليم» كما هي العادة في الأعمال السرية التي يلجأ فيها مقاتلوها الى الأسماء الحركية،
تفاصيل أخرى، أوردها المرحوم الملياني أمام المحكمة، سيأتي ذكرها في حينها، لكن المحكمة لم تأخذ بمنطق الدفاع، وكان الحكم القاسي والنهائي في حقه،
إضافة الى الملياني ضمت مجموعة دهكون أيضا ملحاوي، وأقذاف أحمد، وهذا الأخير من مواليد البير الجديد (إقليم الجديدة)، كان وقت اعتقاله ومحاكمته يعمل مهندسا احصائيا بالرباط، ينسب إليه الانتماء الى العمل السري في سنة 1971، هيأ في رمضان من نفس السنة قنينة (مولوتوف) مع أحد أعضاء الخلية الى سفارة كوريا بالرباط، فألقاها عليها غير أنها لم تنفجر، وفي شهر يوليوز 1971 سافر إلى باريز وقابل الفقيه البصري وعبر له عن اقتناعه بالانخراط في المنظمة السرية، واتهمته المحكمة أيضا بأنه حمل رسالة إلى شخص بباريز سماه عمر دهكون الفقيه سي علي وطلب منه أن يأتيه من عنده بمبلغ مالي قدره قاضي التحقيق بـ 400 ألف فرنك فرنسي، كما نسب إليه تلقيه تداريب على السلاح مرنه عليه شخص، من الدار البيضاء، لم يأت القاضي على ذكر اسمه، ومن بين الأشياء الأخرى اطلاعه على وصول سيارة محملة بالأسلحة من بلجيكا.
الأستاذ بوبكر القادري والنواة التنظيمية الأولى للعمل السري!
الحلم، كالواقع، يجمع ويفرق، وتلك هي الحكاية بين أقذاف ودهكون، أصر الأول على تقديم رواية مغايرة أمام المحكمة لما ورد في محضر البوليس أو لما أقر به عمر دهكون في حقه، فنفى أن يكون سفره إلى باريس من أجل التنظيم السري أو التوجه الى سوريا قصد التدريب.
تحدثت روايته عن سفر استجمام الى باريس عبر مطار النواصر بالدار البيضاء، حطت به الطائرة بمطار أورلي، بعد أن أقلعت في الساعة الخامسة مساء، في أحد أيام الجمعة، رأى لافتة «النيون» يضيء اسم فندق فدخل، ولما استيقظ صباح اليوم الموالي لوصوله، توجه الى طبيب فرنسي اسمه جاك موران، بسبب قرحة في المعدة، عندما وقفت السيارة التي استقلها أمام مكتب هذا الطبيب، كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا و 15 دقيقة، انتظر ربع ساعة قبل أن يستقبله الطبيب وظل معه إلى أن قاربت الساعة العاشرة،
استنكر القاضي قائلا: «قضيت معه حوالي 20 دقيقة، ومازلت تذكر بالتفصيل الدقيق الساعة والدقيقة، لكنك لا تتذكر عنوان مصحته؟» فأجاب أقذاف باقتضاب «نعم»! فكان أن سأله رئيس المحكمة من جديد: «هل سلمك وصفة» فأجابه بالإيجاب مرة أخرى، لكنه لم يقبل منه أن يخبره أنها مازالت لدى الشرطة وقاطعه بجفاء»، بدون تعليق، أجب عن الأسئلة فقط».
وبخصوص التهمة المتعلقة باستلام المال وتسليمه إلى عمر دهكون دار بين الاتهام وأحمد أقذاف الحوار التالي:
ـ لم تلتق بأي أحد.
أبدا.
ـ لم يسلمك أحد المال لتأتي به،
لا أحد، إذا سمحت سيدي الرئيس أريد أن أعرف النصوص القانونية التي استندت إليها الشرطة لتكوين ملفي، فقد قيلت في حقي أشياء يندى لها الجبين. وكلما كنت أطلب الإدلاء بشهادتي كانوا يجيبونني بأنهم سي …. لهذا أريد أن أعرف «.
وهنا طلب الرئيس تدخل الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو، والذي رافع بقوله: «إن ثلثي ملف موكلي لا تخصه أو لا تتعلق به، حيث يتم الحديث فيها عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، علاوة على هذا، كلما شرع المتهمون في الحديث عن التعذيب الذي تعرضوا له، تقاطعهم قائلا بأنك على علم بالأمر إلخ، والحال في نظري أن تترك لهم حرية التعبير، لأن تصريحاتهم جزء من المرافعات « كان التعذيب شرسا، وسيحين الحديث عنه على لسان أهله، وتقاسمه كل من اعتقل في تلك السنة من جمر المغرب، وما لم يتقاسمه الجميع هو النهاية، فالمناضل أقذاف أحمد افترق عن صديقه وزميله دهكون ومازال حيا يرزق، بعد أن صدر فيه حكم يخالف حكم عمر دهكون.
لقد سردنا بعضا من أسماء الأصدقاء الذين قطعوا نفس الطريق لكنهم لم يصلوا الى نفس النقطة. في فضاء مدرسة النهضة بسلا كانت الانطلاقة، وكان المختبر الذي تشكلت في قاعاته الكيمياء الثورية التي جمعت الأصدقاء القدريين.
في سياق الصراع الشرس الدائر بين الحركة الشعبية الثورية والطبقة الحاكمة آنذاك، في العقد الأول من الستينيات، كانت كل محطة سياسية أو اجتماعية لحظة اختبار قوة، تتصارع فيها مشروعيتان تبدوان على طرفي نقيض، وكان البناء السياسي الظاهر ساحة هذا العراك القوي، ولعل سنة 1962، سنة الدستور الممنوح، كانت لحظة حاسمة في وعي مجموعة من شباب «النهضة»، للانتقال الى الكفاح المسلح.ومن بين الوجوه المعروفة في مغامرة الحل الثوري، يرد اسم مبارك بودرقة ـ المشهور باسم عباس، عضو اللجنة الادارية للاتحاد الاشتراكي حاليا ـ كعنصر فاعل ومؤطر ثوري لخلية المدن، وقد حكى لنا عن البداية بقوله: «تعرفت على دهكون في سنة 1962 عندما انتقلت بمعية أخي من مكناس لمتابعة دراستنا بالرباط ـ سلا.وقد اشتغلنا الى جانب دهكون، كتلاميذ اتحاديين بشكل فاعل في حملة مقاطعة الدستور الذي صادفت شهر دجنبر 1962، وكانت هناك مجموعة جاءت من أكادير، بعد الزلزال الذي دمر هذه المدينة، ومجموعات قادمة من فكيك ووجدة، مثل توفيق الادريسي ويوس مصطفى وأجدايني مصطفى. وكانت حملة المقاطعة شرسة، تلتها الانتخابات وحملتها التي قمنا فيها بالدعاية لمرشح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك الأخ المهدي العلوي ضد الأستاذ سيدي بوبكر القادري الذي كان يكن له السلاويون تبجيلا خاصا». وعند ذكر الأستاذ بوبكر القادري يفتح عباس بودرقة القوس ليقدم شهادة «سيحفظها له التاريخ» في حق هذا المجاهد الجليل وجاء فيها (في إطار تحركات التلاميذ الاتحاديين من أجل دعم المرشح الاتحادي ونسف حظوظ المجاهد أبو بكر القادري، قمنا بعدة إضرابات في المدرسة، وكان رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك حميد برادة، الصحفي المعروف حاليا، يقوم بالتنسيق مع التلاميذ بعد أن اقتنع بضرورة إلحاقهم بالعمل الطلابي استلهاما للنموذج الأمريكو لاتيني.
وعندما اندلعت الإضرابات بدأ سيدي بوبكر القادري، باعتباره مدير المدرسة، يتجول في الأقسام ويقرّع التلاميذ وبوبخهم، ويتوعد المخربين، وقد جاء على لسانه أنه لن يسمح بالفوضى ثم تساءل: «اشكون هاذ الفوضويين اللي كيخلقوا البلبلة»، فوقف عمر والمجموعة وقالوا «نحن»، فما كان من المجاهد القادري إلا أن قال «أهنئكم وأهنىء حزبكم على هذه الشجاعة».
ومن جهة أخرى، كان الأثرياء السلاويون يعمدون الى انتقاء بعض التلاميذ من المدرسة ليساعدوا أبناءهم على الدراسة في البيت، فاختار الأستاذ القادري من بين التلاميذ الاتحاديين من يدرس أبناء الأثرياء السلاويين مقابل بعض المال.
أول مسدس، لأول نواة
عمر دهكون رجل صموت، متكتم، دمث الأخلاق، كلامه أميل الى الهمس أكثر منه زعيق، يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع وفرض كلمته، يسوس من معه بلباقته وقوة حجته، هذا البورتريه رسمه كل الذين سألناهم عن شخص عمر العادي، في المعاملات والسلوك والسجايا، ولعل ذلك ما خوله القدرة على تنظيم النواة الأولى، في مستهل سنة 1962 و 1963، وفي تلك الفترة بالضبط حصلت الجماعة الشبابية علي أول مسدس، وحكايته أن أحد أصدقاء السلاح وقتها، يعمل حاليا استاذا كان أخوه يعمل في القاعدة الأمريكية بالقنيطرة واستطاع أن يحصل على مسدس سلمه لرفاقه من مقاتلي مدرسة النهضة.
لايمكن في الواقع، رصد تطور الأنوية الأولى للعمل السري عند عمر دهكون ومن معه، بدون الرجوع الى التاريخ الحامل لمغرب الاستقلال في مجال تنظيم المواجهة ما بين امتدادات الحركة الوطنية وحركة التحرير الشعبية وبين النظام بكل تركيبته الموروثة عن التاريخ أو عن الهياكل الاستعمارية، بثقافتها ورجالاتها ورهاناتها في تلك المرحلة، ومن خلال سرد كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث، يتبين أن بعض المجموعات والمناضلين الكفاحيين ظلوا متشبثين بخيار المواجهة الجذرية، ومنهم من سيعمل في إطار التنظيم الجديد بعد إعادة تفعيله من طرف دهكون ورفاقه.
وقد جاء في كتاب عبد القادر بن بركة والمعنون بـ « المهدي بن بركة، شقيقي»، كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث منذ أحداث الريف (أكتوبر 1958) والانتفاضة التي صاحبتها، وهي الأحداث التي تمرس فيها أوفقير على التنكيل بالجسد المغربي والانسان المغربي ، وانتهاء بمحاكمات السبعينيات، ولعل ما يلفت الانتباه حقا في هذه المحطات عدد المرات التي نسب فيها للمناضلين التقدميين والوطنيين استهداف حياة الملك الراحل، سواء عندما كان وليا للعهد أو بعد ذلك، وأول مؤامرة ضد حياة ولي العهد الحسن الثاني تزامنت فيها محاكمة الحزب الشيوعي المغربي في أكتوبر 1959 (بعد ما صدر ظهير يحل الحزب)، ثم الحملات القمعية الأولي (دجنبر 1959) ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على المحاكمة الأولى، وتواصلت الى حدود فبراير 1960، وتلت هذه المحاكمات هبة الأطلس المتوسط في نفس الشهر من نفس السنة والتي حوكم المتهمون فيها في سنة 1967! وقتها صدر الحكم بالاعدام ضد بن حمو والأشغال الشاقة ضد البشير الزموري اضافة الى أحكام قاسية أخرى.
أما المؤامرة الثانية التي استهدفت ولي العهد الحسن الثاني، فقد انتهت باعدام بن حمو الفواخري ومحمد أزناك وهما مقاومان سابقان، الى جانب أحكام أخرى تراوحت بين 10 و 25 سنة، ثم جاءت مؤامرة يوليوز 1963 الشهيرة والتي اعتقلت فيها اللجنة الادارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بكل أفرادها، وحكمت المحكمة وقتها، باعدام 11 مناضلا اتحاديا ومتابعة الآخرين بعقوبات تتراوح ما بين 3 و 20 سنة، ومن نافل القول أن الحملة الدولية الواسعة للتضامن والمآزرة أفلحت في استصدار عفو عن كل من الفقيه البصري والشهيد عمر بنجلون.
وبعد حرب الرمال، التي تواجه فيها الجيشان المغربي والجزائري صدر حكمان غيابيان بالاعدام في حق كل من الشهيد المهدي بن بركة وحميد برادة، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك، الصحفي المعروف حاليا، وفي أكتوبر 1963 نفسه جرت أطوار ما عرف بمحاكمة مراكش الأولى، وكانت التهمة الموجهة فيها ضد المعتقلين، «المحاولة الرابعة» لاغتيال الملك الراحل منذ حصول المغرب على الاستقلال فتم اعدام عدة مقاتلين من ضمنهم لحسن الملقب بالسكليست وعبد الرحيم المراكشي، وإدانة 25 متهما آخرين بمدد تتراوح ما بين 15 و 25 سنة ومن ضمن المعتقلين أحد أبطال المقاومة «محمد مول الكراج».
ثم جاءت قضية شيخ العرب أحمد أكوليز، والذي كان قد صدر فيه حكم غيابي بالاعدام في «مؤامرة» يوليوز 1963 لكنه قتل وهو يقاتل في مواجهة شرسة ضد رجال الأمن في يوليوز 1964 بالدار البيضاء، ثم جاءت أحداث الدار البيضاء في 1965 واغتيال الشهيد المهدي بن بركة وتوقيف الجرائد ما بين 67 و 1969 واعتقال مدرائها، ومع نهاية 1969 (أكتوبر) انطلقت حملة جديدة للاعتقالات مصاحبة بالتنكيل والتعذيب فيما سمي بمؤامرة مدريد، أو محاكمة مراكش الكبرى في يونيو 1971?…
إن التذكير المقتضب بهذه الأحداث ضروري للغاية لفهم الأجواء التي كانت تمارس فيها السياسة في البلاد في الفترة التي تكونت فيها خلايا العمل المسلح من جهة، ثم لفهم الاستمرارية التنظيمية للعديد من الخلايا من مرحلة الى أخرى أدت بالفعل الى ادماج عمر دهكون لأفرادها في التنظيم الجديد، ولعل أهم ما يمكن الاحتفاظ به في هذا الخصوص هو الخلايا التي عملت في زمن شيخ العرب، ولكنها لم تفكك أو يقصم ظهرها بعد اغتيال قائدها وملهمها، وظلت كامنة الى حين العمل من جديد تحت امرة عمر دهكون.
خلايا وتداريب عسكرية ونظرية حرب العصابات
نفذ محمد عواد المشرف على الخلية الاولى من خلايا شيخ العرب الكامنة، العملية التي استهدفت مقدم عين السبع المسمى علال، وبعد ذلك انتقل بمعية رفيقه ابراهيم الى الحي المحمدي حيث اخفيا السلاح المستعمل في العملية? ثم عاد الى مكان تنفيذ العملية ليستقصي اخبار الهدف وتحركات السلطات،
ثم توجها للقاء امارير الحسين، قائد الخلية الثانية، وسلماه المسدسين اللذين تمت بهما العملية، وهما نفس المسدسين اللذين «تسلمهما» امارير من يد المرحوم الحمداوي،
وسيظل السلاح بعيدا عن الانظار مدة خمس سنوات تقريبا الى حين جرت اطوار محاكمة مراكش الكبرى في 1969 وتم حجز المسدسين: الاول عند شداد عبد الكبير، العامل بشركة التبغ بالبيضاء، والذي اخفاه بمقر الشركة والى جانبه شاحن (شارجور) وست رصاصات، اما المسدس الثاني فقد حجزته الشرطة عند اللوسي الحاج بلقاسم، وكلاهما عضو في خلية امارير، وهي الخلية الثانية التي «ورثها» عمر دهكون عن فصول المجابهة بقيادة شيخ العرب،
وكانت الخلية الثانية تتكون من السابق ذكرهما اضافة الى محمد بن بلة، وصابر مبارك، وعبد الله العبدي، وعمر بن علي مسحي وابراهيم عبد الرحمان ومسلاك محمد، وقد كانت لهذه الخلايا اسلحة: مسدسات اوتوماتيكية ومفرقعات ورشاشات الخ، جمعها عمر دهكون من جديد لنفس الاسباب والاهداف، ثم وزعها من جديد حسب ما تبين من كلام محدثينا،
ويصعب وضع سرد خطي، واضح المعالم لقصة كل عضو في الخليتين، نظرا للتداخل الموجود بين التنظيمين، ثم لسهر كل من كتاب الخلايا المسلحة على لقاء الآخرين والعمل معهم، كما هو حال محمد عواد وأمارير الحسين في كافة فصول العمل السري، لكن من الواضح ان اعادة تنشيط الخلايا من طرف دهكون عمر خضع لنفس المسارات السابقة.
من هو أمارير الحسين، كاتب الخلية الثانية والسابق الى العمل السري، امارير من مواليد 1928 بقبيلة فروكة من الجنوب كان يعمل بمعمل السكر (كوزيمار) في الستينيات، تعرف على احد العاملين معه، دله على وجود منظمة سرية سنة 1964، وكان يقودها انذاك في نظره المرحوم الحداوي محمد واقتنع بالخط الكفاحي للمنظمة وبدأ بدوره يقوم بالدعوة الى اعتماد المجابهة الجذرية مع «النظام القائم»، وهكذا استقطب محمد عواد – كندا – وبن بلة رحمه الله، وشرعت المجموعة في الاستقطاب من بين العناصر المنخرطة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك وتلقينها دروسا في استعمال الاسلحة، بمنازل افرادها ، وبعد الانتهاء من الدروس كان المرحوم الحداوي يحمل سلاحه معه الى وجهات مختلفة،
بعد العملية التي استهدفت المقدم علال، ووفاة المرحوم الحداوي اتصل حرتوف محمد الجندي السابق في حرب الهند الصينية واحد اعضاء المنظمة العاملين تحت امرة شيخ العرب، بامارير ليطلعه على النبأ، وليوصيه ايضا بالتزام السرية والاحتفاظ بالمسدس الذي يوجد بحوزته، وقد كان حرتوف محمد مشرفا على خلية مسلحة من خلايا شيخ العرب، لم يستطع عمر دهكون تشغيلها وهي الوحيدة، من بين خلايا شيخ العرب، التي ظلت بمنآى عن اشراف دهكون عمر، انقطعت صلة امارير بعمل السلاح منذ 1965 لكن امارير كان يسكن بحي البرنوصي البلوك 76، و كان عمر دهكون حينها جارا له، وفي سنة 1967 اتصل به وحضر هو وكندا الى بيت المرحوم عمر دهكون الذي طلب منهما العمل الى جانبه بمعية باقي أعضاء الخلية» أبديا استعدادهما لمواصلة الكفاح المسلح، وفي السنة نفسها عرض عليهما السفر إلى خارج البلاد لتلقي تداريب مفصلة ومتقدمة عن استعمال السلاح وإدارة حرب المدن، وحكى لنا محمد عواد أن ذلك «كان في صيف 1967، وأنه كان حاضرا بمعية زدي لحسن بالقطار ليلة السفر»، أما عن تفاصيل السفر، فقد سلم عمر دهكون مبلغ 200 دهـ لأمارير مقابل ثمن التذاكر، ومبلغا مماثلا لمن سيرافقه في الرحلة، إلى «جانب رقم تليفوني بباريس وكلمة السر «عباس» للشخص الذي سيستقبلهما بالعاصمة الفرنسية»، وفي السادس عشر من يوليوز سنة 1967، ولم تكن قد مرت على نكسة يونيو 1967 سوى أيام معدودة، توجه أمارير إلى محطة الدار البيضاء الميناء، وهناك التقى بكندا ولحسن زدي صديق الرحلة الثانية، وعندما وصلا إلى باريس، وجدا في انتظارهما، عمر دهكون!
ورافقهما المرحوم عمر دهكون الى أحد الفنادق حيث قضوا ليلة باريزية عادية، لم يروا منها سوى مصابيح الجن والإنس الافرنجة، وبعدها استقلوا الطائرة، هم الثلاثة، متوجهين الى الجزائر، وهناك استقبلهم «الاسم السري وكلمة السر» عباس، ودلهم بعدها إلى دار غير آهلة، وعمدهم عمر دهكون بأسمائهم الحركية الجديدة، ليصبحوا الثوار: «الخطابي» لأمارير و»بحري» لزدي أما عمر دهكون فقد أصبح يلقب بـ «بودرار»!
في تلك الليلة، التحقت مجموعة أخرى من القادمين من المغرب، وأصبح عدد الحاضرين عشرة أشخاص، إضافة الى «عباس»، انتقلوا من العاصمة الى معكسر «ارزو».. هناك قضى أمارير لحسن شهرا كاملا في التداريب، وقبل أن تنقضي عطلته السنوية عاد إلى المغرب، أما عمر دهكون، فقد ظل خارج المغرب إلى حدود شهر أكتوبر من نفس السنة، فعاد إلى الدار البيضاء وبدأ الاتصال من جديد بأعضاء الخلية،
في سنة 1969 جمع كل الأعضاء وطلب منهم الاستعداد لتلقي الدروس النظرية حول الثورة، وأساليبها وطرق المقاومة واستلهام تجارب سابقة، منها المقاومة الشرسة التي أبدتها إحدى القرى الأسيوية الصغيرة ضد القوات اليابانية القوية العدد والعدة!
إلى جانب الخليتين االمذكورتين، أكد لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يؤطر خلايا أخرى سماها «خلية دهكون»، ومن «العناصر التي تعرفت عليها – يقول عباس – رغم أنه لم يتعرف على أعضاء خليتي، هناك مصطفى يوس وعلي بوشوا وكان خياطا بالرباط، والمهتدي»، ولعل هذه المرحلة هي التي صنعها عمر دهكون من رفاقيته الدراسية وعساها تكون مرحلة متقدمة من عمله في مدينة سلا – الرباط، كما ألف عمر دهكون، مباشرة أو غير مباشرة، خلية أخرى تضم كلا من الصدقاوي عبد السلام (علي) وكوار الحسين (السعدي) والراشدي مصطفى (طلال) والدريوش بوعزة (جواد) وفوزي احمد (هاشم) ومحمد بن عبد الله (حبيب) وتوفيق الادريسي (عبد اللطيف) والرباطي ابراهيم (نصحي).. كما أن هذه الخلية تلقت جل تداريبها في سوريا، كما وجد من بين اعضائها مناضلون يتوفرون على قسط متقدم من الثقافة والتعليم، عملوا على التأطير النظري لافراد الخلايا الآخرين.
تداريب عسكرية في دمشق… وسوء اختيار الرجال!
عمل دهكون أيضا على مصاحبة الخلية المذكورة (خلية دهكون) في البيضاء في تكوينها وتداريبها، وسهر على أسفارها والعمل على إلحاقها بمقرات التدريب، وطوال الفترة التي عمل فيها، منذ الشروع مجددا في ترتيب العمل السري، ظل يستقطب العناصر الجديدة ويوجهها الى فرنسا، ومن ثم الى المشرق العربي، كماحدث مع الصدقاوي عبد السلام (واسمه الحركي علي)، فقد أطلعه عمر في ماي 1969، قبيل محاكمة مراكش الشهيرة، على وجود التنظيم السري، وبعدها سلمه تذكرة السفر الى باريس عبر القطار، وحان موعد السفر يوم 13 يوليوز من نفس السنة وبعد وصوله ورفيقه التحق بهما عمر دهكون رفقة (طلال)، أقاما في باريس أسبوعا كاملا بأحد المنازل بشارع سرفانطيس قبل أن ينتقلا الى دمشق حيث قضوا ثمانية أيام أخر، بمعية من التحق من المغاربة الآخرين، وتوجه الجميع الى معسكر «عين بيضا»، وهناك تلقوا تداريب جسمانية وعسكرية، وفي كل «مساء كانوا يحضرون دروسا نظرية حول الثورة».
