المستشار بهاء المري - قضية مأمور البداري (سنة 1932) حكم نقض يَستقيل له وزير العدل، وتُقال بعده الحكومة

البَداري مركز من مراكز محافظة أسيوط، يقع في أقصى جنوب المحافظة على الضفة الشرقية للنيل، على بُعد 40 كيلو متر من مدينة أسيوط.
وخلال فترة وقوع هذا الحادث كانت مصر تعيش قلاقل سياسية، حيث ألغى الملك فؤاد ورئيس حكومته إسماعيل صدقي باشا دستور 1923، ووضعوا بدلاً منه دستورًا يؤسس للاستبداد، وبدأت الحكومة في إصدار القوانين المقيدة للحريات، وملاحقة المعارضين.
أدت هذه السياسة إلى إطلاق يد الشرطة في التنكيل بالمعارضين السياسيين وامتداد هذا الأسلوب إلى التعامل مع المواطنين، فأصبحت إهانة الكرامة والتعذيب أسلوبًا معتادًا في أقسام الشرطة.
ومن ضمن هذه الوقائع ما حدث في مركز البداري من قيام المأمور يوسف الشافعي بتعذيب اثنين من المواطنين بصفة يومية في ديوان القسم، من خلال التعدي بالضرب، وقص الشارب، والربط في مَحل الخيل، والإلجام بحبل من الليف كالبهائم، والإجبار على التَّسمِّي بأسماء النساء، بل وإيلاج العِصِىّْ في الدبر، الأمر الذي أدى بهما إلى عقد العزم على قتله، وكمنوا له في طريق عودته وأطلقا عليه أعيرة نارية أدت إلى إزهاق روحة وإصابة مرافقه فهيم أفندي نصيف مفتش الري.
"وقع الحادث في وقت كان الرأي العام فيه مُهيأً للاشتعال لأي سبب من الأسباب، ومن ثم فقد وجد خصوم الحكومة ضالتهم في هذا الحادث، وجعلوا منه قضية رأي عام، وأثاروا بموجبه القلاقل، أخذًا بمنطق إحراج الدولة وإرباكها.
- صورة القرية قبل الحادث:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
كانت "قرية البداري، قرية كبيرة ذات وضع خاص، يَتقاسم السلطة والنفوذ فيها عُمدتان، على خلاف ما يجري في كثير من قُرى مصر، كل عُمدة يحاول أن يقضي على نفوذ الآخر ويتغلب عليه لينفرد هو بالسلطة.
وإلى جانب العمدتين توجد أسرة كبيرة لا تقل في النفوذ والعَصبية وكثرة الرجال عن أسرتي العمدتين، (هي أسرة حسين عبد الحق) على رأس هذه الأسرة شيخ وقور جاوز المائة من عُمره له حفيد في الثالثة والعشرين من عُمره، درس عامين في مدرسة الفنون والصنائع بالقاهرة، كان فيها مَثلاً للاستقامة، وعندما لاحت له فرصة العمل في وظيفة معينة في بلدته تَقدم إليها، وفاز بها لأنه يُفضل الإقامة في بلدته وبين ذويه.
واتخذ أحمد جعيدي - وهذا هو اسمه - بعد عودته إلى قريته من صديقه حسن أبو عاشور صديقًا حميمًا لا يفترقان إلا في ساعات النوم، وقد كانت تلك الصداقة سببًا في أنهما أصبحا شريكين في جريمة مَقتل مأمور البداري، يوسف الشافعي، ويوسف الشافعي هذا كان ابنًا مدللاً لأحد عُمَد الدقهلية، ولأن أمّه فرنسية فقد كانوا يُطلقون عليه "جوزيف" وعندما كان مأمورًا للبداري بدأت الأحداث الخطيرة تتلاحق(1).
تقول جريدة "المُصور" فيما نَشرته عن حادث البداري وقد ذهب أحد مندوبيها إلى هناك ورأى بعينه:
العمُدية عمدتان لا عمدة، عمدتان مختلفان في كل شيء تقريبًا ويَجتمعان على شيءٍ واحد: يجب ألا تقوم لأسرة حسين عبد الحق الكبيرة العدد، الكثيرة الرجال قائمة، لأنها تُهدد مركز أحد العمدتين وتشرئب بعُنقها إلى "العُمدية" واتفق العمدتان في أمر ثانٍ: التقرب من الحكومة، والحكومة في المركز، سعادة المأمور.