نفس الشيء حدث بالنسبة لكوار الحسين بن صالح (السعدي) الذي اتصل به زهير (عمر دهكون) وأخبره أن المسؤولين عن الاتحاد الوطني (!) قرروا تغيير اتجاه العمل للمنظمة وكان ذلك في نفس الفترة، مما يعني أن سنة 1969 عرفت نشاطا متزايدا لعمر دهكون ولقادة المنظمة السرية، وهي السنة التي ستعرف أكبر عملية اعتقال في صفوف المناضلين الثوريين والسياسيين العلنيين منهم والسريين،
الراشدي مصطفى (طلال) الذي ورد اسمه على لسان الأحياء من خلية شيخ العرب، باعتباره المعلم الذي يلقنهم دروسا في حرب الأغوار والثورة، تعرف على دهكون باسم عمر السوسي «جاره»! سلمه كتابا بعنوان «المقاومون» وطلب منه إعطاء دروس مستوحاة من تجارب الفيتنام وكوبا حول الحرب الثورية.
ومن باب ثان، لم يقطع كل العاملين في خلايا العمل المسلح نفس الطريق نحو التداريب العسكرية، إذ هناك الذي عبر باريس نحو الشرق العربي، كما سبق القول، وهناك من عبر التراب الجزائري نحو نفس المواقع العسكرية.
ومن ضمن أعضاء خلية البيضاء التي أطرها دهكون منذ البداية، هناك عناصر من الأصدقاء والزملاء الذين رافقوا عمر في دراسته بسلا، وربما كانوا الأكثر اطلاعا على تفاصيل التنظيم والخلفيات المحكمة فيه، كما يتضح من المحضر الذي «استخرجته» الشرطة من المناضل ذ توفيق الادريسي، المحامي في ما عرف بمحاكمة مراكش الشهيرة، وقد جاء في المحضر: «إنه تعرف أثناء دراسته وتدريسه في مدرسة النهضة بسلا على كل من عمر دهكون والصدقاوي عبد السلام»، وأضاف أنه عمل من أجل «تأسيس جمعية للشبيبة الاتحادية، فقبل ذلك في سنة 1966 غير أنه لم يجد الجدية التي كان يأملها بعد تردده على الكتابة العامة للاتحاد أسبوعيا» … وفي نفس الفترة، التقى بعمر دهكون الذي حدثه بدوره عن الوضعية السياسية في المغرب، وان الوقت مناسب لتنظيم عمل جدي، وان الاتحاد الوطني رغم ضعفه، فإنه الإطار الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير الحالة الراهنة..
أضاف انه خلال شهر يونيو 1969 اتصل به من جديد عمر دهكون وأخبره أن هناك منظمة جديدة في طريق التكوين لإخراج حزب الاتحاد من جموده دون أن يخبره بالوسائل التي ستتبعها المنظمة ولا بأهدافها، وفي منتصف شهر يوليوز، أفصح له دهكون عن حقيقة هذه المنظمة، حيث قال له إن الفقيه البصري ينوي تكوين منظمة سرية يكون اعتمادها على خلايا في المدن الرئيسية وان أعضاء الخلايا سيتلقون تدريبا في الخارج ثم يرجعون للعمل وفهم بأن البصري يريد قلب النظام القائم بالعمل المسلح، وان دهكون استفسره عما إذا كان يرغب في تلقي التدريب فقبل الاقتراح على شرط أن يتفق وقته مع رخصته السنوية التي تدوم شهرين (غشت وشتنبر) وان لا يحرم من الحضور في المؤتمر الدولي للمحامين الشباب الذي سينعقد في بيروت بين 20 و 30 شتنبر، فوافق دهكون على تنفيذ شروطه وأعطاه رقما تليفونيا للاتصال بالبصري الذي يحمل اسما مستعارا هو كامل، وفعلا أجرى هذا الاتصال عند وصوله الى باريس، فقدم عنده الى الفندق الذي يقيم فيه شخص لا يعرفه وقال له إن كامل يوجد في سفر وأخبره بأن التدريب سيكون في سوريا وأعطاه اسم شخص ورقما تليفونيا للاتصال به عند وصوله الى العاصمة السورية وفعلا اتصل بفؤاد عند وصوله الى دمشق فقدم لمقابلته مصحوبا بشخص آخر يسمى عبد المومن (أحمد بنجلون)، وبعد أن قضى الليل بدار اقتاده إليها الشخصان المذكوران ساقاه هما أيضا في اليوم التالي الى معسكر التدريب بعد أن أعطياه اسما مستعارا هو عبد اللطيف وأوصياه بعدم الكشف عن شخصيته للسوريين الذين لا يعرفون الجنسية الحقيقية للمغاربة الموجودين بالمعسكر ولا الهدف من تدريبهم، وأخبره فؤاد انه أفهم السوريين بأن المتدربين هم تونسيون تطوعوا للعمل في صفوف منظمة تحرير فلسطين وفعلا التحق بمعسكر عين البيضاء رفقة شخص يسمى حسن الذي قدمه الى قائد المعسكر المسمى نذير فأعطاه هذه الملابس والأشياء التي سيستعملها أثناء التدريب وأدخله الى خيمة وجد فيها عددا من المتدربين لم يعرف من بينهم إلا عمر دهكون الذي كان يحمل اسم الزبير وشخصا من سوس كان يعرفه معرفة سطحية في مدرسة النهضة ويحمل اسما مستعارا هو الهاشمي، وقد شرع في الحين في تلقي درس حول الهجوم على العدو كان يلقيه مغربي يسمى في المعسكر محمود ولا يعرف اسمه الحقيقي كما كان يتردد على المعسكر من أجل إلقاء الدروس مغاربة آخرون هم غالب، حسن، عبد المومن، وأبو علي .. اعترف بكونه مكث في المعسكر 15 يوما تلقى خلالها دروسا نظرية وعملية حول حرب العصابات والهجوم على المراكز الاستراتيجية للعدو ووضع الألغام ومختلف الوسائل الثورية، وعلى استعمال مختلف أنواع الأسلحة وبعد انتهاء التدريب في غشت 1969 عاد الى دمشق وصاحبه باقي المتدربين حيث استقبلهم فؤاد واقتادهم الى منزل مكثوا فيه مدة أربعة أيام تناقشوا خلالها حول التدريب الذي تلقوه، وأعطاهم فؤاد منشورات حول القوات المسلحة الملكية والأحزاب السياسية، وذكر لهم ان القوات المسلحة الملكية يوجد بين صفوفها انشقاق بين الشباب والقدماء، وان المنظمة ستستغل هذا الانشقاق لإضعاف الجيش وتشجيع الضباط الشباب في محاولتهم للانضمام الى قضيتها، ثم شرع فؤاد وصلاح في تنظيم سفر المتدربين، أما هو فقد ودعه فؤاد على أمل اللقاء بينهما في المستقبل وقد ظل عمر دهكون مع باقي المتدربين وسلمه المتهم حقيبة كي يوصلها الى باريس حيث يتسلمها منه في نهاية شهر شتنبر، وقال ان فؤاد التقى معه بعد ذلك وبعد مذاكرتهما حول التدريب طلب منه أن يلتقي بالبصري عند وصوله الى باريس ثم عاد الى بيروت بطريق البر ووقع التأشير على جواز سفره من طرف السوريين واللبنانيين، وأضاف انه بعد قضاء أسبوع في مصر عاد الى بيروت للقاء مع المحامين المغاربة الذين قدموا للحضور في المؤتمر الذي افتتح أشغاله يوم 20 شتنبر وظل مع زملائه الى أن وصلوا الى جنيف في طريق عودتهم يوم 27 شتنبر حيث افترق عنهم والتحق بباريس، وهناك اتصل بالبصري المدعو كامل، وبعد مذاكرة حول ما قام به من سفر وما تلقاه من تدريب قدم هو ملاحظة حول طريقة تجنيد المتدربين ووجوب الحذر في اختيارهم تلافيا لوقوع أي خطأ، الأمر الذي وافق عليه البصري ووعد بإصلاحه ملاحظا ان اختيار المتدربين لم يكن سليما، وخصوصا من طرف دهكون الذي لا يحسن اختيار رجاله، ثم حدثه البصري عن الأهداف القريبة والبعيدة للمنظمة فقال له، إنه في البداية يجب مواصلة تدريب الأعضاء في سوريا بعد تحري اختيارهم من الرجال المخلصين المؤمنين بالفكرة ثم يرجعون الى المغرب في انتظار التعليمات التي سيصدرها هو شخصيا بصفته الرئيس ويقومون بتدريب من لم يستطع السفر الى سوريا من أعضاء الخلايا، ثم سيتم تكوين خلايا للقيام بأعمال إرهابية في المدن بمجرد صدور الإشارة فتنشب حرب عصابات في بعض أطراف المملكة لم يحدد أماكنها، وبهذه الأعمال المتناسقة يتم القضاء على النظام القائم وإقامة جمهورية اشتراكية يتولى هو تسييرها ثم طلب منه البحث عن عناصر من الدار البيضاء لتقي التدريب في سوريا ومواصلة الاتصال بدهكون للاطلاع على سير الأمور، وقال إنه أجرى في اليوم التالي اتصالا آخر مع البصري الذي كان مرفوقا بدهكون وان البصري وجه لوما لدهكون على الطريقة التي اختار بها المتدربين محذرا إياه من ذلك، ولافتا نظره الى أن المنظمة في حاجة إلى الكيف أكثر من الكم للنجاح في مهمتها، وقال له انه كلف المتهم نفسه بالبحث عن الأشخاص الصالحين لتلقي التدريب من الدار البيضاء، وان عليه أن يبقى على اتصال به، وبعد أن تسلم من دهكون الحقيبة التي دفعها إليه في بيروت إثر مغادرة البصري لهما والمذاكرة في ما راج بينهما وبين البصري قضيا بقية يومهما في الفسحة ثم افترقا? وفي اليوم التالي، عاد الى المغرب عن طريق الجو، وفي أواخر شهر أكتوبر جاءه دهكون وسأله عما إذا كان قد وجد أشخاصا لتكوين الخلايا وتلقي التدريب في سوريا، فأجابه بأنه لم يفعل لكونه كان منشغلا بمسائله الخاصة منذ رجوعه من سفره، فنصحه دهكون بالتزام الحذر حتى لا يقع في نفس الأخطاء التي ارتكبها هو? وان دهكون زاره بعد ذلك عدة مرات للسؤال في نفس الموضوع، فكان يجيبه بأنه لم يستطع بعد القيام بما التزم به لعدم ثقته في من يختبر آراءهم في الموضوع».
سوء اختيار عناصر العمل المسلح! أول مرة نسمع انتقادا من هذا النوع في حق عمر دهكون، ولعل مبرره هو الرغبة القوية لدى الشهيد عمر دهكون على حرق المراحل والمسح البشري الواسع، بهدف تحقيق أكبر امتداد تنظيمي لفكرة الثورة.
التنظيم المسلح، البدايات والمواجهة
مع الشرطة تخلق سبعة قتلى
ضمت الخلية السلاوية لعمر دهكون بالاضافة الى الاستاذ توفيق الادريسي، المناضل كوار الحسين بن صالح (واسمه الحركي السعدي)، والاخ حسين كوار الان مناضل تقدمي في صفوف منظمة العمل الديمقراطي، ويستفاد من الوثائق التي حصلنا عليها عن تلك الفترة، ان عمر دهكون الملقب بزهير – اتصل به في ماي 1969 .. واطلعه على قرار «المسؤولين عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بأنهم قرروا تغيير تجاه الحزب، وبعدها التحق بالمنظمة السرية المكلفة بتنفيذ التوجه الثوري الجدي» الذي كان العديد من شباب و مقاومي الحزب واطره المثقفة يبحثون له عن تجسيد عملي، وبالفعل سافر الحسين بمعية اعضاء الخلية الذين ذكرناهم في السابق الى باريس، ومثلهم توجه الى سوريا، وبالضبط الى معسكر عين بيضاء حيث تلقى كمن سبقوه والذين جاؤوا بعده التدريب العسكري والتكوين السياسي والنظري على الخصوص والذي كان يقوم به اساسا محمود (محمد بنونة) ولما عاد، مثل الكثيرين لم يقيض له اللقاء مجددا بعمر دهكون الا لماما، و اخبره هذا الاخير انه ينتظر التعليمات التي سترد عليه من المسؤولين» ويتضح بلاشك ان لحظة الكمون السابق للانطلاق كانت سمة عامة ومشتركة في كل التصريحات التي استقيناها من اصحابها او من وثائق تلك الفترة.
ومن بين اعضاء الخلية، تكلف بعض المثقفين باعطاء دروس تكوينية للتهييء النفسي والاعداد الذهني للانتقال الى الكفاح المسلح، وغالبا ما كان هذا التكوين إعادة وتصريفا للتكوين الذي تلقاه المكونون في معسكرات التدريب بالجزائر وسوريا، وتلك هي حالة راشدي مصطفى (طلال) الذي كان يعطي دروسا في الثورة الى اعضاء حزب الاتحاد ولاعضاء الخلايا السرية، قصد تهييئهم لممارسة التدريب العسكري، وقد كان – مثلا – يتوجه اسبوعيا صحبة محمد عواد – كندا لالقاء هذه الدروس في بيته.
وبخصوص التكوين النظري، فمن الواضح ان كل خلية كان لها مؤطر، يخضع بدوره لتكوين عسكري، وبالاقتصار على الخلايا التي ورثها عمر دهكون عن فترة شيخ العرب نجد انها كانت تتلقى تكوينا مستمرا، الى حدود 1969، وبعد ذلك تغيرت الظروف، بعد اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة والتي غيرت من سلوك المناضلين السريين، كما غيرت من التركيبة البشرية للخلايا.
عمل دهكون ايضا على تكوين خلايا بسلا والرباط، خلال سنة 1969 و 1970 ، كانت خلايا سلا تضم كلا من توفيق الادريسي، والصدقاوي عبد السلام، والرباطي ابراهيم وادريس خروج، واوعزة محمد بن الحسين والروداني محمد وصولج محمد بن احمد، ولكل واحد منهما قصة تتراوح بين الاستقطاب المباشر او الاستقطاب غير المباشر، على مدد متباعدة، بعضها يعود الى سنة 1957 والبعض الاخر الى فترات ما بعد 1969 ومواصلة العمل السري بعد اصدار الحكم غيابيا ضد عمر دهكون في محاكمة مراكش ب 20 سنة سجنا.
وفي الفترات الممتدة من 1964 الى حين محاكمة مراكش ظل عمر دهكون يتنقل من دولة الى أخرى، سواء في أوربا أو في العالم العربي، وحكى لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يزوره في فرنسا، كما يؤكد رفيقه أزغار محمد هذه المعطيات، وكذا الرسائل التي وجهها إلى عائلته، ومن الواضح أنه كان كثير التنقل، كما أنه كان كثير التخفي، لاسيما بعد صدور الحكم.
يقول عباس بودرقة: «عرفت من بين أعضاء خلاياه، أفراد خلية مصطفى يوس وهو من فجيج، وقد أعدم في سنة 1973 بعد محاكمات قضية مولاي بوعزة، وعلي بوشوا خياط، والمهتدي الذي أعدم كما هو معروف»، والذي تم «الاحتفاظ» به إلى حين محاكمة الفوج الثاني». وهذه قصة سنعود إليها في ما بعد إبان تناول قضية مولاي بوعزة بالتفصيل الممكن ومحاكمة أفرادها.»
وبالرجوع الى المعطيات الخاصة بكل منهما، فإن أغلبهم من رفاق الدراسة، تتقارب تواريخ انضمامهم الى العمل السري، وقد تكون أغلبهم في أجواء ما بعد اعتقالات 1963 ومؤامرة يوليوز، وعاشوا نهاية شيخ العرب ومصادرة حريات الرأي والتجمع والتنظيم و»استحالة» العمل السياسي الشرعي.
التنظيم السري
السؤال الواجب وضعه، هو كيف جاءت المنظمة السرية التي كان عمر دهكون يدعو إليها؟ هل كان منذ البداية في لحظة تأسيسها؟ أم ساهم في امتدادها العملي والتنظيمي؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة قليلا الى الوراء» ونقتصر على سنة 1963.
بعد محاكمات 1963، وماتلاها من تعذيب واعتقالات وقصف حقوقي، أصبح مؤشر الخروج عن الإطار المؤسساتي يميل أكثر نحو المد الثوري العالمي» الذي كان يتنامى مع تحقيق الدول المستعمرة لاستقلالاتها الوطنية، وفر العديد من المناضلين الاتحاديين في بداية الستينيات الى المنافي العربية والأوربية? وكان من بينهم مولاي عبد السلام الجبلي (البشير) والحسين الخضار (جلول) والأخضر بارو، وعمر العطاوي وابراهيم التيزنيتي (النمري) وبوراس الفيجيجي والحسين صغير (عمر) وعبد الله الدكالي، وشيخ العرب، وبعد توالي سياسة الكماشة الحديدية، واندلاع حرب الرمال، تقرر أن الوقت قد حان للشروع في العمل الجدي»، وبالنسبة لمحمد اجار (سعيد بونعيلات) فقد ربط الاتصال بضابط بالجزائر يدعى عبد العالي ومنذ ذلك الوقت بدأ التجنيد والتدريب للمغاربة الموجودين بالجارة الشرقية، ومنهم الاتحاديون الذين سلموا في يوليوز 1964 وأعدموا، أو قيل وقتها أنهم تسللوا عن طريق بركان وسيدي بوبكر للقيام بأعمال مسلحة.
في غشت في نفس السنة عقد اجتماع حضره الى جانب سعيد بونعيلات، بنحمو والفقير محمد، وتقررت فيه مواصلة التدريب بالجزائر رغم ما حدث لمن سلموا أو «تسربوا».
وتجدر الإشارة إلى أن تلك الفترة عرفت، خلافات في وجهات النظر بين الحسين الخضار (البشير) وبنحمو وتأثرت «المنظمة» السرية آنذاك بأجواء الخلاف مما أثر بطبيعة الحال على مردودية مناضليها، سواء في الداخل أو في الخارج? ويتضح من خلال الاتصالات بأن أسباب الخلاف كانت كثيرة، ولعل الخلاف الجوهري تعلق بتوقيت العمل المسلح في المغرب، وكذا حياة المنفيين المنتمين إلى المنظمة والمعارضة المسلحة في الخارج.
في تلك الأثناء، من 63 إلى 65، حدث حدثان مهمان، أولهما اغتيال شيخ العرب بعد مواجهة مسلحة مع رجال الأمن والثاني اغتيال المهدي بن بركة بالنسبة لقصة شيخ العرب التي انتهت صبيحة يوم 7 غشت 1964، وفي ذلك الصباح كان أحد رفاقه، أحمد أوزي، قد انهار وخرج من البيت الذي كان يأوي شيخ العرب ورفيقه المرحوم الحلاوي، بذريعة التوجه إلى الحمام، لكنه توجه الى مركز الشرطة ليطلع رجال الأمن على مختلف العناوين التي كان شيخ العرب ورفاقه يأوون إليها، وهكذا تمت محاصرة ثلاثة منازل، اعتقل أصحاب المنزل الأول بدون مواجهة، في حين لقيت قوات الأمن مواجهة عنيفة في المنزل الموجود بدرب «ميلا» حيث كان الحلاوي وأبا عقيل وبوشوا، مسلحين بالمسدسات والرشاشات والقنابل، خرج الحلاوي شاهرا مسدسين يطلق الرصاص بعد أن ظل مطاردا لمدة تزيد عن السنة جراء الحكم عليه غيابيا بالإعدام في سنة 1963، حين تمكنت الشرطة من اعتقال الآخرين بعد استعمال القنابل المسيلة للدموع وتشديد الحصار، بالنسبة لشيخ العرب ورفيقه أزناك أحمد الملقب بالنجار، أحد أفراد القوات المساعدة، فقد رفضا تسليم أنفسهما وظلا يقاتلان الى آخر رمق.
ولابد من العودة الى الوراء لوضع قضية شيخ العرب في سياقها، منذ استقلال البلاد، فقد كان أحمد أكوليز ـ اسمه الحقيقي ـ يرى بأن الاستقلال لم ينصف البلاد والعباد، بل أعاد «الخونة» وخدام الاستعمار والمحظوظين وضعاف النفوس الى الواجهة من جديد، أضف الى ذلك ما وقع من حل لجيش التحرير وإدماج عناصره الى الجيش النظامي إلى جانب عناصر من الجيش الفرنسي، وأحداث الريف، ومحاكمة حمو الفواخري ومن معه، وقرَّ قَرارُ شيخ العرب، بعد مؤامرة يوليوز 1963 على الاستقرار بالجزائر وبتندوف بالضبط، وهناك عمل، كما سبق الذكر على تجنيد وتنظيم المغاربة الموجودين هناك إلى جانب مقاومين آخرين من بينهم عبد الإله الجبلي ومحمد بنسعيد أيت يَدّر إلخ.
اعتقل شيخ العرب بوهران في ظروف لم تتضح كل ملابساتها الى حد الآن، فكان رد فعله أن غادر الجزائر ودخل المغرب مع بداية 1964 لتنظيم الكفاح المسلح بالداخل، وهكذا ربط الاتصال بالمناطق الجنوبية مراكش وبني ملال إلخ، وحدث وقتها أن تسلل حوالي مائة مناضل للمنظمة في فبراير 64 بقيادة الكولونيل بنحمو المسفيوي، واعتقل البعض منهم، فتبين للشرطة أن شيخ العرب قد دخل الى المغرب وهو يوجد بالداخل لتنظيم الكفاح المسلح، وبدأت المطاردة وأصبحت صور شيخ العرب على كل الجدران في البلاد، وفي مخافر الشرطة إلى أن كانت النهاية يوم 7 غشت 1964.
من هو شيخ العرب؟ أحمد أكوليز ، مقاوم عنيد دخل المقاومة المسلحة في بداية الخمسينات واعتقل لمدة سنتين قبل أن يطلق سراحه، ومع بداية الاستقلال، اختار لنفسه الخط الجذري، وتنسب له عملية 7 يونيو 64 تم فيها اغتيال 3 من رجال الشرطة بإحدى الفيلات بالدار البيضاء حاولوا اعتقاله، وبعد أسبوع اشتبك بالرصاص مع أحد رجال الأمن واستطاع الفرار من متابعته، كما نسبت إليه الأسلحة التي وجدت في بيت أحد الفرنسيين بالدار البيضاء حيث كانت أخته تعمل كـ «خادمة».
وشاية تؤدي إلى اكتشاف المنظمة السرية والخلايا المسلحة
مع سقوط شيخ العرب صباح ذلك اليوم القائظ من غشت 1964، لم ينته العمل السري، بل استعملت أسلحة مجموعته ومعداتها بعد سنة 1964 ضمن خلايا عمر دهكون،
وتواصل الإشراف من قيادة الخارج، واستمر معها تدريب وتكوين أفواج المقاتلين الحالمين بالتغيير الراديكالي، وانضم الى الرعيل الأول من المقاومين جيل جديد من الشباب الثوري، أو من الذين وجدوا الحقل السياسي في البلاد موصدا والمفسدين يعيثون في الأرض ولا رادع لهم،
وبدأ المتمرنون عسكريا يصلون الى المغرب تباعا، يؤسسون الخلايا السرية ويستقطبون عناصر جديدة، وتوالت الانخراطات، والتداريب العسكرية في المنازل وفي الأماكن الخالية في القرى والمدن، وظلت القيادة على اتصال بالرسائل المكتوبة بماء الليمون كحبر سري أو بالتلفون، وقامت الخلايا المكونة في مناطق عديدة من المغرب بعدة أنشطة مسلحة، هدفت الى تصفية المتعاونين آنذاك مع أجهزة القمع أو مراكز السلطة والقرار.
ولعل من المحبذ القول، أن التنظيم السري شمل خريطة الوطن، ولم يقتصر على المحور البيضاوي، وهكذا شمل كل من المغرب الشرقي (وجدة، بركان، فجيج)، كما امتدت خلايا المنظمة الى الجنوب ومدنه (مراكش ـ أمزميز ـ أكادير..)، وجبال الأطلس وسهوبها بكلميمة وخنيفرة، والتي عرفت أحداث المواجهات المسلحة، كما سيأتي ذكره لاحقا.
ومن الثابت أن اغتيال الشهيد المهدي بن بركة في أكتوبر 65 وما سبقها من أحداث دامية في مارس 1965 بالدار البيضاء، وما تلا ذلك كله من حالة طوارىء، فرض على القوى السياسية والتقدمية على الخصوص العمل بالتقية، وسلوك السرية في الاستقطاب وافتراض الخيارات الممكنة، وتزامن ذلك أيضا مع التفكير في تحويل الاتحاد من تيار جماهيري عارم وعائم أيضا إلى قوة منظمة ومهيكلة ذات بنية تنظيمية وخط إيديولوجي محددين.
لكن الإرادة المسؤولة للمقموع لا تكون ذريعة قوية للقامع في سلوك طريق المسؤولية بالضرورة، وهذا ما جعل التركيبة الحاكمة في تلك الفترة العاصفة من تاريخ المغرب، تدخل في رهان قوة ضد قوى المقاومة وحركة التحرير الشعبية، ولا تترك خيارا آخر سوى الصراع الشرس.
وعلى كل، ظلت المنظمة السرية تعمل في خفاء تام ـ أو هكذا خيل الى مناضليها من الاتحاديين آنذاك ـ إلى أن شق المناضي ابراهيم عصا السرية واتصل بمصالح الأمن بالدار البيضاء وكشف عن انتمائه الى الخلايا السرية المسلحة، وأعطى أسماء أعضائها ومؤطريها في مدينة مراكش على الخصوص، وكشف المناضي، باجتهاد المفزوعين، عن أسرار كثيرة وأسماء وتواريخ عديدة، خصوصا وأنه كان أحد العاملين في التنظيم الموازي، وبناء على ذلك، وكما كان متوقعا، اشتغلت الآلة البوليسية، وكانت البداية من المناضي نفسه.
وابراهيم المناضي بن محمد من مواليد تزكي بأمزميز، فلاح، كان عمره في ذلك اليوم 16 دجنبر 1969 لا يتجاوز 43 سنة، كان متزوجا له خمسة أولاد? وحكى المناضي أن أحد مناضلي الاتحاد في تلك السنة ربط له علاقة مع الحبيب الفرقاني «المدعو الغيغائي»، والذي عرفت المحاكمة فيما بعد باسمه، إلى جانب مؤامرة مدريد ومحاكمة مراكش الكبرى، وفي هذا اللقاء، كما يبدو، حدثه الفرقاني الذي كان يتحمل وقتها مسؤولية الكاتب العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش، عن وجود التنظيم السري والجدي، وعرض عليه الانضمام الى الأفق الجديد للعمل الثوري، ولم يتردد المناضي في التعامل بإيجابية مع العرض و «اجتهد» في تكوين ثلاث خلايا بأمزميز وبدأ السهر الجماعي على تكوينها نظريا وتهييئها سيكولوجيا، الى حين وصل «شُجار عبد الرحمان» من معارك الجبهة الفلسطينية وغبار الزبداني ، وقد جاء محملا بسلاح أوتوماتيكي، أو على الأقل هذا ما علم به المناضي المرتد في عرف العمل الكفاحي، وسهر على تدريب أعضاء الخلايا الثلاث، وهم 9 أفراد في المجموع، على استعمال هذا السلاح وأعطاهم أيضا دروسا في حرب المدن وقيادة الثورة وكيفية التعامل مع القوات العسكرية والقوى العاملة معها.
وانطلق مسلسل الاعتقالات، والاعترافات المنتزعة بالقوة والدم، ولا يمكن إلا أن نقول مع أندري مالرو «المجد لمن خضعوا للتعذيب، لكن المجد أيضا لمن عذبوا واعترفوا»، حينما نعلم القيامة التي اشتعلت في عضلات المقاتلين في أقبية العهد الأوفقيري،
ويستشف من تلك الفترة أن التأطير السري شمل دمنات ومراكش المدينة نفسها، كما امتدت الى البيضاء ونواحيها، خارج خلايا عمر دهكون في إطار تشكيل البؤر الثورية في المدن على أساس تقديم الدعم لخلايا حرب البوادي والجبال التي ستكون مهد الثورة، كما كانت أدبيات حرب العصابات تدعو الى ذلك، حسب ما وصلت إليه الدراسة الثورية للحالة المغربية آنذاك.
في محاكمة مراكش، وبعد وشاية المناضي، عرفت الأجهزة الحاكمة بوجود المنظمة وهيكلها التنظيمي، وإن ظلت قيادتها المركزية بالخارج تتنقل بين الجزائر وسوريا وليبيا أيضا، كما اتضح وجود ثلاث لجن مركزية تهتم الأولى بالشؤون المالية والثانية بالاعلام، أما اللجنة الثالثة، فقد كانت مهمتها العناية «بالعلاقات مع المغرب»!
بعد انقلاب 19 يونيو 1965، الذي أطاح فيه الهواري بومدين بالرئيس أحمد بن بلة، والذي أفرز ما سمته بعض الأدبيات التقدمية في المغرب «بالنظام نصف تقدمي، نصف فاشستي»، تغيرت مواقف السلطات الجزائرية بعض الشيء، وعلى الأقل جزء من القيادة السياسية والعسكرية، وتم نقل جزء من قيادة التنظيم الى العاصمة الجزائرية، وبدأت، كما صرح سعيد بونعيلات، بعض مضايقات من طرف السلطة الجزائرية، كما لاحظ تغييرا في موقفها بالنسبة للنشاط الذي يقوم به بمعية رفاقه على أرضها». ولعل الدعم السوري لنشاط المنظمة جاء في هذا السياق، كما جاء الانتقال الى مدريد، ولهذا أيضا سميت نفس القضية «بمؤامرة مدريد» وذلك ما حدث حين تقرر انتقال العديد من أطر الاتحاد «المسلحين» الى العاصمة الاسبانية في أجواء ماي 1968 والهدير الثوري الذي كان قد دوى في أنحاء المعمور وفي رؤوس الشبان الجموحين.
وانتقال جزء من القيادة العامة، في تقديرنا، إلى مدريد ربما أملته ضرورات الاقتراب الشمالي من حدود المغرب، وتسهيل الإشراف على تسرب المجندين عبر مليلية وسبتة المحتلتين، وسيتضح لاحقا مع توالي تسرب المناضلين وتبادل الرسائل ما بين قيادة الخارج وخلايا الداخل، ولاسيما تنظيمات المغرب الشرقي جدوى هذا الانتقال.
كما أسعف انتقال جزء من المؤطرين القياديين الى بلاد الموريسكيين في استقطاب جزء من رجال الأمن، سواء في الحدود بين مليلية وبني أنصار، أو في مطار وجدة أو على الحدود الشرقية، حيث يسهل التنقل من شرق البلاد إلى شمالها إلى الخارج عبر طريق مقتصر عوض المرور بالعاصمة المغربية.
وسيتبين أن مدريد أصبحت مركزا أساسيا وقبلة يحج إليها أعضاء القيادة، كما يقيم بها، في منازل مكتراة، بعض أطرها الدائمين، بعد أن مروا بمعسكرات الجزائر وسوريا ومواقع الفدائيين.
محمد بن سعيد عرض عليَّ الكفاح المسلح والبصري أقنعني به.. لأن تصفية أوفقير واجبة!
تفرعت المنظمة السرية وأصبحت لها امتدادات وجيوب للعمل في كافة التراب الوطني، وقد اختلفت قوة الحضور من جهة الى أخرى، حسب عدة معايير، لعل الأساس فيها هو قوة تواجد المقاومة وجيش التحرير، ومدى ترسخ الفعل النضالي تاريخيا، كما هو الحال في أقاليم الجنوب والأطلس، حيث يظهر أن الأغلبية الساحقة من مناضلي الخلايا المسلحة كانوا من المقاومين أو أبناء المقاومين، حتى إن من ضمن مَن مثلوا في محاكمة يونيو 1973 الشهيرة بمحاكمة القنيطرة العسكرية، والتي جاءت على إثر أحداث مولاي بوعزة، كان هناك مناضلون ناهزت أعمارهم الثمانين سنة.
علاوة على معيار البعد الوطني للمقاومة في المناطق التي ضربت فيها المنظمة السرية جذورها، هناك أيضا القرب من الحدود وسهولة التسرب والتأطير، انطلاقا من الجزائر وإسبانيا، كما هو حال المنطقة الشرقية، من وجدة الى الناظور، وهي المناطق التي شكلت الحلقة الوسطى في العبور إلى الوطن الثائر، سواء من بوابة فجيج أو وجدة أحفير وسيدي بوبكر أو بني أنصار الناظور.. إلخ.
وفي المقابل، عرفت الدار البيضاء، تمركزا قويا لخلايا المدن الى جانب آسفي ومراكش وأكادير، ويبدو من مصادر متطابقة أن العمل المسلح في المدن كان المطلوب منه هو ضمان التغطية والامتداد الطبيعيين لعمل الثورة في الجبال، انطلاقا من خنيفرة وكلميمة في المنحدر الجنوبي للأطلس، ومن الثابت لامحالة أن عمر دهكون كان العقل الرئيسي في تدبير الجانب الحضري للثورة، وكان هو المشرف على بناء الأداة الثورية في انتظار هبّة الجبال
كيف كانت بدايته في هذا المجال.
عندما انقطع عمر دهكون عن الدراسة بثانوية النهضة، ولم يحصل بعد على البكالوريا، في يوليوز 1964، كان عمره يقارب 28 سنة. وبعد انقطاعه الدراسي، توجه الى الخارج: فرنسا ثم ألمانيا، إذ بعد شهر تقريبا من هذا التاريخ أرسل رسالة من باريس الى عائلته، مؤرخة بـ 64/8/17? الرسالة عادية، تشبه كل الرسائل الصادرة عن شاب منشغل بقضايا عائلته، يطلعها على ما جد في يومه المعيش كمثل قوله: «أما أخينا عبد الرحمان فقد ودعته يوم 64/8/1 على أمل السفر الى ألمانيا، لكن رسالة مستعجلة من الأخ منصور يخبرني فيها أنه سيأتي الى فرنسا لاجتياز تدريب في مدينة ديجون البعيدة عن باريس بما يقرب من 500 كلم، وأجد نفسي مضطرا لأن أبقى عند الصديق أزغار الى 25 أو 64/8/27 حيث سأسافر مع الأخ منصور الى ألمانيا»، وفي الرسالة أيضا بُعد حميمي يكشف عن طبيعة علاقته مع عائلته، ولاسيما في جانب العناية المادية بأحوالها والحدب العائي الواضح مثلا في قوله: «صديقي أزغار يشتغل بدار المغرب مكلفا بالهاتف وقد نبت عنه يوم السبت والأحد الماضيين وقبضت خلالها 5500 فرنك، وها أني أرسلت إليكم هذا الصباح 4000 ف عن طريق البريد.. ويضيف على نفس المنوال: «وأخي ابراهيم بالخصوص هل كتب الى السكك الحديدية أم لا؟ هل اجتاز امتحان المياه والغابات أم لا؟ ذلك الامتحان الذي كان مقررا يوم 7/24..» إلخ.
يبدو دهكون في تلك الفترة شخصا منشغلا بشؤون عائلة كثيرة الأفراد، شغله الشاغل مستقبلهم وسعادتهم، علاقته بهم بسيطة وعميقة في نفس الوقت، يحكي تفاصيل يومه كمن يحدس أن عليه أن يضاعف وجوده بالكتابة، لأنه لن يطول في أقل من سنة، سيدخل منعطفا حادا، على تماس جارح مع فترة الغليان السياسي والنضالي لم تضع أوزارها إلا في غبش تلك الصبيحة الباردة من نونبر 1973، عندما دوّت رشقات الرصاص بسجن القنيطرة.
قبل ذلك، توجه دهكون عمر الى الجزائر أول مرة في أواخر أحداث 1965، وقتها كان مجرد مناضل ثوري في صفوف طلبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى أن جاء رفاقه، مع فارق بسيط أنه لم يعد طالبا منذ يوليوز 64، وبالجزائر التقى بمحمد بنسعيد الشتوكي المقاوم وهناك حدثه عن الوضع الذي يوجد عليه المغرب كما «تحدث لي عن أحداث 1965 الطلابية ـ كما صرح عمر دهكون يوم 25 يونيو 1973 أمام المحكمة العسكرية واتضحت وحدة الرؤية وانسجام الأفكار بين مقاوم عنيد تربى في عراك جيش التحرير والمقاومة، وطالب شاب كان عمره لا يتجاوز عشرين ربيعا عندما غادر أبناء «إيريك لوبون» تراب المغرب الأقصى.
يقول عمر دهكون: «عرض علي المقاوم الشتوكي (أيت يدر) الانخراط في منظمة سرية للقيام بأعمال مسلحة لضرب الخونة والأيادي الخفية التي تقوم بتهريب الأموال الى الخارج، ومعها أياد أجنبية وصهيونية، لم أقبل في بداية الأمر..»
وبينما الشهيد دهكون في الجزائر في تلك السنة القائظة من تاريخ المغرب المعاصر، علم بالعفو الصادر في حق الإخوة أعضاء المقاومة، كما يسمى هو نفسه ذلك، طلب منه الشتوكي بنسعيد الاتصال بالبصري بعد عودته الى المغرب، وكذلك كان، خصوصا وأن عمر دهكون رحمه الله كان عضوا نشيطا في الشبيبة من 65 الى 30 يوليوز 1966، تاريخ الانعطافة الكبرى، وفي المقر: وجدت الفقيه البصري يضيف عمر دهكون لقاضي جلسة يونيو 73، السيد محمد عبد الرحمان اللعبي لكن الفقيه طلب مني اللقاء خارج مقر الحزب، فعند اللقاء بأحد شواطىء الدار البيضاء، وهناك طرح الفقيه السؤال التالي على عمر دهكون:
ـ «يا عمر، ما رأيك في أن شخصا مسؤولا في الحكومة المغربية شارك في اغتيال زعيم مغربي وله يد طولى في هذا الاغتيال».
لزم عمر دهكون الصمت، ثم فكر وقدّر، ثم فكر وقدّر، وأدرك أن الأمر يتعلق بالمهدي بنبركة، أما الشخص الثاني، فهو الجنرال أوفقير، فكان جوابه حاسما، لا تردد فيه: «إذا ثبت أن هذه الشخصية وراء الاغتيال لابد أن تجتمع محكمة شعبية لمحاكمته».
افترق الرجلان بعد أن سلم عمر دهكون لصاحبه عنوانه في «ضريح بسلا» لعله ضريح مول الكمري، الذي كان يقطنه بمعية رفاقه السابقين، حاول القاضي في تلك الجلسة أن يحيل عمر على العمل المنظم والمؤسساتي وأراد أن ينبهه الى أن «السلطة كانت موجودة في 65 و 66» وعليها أن تنظر في مثل قضية الاغتيال، لكن جواب المرحوم دهكون كان قاطعا، حادا ينم عن قوة اقتناعه بالمسرى الجديد لعمله النضالي: «لقد اتخذت موقفي على أساس أن شخصا موجودا في تلك السلطة ولا يُحاكم، ولما اقتنعت في أواخر 1966 تحملت المسؤولية داخل المنظمة على أساس أنني سأقتفي خطوات أوفقير وألاحقه، وأعترف لو أنني وجدته أمامي لقتلته واقتناعي هذا منبثق من أن أوفقير مسؤول عن اختطاف المهدي وكانت المسؤولية التي كنت مقتنعا بها هي أن تصفية أوفقير واجبة ريثما أرى أي عمل أقوم به وأنا لا أقوم بأي عمل إلا إذا اقتنعت به وعلى أساس ألا يمس الأبرياء».
يمكن اعتبار سنة 1966، بداية الانخراط الفعلي لعمر دهكون في العمل السري والتهييء للثورة المسلحة وحرب المدن، وبدأ عمله من أجل توسيع التنظيم، عبر معارفه الجدد ولاسيما منهم الطلبة، كالمهتدي الذي أعدم بدوره، بعد أن ظن لفترة ما أن شهادته ضد رفاقه ستأتيه بالإعفاء من التهمة، كما حدث للمناضي ابراهيم في محاكمة مراكش.
في نفس السنة، وبالضبط في اليوم الرابع والعشرين من دجنبر، وصلت عمر دهكون رسالة من وهران بالغرب الجزائري، أرسلها صديقه الطالب أحمد تفسكا، ولعل موضوعها كان هو الدعوة الى القيام بزيارة في إطار الانخراط العملي والفعلي، تنظيما سيكولوجيا في المنظمة السرية، وهناك «اتصلت بمحمد بنسعيد الشتوكي (أيت يدر) والحسين الخطاب ـ يقول عمر دهكون أمام المحكمةـ وتدارسنا قضية اختيار بعض العناصر للتدريب العسكري.
بداية التداريب، والجوازات المزورة.. ومطاردة البوليس
بعد سفر عمر دهكون، رحمه الله، الى الجزائر مع نهاية 1966 بناء على رسالة من أحد أصدقائه ولقائه مع المقاومين محمد بنسعيد الشتوكي والحسين الخطاب تحدثوا عن تكوين عناصر مسلحة، وفي مارس 1967، وقبل شهرين و 3 أيام بالضبط من النكسة التي أصابت المد القومي بقيادة عبد الناصر، توجه عمر دهكون الى باريس بعد أن كان لقاؤه مع بنسعيد الشتوكي قد أسفر عن ضرورة اللقاء مع الفقيه البصري وتعميق النظر في تدريب عناصر جديدة لدعم الثورة الفلسطينية.
ولابد من القول، إن سنة 1967، التي عرفت بسنة النكسة أو الهزيمة (6 يونيو) بعد هجوم جوي اسرائيلي على الطائرات الحربية المصرية قبل إقلاعها في ما عرف بحرب الأيام الستة? كانت سنة المخاضات الكبرى، إذ لم تمر وقتها سوى سنتين (فاتح يناير 1965) على انطلاق الشرارة الأولى لحركة التحرير الفلسطينية (فتح)، كما عرفت تلك اللحظة توهج الخطاب القومي الداعي الى المنازلة الكبرى مع اسرائيل، قبل أن تصب هذه الأخيرة دلو الماء المثلج على الأمة التي أصاب مفاصلها روماتيزم عاطفي وسياسي مهول.
وفي هذا السياق، كان للعنصر «الخارجي» ممثلا في ارتفاع لواء المواجهة الشاملة، على المستويين القومي والعالمي، لسلك محاور جديدة ضد «الامبريالية وربيبتها الصهيونية»، دور محوري في اهتبال سلوك ثوري جديد في مواجهة «الأنظمة الرجعية والعميلة» ومنها الأنظمة العربية.
وتأسيسا على هذا، يكون التفكير في الخيار الثوري، اختيارا منطقيا، ولاسيما إذا أضفنا إليه المحركات الداخلية وصراع الشرعيات في الساحة الوطنية المغربية، وكانت القضية الفلسطينية في خضم هذا الغليان نقطة تقاطع بين الوطني والقومي والأممي، وأصبحت لدى المغاربة ومازالت قضية وطنية، لا يمكن للفاعل السياسي أن يتناول الهم الوطني أو المحلي دون الوصول إلى أم القضايا: فلسطين، ومن الطبيعي أن تكون أرض الزيتون «صرّة» الوعي الثوري ومحكه وعنصر اشتعاله الأول والدائم.
وفي هذا السياق، عرض الشهيد دهكون على قيادة الخارج العناصر التي اقترحها للتدريب، والتي تم الحديث حولها في 3 مارس 1967، وكان أول من توجه معهما الى باريس ومن ثم الى الجزائر، كما سبق الذكر في الحلقات السابقة، عناصر ضمن خلايا شيخ العرب التي ظلت كامنة منذ وفاة الشيخ أحمد أكوليز، ولم تمر على سفر 3 مارس 1967 أقل من 20 يوما حتى عاد عمر دهكون مجددا الى العاصمة الفرنسية، بعد أن جند عناصر جديدة للمشاركة في التدريب من بين أصدقائه في المدرسة وعمال أصدقاء في البرنوصي، في هذه السفرية استعمل عمر دهكون اسما مستعارا، من بين أسمائه المستعارة العديدة أنور محمد، على جواز سفر مزور جاءه من باريس، وهو الجواز نفسه الذي عثرت عليه الشرطة بتاريخ 15 أبريل 1969، أي بعد مرور قرابة سنتين في منزل بويفر العربي، أحد أعضاء خلية سلا والذين جندهم عمر دهكون بعد اتصالاته بباريس ووهران، وكان جواز السفر هذا (رقم 300/69)، الذي قال عمر رحمه الله أنه توصل به من باريس، (بعد معالجته!) صادرا عن القنصلية المغربية «ببورد» (شمال) ويحمل اسم أنور محمد المزداد بالدار البيضاء سنة 1933.
في هذه الرحلة صاحب عمر دهكون الى باريس، ومن ثمة الى وهران حسين أمارير عامل كوزيمار ولحسن عامل الكتان وابراهيم بن الجيلالي المعروف بالسيكلسيت، ودام التدريب ما بين 45 و 48 يوما، تمرن خلالها القادمون ومن سبقوهم على مسدسات صينية وأخرى فرنسية وبنادق 36 م وماط 49، وعن تلك الفترة روى عمر دهكون للمحكمة بقوله: «رجعت من الجزائر عن طريق باريس، و اتصلت بالبصري وكان رجوعي حوالي منتصف أكتوبر، تحدثنا في مسائل تهم التدريب وفي ما ستفعله العناصر المدربة، وكان هدفنا هو أن نعمل في المغرب، إذا ما زودنا البصري بالأسلحة، لكنه لم يزودني بأي شيء منها».
خارج تنقلاته الى الخارج، ظل عمر دهكون في الفترة ما بين أكتوبر 67 وأكتوبر 69 يعيش موزعا بين سلا والدار البيضاء، وفي ما بين التاريخين، تلقى في ماي 69 رسالة من باريس موضوعها ترشيح عناصر جديدة للتطوع والتداريب لصالح القضية الفلسطينية، وهكذا اتصل عمر دهكون بالعمال والطلبة والمعلمين الذين كان له اتصال بهم وقد ذكرهم هو نفسه في محاكمته سنة 1973 وهم «الورادي محمد، ابراهيم الرباطي، بوعزة درويش، عبد الكامل الزاوي، توفيق الادريسي، مصطفى الرونزي والحبيب نوار».
ولكل واحد من الذين ذكرهم دهكون قصة تروى، تكاد تكون أحيانا على طرفي نقيض من قصة الآخر، فالورادي مثلا ـ سنحكي قصته بالتفصيل فيما بعد ـ تدرب بالفعل في سوريا لكنه (باع) وقرر عمر دهكون تصفيته وكانت المحاولة يوم 29 دجنبر 1972 بمدينة سلا، في حين أن قصة بوعزة درويش انتهت بشكل مأساوي في اعتقالات مراكش وعرف الباقي مصائر مخالفة،
على كل، سافرت الأسماء المذكورة ما بين أواخر يونيو و 13 يوليوز 1969 للتدريب، وكان عمر دهكون صحبة المسافرين إلى أن عاد في أكتوبر من نفس السنة.
في 16 دجنبر 1969، بدأت اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة بعد وشاية المناضي، وأصبحت أجهزة الأمن على علم بالمنظمة وبدور عمر دهكون فيها، كان عمر دهكون يقيم في خيرية سلا أو لدى شخص يدعى بعثمان، لا تعرف هويته ولا أهدافه ولا انخراطه في العمل المسلح، وكان دهكون وقتها يقدم له نفسه على أساس أنه يتابع «دراسة حرة».. لا أكثر ولا أقل!
في هذه الأثناء، تعرضت عائلة الفقيد للمداهمات والاعتقالات والتعذيب، ففي يوم الجمعة 26 دجنبر 1969، ولم تنقض سوى عشرة أيام على اعترافات المناضي ابراهيم، هجمت قوات الأمن مسلحة بالرشاشات والمسدسات على منزل العائلة واعتقلوا أفرادها كلهم لمدة ثلاثة أيام، وقد شمل الاعتقال والد دهكون (أحمد) ووالدته (رقية) وإخوته الحسين، وخديجة ومحمد وفاطمة زوجة أخيه عبد الله ومصطفى دهكون ابن أخيه عبد الله.
وزوال نفس اليوم، تم اختطاف كل من عبد الله وابراهيم أخويه، وقد حكى عبد الله دهكون لجريدتنا عن تلك الفترة ـ ما سماه بالاختطاف الأول ـ بقوله: «حوالي الساعة الثانية زوالا من يوم الجمعة 26 دجنبر 69، خرجت من منزلنا بالبرنوصي كعادتي، متوجها الى عملي في محطة القطار بالدار البيضاء المسافرين، وأنا أمتطي دراجتي النارية الحمراء اللون، ولما وصلت مفترق الطرق بالقرب من العمارة «العَوْجة» وقفت أمامي سيارة بيضاء من نوع بوجو ونزل منها 3 أشخاص بزي مدني ودفعوني بقوة داخلها، بينما نزع أحدهم مني الدراجة بدون أن يأخذ أوراقها، أثناء الطريق قال لي أحدهم: «ان شركتك عَمْلَت ِبكْ شكاية لأنك تسرق السجائر وتبيعها، حينذاك بدأت أفكر رغما عني ألا أشتغل في شركة التبغ ولا أدخن بتاتا، في منتصف الطريق أرغموني على الانحناء بين أرجلهم واضعين أيديهم بقوة على عنقي حتى كدت أختنق.
بعد نصف ساعة تقريبا وصلنا إلى مكان مجهول فأنزلوني من السيارة وألبسوني جلابة وغطوا وجهي بـ «قبها» داخل المكان قبض علي الأشخاص وقال أحدهم: ادفعوه وارموه في المسبح، عندما سمعت ذلك شعرت بالخوف فترددت في المشي، لكنهم جروني بقوة كالكبش يريدون بذلك تخويفي وإرهابي مسبقا، وأنا الذي لا أعرف ماذا فعلت وماذا جرى حتى أنال كل هذه التعسفات.
الجواب سيكون داخل مكان التعذيب البشع «وأنتم تعرفون تقنيته وتفاصيله بواسطة الإخوان الذين استجوبتموهم مسبقا على صفحات جريدتنا «الاتحاد الاشتراكي» فلا داعي للتذكير بها.
أول سؤال بدأوا به الاستنطاق هو حول المناضل والشهيد أخي عمر، بدأت الأسئلة تتقاطر علي مثلا: ماذا يفعل ومع منْ كان يتصل ويجتمع؟ وأين ذهب صباح الجمعة، ومن حمله الى محطة القطار بعين السبع، قائلين وأنا تحت التعذيب. «إذا أردتَ أن تجيب، ارفع أصبعك»، كيف أرفعه وأنا معلق كالكبش.! إني أجهل كل هذه الأمور وكل ما أعرفه هو أن أخي المرحوم عمر كان يتابع دراسته في ثانوية النهضة بسلا بعدما أتم تعليمه الابتدائي بمدرسة الهدى الكائنة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة بالدار البيضاء.
عندما أرجعوني من التعذيب، سمعت صياح وأنين أخي إبراهيم الذي كان بجانبي ولم أره، فكيف أراه وأنا في حالة يرثى لها ومعصوب العينين، مكبل اليدين بالأصفاد! حيث رموني في مكان بارد وأنتم تعرفون طقس شهر دجنبر القارس.
في تلك اللحظة، تقدم مني أحد الأشخاص وقدم لي كأسا من الشاي وقطعة من الخبز وغطاني بعدما قدم لي صورة تذكارية لعدة أفراد وقال لي: هل تعرف هذا الشخص الواقف في الوسط، إنه ابني الغائب عنا معتقدا في نفسه أنني أعرفه، لكن كيف أعرفه وأنا لا أجتمع مع أحد ولا أتكلم مع أحد في الأمور التي لا تعنيني.
في اليوم الموالي ظهرا أخرجوني ورموني فوق البساط النباتي المتواجد خارج المكان (أظن أنها حديقة) وتركوني أتدفأ بأشعة الشمس القليلة، لأنني كنت أحس بألم شديد في يدي اليمنى التي بها جروح بسبب «التعليقة» وكانت تسيل دما بلا انقطاع، بعد ذلك أتى عندي واحد من الحراس وقال لي متهكما: ماذا وقع لك ومن الذي عمل لك هذا الجرح؟ لم أجبه قط.
في يوم الأحد 12/69/28 بعد الزوال وبعد 3 أيام في ضيافتهم غير الإنسانية، أتوا بي إلى مكتبهم وسلموا لي خاتم الزوجية ـ و 60 درهما عوض 80 درهما، وعندما أرادوا أن يخرجوني من هناك قلت لهم: إنكم لم تسلموا لي دراجتي النارية، فقالوا لي: إنك مازلت تتذكرها ولم تنسها، حملوني صحبة أخي ابراهيم في سيارتهم ورمونا في نهاية شارع الحزام الكبير قرب مركب العربي الزاولي حوالي 7 مساء.
وهناك وجدت دراجتي النارية (الموبيليت).. وعدنا الى البيت ووجدنا أفراد العائلة في حالة يرثى لهم وأغمي على الجميع».
الأمن يقيم في بيته وعمر يتنكر في لباس نسوي لضمان تحركاته
دخل عمر إلى السرية المطلقة مع بداية محاكمة مراكش، ولما تبين له أنه ملاحق من طرف الشرطة، لكن عمر دهكون لم يتردد في العمل وظل يواصل تحركاته، داخل البلاد وخارجها، بانتظام المقتنع بأن المعركة متواصلة، كما لو أنه يعمل لغده، علما أن محكمة مراكش كانت قاسية معه، عند النطق بالحكم، متهمة إياه «بارتكاب جريمة الاعتداء على النظام لإقامة نظام آخر مكانه والمس بالأمن الداخلي للدولة» معتزة بأن هذه الأفعال تحرم تمتيعه بظروف التخفيف».
وفي إطار البحث عنه عانت العائلة الأمرين، فقد تم اختطاف أخويه عبد الله والحسين، في حين هاجمت قوات الأمن المدججة بالسلاح بيت العائلة، وفي شهادة محمد دهكون وصف لما حصل ليلة 26 دجنبر 1969، وعمر دهكون في سلا يومها: «كنا في البيت ننتظر عودة الاخوين لأننا لم نعرف سبب غيابهما، بقي الخوف يتملكنا حوالي الثالثة صباحا سمعنا طرقا على الباب، اقتربت بمعية والدي من الباب وما كدنا نفتحه حتى دخل ثلاثة أشخاص نجهل هوياتهم، عنوة، سارع الأول إلى الإمساك بي في حين ارتمى الثاني على أبي، ودفع الثالث الباب بقدمه، حدث هرج ومرج في الوقت ذاته نزل عدة جنود من سطح البيت وبدأ الجميع في تفتيشه وقلبوا سافل الاثاث اعلاه، وحجزوا النساء في إحدى الغرف في حين دفعونا إلى الحائط وبدأ نفس السؤال يتكرر: «فين هو عمر دهكون، فين هو عمر دهكون»، ثم توجهوا إليّ «، لقد كان بينكم، وأنت من هربته، قل أين هو..
لقد أخذته يوم الخميس على متن الدراجة النارية، قل لنا أين أخذته» وسرعان ما بدأ أحدهم ينهال عليّ بالضرب بعقب رشاشته، كان عمري وقتها 16 عاما ولا أعرف ماذا يجري، بعد ذلك بدأوا في عزل كل واحد منّا على حدة، واستنطاقه بكل الوسائل، بالكلام المعسول، بالتهديد، بالضرب، بالكلام الفاحش، فتشوا جميع الأمكنة، بل إنهم أحاطوا بدولاب قديم كنا نضع فيه أشياءنا ووجهوا نحوه الرشاشات، اعتبروا أن هناك ممرا تحته في البرنوصي، عندما لم يجدوا شيئا، لم ينصرفوا، بل مكثوا معنا طيلة ثلاثة أيام (الجمعة، السبت، الأحد) – مكث معنا ثلاثة مسلحين بينما انصرف تسعة.
وفي الوقت الذي أجبروني فيه على عدم الخروج، كانوا هم الذين يقومون بأخذ الخبز إلى الفران وشراء المواد الغذائية وكل ما نحتاجه، كنا محتجزين في بيتنا، بل أكثر من ذلك، عندما كان يزورنا بعض الناس، كانوا يدخلونهم إلى أحد البيوت ويستنطقونهم لمعرفة مكان عمر دهكون.
حين كانت والدتنا ر حمها الله تسألهم عن مصير عبد الله وابراهيم المختطفين، كان يقول لها المدعو «الحاج الشريف»: «ألله آلوالدة، ولادك راهم مع أولادي مبرعين وفرحانين مع راسهم في الفيلا ديالي» في اليوم الثالث غادروا البيت، عندها عاد عبد الله وابراهيم إلى البيت ليلا..»
ما من شك أن الشهيد دهكون كان يعلم بأن تخفيه ومطادرته سوف يجني على أهله ومعارفه ويلات العسف والاضطهاد، لكنه أيضا كان يدري أن تلك ضريبة لابد من دفعها، وواصل عمله السري، وتوسيع الدائرة التنظيمية بقدرة على التخفي والعمل الدؤوب تثير الدهشة، وظل على اتصال بكل معارفه وأصدقائه ومن تربطهم بعائلته علاقات مودة أو نضال مشترك، كما هو حال عائلة أزغار، وقد حكت لنا جميعة أزغار عن هذه العلاقة ومتانتها عدة تفاصيل، بدأت من الطفولة:
«كان عمر دهكون رحمه الله يتردد على بيتنا لأنه كان صديق أخي محمد أزغار في الدراسة حيث كانا يتابعان دراستهما في مدينة سلا وفي نهاية الأسبوع والعطل يرافق أخي الى البيت، هكذا كانت معرفتي به، لتتطور هذه العلاقة وتصبح عائلية حيث تعرفنا على عائلته وتعرفت هي علينا وأصبحت بيننا علاقة جد حميمية،
عمر رحمه الله كان له 6 اخوان وأخت واحدة وهي خديجة، مازالت تجمعني بها وبأختي الحاجة زهرة علاقة كبيرة المهم أصبح عمر كأحد أفراد العائلة وظل يتردد على بيتنا كالعادة، الى أن سمعنا بمحاكمة مراكش وأن عمر حكم عليه غيابيا بعقوبة حبسية، منذ سماع الحكم لم نعد نراه حيث اختفى مدة تزيد عن السنة والنصف، توفيت خلالها والدتي، بعدها فاجأنا بزيارة حيث قدم لنا التعازي واقترح علينا أن نقيم ذكرى والدتي لأنها لم تكن امرأة عادية بل قدمت تضحيات من أجل الوطن لذا يجب أن تظل في ذاكرة كل النساء، كان إذاك مبحوثا عنه كما تعلمون وكانت الاعتقالات تطال كل من له صلة به، ظل يتردد على بيتنا بشكل عادي، انتبه الى أني انقطعت عن الدراسة وأصبحت أشتغل بالخياطة في البيت، فاقترح علي أن أشتغل في مكان أضمن فيه دخلا قارا، وبالفعل توسط لي عند أحد الأطباء الذي شغلني في مصحته، عمر لم يكن أبدا ضد النظام، بل ضد بعض المفسدين الذين يخربون البلاد حسب تعبيره، لما كنا نستفسره عن مشكلته مع الدولة حين علمنا بها، المدهش حقا أن عمر كان يعيش بشكل طبيعي رغم حملات البحث الجارية في شأنه في كل ربوع الوطن، فقد كان يخرج بشكل عادي، ويذهب قرب الكوميسارية بالحي المحمدي حيث محطة الحافلات ويركب من هناك بشكل عادي، كان كذلك يهتم بهندامه ويحافظ على أناقته وكأن لاشيء يحدث، لم نلاحظ أبدا أن الخوف انتابه أو أنه منزعج من البحث الذي يلاحقه.».
في دجنبر 69، كان عمر دهكون عائدا الى سلا في سيارة أجرة، أخبره صاحبها الذي كان على علاقة مع أحد أفراد الخلايا السرية بأن الشرطة تبحث عنه لهذا تفادى التوجه الى المكان المعتاد الذي يرتاده دائما، بحي الكمري، فتوجه الى بيت عثمان اليعقوبي الذي استضافه دون العلم بحقيقة ممارساته، وعن تلك الفترة يقول أحد المناضلين الذين كانوا على اتصال بعمر دهكون رحمه الله، وهو الروداني محمد «دخلت داري في الأسبوع الأول من شهر فبراير 1970 ـ ولم يمر آنذاك سوى شهر على بداية مطاردة عمر ـ فوجدت بها عمر دهكون رفقة عثمان»، فأخبره عمر بأن الشرطة تبحث عنه لأنه «شارك في اضرابات الطلبة» وطلب الاختفاء عندهم بضعة أيام قبل التوجه الى الدار البيضاء، وفعلا مكث في البيت أسبوعا تقريبا حدث خلالها الحاضرين في شؤون البلاد ودعاهم الى الانضمام الى حزب الاتحاد وقبل ثلاثة أيام من حلول عيد الأضحى، في تلك السنة (1970)، طلب عمر من رفيقه الوازي الحسين، أن يأتيه بجلباب وحذاء ونقاب نسويين قصد التنكر، وبعد أن أتم لباسه خرج بمعية رفيقه قصد مرافقته الى البيضاء، وعندما وصلها سلم بطاقة تعريفه وجواز سفره المزورين الى صاحبه وطلب منه تسليمه الى الوازي الذي ظل بسلا.
ولما وصل الى البيضاء اتصل بالمرحوم الوالوسي بن بلا وقد ذكر عمر في محاكمته سنة 1973 «لقد قضيت عند الوالوسي أربعة أيام» وفي تلك الأثناء أرسل بن بلا الى محمد عواد المشرف على خلية شيخ العرب الأولى، الذي أخبره بأن دهكون يريده، وكان ذلك قصد الاقامة في البيت والتي دامت يومين على حد قول الشهيد عمر دهكون، «ولما أدركت الصعوبات التي كنت أسببها لهم جميعا ـ يقول دهكون أمام المحكمة ـ التجأت الى الزاوية في مقبرة بن امسيك، حيث اخترتها كمقام لسكناي الى غاية 1971».
يتبع
صباح اليوم الثاني من نونبر 1973، أصدرت وزارة الأنباء بلاغا صحفيا جاء فيه أن المحكوم عليهم بالإعدام في ما سمي بمحاكمة القنيطرة من طرف المحكمة الدائمة للقوات المسلحة الملكية، المعروفين بقضية «مولاي بوعزة» قد نفذ فيهم الإعدام يوم الفاتح من نونبر 1973 في الساعة السادسة صباحا و 38 دقيقة بالسجن المركزي بالقنيطرة، بحضور رئيس المحكمة ووكيل الملك ومحامي الدفاع.
الذين نفذ فيهم الإعدام في ذلك اليوم الذي صادف احتفالات عيد الأضحى كانوا عمر دهكون، عبد الله بن محمد، أيت لحسن، بارو مبارك، بوشعكوك محمد، حسن الادريسي، موحا نايت بري، تفجيست لحسن، أجداني مصطفى، يونس مصطفى، أمحزون موحى، ولحاج، بيهي عبد الله الملقب بفريكس، دحمان سعيد نايت غريس، أيت زايد لحسن، حديدو موح، محمد بلحسين الملقب بـ «هوشي منه».
من هم؟ ماهي قضيتهم التي استنجدت الدولة المغربية للحد منها إلى العقوبة القصوى؟ كيف تراكبت عناصر السياسة والنضال والقمع، في ثلاثية مستحيلة الحل، إلى أن وصلت بعدة مناضلين إلى الوقوف أمام فرقة الإعدام، وجها لوجه أمام موت؟ وما هي الأحداث التي حدثت في مولاي بوعزة أو أحداث 3 مارس 1997 أولا؟
منذ بداية سنة 1973، اجتاز المغرب موجة من الأعمال المسلحة استهدفت المؤسسات الحكومية في بعض المدن والبوادي، وكانت هذه الأحداث التي أعقبت انقلابي 71 و 72، تتويجا لعمل سرّي فرضته على مجموعة من المناضلين آنذاك ظروف الانحسار السياسي و «التزمت» المؤسساتي في البلاد، ومع بداية شهر مارس 1973 «تسللت» مجموعة من مناضلي الاتحاد الوطني للقوات الشعبية الحدود الجزائرية ـ المغربية، والتحقت بأعالي الأطلس لإشعال فتيل الثورة المسلحة ضد «النظام» المغربي وموروثه الاستعماري، بناء على التحليل الثوري الحالم وقتها، ولأسباب كثيرة، ليس هذا مجال سردها، انتهت المغامرة بمحاصرة مجموعة المقاتلين الثوريين وتم تبادل الرصاص في فجاج الأطلس وسفوحه ولقي بعض الثوريين حتفهم في تلك المواجهات ومنهم محمد بنونة المعروف باسم محمود، والذي نعتته البيانات الرسمية بـ «زعيم الإرهابيين»، وأسكور محمد وابراهيم التيزنيتي… في حين حاول آخرون العودة الى الجزائر، وقد نجحوا في ذلك، ومن ضمنهم أومدة، في حين تعرض آلاف المناضلين الى الاعتقال، وتم الحكم بالإعدام على مجموعة منهم، ذكرنا بعض الأسماء التي نفذ فيها الحكم، في كل حديث عن تلك الفترة، يعود على لسان أصحابها أو المهتمين بتلافيف دمائها وبشهدائها، اسمان رئيسيان ـ أو هكذا يبدوان لشباب لم يعش الفترة جسديا ـ وهذان الإسمان هما محمود بنونة وعمر دهكون،
سيرة محمد بنونة، مهندس الثورة، وحدها تستوجب عملا جبارا للإحاطة بشخصيته ونضاليته ونهايته المأساوية الاستشهادية هو ومن معه، والتي استحقت عن جدارة، تلك الصفة البليغة التي أطلقها ابنه المهدي على التجربة «أبطال بلا مجد»، لكن قبل ذلك، نذكر أن وزارة الداخلية آنذاك أصدرت بلاغا ـ مفعما بالحبور! ـ تخبر فيه بـ «مقتل زعيم الكوماندوهات الإرهابية»، وألحت أيضا على ألا يعرف قبره حتى «يمحو الموت وجوده من الذاكرات» على حد قول ابنه المهدي، وعندما يحكي عن دفن أبيه، يتذكر الإبن الذي يعيش حاليا في سويسرا ما قاله له شهود عيان، عن وصول ثلاث طائرات مروحية بقيادة ضابط فرنسي إلى مدينة الرشيدية ـ التي كانت تسمى وقتها قصر السوق ـ وعن محاصرة مستشفى المدينة حصارا شديدا ومنع التقاط الصور للجثمانين اللذين سلمهما الضابط الفرنسي المشرف على العملين للعاملين بالمستشفى قصد التعرف عليهما، ويذكر أيضا ما قاله أحد هؤلاء العاملين بمجيء عميد شرطة لاستيلام الجثتين قصد دفنهما:
الجثة الأولى، جثة الزعيم، كانت لمحمود بنونة والثانية لأحد المناضلين معه.
وسيرة عمر دهكون أيضا سيرة مركبة، غنية بالأسماء والأماكن والمواقيت، تتقاطع فيها سلاسة الحلم والرومانسية الثورية بصلابة الواقع السياسي بخزائن العنف المنظم بأخاديد البؤس الاجتماعي التي انحفرت في التربة المحلية للبلاد،
أمام المحكمة التي سترسم طريقه الى الرصاص، والقبر بعدها، لم ينف دهكون عمر بن أحمد بن ابراهيم، حسب المنطوق المدني للحالة العدلية، أنه منذ 1967 وإلى حدود يوم 22 مارس 1973، تاريخ إلقاء القبض عليه، وهو يقوم بنشاط متواصل في إطار منظمة سرية تعمل على تغيير النظام، وأنه عمل على تنظيم الاستقطاب لهذا التنظيم السري، وأقر أيضا بأنه توجه صحبة رفاق الخلايا السرية إلى دولة أجنبية وبها تدربوا على استعمال السلاح، بكل أنواعه المتوفرة وعلى حرب العصابات،
وبعد التداريب عاد عمر دهكون، حسب ما جاء أمام المحكمة، وكون عدة خلايا بكل من البيضاء والرباط، وعمل أيضا على تسريب كمية ضخمة من الأسلحة وضعها رهن إشارة من نعتهم صك الاتهام بأفراد الخلايا، ولعمر دهكون نُسبت أيضا محاولة اغتيال «المسمى الورادي في أواخر شهر دجنبر 1972، عندما أطلق عليه ثلاث رصاصات بمدينة سلا، محاولا قتله، وذلك بعد نهب سيارة من الدار البيضاء استعملها لهذه العملية»، حسب صك الاتهام دوما.
وفي أوائل مارس من سنة 1973، قام بتعاون مع خلاياه بصنع قنابل متفجرة وضع بعضها بنفسه والبعض الآخر بواسطة بعض هؤلاء الأفراد في كل من مسرح محمد الخامس بالرباط والمكتبة الأمريكية بها وبدار أمريكا وتحت سيارة القنصل الأمريكي بالبيضاء، وإليه أيضا نسب الاتهام قيامه بوضع قنابل في مقر صحيفة «الصباح» (لوماتان) بالبيضاء وفي الدائرتين الخامسة والثامنة للأمن الوطني يوم 29 أكتوبر 1971»،
وأمام المحكمة، أجاب عمر دهكون بالإيجاب على هذه التهمة،
وكان قد أجاب عن أسئلة تفصيلية طرحتها رئاسة المحكمة في جلسة سابقة، لعلنا نسلط «بعض» الضوء على تلك الهَبّة الثورية التي اعتبرت، كنيزك، اللحظات السادرة في عتمة المغرب الحديث.
معمر فرنسي يقتل شقيقة
دهكون وشقيقه
عمر دهكون سليل أسرة سوسية بسيطة، تتكون من 11 طفلة وطفلا، عندما تم إعدامه كان عمره لا يتجاوز 37 سنة،
كان أبوه أحمد بن ابراهيم من دوار كنارن قبيلة سكتانة ـ تالوين ـ إقليم تارودانت، دفعت به ظروف الاستعمار وعميله الكلاوي الى النزوح الى الدار البيضاء في العشرينيات من القرن الماضي، استقر به الحال في عين السبع، حيث بدأ عمله كمراقب بالسكك الحديدية، تزوج سنة 1933 من رقية بولغة بنت محمد التي تنحدر من نفس المنطقة التي ينتمي إليها، كان عمر ثالث أطفالهما بعد كل من أخته الكبرى زينة وأخيه لكبير، يحكي أحد أفراد العائلة من أسرة الوالد: «عرف عنه هو وأخوه مواقف نضالية ضمن حزب الاستقلال إبان الاحتلال الفرنسي مما جعلهما في مواجهات مباشرة مع المعمرين المتواجدين بعين السبع»، وكانت نتيجة ذلك أن ذهب الإبن والإبنة ضحية الغطرسة الاستعمارية، فقد دهستهما ـ يقول المصدر نفسه ـ سيارة المعمر الفرنسي فرونسوا أوليجيني فأردتهما قتيلين ولم يُتِمَّا بعد عقدهما الأول»، ورغم هذه الجريمة فلم يتعرض مرتكبها لأية عقوبة ولم يتلق الأب تعويضا يسليه عن فقدان فلذة كبده.
حدث ظل يسكن ذاكرة عمر دهكون، وحكى قصته لكل من التقوه من بعد، ولعلها المأساة التي فتحت عينيه على اختلالات العالم، وعن العدالة التي تظل عمياء، بعصابة على العينين، حتى وهي تحمل الميزان.
ورث عمر دهكون الجرحين وظل يقيم في المسافة الجارحة بينهما دما قابلا للفوران، وما من شك أن تلك الفاجعة ركّبت الغضب والحلم في الوجدان، وكانت بمثابة الحجر الأسود التي نقش عليه الوصف البشع للعالم والرؤية التي سيحملها عنه، وإن قاومها بسلوكه الطيب والإنساني تجاه من يقفون معه على نفس الضفة لمشاهدة الحياة المفعمة بالبؤس،
هذه الفاجعة لا يتردد أحد أصدقائه والمعتقلين معه سابقا، محمد أزغار في وصفها بالعقدة، يقول رفيق عمر دهكون، في تصريح للزميل العربي رياض ولكاتب هذه السطور: كانت هناك عقدة تسكن دواخله، عانى منها طويلا معاناة مريرة، وتتمثل في كون أحد المعمرين، أقدم في يوم من الأيام على قتل أخويه بمنطقة البرنوصي، حيث دهس الأول بسيارته وبعد أيام أعاد الكرة مرة أخرى مع الأخت .. لكن الملف أقبر» ولم يُقبر الجرح في روح عمر دهكون.
وعن طفولته الأولي، حكت لنا أخته خديجة دهكون أنه بدأ دراسته بالكتاب المتواجد آنذاك بدوار الواسطي وبعد ذلك انتقل الى مدرسة الهدى المتواجدة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة، وفي فترة لاحقة انتقل الى مدينة الرباط حيث تابع دروس الضرب على الآلة الكاتبة بكوليج الليمون».
وفي الرباط ربط أولى علاقاته مع الطلبة وأولى الخطوات في العالم السياسي، حيث «كان يشارك في التجمعات التي كان ينظمها الاتحاد الوطني للقوات الشعبية تحت قيادة المهدي بن بركة» وقادة آخرين،
وجاءت مرحلة سلا، ومدرسة النهضة التي كان يديرها آنذاك المجاهد أبو بكر القادري وابن أخيه أحمد، واكتفى عمر دهكون وبعض زملائه بالإقامة في ضريح مولاي الكمري بالمدينة، وهناك حصل على شهادة الدروس الثانوية الحرة في النصف الأول من الستينيات.
كان الاستعمار قد رحل، لكن عمر دهكون كان يحدس حضوره الدائم في كل لحظة ظلم، أو عضة جوع، وكان يواجه بشاعة تلك الأوضاع بالدفء الإنساني الذي يسبغه على كل زملائه، كما يحكي زميله ورفيقه أزغار «كان حنونا إلى أقصى حد بحيث كان يبذل كل ما في وسعه لمساعدة الزملاء المعوزين ويستقبل في بيته بالبيضاء كل الطلبة القادمين من مدن بعيدة، كما عرف عنه الاستقامة والانضباط، ويذكر أفراد أسرته كلهم سعة صدره وتقدريه لكل من عاشروه واهتمامه باخوته وأهله «سواء حين كان يتواجد بالمغرب أو حين يسافر الى فرنسا أو ألمانيا»
وانخرط عمر في العمل السياسي بسيدي البرنوصي بالدار البيضاء في صفوف الاتحاد الوطني للقوات الشعبية ولما احتدم الصراع داخل الاتحاد بين ما كان يسمى بالتيار الثوري والتيار المسمى بالمهادن، كان هو ـ في البداية ـ يميل الى التيار الثاني، لكن مع توالي الاعتقالات والقمع ودخول إخوانه إلى غياهب السجون شعر، وكأن هناك نية مبيتة واتفاق قبلي على التخلص بعد الاستقلال من الوطنيين الذين حاربوا المستعمر الذي ترك حلفاءه في البلاد لينتقموا له، حسب شهادة أزغار الذي كان يستضيف عمر دهكون في بيته، سواء في فترة الدراسة أو بعدها في الفعل الاحتجاجي،
كانت مدرسة النهضة أيضا مختبرا للصداقات العادية التي تتحول بفعل صناعة سياسية في تلك المرحلة، إلى صداقة قدرية قادت العديد ممن عانقوها إلى الموت رميا بالرصاص صباح ذلك اليوم من نونبر 1973?
- مجموعة دهكون، من رفاقية المدرسة إلى رفاقية الموت!
في مدرسة النهضة بسلا، تعرف عمر دهكون على ثلة من الشبان المغاربة، انخرطوا في ما بعد في العمل السياسي، ومنهم من دخل التنظيم السري من اجل كفاح مسلح اعتبر ان الظروف، الموضوعية والذاتية منها، تفرض اللجوء اليه.
كان اغتيال الشهيد المهدي بنبركة الحدث الاساسي في تحولات المسار السياسي لمجموعة من المناضلين، والاقتناع بان «الدواء الوحيد لهذا النظام هو اجتثاثه»، كما كانت الادبيات المعارضة انذاك تصف المرحلة، واصبحت مقولة «بيننا وبين القصر جثة المهدي» التي نسبت الى الفقيد الكبير عبد الرحيم بوعبيد مقولة ثابتة، مهيكلة للخطاب الاتحادي، خصوصا في اوساط مثقفيه الثوريين وشبابه المتحفز.
وجاءت هزيمة 1967 لتدق اجراس اليأس من المكابدة السياسية والنضال المؤسساتي، واليأس ايضا من فئات البرجوازية الحاكمة وفشلها الطبقي» في تحرير الانسان والارض? ومن ثم بدأ العمل على تشكيل المنظمة السرية او الجناح المسلح، الذي سيعمل على قلب المعادلة في البلاد،
ومنذ 1967 شرع عمر دهكون في هذا الاختيار الكفاحي ولا أحد يستطيع ان يحدد بالضبط، حسب ما علمنا، التاريخ الذي غاص فيه عمر دهكون وزملاؤه في عتمة التنظيم السري، لكن من المؤكد ان مجموعة دهكون، كما اصطلح على ذلك فيما بعد لم تتشكل في لحظة ميلاد واحدة، بل كان الاستقطاب اليها تدريجيا وعلى فترات، اذ ان تاريخ التحاق الملياني الادريسي رحمه الله مثلا، ليس هو لحظة انخراط اقذاف احمد اطال الله في عمره او اجدايني مصطفى الذي اعدم في تلك الصبيحة البارحة من نونبر 1973 ، ولم يكن كل الذين مثلوا امام المحكمة العسكرية في القضية الجنائية 8754/1748 يوم الخامس والعشرين من يونيو 1973 على نفس المسافة من شهداء 1973.
فالادريسي الملياني المزداد سنة 1940 بسلا، من والده الهاشمي بن عبد الرحمان ووالدته فاطمة بنت محمد، كان لايزال اعزب ساعة اطلقت فرقة الاعدام عليه النار، وقد جاء في حيثيات اعدامه انه اطلع في شهر فبراير 1969، بواسطة عمر دهكون على وجود منظمة سرية، او ما عرف في حوليات الاتحاد الوطني بالتنظيم الموازي، يهدف الى القضاء على النظام الملكي واقامة نظام بديل له، وقبل الانخراط في التجربة? وفي 15 يوليوز 1971 ، توجه الى فرنسا بطلب من عمر دهكون، وكان الغرض من السفر هو الانتقال الى «دولة اجنبية للتدريب في معسكراتها تدريبا عسكريا حتى يكون مهيأ للعمل المسلح»، لكن الامور اتخذت وجهة اخرى، و لم يتم المطلوب لانه اخطأ في الموعد وجاء بعد ان سافرت المجموعة التي كانت سترافقه الى معسكرات التدريب، وعاد الى المغرب «على نفقة المنظمة» واتهم المرحوم الملياني الادريسي ايضا بانه قام، بمعية عمر دهكون، بوضع القنبلة المتفجرة التي استهدفت دار امريكا بالرباط، في الثاني من مارس 1973 اي قبل احداث مولاي بوعزة بيوم واحد، ومن المعلوم أيضا أن الإدريسي الملياني كان يسلم لعمر دهكون مفتاح البيت لينام فيه من وقت لآخر، لاسيما بعد أن أصبح هذا الأخير مطاردا بعد محاكمة مراكش الشهيرة، وكان الملياني مكلفا بالتدريس في سلا، ولم يسبق له أن تعرض للاعتقال أو المحاكمة.
وأمام المحكمة، نفى المرحوم الإدريسي الأفعال المنسوبة إليه واعتبر ما ورد في المحاضر نتيجة للتعذيب الوحشي الذي نهش جسده وجاء في تصريحه لرئيس المحكمة، الأستاذ محمد اللعبي «أنه لم يلتق بدهكون قبل سنة 1971» وإن كان قد تعرف عليه منذ 1962 عندما كانا في اعدادية النهضة بسلا ونفى أن يكون له علم مسبق بأن عمر دهكون مطارد من طرف الشرطة، أو أن هذا الأخير قد طلب منه استقطاب زملاء أساتذة، كما نفى أن يكون قد تلقب بلقب «سليم» كما هي العادة في الأعمال السرية التي يلجأ فيها مقاتلوها الى الأسماء الحركية،
تفاصيل أخرى، أوردها المرحوم الملياني أمام المحكمة، سيأتي ذكرها في حينها، لكن المحكمة لم تأخذ بمنطق الدفاع، وكان الحكم القاسي والنهائي في حقه،
إضافة الى الملياني ضمت مجموعة دهكون أيضا ملحاوي، وأقذاف أحمد، وهذا الأخير من مواليد البير الجديد (إقليم الجديدة)، كان وقت اعتقاله ومحاكمته يعمل مهندسا احصائيا بالرباط، ينسب إليه الانتماء الى العمل السري في سنة 1971، هيأ في رمضان من نفس السنة قنينة (مولوتوف) مع أحد أعضاء الخلية الى سفارة كوريا بالرباط، فألقاها عليها غير أنها لم تنفجر، وفي شهر يوليوز 1971 سافر إلى باريز وقابل الفقيه البصري وعبر له عن اقتناعه بالانخراط في المنظمة السرية، واتهمته المحكمة أيضا بأنه حمل رسالة إلى شخص بباريز سماه عمر دهكون الفقيه سي علي وطلب منه أن يأتيه من عنده بمبلغ مالي قدره قاضي التحقيق بـ 400 ألف فرنك فرنسي، كما نسب إليه تلقيه تداريب على السلاح مرنه عليه شخص، من الدار البيضاء، لم يأت القاضي على ذكر اسمه، ومن بين الأشياء الأخرى اطلاعه على وصول سيارة محملة بالأسلحة من بلجيكا.
الأستاذ بوبكر القادري والنواة التنظيمية الأولى للعمل السري!
الحلم، كالواقع، يجمع ويفرق، وتلك هي الحكاية بين أقذاف ودهكون، أصر الأول على تقديم رواية مغايرة أمام المحكمة لما ورد في محضر البوليس أو لما أقر به عمر دهكون في حقه، فنفى أن يكون سفره إلى باريس من أجل التنظيم السري أو التوجه الى سوريا قصد التدريب.
تحدثت روايته عن سفر استجمام الى باريس عبر مطار النواصر بالدار البيضاء، حطت به الطائرة بمطار أورلي، بعد أن أقلعت في الساعة الخامسة مساء، في أحد أيام الجمعة، رأى لافتة «النيون» يضيء اسم فندق فدخل، ولما استيقظ صباح اليوم الموالي لوصوله، توجه الى طبيب فرنسي اسمه جاك موران، بسبب قرحة في المعدة، عندما وقفت السيارة التي استقلها أمام مكتب هذا الطبيب، كانت الساعة تشير الى التاسعة صباحا و 15 دقيقة، انتظر ربع ساعة قبل أن يستقبله الطبيب وظل معه إلى أن قاربت الساعة العاشرة،
استنكر القاضي قائلا: «قضيت معه حوالي 20 دقيقة، ومازلت تذكر بالتفصيل الدقيق الساعة والدقيقة، لكنك لا تتذكر عنوان مصحته؟» فأجاب أقذاف باقتضاب «نعم»! فكان أن سأله رئيس المحكمة من جديد: «هل سلمك وصفة» فأجابه بالإيجاب مرة أخرى، لكنه لم يقبل منه أن يخبره أنها مازالت لدى الشرطة وقاطعه بجفاء»، بدون تعليق، أجب عن الأسئلة فقط».
وبخصوص التهمة المتعلقة باستلام المال وتسليمه إلى عمر دهكون دار بين الاتهام وأحمد أقذاف الحوار التالي:
ـ لم تلتق بأي أحد.
أبدا.
ـ لم يسلمك أحد المال لتأتي به،
لا أحد، إذا سمحت سيدي الرئيس أريد أن أعرف النصوص القانونية التي استندت إليها الشرطة لتكوين ملفي، فقد قيلت في حقي أشياء يندى لها الجبين. وكلما كنت أطلب الإدلاء بشهادتي كانوا يجيبونني بأنهم سي …. لهذا أريد أن أعرف «.
وهنا طلب الرئيس تدخل الأستاذ النقيب عبد الرحمان بنعمرو، والذي رافع بقوله: «إن ثلثي ملف موكلي لا تخصه أو لا تتعلق به، حيث يتم الحديث فيها عن الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، علاوة على هذا، كلما شرع المتهمون في الحديث عن التعذيب الذي تعرضوا له، تقاطعهم قائلا بأنك على علم بالأمر إلخ، والحال في نظري أن تترك لهم حرية التعبير، لأن تصريحاتهم جزء من المرافعات « كان التعذيب شرسا، وسيحين الحديث عنه على لسان أهله، وتقاسمه كل من اعتقل في تلك السنة من جمر المغرب، وما لم يتقاسمه الجميع هو النهاية، فالمناضل أقذاف أحمد افترق عن صديقه وزميله دهكون ومازال حيا يرزق، بعد أن صدر فيه حكم يخالف حكم عمر دهكون.
لقد سردنا بعضا من أسماء الأصدقاء الذين قطعوا نفس الطريق لكنهم لم يصلوا الى نفس النقطة. في فضاء مدرسة النهضة بسلا كانت الانطلاقة، وكان المختبر الذي تشكلت في قاعاته الكيمياء الثورية التي جمعت الأصدقاء القدريين.
في سياق الصراع الشرس الدائر بين الحركة الشعبية الثورية والطبقة الحاكمة آنذاك، في العقد الأول من الستينيات، كانت كل محطة سياسية أو اجتماعية لحظة اختبار قوة، تتصارع فيها مشروعيتان تبدوان على طرفي نقيض، وكان البناء السياسي الظاهر ساحة هذا العراك القوي، ولعل سنة 1962، سنة الدستور الممنوح، كانت لحظة حاسمة في وعي مجموعة من شباب «النهضة»، للانتقال الى الكفاح المسلح.ومن بين الوجوه المعروفة في مغامرة الحل الثوري، يرد اسم مبارك بودرقة ـ المشهور باسم عباس، عضو اللجنة الادارية للاتحاد الاشتراكي حاليا ـ كعنصر فاعل ومؤطر ثوري لخلية المدن، وقد حكى لنا عن البداية بقوله: «تعرفت على دهكون في سنة 1962 عندما انتقلت بمعية أخي من مكناس لمتابعة دراستنا بالرباط ـ سلا.وقد اشتغلنا الى جانب دهكون، كتلاميذ اتحاديين بشكل فاعل في حملة مقاطعة الدستور الذي صادفت شهر دجنبر 1962، وكانت هناك مجموعة جاءت من أكادير، بعد الزلزال الذي دمر هذه المدينة، ومجموعات قادمة من فكيك ووجدة، مثل توفيق الادريسي ويوس مصطفى وأجدايني مصطفى. وكانت حملة المقاطعة شرسة، تلتها الانتخابات وحملتها التي قمنا فيها بالدعاية لمرشح الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك الأخ المهدي العلوي ضد الأستاذ سيدي بوبكر القادري الذي كان يكن له السلاويون تبجيلا خاصا». وعند ذكر الأستاذ بوبكر القادري يفتح عباس بودرقة القوس ليقدم شهادة «سيحفظها له التاريخ» في حق هذا المجاهد الجليل وجاء فيها (في إطار تحركات التلاميذ الاتحاديين من أجل دعم المرشح الاتحادي ونسف حظوظ المجاهد أبو بكر القادري، قمنا بعدة إضرابات في المدرسة، وكان رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك حميد برادة، الصحفي المعروف حاليا، يقوم بالتنسيق مع التلاميذ بعد أن اقتنع بضرورة إلحاقهم بالعمل الطلابي استلهاما للنموذج الأمريكو لاتيني.
وعندما اندلعت الإضرابات بدأ سيدي بوبكر القادري، باعتباره مدير المدرسة، يتجول في الأقسام ويقرّع التلاميذ وبوبخهم، ويتوعد المخربين، وقد جاء على لسانه أنه لن يسمح بالفوضى ثم تساءل: «اشكون هاذ الفوضويين اللي كيخلقوا البلبلة»، فوقف عمر والمجموعة وقالوا «نحن»، فما كان من المجاهد القادري إلا أن قال «أهنئكم وأهنىء حزبكم على هذه الشجاعة».
ومن جهة أخرى، كان الأثرياء السلاويون يعمدون الى انتقاء بعض التلاميذ من المدرسة ليساعدوا أبناءهم على الدراسة في البيت، فاختار الأستاذ القادري من بين التلاميذ الاتحاديين من يدرس أبناء الأثرياء السلاويين مقابل بعض المال.
أول مسدس، لأول نواة
عمر دهكون رجل صموت، متكتم، دمث الأخلاق، كلامه أميل الى الهمس أكثر منه زعيق، يمتلك قدرة كبيرة على الإقناع وفرض كلمته، يسوس من معه بلباقته وقوة حجته، هذا البورتريه رسمه كل الذين سألناهم عن شخص عمر العادي، في المعاملات والسلوك والسجايا، ولعل ذلك ما خوله القدرة على تنظيم النواة الأولى، في مستهل سنة 1962 و 1963، وفي تلك الفترة بالضبط حصلت الجماعة الشبابية علي أول مسدس، وحكايته أن أحد أصدقاء السلاح وقتها، يعمل حاليا استاذا كان أخوه يعمل في القاعدة الأمريكية بالقنيطرة واستطاع أن يحصل على مسدس سلمه لرفاقه من مقاتلي مدرسة النهضة.
لايمكن في الواقع، رصد تطور الأنوية الأولى للعمل السري عند عمر دهكون ومن معه، بدون الرجوع الى التاريخ الحامل لمغرب الاستقلال في مجال تنظيم المواجهة ما بين امتدادات الحركة الوطنية وحركة التحرير الشعبية وبين النظام بكل تركيبته الموروثة عن التاريخ أو عن الهياكل الاستعمارية، بثقافتها ورجالاتها ورهاناتها في تلك المرحلة، ومن خلال سرد كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث، يتبين أن بعض المجموعات والمناضلين الكفاحيين ظلوا متشبثين بخيار المواجهة الجذرية، ومنهم من سيعمل في إطار التنظيم الجديد بعد إعادة تفعيله من طرف دهكون ورفاقه.
وقد جاء في كتاب عبد القادر بن بركة والمعنون بـ « المهدي بن بركة، شقيقي»، كرونولوجيا لأهم هذه الأحداث منذ أحداث الريف (أكتوبر 1958) والانتفاضة التي صاحبتها، وهي الأحداث التي تمرس فيها أوفقير على التنكيل بالجسد المغربي والانسان المغربي ، وانتهاء بمحاكمات السبعينيات، ولعل ما يلفت الانتباه حقا في هذه المحطات عدد المرات التي نسب فيها للمناضلين التقدميين والوطنيين استهداف حياة الملك الراحل، سواء عندما كان وليا للعهد أو بعد ذلك، وأول مؤامرة ضد حياة ولي العهد الحسن الثاني تزامنت فيها محاكمة الحزب الشيوعي المغربي في أكتوبر 1959 (بعد ما صدر ظهير يحل الحزب)، ثم الحملات القمعية الأولي (دجنبر 1959) ضد الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، بعد مرور أقل من ثلاثة أشهر على المحاكمة الأولى، وتواصلت الى حدود فبراير 1960، وتلت هذه المحاكمات هبة الأطلس المتوسط في نفس الشهر من نفس السنة والتي حوكم المتهمون فيها في سنة 1967! وقتها صدر الحكم بالاعدام ضد بن حمو والأشغال الشاقة ضد البشير الزموري اضافة الى أحكام قاسية أخرى.
أما المؤامرة الثانية التي استهدفت ولي العهد الحسن الثاني، فقد انتهت باعدام بن حمو الفواخري ومحمد أزناك وهما مقاومان سابقان، الى جانب أحكام أخرى تراوحت بين 10 و 25 سنة، ثم جاءت مؤامرة يوليوز 1963 الشهيرة والتي اعتقلت فيها اللجنة الادارية للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بكل أفرادها، وحكمت المحكمة وقتها، باعدام 11 مناضلا اتحاديا ومتابعة الآخرين بعقوبات تتراوح ما بين 3 و 20 سنة، ومن نافل القول أن الحملة الدولية الواسعة للتضامن والمآزرة أفلحت في استصدار عفو عن كل من الفقيه البصري والشهيد عمر بنجلون.
وبعد حرب الرمال، التي تواجه فيها الجيشان المغربي والجزائري صدر حكمان غيابيان بالاعدام في حق كل من الشهيد المهدي بن بركة وحميد برادة، رئيس الاتحاد الوطني لطلبة المغرب آنذاك، الصحفي المعروف حاليا، وفي أكتوبر 1963 نفسه جرت أطوار ما عرف بمحاكمة مراكش الأولى، وكانت التهمة الموجهة فيها ضد المعتقلين، «المحاولة الرابعة» لاغتيال الملك الراحل منذ حصول المغرب على الاستقلال فتم اعدام عدة مقاتلين من ضمنهم لحسن الملقب بالسكليست وعبد الرحيم المراكشي، وإدانة 25 متهما آخرين بمدد تتراوح ما بين 15 و 25 سنة ومن ضمن المعتقلين أحد أبطال المقاومة «محمد مول الكراج».
ثم جاءت قضية شيخ العرب أحمد أكوليز، والذي كان قد صدر فيه حكم غيابي بالاعدام في «مؤامرة» يوليوز 1963 لكنه قتل وهو يقاتل في مواجهة شرسة ضد رجال الأمن في يوليوز 1964 بالدار البيضاء، ثم جاءت أحداث الدار البيضاء في 1965 واغتيال الشهيد المهدي بن بركة وتوقيف الجرائد ما بين 67 و 1969 واعتقال مدرائها، ومع نهاية 1969 (أكتوبر) انطلقت حملة جديدة للاعتقالات مصاحبة بالتنكيل والتعذيب فيما سمي بمؤامرة مدريد، أو محاكمة مراكش الكبرى في يونيو 1971?…
إن التذكير المقتضب بهذه الأحداث ضروري للغاية لفهم الأجواء التي كانت تمارس فيها السياسة في البلاد في الفترة التي تكونت فيها خلايا العمل المسلح من جهة، ثم لفهم الاستمرارية التنظيمية للعديد من الخلايا من مرحلة الى أخرى أدت بالفعل الى ادماج عمر دهكون لأفرادها في التنظيم الجديد، ولعل أهم ما يمكن الاحتفاظ به في هذا الخصوص هو الخلايا التي عملت في زمن شيخ العرب، ولكنها لم تفكك أو يقصم ظهرها بعد اغتيال قائدها وملهمها، وظلت كامنة الى حين العمل من جديد تحت امرة عمر دهكون.
خلايا وتداريب عسكرية ونظرية حرب العصابات
نفذ محمد عواد المشرف على الخلية الاولى من خلايا شيخ العرب الكامنة، العملية التي استهدفت مقدم عين السبع المسمى علال، وبعد ذلك انتقل بمعية رفيقه ابراهيم الى الحي المحمدي حيث اخفيا السلاح المستعمل في العملية? ثم عاد الى مكان تنفيذ العملية ليستقصي اخبار الهدف وتحركات السلطات،
ثم توجها للقاء امارير الحسين، قائد الخلية الثانية، وسلماه المسدسين اللذين تمت بهما العملية، وهما نفس المسدسين اللذين «تسلمهما» امارير من يد المرحوم الحمداوي،
وسيظل السلاح بعيدا عن الانظار مدة خمس سنوات تقريبا الى حين جرت اطوار محاكمة مراكش الكبرى في 1969 وتم حجز المسدسين: الاول عند شداد عبد الكبير، العامل بشركة التبغ بالبيضاء، والذي اخفاه بمقر الشركة والى جانبه شاحن (شارجور) وست رصاصات، اما المسدس الثاني فقد حجزته الشرطة عند اللوسي الحاج بلقاسم، وكلاهما عضو في خلية امارير، وهي الخلية الثانية التي «ورثها» عمر دهكون عن فصول المجابهة بقيادة شيخ العرب،
وكانت الخلية الثانية تتكون من السابق ذكرهما اضافة الى محمد بن بلة، وصابر مبارك، وعبد الله العبدي، وعمر بن علي مسحي وابراهيم عبد الرحمان ومسلاك محمد، وقد كانت لهذه الخلايا اسلحة: مسدسات اوتوماتيكية ومفرقعات ورشاشات الخ، جمعها عمر دهكون من جديد لنفس الاسباب والاهداف، ثم وزعها من جديد حسب ما تبين من كلام محدثينا،
ويصعب وضع سرد خطي، واضح المعالم لقصة كل عضو في الخليتين، نظرا للتداخل الموجود بين التنظيمين، ثم لسهر كل من كتاب الخلايا المسلحة على لقاء الآخرين والعمل معهم، كما هو حال محمد عواد وأمارير الحسين في كافة فصول العمل السري، لكن من الواضح ان اعادة تنشيط الخلايا من طرف دهكون عمر خضع لنفس المسارات السابقة.
من هو أمارير الحسين، كاتب الخلية الثانية والسابق الى العمل السري، امارير من مواليد 1928 بقبيلة فروكة من الجنوب كان يعمل بمعمل السكر (كوزيمار) في الستينيات، تعرف على احد العاملين معه، دله على وجود منظمة سرية سنة 1964، وكان يقودها انذاك في نظره المرحوم الحداوي محمد واقتنع بالخط الكفاحي للمنظمة وبدأ بدوره يقوم بالدعوة الى اعتماد المجابهة الجذرية مع «النظام القائم»، وهكذا استقطب محمد عواد – كندا – وبن بلة رحمه الله، وشرعت المجموعة في الاستقطاب من بين العناصر المنخرطة في الاتحاد الوطني للقوات الشعبية آنذاك وتلقينها دروسا في استعمال الاسلحة، بمنازل افرادها ، وبعد الانتهاء من الدروس كان المرحوم الحداوي يحمل سلاحه معه الى وجهات مختلفة،
بعد العملية التي استهدفت المقدم علال، ووفاة المرحوم الحداوي اتصل حرتوف محمد الجندي السابق في حرب الهند الصينية واحد اعضاء المنظمة العاملين تحت امرة شيخ العرب، بامارير ليطلعه على النبأ، وليوصيه ايضا بالتزام السرية والاحتفاظ بالمسدس الذي يوجد بحوزته، وقد كان حرتوف محمد مشرفا على خلية مسلحة من خلايا شيخ العرب، لم يستطع عمر دهكون تشغيلها وهي الوحيدة، من بين خلايا شيخ العرب، التي ظلت بمنآى عن اشراف دهكون عمر، انقطعت صلة امارير بعمل السلاح منذ 1965 لكن امارير كان يسكن بحي البرنوصي البلوك 76، و كان عمر دهكون حينها جارا له، وفي سنة 1967 اتصل به وحضر هو وكندا الى بيت المرحوم عمر دهكون الذي طلب منهما العمل الى جانبه بمعية باقي أعضاء الخلية» أبديا استعدادهما لمواصلة الكفاح المسلح، وفي السنة نفسها عرض عليهما السفر إلى خارج البلاد لتلقي تداريب مفصلة ومتقدمة عن استعمال السلاح وإدارة حرب المدن، وحكى لنا محمد عواد أن ذلك «كان في صيف 1967، وأنه كان حاضرا بمعية زدي لحسن بالقطار ليلة السفر»، أما عن تفاصيل السفر، فقد سلم عمر دهكون مبلغ 200 دهـ لأمارير مقابل ثمن التذاكر، ومبلغا مماثلا لمن سيرافقه في الرحلة، إلى «جانب رقم تليفوني بباريس وكلمة السر «عباس» للشخص الذي سيستقبلهما بالعاصمة الفرنسية»، وفي السادس عشر من يوليوز سنة 1967، ولم تكن قد مرت على نكسة يونيو 1967 سوى أيام معدودة، توجه أمارير إلى محطة الدار البيضاء الميناء، وهناك التقى بكندا ولحسن زدي صديق الرحلة الثانية، وعندما وصلا إلى باريس، وجدا في انتظارهما، عمر دهكون!
ورافقهما المرحوم عمر دهكون الى أحد الفنادق حيث قضوا ليلة باريزية عادية، لم يروا منها سوى مصابيح الجن والإنس الافرنجة، وبعدها استقلوا الطائرة، هم الثلاثة، متوجهين الى الجزائر، وهناك استقبلهم «الاسم السري وكلمة السر» عباس، ودلهم بعدها إلى دار غير آهلة، وعمدهم عمر دهكون بأسمائهم الحركية الجديدة، ليصبحوا الثوار: «الخطابي» لأمارير و»بحري» لزدي أما عمر دهكون فقد أصبح يلقب بـ «بودرار»!
في تلك الليلة، التحقت مجموعة أخرى من القادمين من المغرب، وأصبح عدد الحاضرين عشرة أشخاص، إضافة الى «عباس»، انتقلوا من العاصمة الى معكسر «ارزو».. هناك قضى أمارير لحسن شهرا كاملا في التداريب، وقبل أن تنقضي عطلته السنوية عاد إلى المغرب، أما عمر دهكون، فقد ظل خارج المغرب إلى حدود شهر أكتوبر من نفس السنة، فعاد إلى الدار البيضاء وبدأ الاتصال من جديد بأعضاء الخلية،
في سنة 1969 جمع كل الأعضاء وطلب منهم الاستعداد لتلقي الدروس النظرية حول الثورة، وأساليبها وطرق المقاومة واستلهام تجارب سابقة، منها المقاومة الشرسة التي أبدتها إحدى القرى الأسيوية الصغيرة ضد القوات اليابانية القوية العدد والعدة!
إلى جانب الخليتين االمذكورتين، أكد لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يؤطر خلايا أخرى سماها «خلية دهكون»، ومن «العناصر التي تعرفت عليها – يقول عباس – رغم أنه لم يتعرف على أعضاء خليتي، هناك مصطفى يوس وعلي بوشوا وكان خياطا بالرباط، والمهتدي»، ولعل هذه المرحلة هي التي صنعها عمر دهكون من رفاقيته الدراسية وعساها تكون مرحلة متقدمة من عمله في مدينة سلا – الرباط، كما ألف عمر دهكون، مباشرة أو غير مباشرة، خلية أخرى تضم كلا من الصدقاوي عبد السلام (علي) وكوار الحسين (السعدي) والراشدي مصطفى (طلال) والدريوش بوعزة (جواد) وفوزي احمد (هاشم) ومحمد بن عبد الله (حبيب) وتوفيق الادريسي (عبد اللطيف) والرباطي ابراهيم (نصحي).. كما أن هذه الخلية تلقت جل تداريبها في سوريا، كما وجد من بين اعضائها مناضلون يتوفرون على قسط متقدم من الثقافة والتعليم، عملوا على التأطير النظري لافراد الخلايا الآخرين.
تداريب عسكرية في دمشق… وسوء اختيار الرجال!
عمل دهكون أيضا على مصاحبة الخلية المذكورة (خلية دهكون) في البيضاء في تكوينها وتداريبها، وسهر على أسفارها والعمل على إلحاقها بمقرات التدريب، وطوال الفترة التي عمل فيها، منذ الشروع مجددا في ترتيب العمل السري، ظل يستقطب العناصر الجديدة ويوجهها الى فرنسا، ومن ثم الى المشرق العربي، كماحدث مع الصدقاوي عبد السلام (واسمه الحركي علي)، فقد أطلعه عمر في ماي 1969، قبيل محاكمة مراكش الشهيرة، على وجود التنظيم السري، وبعدها سلمه تذكرة السفر الى باريس عبر القطار، وحان موعد السفر يوم 13 يوليوز من نفس السنة وبعد وصوله ورفيقه التحق بهما عمر دهكون رفقة (طلال)، أقاما في باريس أسبوعا كاملا بأحد المنازل بشارع سرفانطيس قبل أن ينتقلا الى دمشق حيث قضوا ثمانية أيام أخر، بمعية من التحق من المغاربة الآخرين، وتوجه الجميع الى معسكر «عين بيضا»، وهناك تلقوا تداريب جسمانية وعسكرية، وفي كل «مساء كانوا يحضرون دروسا نظرية حول الثورة».
نفس الشيء حدث بالنسبة لكوار الحسين بن صالح (السعدي) الذي اتصل به زهير (عمر دهكون) وأخبره أن المسؤولين عن الاتحاد الوطني (!) قرروا تغيير اتجاه العمل للمنظمة وكان ذلك في نفس الفترة، مما يعني أن سنة 1969 عرفت نشاطا متزايدا لعمر دهكون ولقادة المنظمة السرية، وهي السنة التي ستعرف أكبر عملية اعتقال في صفوف المناضلين الثوريين والسياسيين العلنيين منهم والسريين،
الراشدي مصطفى (طلال) الذي ورد اسمه على لسان الأحياء من خلية شيخ العرب، باعتباره المعلم الذي يلقنهم دروسا في حرب الأغوار والثورة، تعرف على دهكون باسم عمر السوسي «جاره»! سلمه كتابا بعنوان «المقاومون» وطلب منه إعطاء دروس مستوحاة من تجارب الفيتنام وكوبا حول الحرب الثورية.
ومن باب ثان، لم يقطع كل العاملين في خلايا العمل المسلح نفس الطريق نحو التداريب العسكرية، إذ هناك الذي عبر باريس نحو الشرق العربي، كما سبق القول، وهناك من عبر التراب الجزائري نحو نفس المواقع العسكرية.
ومن ضمن أعضاء خلية البيضاء التي أطرها دهكون منذ البداية، هناك عناصر من الأصدقاء والزملاء الذين رافقوا عمر في دراسته بسلا، وربما كانوا الأكثر اطلاعا على تفاصيل التنظيم والخلفيات المحكمة فيه، كما يتضح من المحضر الذي «استخرجته» الشرطة من المناضل ذ توفيق الادريسي، المحامي في ما عرف بمحاكمة مراكش الشهيرة، وقد جاء في المحضر: «إنه تعرف أثناء دراسته وتدريسه في مدرسة النهضة بسلا على كل من عمر دهكون والصدقاوي عبد السلام»، وأضاف أنه عمل من أجل «تأسيس جمعية للشبيبة الاتحادية، فقبل ذلك في سنة 1966 غير أنه لم يجد الجدية التي كان يأملها بعد تردده على الكتابة العامة للاتحاد أسبوعيا» … وفي نفس الفترة، التقى بعمر دهكون الذي حدثه بدوره عن الوضعية السياسية في المغرب، وان الوقت مناسب لتنظيم عمل جدي، وان الاتحاد الوطني رغم ضعفه، فإنه الإطار الذي يمكن الانطلاق منه لتغيير الحالة الراهنة..
أضاف انه خلال شهر يونيو 1969 اتصل به من جديد عمر دهكون وأخبره أن هناك منظمة جديدة في طريق التكوين لإخراج حزب الاتحاد من جموده دون أن يخبره بالوسائل التي ستتبعها المنظمة ولا بأهدافها، وفي منتصف شهر يوليوز، أفصح له دهكون عن حقيقة هذه المنظمة، حيث قال له إن الفقيه البصري ينوي تكوين منظمة سرية يكون اعتمادها على خلايا في المدن الرئيسية وان أعضاء الخلايا سيتلقون تدريبا في الخارج ثم يرجعون للعمل وفهم بأن البصري يريد قلب النظام القائم بالعمل المسلح، وان دهكون استفسره عما إذا كان يرغب في تلقي التدريب فقبل الاقتراح على شرط أن يتفق وقته مع رخصته السنوية التي تدوم شهرين (غشت وشتنبر) وان لا يحرم من الحضور في المؤتمر الدولي للمحامين الشباب الذي سينعقد في بيروت بين 20 و 30 شتنبر، فوافق دهكون على تنفيذ شروطه وأعطاه رقما تليفونيا للاتصال بالبصري الذي يحمل اسما مستعارا هو كامل، وفعلا أجرى هذا الاتصال عند وصوله الى باريس، فقدم عنده الى الفندق الذي يقيم فيه شخص لا يعرفه وقال له إن كامل يوجد في سفر وأخبره بأن التدريب سيكون في سوريا وأعطاه اسم شخص ورقما تليفونيا للاتصال به عند وصوله الى العاصمة السورية وفعلا اتصل بفؤاد عند وصوله الى دمشق فقدم لمقابلته مصحوبا بشخص آخر يسمى عبد المومن (أحمد بنجلون)، وبعد أن قضى الليل بدار اقتاده إليها الشخصان المذكوران ساقاه هما أيضا في اليوم التالي الى معسكر التدريب بعد أن أعطياه اسما مستعارا هو عبد اللطيف وأوصياه بعدم الكشف عن شخصيته للسوريين الذين لا يعرفون الجنسية الحقيقية للمغاربة الموجودين بالمعسكر ولا الهدف من تدريبهم، وأخبره فؤاد انه أفهم السوريين بأن المتدربين هم تونسيون تطوعوا للعمل في صفوف منظمة تحرير فلسطين وفعلا التحق بمعسكر عين البيضاء رفقة شخص يسمى حسن الذي قدمه الى قائد المعسكر المسمى نذير فأعطاه هذه الملابس والأشياء التي سيستعملها أثناء التدريب وأدخله الى خيمة وجد فيها عددا من المتدربين لم يعرف من بينهم إلا عمر دهكون الذي كان يحمل اسم الزبير وشخصا من سوس كان يعرفه معرفة سطحية في مدرسة النهضة ويحمل اسما مستعارا هو الهاشمي، وقد شرع في الحين في تلقي درس حول الهجوم على العدو كان يلقيه مغربي يسمى في المعسكر محمود ولا يعرف اسمه الحقيقي كما كان يتردد على المعسكر من أجل إلقاء الدروس مغاربة آخرون هم غالب، حسن، عبد المومن، وأبو علي .. اعترف بكونه مكث في المعسكر 15 يوما تلقى خلالها دروسا نظرية وعملية حول حرب العصابات والهجوم على المراكز الاستراتيجية للعدو ووضع الألغام ومختلف الوسائل الثورية، وعلى استعمال مختلف أنواع الأسلحة وبعد انتهاء التدريب في غشت 1969 عاد الى دمشق وصاحبه باقي المتدربين حيث استقبلهم فؤاد واقتادهم الى منزل مكثوا فيه مدة أربعة أيام تناقشوا خلالها حول التدريب الذي تلقوه، وأعطاهم فؤاد منشورات حول القوات المسلحة الملكية والأحزاب السياسية، وذكر لهم ان القوات المسلحة الملكية يوجد بين صفوفها انشقاق بين الشباب والقدماء، وان المنظمة ستستغل هذا الانشقاق لإضعاف الجيش وتشجيع الضباط الشباب في محاولتهم للانضمام الى قضيتها، ثم شرع فؤاد وصلاح في تنظيم سفر المتدربين، أما هو فقد ودعه فؤاد على أمل اللقاء بينهما في المستقبل وقد ظل عمر دهكون مع باقي المتدربين وسلمه المتهم حقيبة كي يوصلها الى باريس حيث يتسلمها منه في نهاية شهر شتنبر، وقال ان فؤاد التقى معه بعد ذلك وبعد مذاكرتهما حول التدريب طلب منه أن يلتقي بالبصري عند وصوله الى باريس ثم عاد الى بيروت بطريق البر ووقع التأشير على جواز سفره من طرف السوريين واللبنانيين، وأضاف انه بعد قضاء أسبوع في مصر عاد الى بيروت للقاء مع المحامين المغاربة الذين قدموا للحضور في المؤتمر الذي افتتح أشغاله يوم 20 شتنبر وظل مع زملائه الى أن وصلوا الى جنيف في طريق عودتهم يوم 27 شتنبر حيث افترق عنهم والتحق بباريس، وهناك اتصل بالبصري المدعو كامل، وبعد مذاكرة حول ما قام به من سفر وما تلقاه من تدريب قدم هو ملاحظة حول طريقة تجنيد المتدربين ووجوب الحذر في اختيارهم تلافيا لوقوع أي خطأ، الأمر الذي وافق عليه البصري ووعد بإصلاحه ملاحظا ان اختيار المتدربين لم يكن سليما، وخصوصا من طرف دهكون الذي لا يحسن اختيار رجاله، ثم حدثه البصري عن الأهداف القريبة والبعيدة للمنظمة فقال له، إنه في البداية يجب مواصلة تدريب الأعضاء في سوريا بعد تحري اختيارهم من الرجال المخلصين المؤمنين بالفكرة ثم يرجعون الى المغرب في انتظار التعليمات التي سيصدرها هو شخصيا بصفته الرئيس ويقومون بتدريب من لم يستطع السفر الى سوريا من أعضاء الخلايا، ثم سيتم تكوين خلايا للقيام بأعمال إرهابية في المدن بمجرد صدور الإشارة فتنشب حرب عصابات في بعض أطراف المملكة لم يحدد أماكنها، وبهذه الأعمال المتناسقة يتم القضاء على النظام القائم وإقامة جمهورية اشتراكية يتولى هو تسييرها ثم طلب منه البحث عن عناصر من الدار البيضاء لتقي التدريب في سوريا ومواصلة الاتصال بدهكون للاطلاع على سير الأمور، وقال إنه أجرى في اليوم التالي اتصالا آخر مع البصري الذي كان مرفوقا بدهكون وان البصري وجه لوما لدهكون على الطريقة التي اختار بها المتدربين محذرا إياه من ذلك، ولافتا نظره الى أن المنظمة في حاجة إلى الكيف أكثر من الكم للنجاح في مهمتها، وقال له انه كلف المتهم نفسه بالبحث عن الأشخاص الصالحين لتلقي التدريب من الدار البيضاء، وان عليه أن يبقى على اتصال به، وبعد أن تسلم من دهكون الحقيبة التي دفعها إليه في بيروت إثر مغادرة البصري لهما والمذاكرة في ما راج بينهما وبين البصري قضيا بقية يومهما في الفسحة ثم افترقا? وفي اليوم التالي، عاد الى المغرب عن طريق الجو، وفي أواخر شهر أكتوبر جاءه دهكون وسأله عما إذا كان قد وجد أشخاصا لتكوين الخلايا وتلقي التدريب في سوريا، فأجابه بأنه لم يفعل لكونه كان منشغلا بمسائله الخاصة منذ رجوعه من سفره، فنصحه دهكون بالتزام الحذر حتى لا يقع في نفس الأخطاء التي ارتكبها هو? وان دهكون زاره بعد ذلك عدة مرات للسؤال في نفس الموضوع، فكان يجيبه بأنه لم يستطع بعد القيام بما التزم به لعدم ثقته في من يختبر آراءهم في الموضوع».
سوء اختيار عناصر العمل المسلح! أول مرة نسمع انتقادا من هذا النوع في حق عمر دهكون، ولعل مبرره هو الرغبة القوية لدى الشهيد عمر دهكون على حرق المراحل والمسح البشري الواسع، بهدف تحقيق أكبر امتداد تنظيمي لفكرة الثورة.
التنظيم المسلح، البدايات والمواجهة
مع الشرطة تخلق سبعة قتلى
ضمت الخلية السلاوية لعمر دهكون بالاضافة الى الاستاذ توفيق الادريسي، المناضل كوار الحسين بن صالح (واسمه الحركي السعدي)، والاخ حسين كوار الان مناضل تقدمي في صفوف منظمة العمل الديمقراطي، ويستفاد من الوثائق التي حصلنا عليها عن تلك الفترة، ان عمر دهكون الملقب بزهير – اتصل به في ماي 1969 .. واطلعه على قرار «المسؤولين عن حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية بأنهم قرروا تغيير تجاه الحزب، وبعدها التحق بالمنظمة السرية المكلفة بتنفيذ التوجه الثوري الجدي» الذي كان العديد من شباب و مقاومي الحزب واطره المثقفة يبحثون له عن تجسيد عملي، وبالفعل سافر الحسين بمعية اعضاء الخلية الذين ذكرناهم في السابق الى باريس، ومثلهم توجه الى سوريا، وبالضبط الى معسكر عين بيضاء حيث تلقى كمن سبقوه والذين جاؤوا بعده التدريب العسكري والتكوين السياسي والنظري على الخصوص والذي كان يقوم به اساسا محمود (محمد بنونة) ولما عاد، مثل الكثيرين لم يقيض له اللقاء مجددا بعمر دهكون الا لماما، و اخبره هذا الاخير انه ينتظر التعليمات التي سترد عليه من المسؤولين» ويتضح بلاشك ان لحظة الكمون السابق للانطلاق كانت سمة عامة ومشتركة في كل التصريحات التي استقيناها من اصحابها او من وثائق تلك الفترة.
ومن بين اعضاء الخلية، تكلف بعض المثقفين باعطاء دروس تكوينية للتهييء النفسي والاعداد الذهني للانتقال الى الكفاح المسلح، وغالبا ما كان هذا التكوين إعادة وتصريفا للتكوين الذي تلقاه المكونون في معسكرات التدريب بالجزائر وسوريا، وتلك هي حالة راشدي مصطفى (طلال) الذي كان يعطي دروسا في الثورة الى اعضاء حزب الاتحاد ولاعضاء الخلايا السرية، قصد تهييئهم لممارسة التدريب العسكري، وقد كان – مثلا – يتوجه اسبوعيا صحبة محمد عواد – كندا لالقاء هذه الدروس في بيته.
وبخصوص التكوين النظري، فمن الواضح ان كل خلية كان لها مؤطر، يخضع بدوره لتكوين عسكري، وبالاقتصار على الخلايا التي ورثها عمر دهكون عن فترة شيخ العرب نجد انها كانت تتلقى تكوينا مستمرا، الى حدود 1969، وبعد ذلك تغيرت الظروف، بعد اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة والتي غيرت من سلوك المناضلين السريين، كما غيرت من التركيبة البشرية للخلايا.
عمل دهكون ايضا على تكوين خلايا بسلا والرباط، خلال سنة 1969 و 1970 ، كانت خلايا سلا تضم كلا من توفيق الادريسي، والصدقاوي عبد السلام، والرباطي ابراهيم وادريس خروج، واوعزة محمد بن الحسين والروداني محمد وصولج محمد بن احمد، ولكل واحد منهما قصة تتراوح بين الاستقطاب المباشر او الاستقطاب غير المباشر، على مدد متباعدة، بعضها يعود الى سنة 1957 والبعض الاخر الى فترات ما بعد 1969 ومواصلة العمل السري بعد اصدار الحكم غيابيا ضد عمر دهكون في محاكمة مراكش ب 20 سنة سجنا.
وفي الفترات الممتدة من 1964 الى حين محاكمة مراكش ظل عمر دهكون يتنقل من دولة الى أخرى، سواء في أوربا أو في العالم العربي، وحكى لنا عباس بودرقة أن عمر دهكون كان يزوره في فرنسا، كما يؤكد رفيقه أزغار محمد هذه المعطيات، وكذا الرسائل التي وجهها إلى عائلته، ومن الواضح أنه كان كثير التنقل، كما أنه كان كثير التخفي، لاسيما بعد صدور الحكم.
يقول عباس بودرقة: «عرفت من بين أعضاء خلاياه، أفراد خلية مصطفى يوس وهو من فجيج، وقد أعدم في سنة 1973 بعد محاكمات قضية مولاي بوعزة، وعلي بوشوا خياط، والمهتدي الذي أعدم كما هو معروف»، والذي تم «الاحتفاظ» به إلى حين محاكمة الفوج الثاني». وهذه قصة سنعود إليها في ما بعد إبان تناول قضية مولاي بوعزة بالتفصيل الممكن ومحاكمة أفرادها.»
وبالرجوع الى المعطيات الخاصة بكل منهما، فإن أغلبهم من رفاق الدراسة، تتقارب تواريخ انضمامهم الى العمل السري، وقد تكون أغلبهم في أجواء ما بعد اعتقالات 1963 ومؤامرة يوليوز، وعاشوا نهاية شيخ العرب ومصادرة حريات الرأي والتجمع والتنظيم و»استحالة» العمل السياسي الشرعي.
التنظيم السري
السؤال الواجب وضعه، هو كيف جاءت المنظمة السرية التي كان عمر دهكون يدعو إليها؟ هل كان منذ البداية في لحظة تأسيسها؟ أم ساهم في امتدادها العملي والتنظيمي؟ للإجابة عن هذا السؤال لابد من العودة قليلا الى الوراء» ونقتصر على سنة 1963.
بعد محاكمات 1963، وماتلاها من تعذيب واعتقالات وقصف حقوقي، أصبح مؤشر الخروج عن الإطار المؤسساتي يميل أكثر نحو المد الثوري العالمي» الذي كان يتنامى مع تحقيق الدول المستعمرة لاستقلالاتها الوطنية، وفر العديد من المناضلين الاتحاديين في بداية الستينيات الى المنافي العربية والأوربية? وكان من بينهم مولاي عبد السلام الجبلي (البشير) والحسين الخضار (جلول) والأخضر بارو، وعمر العطاوي وابراهيم التيزنيتي (النمري) وبوراس الفيجيجي والحسين صغير (عمر) وعبد الله الدكالي، وشيخ العرب، وبعد توالي سياسة الكماشة الحديدية، واندلاع حرب الرمال، تقرر أن الوقت قد حان للشروع في العمل الجدي»، وبالنسبة لمحمد اجار (سعيد بونعيلات) فقد ربط الاتصال بضابط بالجزائر يدعى عبد العالي ومنذ ذلك الوقت بدأ التجنيد والتدريب للمغاربة الموجودين بالجارة الشرقية، ومنهم الاتحاديون الذين سلموا في يوليوز 1964 وأعدموا، أو قيل وقتها أنهم تسللوا عن طريق بركان وسيدي بوبكر للقيام بأعمال مسلحة.
في غشت في نفس السنة عقد اجتماع حضره الى جانب سعيد بونعيلات، بنحمو والفقير محمد، وتقررت فيه مواصلة التدريب بالجزائر رغم ما حدث لمن سلموا أو «تسربوا».
وتجدر الإشارة إلى أن تلك الفترة عرفت، خلافات في وجهات النظر بين الحسين الخضار (البشير) وبنحمو وتأثرت «المنظمة» السرية آنذاك بأجواء الخلاف مما أثر بطبيعة الحال على مردودية مناضليها، سواء في الداخل أو في الخارج? ويتضح من خلال الاتصالات بأن أسباب الخلاف كانت كثيرة، ولعل الخلاف الجوهري تعلق بتوقيت العمل المسلح في المغرب، وكذا حياة المنفيين المنتمين إلى المنظمة والمعارضة المسلحة في الخارج.
في تلك الأثناء، من 63 إلى 65، حدث حدثان مهمان، أولهما اغتيال شيخ العرب بعد مواجهة مسلحة مع رجال الأمن والثاني اغتيال المهدي بن بركة بالنسبة لقصة شيخ العرب التي انتهت صبيحة يوم 7 غشت 1964، وفي ذلك الصباح كان أحد رفاقه، أحمد أوزي، قد انهار وخرج من البيت الذي كان يأوي شيخ العرب ورفيقه المرحوم الحلاوي، بذريعة التوجه إلى الحمام، لكنه توجه الى مركز الشرطة ليطلع رجال الأمن على مختلف العناوين التي كان شيخ العرب ورفاقه يأوون إليها، وهكذا تمت محاصرة ثلاثة منازل، اعتقل أصحاب المنزل الأول بدون مواجهة، في حين لقيت قوات الأمن مواجهة عنيفة في المنزل الموجود بدرب «ميلا» حيث كان الحلاوي وأبا عقيل وبوشوا، مسلحين بالمسدسات والرشاشات والقنابل، خرج الحلاوي شاهرا مسدسين يطلق الرصاص بعد أن ظل مطاردا لمدة تزيد عن السنة جراء الحكم عليه غيابيا بالإعدام في سنة 1963، حين تمكنت الشرطة من اعتقال الآخرين بعد استعمال القنابل المسيلة للدموع وتشديد الحصار، بالنسبة لشيخ العرب ورفيقه أزناك أحمد الملقب بالنجار، أحد أفراد القوات المساعدة، فقد رفضا تسليم أنفسهما وظلا يقاتلان الى آخر رمق.
ولابد من العودة الى الوراء لوضع قضية شيخ العرب في سياقها، منذ استقلال البلاد، فقد كان أحمد أكوليز ـ اسمه الحقيقي ـ يرى بأن الاستقلال لم ينصف البلاد والعباد، بل أعاد «الخونة» وخدام الاستعمار والمحظوظين وضعاف النفوس الى الواجهة من جديد، أضف الى ذلك ما وقع من حل لجيش التحرير وإدماج عناصره الى الجيش النظامي إلى جانب عناصر من الجيش الفرنسي، وأحداث الريف، ومحاكمة حمو الفواخري ومن معه، وقرَّ قَرارُ شيخ العرب، بعد مؤامرة يوليوز 1963 على الاستقرار بالجزائر وبتندوف بالضبط، وهناك عمل، كما سبق الذكر على تجنيد وتنظيم المغاربة الموجودين هناك إلى جانب مقاومين آخرين من بينهم عبد الإله الجبلي ومحمد بنسعيد أيت يَدّر إلخ.
اعتقل شيخ العرب بوهران في ظروف لم تتضح كل ملابساتها الى حد الآن، فكان رد فعله أن غادر الجزائر ودخل المغرب مع بداية 1964 لتنظيم الكفاح المسلح بالداخل، وهكذا ربط الاتصال بالمناطق الجنوبية مراكش وبني ملال إلخ، وحدث وقتها أن تسلل حوالي مائة مناضل للمنظمة في فبراير 64 بقيادة الكولونيل بنحمو المسفيوي، واعتقل البعض منهم، فتبين للشرطة أن شيخ العرب قد دخل الى المغرب وهو يوجد بالداخل لتنظيم الكفاح المسلح، وبدأت المطاردة وأصبحت صور شيخ العرب على كل الجدران في البلاد، وفي مخافر الشرطة إلى أن كانت النهاية يوم 7 غشت 1964.
من هو شيخ العرب؟ أحمد أكوليز ، مقاوم عنيد دخل المقاومة المسلحة في بداية الخمسينات واعتقل لمدة سنتين قبل أن يطلق سراحه، ومع بداية الاستقلال، اختار لنفسه الخط الجذري، وتنسب له عملية 7 يونيو 64 تم فيها اغتيال 3 من رجال الشرطة بإحدى الفيلات بالدار البيضاء حاولوا اعتقاله، وبعد أسبوع اشتبك بالرصاص مع أحد رجال الأمن واستطاع الفرار من متابعته، كما نسبت إليه الأسلحة التي وجدت في بيت أحد الفرنسيين بالدار البيضاء حيث كانت أخته تعمل كـ «خادمة».
وشاية تؤدي إلى اكتشاف المنظمة السرية والخلايا المسلحة
مع سقوط شيخ العرب صباح ذلك اليوم القائظ من غشت 1964، لم ينته العمل السري، بل استعملت أسلحة مجموعته ومعداتها بعد سنة 1964 ضمن خلايا عمر دهكون،
وتواصل الإشراف من قيادة الخارج، واستمر معها تدريب وتكوين أفواج المقاتلين الحالمين بالتغيير الراديكالي، وانضم الى الرعيل الأول من المقاومين جيل جديد من الشباب الثوري، أو من الذين وجدوا الحقل السياسي في البلاد موصدا والمفسدين يعيثون في الأرض ولا رادع لهم،
وبدأ المتمرنون عسكريا يصلون الى المغرب تباعا، يؤسسون الخلايا السرية ويستقطبون عناصر جديدة، وتوالت الانخراطات، والتداريب العسكرية في المنازل وفي الأماكن الخالية في القرى والمدن، وظلت القيادة على اتصال بالرسائل المكتوبة بماء الليمون كحبر سري أو بالتلفون، وقامت الخلايا المكونة في مناطق عديدة من المغرب بعدة أنشطة مسلحة، هدفت الى تصفية المتعاونين آنذاك مع أجهزة القمع أو مراكز السلطة والقرار.
ولعل من المحبذ القول، أن التنظيم السري شمل خريطة الوطن، ولم يقتصر على المحور البيضاوي، وهكذا شمل كل من المغرب الشرقي (وجدة، بركان، فجيج)، كما امتدت خلايا المنظمة الى الجنوب ومدنه (مراكش ـ أمزميز ـ أكادير..)، وجبال الأطلس وسهوبها بكلميمة وخنيفرة، والتي عرفت أحداث المواجهات المسلحة، كما سيأتي ذكره لاحقا.
ومن الثابت أن اغتيال الشهيد المهدي بن بركة في أكتوبر 65 وما سبقها من أحداث دامية في مارس 1965 بالدار البيضاء، وما تلا ذلك كله من حالة طوارىء، فرض على القوى السياسية والتقدمية على الخصوص العمل بالتقية، وسلوك السرية في الاستقطاب وافتراض الخيارات الممكنة، وتزامن ذلك أيضا مع التفكير في تحويل الاتحاد من تيار جماهيري عارم وعائم أيضا إلى قوة منظمة ومهيكلة ذات بنية تنظيمية وخط إيديولوجي محددين.
لكن الإرادة المسؤولة للمقموع لا تكون ذريعة قوية للقامع في سلوك طريق المسؤولية بالضرورة، وهذا ما جعل التركيبة الحاكمة في تلك الفترة العاصفة من تاريخ المغرب، تدخل في رهان قوة ضد قوى المقاومة وحركة التحرير الشعبية، ولا تترك خيارا آخر سوى الصراع الشرس.
وعلى كل، ظلت المنظمة السرية تعمل في خفاء تام ـ أو هكذا خيل الى مناضليها من الاتحاديين آنذاك ـ إلى أن شق المناضي ابراهيم عصا السرية واتصل بمصالح الأمن بالدار البيضاء وكشف عن انتمائه الى الخلايا السرية المسلحة، وأعطى أسماء أعضائها ومؤطريها في مدينة مراكش على الخصوص، وكشف المناضي، باجتهاد المفزوعين، عن أسرار كثيرة وأسماء وتواريخ عديدة، خصوصا وأنه كان أحد العاملين في التنظيم الموازي، وبناء على ذلك، وكما كان متوقعا، اشتغلت الآلة البوليسية، وكانت البداية من المناضي نفسه.
وابراهيم المناضي بن محمد من مواليد تزكي بأمزميز، فلاح، كان عمره في ذلك اليوم 16 دجنبر 1969 لا يتجاوز 43 سنة، كان متزوجا له خمسة أولاد? وحكى المناضي أن أحد مناضلي الاتحاد في تلك السنة ربط له علاقة مع الحبيب الفرقاني «المدعو الغيغائي»، والذي عرفت المحاكمة فيما بعد باسمه، إلى جانب مؤامرة مدريد ومحاكمة مراكش الكبرى، وفي هذا اللقاء، كما يبدو، حدثه الفرقاني الذي كان يتحمل وقتها مسؤولية الكاتب العام للاتحاد الوطني للقوات الشعبية بمراكش، عن وجود التنظيم السري والجدي، وعرض عليه الانضمام الى الأفق الجديد للعمل الثوري، ولم يتردد المناضي في التعامل بإيجابية مع العرض و «اجتهد» في تكوين ثلاث خلايا بأمزميز وبدأ السهر الجماعي على تكوينها نظريا وتهييئها سيكولوجيا، الى حين وصل «شُجار عبد الرحمان» من معارك الجبهة الفلسطينية وغبار الزبداني ، وقد جاء محملا بسلاح أوتوماتيكي، أو على الأقل هذا ما علم به المناضي المرتد في عرف العمل الكفاحي، وسهر على تدريب أعضاء الخلايا الثلاث، وهم 9 أفراد في المجموع، على استعمال هذا السلاح وأعطاهم أيضا دروسا في حرب المدن وقيادة الثورة وكيفية التعامل مع القوات العسكرية والقوى العاملة معها.
وانطلق مسلسل الاعتقالات، والاعترافات المنتزعة بالقوة والدم، ولا يمكن إلا أن نقول مع أندري مالرو «المجد لمن خضعوا للتعذيب، لكن المجد أيضا لمن عذبوا واعترفوا»، حينما نعلم القيامة التي اشتعلت في عضلات المقاتلين في أقبية العهد الأوفقيري،
ويستشف من تلك الفترة أن التأطير السري شمل دمنات ومراكش المدينة نفسها، كما امتدت الى البيضاء ونواحيها، خارج خلايا عمر دهكون في إطار تشكيل البؤر الثورية في المدن على أساس تقديم الدعم لخلايا حرب البوادي والجبال التي ستكون مهد الثورة، كما كانت أدبيات حرب العصابات تدعو الى ذلك، حسب ما وصلت إليه الدراسة الثورية للحالة المغربية آنذاك.
في محاكمة مراكش، وبعد وشاية المناضي، عرفت الأجهزة الحاكمة بوجود المنظمة وهيكلها التنظيمي، وإن ظلت قيادتها المركزية بالخارج تتنقل بين الجزائر وسوريا وليبيا أيضا، كما اتضح وجود ثلاث لجن مركزية تهتم الأولى بالشؤون المالية والثانية بالاعلام، أما اللجنة الثالثة، فقد كانت مهمتها العناية «بالعلاقات مع المغرب»!
بعد انقلاب 19 يونيو 1965، الذي أطاح فيه الهواري بومدين بالرئيس أحمد بن بلة، والذي أفرز ما سمته بعض الأدبيات التقدمية في المغرب «بالنظام نصف تقدمي، نصف فاشستي»، تغيرت مواقف السلطات الجزائرية بعض الشيء، وعلى الأقل جزء من القيادة السياسية والعسكرية، وتم نقل جزء من قيادة التنظيم الى العاصمة الجزائرية، وبدأت، كما صرح سعيد بونعيلات، بعض مضايقات من طرف السلطة الجزائرية، كما لاحظ تغييرا في موقفها بالنسبة للنشاط الذي يقوم به بمعية رفاقه على أرضها». ولعل الدعم السوري لنشاط المنظمة جاء في هذا السياق، كما جاء الانتقال الى مدريد، ولهذا أيضا سميت نفس القضية «بمؤامرة مدريد» وذلك ما حدث حين تقرر انتقال العديد من أطر الاتحاد «المسلحين» الى العاصمة الاسبانية في أجواء ماي 1968 والهدير الثوري الذي كان قد دوى في أنحاء المعمور وفي رؤوس الشبان الجموحين.
وانتقال جزء من القيادة العامة، في تقديرنا، إلى مدريد ربما أملته ضرورات الاقتراب الشمالي من حدود المغرب، وتسهيل الإشراف على تسرب المجندين عبر مليلية وسبتة المحتلتين، وسيتضح لاحقا مع توالي تسرب المناضلين وتبادل الرسائل ما بين قيادة الخارج وخلايا الداخل، ولاسيما تنظيمات المغرب الشرقي جدوى هذا الانتقال.
كما أسعف انتقال جزء من المؤطرين القياديين الى بلاد الموريسكيين في استقطاب جزء من رجال الأمن، سواء في الحدود بين مليلية وبني أنصار، أو في مطار وجدة أو على الحدود الشرقية، حيث يسهل التنقل من شرق البلاد إلى شمالها إلى الخارج عبر طريق مقتصر عوض المرور بالعاصمة المغربية.
وسيتبين أن مدريد أصبحت مركزا أساسيا وقبلة يحج إليها أعضاء القيادة، كما يقيم بها، في منازل مكتراة، بعض أطرها الدائمين، بعد أن مروا بمعسكرات الجزائر وسوريا ومواقع الفدائيين.
محمد بن سعيد عرض عليَّ الكفاح المسلح والبصري أقنعني به.. لأن تصفية أوفقير واجبة!
تفرعت المنظمة السرية وأصبحت لها امتدادات وجيوب للعمل في كافة التراب الوطني، وقد اختلفت قوة الحضور من جهة الى أخرى، حسب عدة معايير، لعل الأساس فيها هو قوة تواجد المقاومة وجيش التحرير، ومدى ترسخ الفعل النضالي تاريخيا، كما هو الحال في أقاليم الجنوب والأطلس، حيث يظهر أن الأغلبية الساحقة من مناضلي الخلايا المسلحة كانوا من المقاومين أو أبناء المقاومين، حتى إن من ضمن مَن مثلوا في محاكمة يونيو 1973 الشهيرة بمحاكمة القنيطرة العسكرية، والتي جاءت على إثر أحداث مولاي بوعزة، كان هناك مناضلون ناهزت أعمارهم الثمانين سنة.
علاوة على معيار البعد الوطني للمقاومة في المناطق التي ضربت فيها المنظمة السرية جذورها، هناك أيضا القرب من الحدود وسهولة التسرب والتأطير، انطلاقا من الجزائر وإسبانيا، كما هو حال المنطقة الشرقية، من وجدة الى الناظور، وهي المناطق التي شكلت الحلقة الوسطى في العبور إلى الوطن الثائر، سواء من بوابة فجيج أو وجدة أحفير وسيدي بوبكر أو بني أنصار الناظور.. إلخ.
وفي المقابل، عرفت الدار البيضاء، تمركزا قويا لخلايا المدن الى جانب آسفي ومراكش وأكادير، ويبدو من مصادر متطابقة أن العمل المسلح في المدن كان المطلوب منه هو ضمان التغطية والامتداد الطبيعيين لعمل الثورة في الجبال، انطلاقا من خنيفرة وكلميمة في المنحدر الجنوبي للأطلس، ومن الثابت لامحالة أن عمر دهكون كان العقل الرئيسي في تدبير الجانب الحضري للثورة، وكان هو المشرف على بناء الأداة الثورية في انتظار هبّة الجبال
كيف كانت بدايته في هذا المجال.
عندما انقطع عمر دهكون عن الدراسة بثانوية النهضة، ولم يحصل بعد على البكالوريا، في يوليوز 1964، كان عمره يقارب 28 سنة. وبعد انقطاعه الدراسي، توجه الى الخارج: فرنسا ثم ألمانيا، إذ بعد شهر تقريبا من هذا التاريخ أرسل رسالة من باريس الى عائلته، مؤرخة بـ 64/8/17? الرسالة عادية، تشبه كل الرسائل الصادرة عن شاب منشغل بقضايا عائلته، يطلعها على ما جد في يومه المعيش كمثل قوله: «أما أخينا عبد الرحمان فقد ودعته يوم 64/8/1 على أمل السفر الى ألمانيا، لكن رسالة مستعجلة من الأخ منصور يخبرني فيها أنه سيأتي الى فرنسا لاجتياز تدريب في مدينة ديجون البعيدة عن باريس بما يقرب من 500 كلم، وأجد نفسي مضطرا لأن أبقى عند الصديق أزغار الى 25 أو 64/8/27 حيث سأسافر مع الأخ منصور الى ألمانيا»، وفي الرسالة أيضا بُعد حميمي يكشف عن طبيعة علاقته مع عائلته، ولاسيما في جانب العناية المادية بأحوالها والحدب العائي الواضح مثلا في قوله: «صديقي أزغار يشتغل بدار المغرب مكلفا بالهاتف وقد نبت عنه يوم السبت والأحد الماضيين وقبضت خلالها 5500 فرنك، وها أني أرسلت إليكم هذا الصباح 4000 ف عن طريق البريد.. ويضيف على نفس المنوال: «وأخي ابراهيم بالخصوص هل كتب الى السكك الحديدية أم لا؟ هل اجتاز امتحان المياه والغابات أم لا؟ ذلك الامتحان الذي كان مقررا يوم 7/24..» إلخ.
يبدو دهكون في تلك الفترة شخصا منشغلا بشؤون عائلة كثيرة الأفراد، شغله الشاغل مستقبلهم وسعادتهم، علاقته بهم بسيطة وعميقة في نفس الوقت، يحكي تفاصيل يومه كمن يحدس أن عليه أن يضاعف وجوده بالكتابة، لأنه لن يطول في أقل من سنة، سيدخل منعطفا حادا، على تماس جارح مع فترة الغليان السياسي والنضالي لم تضع أوزارها إلا في غبش تلك الصبيحة الباردة من نونبر 1973، عندما دوّت رشقات الرصاص بسجن القنيطرة.
قبل ذلك، توجه دهكون عمر الى الجزائر أول مرة في أواخر أحداث 1965، وقتها كان مجرد مناضل ثوري في صفوف طلبة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية إلى أن جاء رفاقه، مع فارق بسيط أنه لم يعد طالبا منذ يوليوز 64، وبالجزائر التقى بمحمد بنسعيد الشتوكي المقاوم وهناك حدثه عن الوضع الذي يوجد عليه المغرب كما «تحدث لي عن أحداث 1965 الطلابية ـ كما صرح عمر دهكون يوم 25 يونيو 1973 أمام المحكمة العسكرية واتضحت وحدة الرؤية وانسجام الأفكار بين مقاوم عنيد تربى في عراك جيش التحرير والمقاومة، وطالب شاب كان عمره لا يتجاوز عشرين ربيعا عندما غادر أبناء «إيريك لوبون» تراب المغرب الأقصى.
يقول عمر دهكون: «عرض علي المقاوم الشتوكي (أيت يدر) الانخراط في منظمة سرية للقيام بأعمال مسلحة لضرب الخونة والأيادي الخفية التي تقوم بتهريب الأموال الى الخارج، ومعها أياد أجنبية وصهيونية، لم أقبل في بداية الأمر..»
وبينما الشهيد دهكون في الجزائر في تلك السنة القائظة من تاريخ المغرب المعاصر، علم بالعفو الصادر في حق الإخوة أعضاء المقاومة، كما يسمى هو نفسه ذلك، طلب منه الشتوكي بنسعيد الاتصال بالبصري بعد عودته الى المغرب، وكذلك كان، خصوصا وأن عمر دهكون رحمه الله كان عضوا نشيطا في الشبيبة من 65 الى 30 يوليوز 1966، تاريخ الانعطافة الكبرى، وفي المقر: وجدت الفقيه البصري يضيف عمر دهكون لقاضي جلسة يونيو 73، السيد محمد عبد الرحمان اللعبي لكن الفقيه طلب مني اللقاء خارج مقر الحزب، فعند اللقاء بأحد شواطىء الدار البيضاء، وهناك طرح الفقيه السؤال التالي على عمر دهكون:
ـ «يا عمر، ما رأيك في أن شخصا مسؤولا في الحكومة المغربية شارك في اغتيال زعيم مغربي وله يد طولى في هذا الاغتيال».
لزم عمر دهكون الصمت، ثم فكر وقدّر، ثم فكر وقدّر، وأدرك أن الأمر يتعلق بالمهدي بنبركة، أما الشخص الثاني، فهو الجنرال أوفقير، فكان جوابه حاسما، لا تردد فيه: «إذا ثبت أن هذه الشخصية وراء الاغتيال لابد أن تجتمع محكمة شعبية لمحاكمته».
افترق الرجلان بعد أن سلم عمر دهكون لصاحبه عنوانه في «ضريح بسلا» لعله ضريح مول الكمري، الذي كان يقطنه بمعية رفاقه السابقين، حاول القاضي في تلك الجلسة أن يحيل عمر على العمل المنظم والمؤسساتي وأراد أن ينبهه الى أن «السلطة كانت موجودة في 65 و 66» وعليها أن تنظر في مثل قضية الاغتيال، لكن جواب المرحوم دهكون كان قاطعا، حادا ينم عن قوة اقتناعه بالمسرى الجديد لعمله النضالي: «لقد اتخذت موقفي على أساس أن شخصا موجودا في تلك السلطة ولا يُحاكم، ولما اقتنعت في أواخر 1966 تحملت المسؤولية داخل المنظمة على أساس أنني سأقتفي خطوات أوفقير وألاحقه، وأعترف لو أنني وجدته أمامي لقتلته واقتناعي هذا منبثق من أن أوفقير مسؤول عن اختطاف المهدي وكانت المسؤولية التي كنت مقتنعا بها هي أن تصفية أوفقير واجبة ريثما أرى أي عمل أقوم به وأنا لا أقوم بأي عمل إلا إذا اقتنعت به وعلى أساس ألا يمس الأبرياء».
يمكن اعتبار سنة 1966، بداية الانخراط الفعلي لعمر دهكون في العمل السري والتهييء للثورة المسلحة وحرب المدن، وبدأ عمله من أجل توسيع التنظيم، عبر معارفه الجدد ولاسيما منهم الطلبة، كالمهتدي الذي أعدم بدوره، بعد أن ظن لفترة ما أن شهادته ضد رفاقه ستأتيه بالإعفاء من التهمة، كما حدث للمناضي ابراهيم في محاكمة مراكش.
في نفس السنة، وبالضبط في اليوم الرابع والعشرين من دجنبر، وصلت عمر دهكون رسالة من وهران بالغرب الجزائري، أرسلها صديقه الطالب أحمد تفسكا، ولعل موضوعها كان هو الدعوة الى القيام بزيارة في إطار الانخراط العملي والفعلي، تنظيما سيكولوجيا في المنظمة السرية، وهناك «اتصلت بمحمد بنسعيد الشتوكي (أيت يدر) والحسين الخطاب ـ يقول عمر دهكون أمام المحكمةـ وتدارسنا قضية اختيار بعض العناصر للتدريب العسكري.
بداية التداريب، والجوازات المزورة.. ومطاردة البوليس
بعد سفر عمر دهكون، رحمه الله، الى الجزائر مع نهاية 1966 بناء على رسالة من أحد أصدقائه ولقائه مع المقاومين محمد بنسعيد الشتوكي والحسين الخطاب تحدثوا عن تكوين عناصر مسلحة، وفي مارس 1967، وقبل شهرين و 3 أيام بالضبط من النكسة التي أصابت المد القومي بقيادة عبد الناصر، توجه عمر دهكون الى باريس بعد أن كان لقاؤه مع بنسعيد الشتوكي قد أسفر عن ضرورة اللقاء مع الفقيه البصري وتعميق النظر في تدريب عناصر جديدة لدعم الثورة الفلسطينية.
ولابد من القول، إن سنة 1967، التي عرفت بسنة النكسة أو الهزيمة (6 يونيو) بعد هجوم جوي اسرائيلي على الطائرات الحربية المصرية قبل إقلاعها في ما عرف بحرب الأيام الستة? كانت سنة المخاضات الكبرى، إذ لم تمر وقتها سوى سنتين (فاتح يناير 1965) على انطلاق الشرارة الأولى لحركة التحرير الفلسطينية (فتح)، كما عرفت تلك اللحظة توهج الخطاب القومي الداعي الى المنازلة الكبرى مع اسرائيل، قبل أن تصب هذه الأخيرة دلو الماء المثلج على الأمة التي أصاب مفاصلها روماتيزم عاطفي وسياسي مهول.
وفي هذا السياق، كان للعنصر «الخارجي» ممثلا في ارتفاع لواء المواجهة الشاملة، على المستويين القومي والعالمي، لسلك محاور جديدة ضد «الامبريالية وربيبتها الصهيونية»، دور محوري في اهتبال سلوك ثوري جديد في مواجهة «الأنظمة الرجعية والعميلة» ومنها الأنظمة العربية.
وتأسيسا على هذا، يكون التفكير في الخيار الثوري، اختيارا منطقيا، ولاسيما إذا أضفنا إليه المحركات الداخلية وصراع الشرعيات في الساحة الوطنية المغربية، وكانت القضية الفلسطينية في خضم هذا الغليان نقطة تقاطع بين الوطني والقومي والأممي، وأصبحت لدى المغاربة ومازالت قضية وطنية، لا يمكن للفاعل السياسي أن يتناول الهم الوطني أو المحلي دون الوصول إلى أم القضايا: فلسطين، ومن الطبيعي أن تكون أرض الزيتون «صرّة» الوعي الثوري ومحكه وعنصر اشتعاله الأول والدائم.
وفي هذا السياق، عرض الشهيد دهكون على قيادة الخارج العناصر التي اقترحها للتدريب، والتي تم الحديث حولها في 3 مارس 1967، وكان أول من توجه معهما الى باريس ومن ثم الى الجزائر، كما سبق الذكر في الحلقات السابقة، عناصر ضمن خلايا شيخ العرب التي ظلت كامنة منذ وفاة الشيخ أحمد أكوليز، ولم تمر على سفر 3 مارس 1967 أقل من 20 يوما حتى عاد عمر دهكون مجددا الى العاصمة الفرنسية، بعد أن جند عناصر جديدة للمشاركة في التدريب من بين أصدقائه في المدرسة وعمال أصدقاء في البرنوصي، في هذه السفرية استعمل عمر دهكون اسما مستعارا، من بين أسمائه المستعارة العديدة أنور محمد، على جواز سفر مزور جاءه من باريس، وهو الجواز نفسه الذي عثرت عليه الشرطة بتاريخ 15 أبريل 1969، أي بعد مرور قرابة سنتين في منزل بويفر العربي، أحد أعضاء خلية سلا والذين جندهم عمر دهكون بعد اتصالاته بباريس ووهران، وكان جواز السفر هذا (رقم 300/69)، الذي قال عمر رحمه الله أنه توصل به من باريس، (بعد معالجته!) صادرا عن القنصلية المغربية «ببورد» (شمال) ويحمل اسم أنور محمد المزداد بالدار البيضاء سنة 1933.
في هذه الرحلة صاحب عمر دهكون الى باريس، ومن ثمة الى وهران حسين أمارير عامل كوزيمار ولحسن عامل الكتان وابراهيم بن الجيلالي المعروف بالسيكلسيت، ودام التدريب ما بين 45 و 48 يوما، تمرن خلالها القادمون ومن سبقوهم على مسدسات صينية وأخرى فرنسية وبنادق 36 م وماط 49، وعن تلك الفترة روى عمر دهكون للمحكمة بقوله: «رجعت من الجزائر عن طريق باريس، و اتصلت بالبصري وكان رجوعي حوالي منتصف أكتوبر، تحدثنا في مسائل تهم التدريب وفي ما ستفعله العناصر المدربة، وكان هدفنا هو أن نعمل في المغرب، إذا ما زودنا البصري بالأسلحة، لكنه لم يزودني بأي شيء منها».
خارج تنقلاته الى الخارج، ظل عمر دهكون في الفترة ما بين أكتوبر 67 وأكتوبر 69 يعيش موزعا بين سلا والدار البيضاء، وفي ما بين التاريخين، تلقى في ماي 69 رسالة من باريس موضوعها ترشيح عناصر جديدة للتطوع والتداريب لصالح القضية الفلسطينية، وهكذا اتصل عمر دهكون بالعمال والطلبة والمعلمين الذين كان له اتصال بهم وقد ذكرهم هو نفسه في محاكمته سنة 1973 وهم «الورادي محمد، ابراهيم الرباطي، بوعزة درويش، عبد الكامل الزاوي، توفيق الادريسي، مصطفى الرونزي والحبيب نوار».
ولكل واحد من الذين ذكرهم دهكون قصة تروى، تكاد تكون أحيانا على طرفي نقيض من قصة الآخر، فالورادي مثلا ـ سنحكي قصته بالتفصيل فيما بعد ـ تدرب بالفعل في سوريا لكنه (باع) وقرر عمر دهكون تصفيته وكانت المحاولة يوم 29 دجنبر 1972 بمدينة سلا، في حين أن قصة بوعزة درويش انتهت بشكل مأساوي في اعتقالات مراكش وعرف الباقي مصائر مخالفة،
على كل، سافرت الأسماء المذكورة ما بين أواخر يونيو و 13 يوليوز 1969 للتدريب، وكان عمر دهكون صحبة المسافرين إلى أن عاد في أكتوبر من نفس السنة.
في 16 دجنبر 1969، بدأت اعتقالات محاكمة مراكش الشهيرة بعد وشاية المناضي، وأصبحت أجهزة الأمن على علم بالمنظمة وبدور عمر دهكون فيها، كان عمر دهكون يقيم في خيرية سلا أو لدى شخص يدعى بعثمان، لا تعرف هويته ولا أهدافه ولا انخراطه في العمل المسلح، وكان دهكون وقتها يقدم له نفسه على أساس أنه يتابع «دراسة حرة».. لا أكثر ولا أقل!
في هذه الأثناء، تعرضت عائلة الفقيد للمداهمات والاعتقالات والتعذيب، ففي يوم الجمعة 26 دجنبر 1969، ولم تنقض سوى عشرة أيام على اعترافات المناضي ابراهيم، هجمت قوات الأمن مسلحة بالرشاشات والمسدسات على منزل العائلة واعتقلوا أفرادها كلهم لمدة ثلاثة أيام، وقد شمل الاعتقال والد دهكون (أحمد) ووالدته (رقية) وإخوته الحسين، وخديجة ومحمد وفاطمة زوجة أخيه عبد الله ومصطفى دهكون ابن أخيه عبد الله.
وزوال نفس اليوم، تم اختطاف كل من عبد الله وابراهيم أخويه، وقد حكى عبد الله دهكون لجريدتنا عن تلك الفترة ـ ما سماه بالاختطاف الأول ـ بقوله: «حوالي الساعة الثانية زوالا من يوم الجمعة 26 دجنبر 69، خرجت من منزلنا بالبرنوصي كعادتي، متوجها الى عملي في محطة القطار بالدار البيضاء المسافرين، وأنا أمتطي دراجتي النارية الحمراء اللون، ولما وصلت مفترق الطرق بالقرب من العمارة «العَوْجة» وقفت أمامي سيارة بيضاء من نوع بوجو ونزل منها 3 أشخاص بزي مدني ودفعوني بقوة داخلها، بينما نزع أحدهم مني الدراجة بدون أن يأخذ أوراقها، أثناء الطريق قال لي أحدهم: «ان شركتك عَمْلَت ِبكْ شكاية لأنك تسرق السجائر وتبيعها، حينذاك بدأت أفكر رغما عني ألا أشتغل في شركة التبغ ولا أدخن بتاتا، في منتصف الطريق أرغموني على الانحناء بين أرجلهم واضعين أيديهم بقوة على عنقي حتى كدت أختنق.
بعد نصف ساعة تقريبا وصلنا إلى مكان مجهول فأنزلوني من السيارة وألبسوني جلابة وغطوا وجهي بـ «قبها» داخل المكان قبض علي الأشخاص وقال أحدهم: ادفعوه وارموه في المسبح، عندما سمعت ذلك شعرت بالخوف فترددت في المشي، لكنهم جروني بقوة كالكبش يريدون بذلك تخويفي وإرهابي مسبقا، وأنا الذي لا أعرف ماذا فعلت وماذا جرى حتى أنال كل هذه التعسفات.
الجواب سيكون داخل مكان التعذيب البشع «وأنتم تعرفون تقنيته وتفاصيله بواسطة الإخوان الذين استجوبتموهم مسبقا على صفحات جريدتنا «الاتحاد الاشتراكي» فلا داعي للتذكير بها.
أول سؤال بدأوا به الاستنطاق هو حول المناضل والشهيد أخي عمر، بدأت الأسئلة تتقاطر علي مثلا: ماذا يفعل ومع منْ كان يتصل ويجتمع؟ وأين ذهب صباح الجمعة، ومن حمله الى محطة القطار بعين السبع، قائلين وأنا تحت التعذيب. «إذا أردتَ أن تجيب، ارفع أصبعك»، كيف أرفعه وأنا معلق كالكبش.! إني أجهل كل هذه الأمور وكل ما أعرفه هو أن أخي المرحوم عمر كان يتابع دراسته في ثانوية النهضة بسلا بعدما أتم تعليمه الابتدائي بمدرسة الهدى الكائنة بشارع أيت يافلمان قرب ساحة السراغنة بالدار البيضاء.
عندما أرجعوني من التعذيب، سمعت صياح وأنين أخي إبراهيم الذي كان بجانبي ولم أره، فكيف أراه وأنا في حالة يرثى لها ومعصوب العينين، مكبل اليدين بالأصفاد! حيث رموني في مكان بارد وأنتم تعرفون طقس شهر دجنبر القارس.
في تلك اللحظة، تقدم مني أحد الأشخاص وقدم لي كأسا من الشاي وقطعة من الخبز وغطاني بعدما قدم لي صورة تذكارية لعدة أفراد وقال لي: هل تعرف هذا الشخص الواقف في الوسط، إنه ابني الغائب عنا معتقدا في نفسه أنني أعرفه، لكن كيف أعرفه وأنا لا أجتمع مع أحد ولا أتكلم مع أحد في الأمور التي لا تعنيني.
في اليوم الموالي ظهرا أخرجوني ورموني فوق البساط النباتي المتواجد خارج المكان (أظن أنها حديقة) وتركوني أتدفأ بأشعة الشمس القليلة، لأنني كنت أحس بألم شديد في يدي اليمنى التي بها جروح بسبب «التعليقة» وكانت تسيل دما بلا انقطاع، بعد ذلك أتى عندي واحد من الحراس وقال لي متهكما: ماذا وقع لك ومن الذي عمل لك هذا الجرح؟ لم أجبه قط.
في يوم الأحد 12/69/28 بعد الزوال وبعد 3 أيام في ضيافتهم غير الإنسانية، أتوا بي إلى مكتبهم وسلموا لي خاتم الزوجية ـ و 60 درهما عوض 80 درهما، وعندما أرادوا أن يخرجوني من هناك قلت لهم: إنكم لم تسلموا لي دراجتي النارية، فقالوا لي: إنك مازلت تتذكرها ولم تنسها، حملوني صحبة أخي ابراهيم في سيارتهم ورمونا في نهاية شارع الحزام الكبير قرب مركب العربي الزاولي حوالي 7 مساء.
وهناك وجدت دراجتي النارية (الموبيليت).. وعدنا الى البيت ووجدنا أفراد العائلة في حالة يرثى لهم وأغمي على الجميع».
الأمن يقيم في بيته وعمر يتنكر في لباس نسوي لضمان تحركاته
دخل عمر إلى السرية المطلقة مع بداية محاكمة مراكش، ولما تبين له أنه ملاحق من طرف الشرطة، لكن عمر دهكون لم يتردد في العمل وظل يواصل تحركاته، داخل البلاد وخارجها، بانتظام المقتنع بأن المعركة متواصلة، كما لو أنه يعمل لغده، علما أن محكمة مراكش كانت قاسية معه، عند النطق بالحكم، متهمة إياه «بارتكاب جريمة الاعتداء على النظام لإقامة نظام آخر مكانه والمس بالأمن الداخلي للدولة» معتزة بأن هذه الأفعال تحرم تمتيعه بظروف التخفيف».
وفي إطار البحث عنه عانت العائلة الأمرين، فقد تم اختطاف أخويه عبد الله والحسين، في حين هاجمت قوات الأمن المدججة بالسلاح بيت العائلة، وفي شهادة محمد دهكون وصف لما حصل ليلة 26 دجنبر 1969، وعمر دهكون في سلا يومها: «كنا في البيت ننتظر عودة الاخوين لأننا لم نعرف سبب غيابهما، بقي الخوف يتملكنا حوالي الثالثة صباحا سمعنا طرقا على الباب، اقتربت بمعية والدي من الباب وما كدنا نفتحه حتى دخل ثلاثة أشخاص نجهل هوياتهم، عنوة، سارع الأول إلى الإمساك بي في حين ارتمى الثاني على أبي، ودفع الثالث الباب بقدمه، حدث هرج ومرج في الوقت ذاته نزل عدة جنود من سطح البيت وبدأ الجميع في تفتيشه وقلبوا سافل الاثاث اعلاه، وحجزوا النساء في إحدى الغرف في حين دفعونا إلى الحائط وبدأ نفس السؤال يتكرر: «فين هو عمر دهكون، فين هو عمر دهكون»، ثم توجهوا إليّ «، لقد كان بينكم، وأنت من هربته، قل أين هو..
لقد أخذته يوم الخميس على متن الدراجة النارية، قل لنا أين أخذته» وسرعان ما بدأ أحدهم ينهال عليّ بالضرب بعقب رشاشته، كان عمري وقتها 16 عاما ولا أعرف ماذا يجري، بعد ذلك بدأوا في عزل كل واحد منّا على حدة، واستنطاقه بكل الوسائل، بالكلام المعسول، بالتهديد، بالضرب، بالكلام الفاحش، فتشوا جميع الأمكنة، بل إنهم أحاطوا بدولاب قديم كنا نضع فيه أشياءنا ووجهوا نحوه الرشاشات، اعتبروا أن هناك ممرا تحته في البرنوصي، عندما لم يجدوا شيئا، لم ينصرفوا، بل مكثوا معنا طيلة ثلاثة أيام (الجمعة، السبت، الأحد) – مكث معنا ثلاثة مسلحين بينما انصرف تسعة.
وفي الوقت الذي أجبروني فيه على عدم الخروج، كانوا هم الذين يقومون بأخذ الخبز إلى الفران وشراء المواد الغذائية وكل ما نحتاجه، كنا محتجزين في بيتنا، بل أكثر من ذلك، عندما كان يزورنا بعض الناس، كانوا يدخلونهم إلى أحد البيوت ويستنطقونهم لمعرفة مكان عمر دهكون.
حين كانت والدتنا ر حمها الله تسألهم عن مصير عبد الله وابراهيم المختطفين، كان يقول لها المدعو «الحاج الشريف»: «ألله آلوالدة، ولادك راهم مع أولادي مبرعين وفرحانين مع راسهم في الفيلا ديالي» في اليوم الثالث غادروا البيت، عندها عاد عبد الله وابراهيم إلى البيت ليلا..»
ما من شك أن الشهيد دهكون كان يعلم بأن تخفيه ومطادرته سوف يجني على أهله ومعارفه ويلات العسف والاضطهاد، لكنه أيضا كان يدري أن تلك ضريبة لابد من دفعها، وواصل عمله السري، وتوسيع الدائرة التنظيمية بقدرة على التخفي والعمل الدؤوب تثير الدهشة، وظل على اتصال بكل معارفه وأصدقائه ومن تربطهم بعائلته علاقات مودة أو نضال مشترك، كما هو حال عائلة أزغار، وقد حكت لنا جميعة أزغار عن هذه العلاقة ومتانتها عدة تفاصيل، بدأت من الطفولة:
«كان عمر دهكون رحمه الله يتردد على بيتنا لأنه كان صديق أخي محمد أزغار في الدراسة حيث كانا يتابعان دراستهما في مدينة سلا وفي نهاية الأسبوع والعطل يرافق أخي الى البيت، هكذا كانت معرفتي به، لتتطور هذه العلاقة وتصبح عائلية حيث تعرفنا على عائلته وتعرفت هي علينا وأصبحت بيننا علاقة جد حميمية،
عمر رحمه الله كان له 6 اخوان وأخت واحدة وهي خديجة، مازالت تجمعني بها وبأختي الحاجة زهرة علاقة كبيرة المهم أصبح عمر كأحد أفراد العائلة وظل يتردد على بيتنا كالعادة، الى أن سمعنا بمحاكمة مراكش وأن عمر حكم عليه غيابيا بعقوبة حبسية، منذ سماع الحكم لم نعد نراه حيث اختفى مدة تزيد عن السنة والنصف، توفيت خلالها والدتي، بعدها فاجأنا بزيارة حيث قدم لنا التعازي واقترح علينا أن نقيم ذكرى والدتي لأنها لم تكن امرأة عادية بل قدمت تضحيات من أجل الوطن لذا يجب أن تظل في ذاكرة كل النساء، كان إذاك مبحوثا عنه كما تعلمون وكانت الاعتقالات تطال كل من له صلة به، ظل يتردد على بيتنا بشكل عادي، انتبه الى أني انقطعت عن الدراسة وأصبحت أشتغل بالخياطة في البيت، فاقترح علي أن أشتغل في مكان أضمن فيه دخلا قارا، وبالفعل توسط لي عند أحد الأطباء الذي شغلني في مصحته، عمر لم يكن أبدا ضد النظام، بل ضد بعض المفسدين الذين يخربون البلاد حسب تعبيره، لما كنا نستفسره عن مشكلته مع الدولة حين علمنا بها، المدهش حقا أن عمر كان يعيش بشكل طبيعي رغم حملات البحث الجارية في شأنه في كل ربوع الوطن، فقد كان يخرج بشكل عادي، ويذهب قرب الكوميسارية بالحي المحمدي حيث محطة الحافلات ويركب من هناك بشكل عادي، كان كذلك يهتم بهندامه ويحافظ على أناقته وكأن لاشيء يحدث، لم نلاحظ أبدا أن الخوف انتابه أو أنه منزعج من البحث الذي يلاحقه.».
في دجنبر 69، كان عمر دهكون عائدا الى سلا في سيارة أجرة، أخبره صاحبها الذي كان على علاقة مع أحد أفراد الخلايا السرية بأن الشرطة تبحث عنه لهذا تفادى التوجه الى المكان المعتاد الذي يرتاده دائما، بحي الكمري، فتوجه الى بيت عثمان اليعقوبي الذي استضافه دون العلم بحقيقة ممارساته، وعن تلك الفترة يقول أحد المناضلين الذين كانوا على اتصال بعمر دهكون رحمه الله، وهو الروداني محمد «دخلت داري في الأسبوع الأول من شهر فبراير 1970 ـ ولم يمر آنذاك سوى شهر على بداية مطاردة عمر ـ فوجدت بها عمر دهكون رفقة عثمان»، فأخبره عمر بأن الشرطة تبحث عنه لأنه «شارك في اضرابات الطلبة» وطلب الاختفاء عندهم بضعة أيام قبل التوجه الى الدار البيضاء، وفعلا مكث في البيت أسبوعا تقريبا حدث خلالها الحاضرين في شؤون البلاد ودعاهم الى الانضمام الى حزب الاتحاد وقبل ثلاثة أيام من حلول عيد الأضحى، في تلك السنة (1970)، طلب عمر من رفيقه الوازي الحسين، أن يأتيه بجلباب وحذاء ونقاب نسويين قصد التنكر، وبعد أن أتم لباسه خرج بمعية رفيقه قصد مرافقته الى البيضاء، وعندما وصلها سلم بطاقة تعريفه وجواز سفره المزورين الى صاحبه وطلب منه تسليمه الى الوازي الذي ظل بسلا.
ولما وصل الى البيضاء اتصل بالمرحوم الوالوسي بن بلا وقد ذكر عمر في محاكمته سنة 1973 «لقد قضيت عند الوالوسي أربعة أيام» وفي تلك الأثناء أرسل بن بلا الى محمد عواد المشرف على خلية شيخ العرب الأولى، الذي أخبره بأن دهكون يريده، وكان ذلك قصد الاقامة في البيت والتي دامت يومين على حد قول الشهيد عمر دهكون، «ولما أدركت الصعوبات التي كنت أسببها لهم جميعا ـ يقول دهكون أمام المحكمة ـ التجأت الى الزاوية في مقبرة بن امسيك، حيث اخترتها كمقام لسكناي الى غاية 1971».
يتبع