- الشاب جعيدي يَتصدى للظلم:
هبط أحمد جعيدي الذي ينتمي إلى أسرة عبد الحق بلدته البداري، فرأى وهو الفتى المُتعلم، أنَّ أهله يُسامون ألوانًا من الإرهاق لا سند لها ولا مُبرر، وأنهم يَلقون من بعض الجهات عَنتًا وشدة، فوقف في وجه الإرهاب والعَنت ليُبين أنْ لا سببَ لهما ولا مُبرر، ويقول: إنَّ لأهله أن يرفضوا الذل وأن يجأروا بالشكوى كحق كل مواطن يتمتع بحقوق الحرية في هذا الوطن.
وهنا بدأ النضال: فتًي يرتفع بأسرته عن قبول الضَيم، وجهة ترى أنَّ هذا الفتى يُريد تفتيح الآذان والعيون إلى ما هو حق وما هو باطل، وإلى ما يجب ألا يكون.
- تلفيق اتهام لجعيدي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
امتدت الإصبع الخفية إلى أحمد جعيدي تتناوله بالاتهام في إحدى الجرائم وتقول إنه قتل رجلاً، وإنَّ ثياب الرجل مدفونة وهي مُلطخة بالدماء على مَقربة من بيت جعيدي، وتَعثُر الشرطة على الملابس الُملطخة بالدماء، ويقودون أحمد جعيدي إلى التحقيق والسِجن، ثم يعود القتيل المزعوم حيًا يَسعى على قدميه بعد أنْ أضحى أحمد جعيدي في عِداد المشبوهين، وتهمة ثانية، واتهام ثالث، وإذا بالفتى قد غدا مشبوهًا ومُراقبًا ومَعدودًا من الخَطرين على الأمن العام.
ولكن جعيدي لم يَسكت على ذلك، فبادَر برفع شكايته ومَظلمته إلى وزارة الداخلية وإلى مديرية أسيوط يشكو العمدة الشيخ همَّام والمأمور يوسف أفندي الشافعي، ويحتج على عدِّهما إياه مشبوهًا، واتخاذهما ضده قرارات المُراقَبين الخطرين على الأمن العام من دون أن يقترف أية هفوة.
- اضطهاد صديق جعيدي:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وجاء دور الصديق حسن عاشور، صديق جعيدي الحميم فلقي ما لقيه الفتى من إنذارات ومراقبة وشُبهة وإرهاق، وشكا الشابان فأحيلت الشكوى إلى المديرية، ومن ذا الذي يجرؤ في الريف على شكوى سعادة المأمور، بل ينسب إليه من صنوف المخالفات، والخروج بالقسوة الفظيعة عن حدود القانون.
واستمر النضال وحمي وطيسه، يُودَع جعيدي وعاشور السجن لتهمة ما، فلا يكادان يَخرجان حتى يُقدما الشكاوى ضد العمدة والمأمور، فيعود الشابان إلى السجن، وأحيلت الشكاوى إلى المأمور فكان امتهان الرجولة في جسد هذين المنكودين، وكان تنكيل وحشي وصَفته محطمة النقض بأنه "إجرام في إجرام" ويخرج الشابان من السجن يمزقهما الألم، وتُخزيهما الفضيحة، ألم يقولا تحت لهب السياط ومرارة التنكيل "أنا مَرَة"؟ ألم تمُتهن رجولتهما؟ ويُعبَث بجسديهما؟ ألم يُساما خَسفًا فيه إذلال الروح والجسد والإنسانية؟
- وقوع الحادث:
ـــــــــــــــــــــــ
ذهب يوسف أفندي الشافعي مأمور مركز البداري في مساء يوم 19 مارس 1932 إلى زيارة صديقه فهيم أفندي ناصف مهندس الري، وخرج الرجلان معًا وسارا يتجاذبان أطراف الحديث إلى أن بلغا دار المدرسة الابتدائية بالبداري، فما كادا يقتربان من بابها حتى سمعا دَويّ إطلاق الرصاص، وسقط المأمور جثة هامدة بلا حراك وحَقت اللعنة على البداري.
لم تمض ساعات على نقل جثة المأمور القتيل حتى نادي مُنادٍ في البلدة بالويل والثُبور، اكتسح رجال الهجَّانة الشوارع والطرقات يزيحون من يعترض سبيلهم بضربات السياط، وحاصر حكمدار بوليس أسيوط البلدة بجنوده ثم كان الهجوم.
- تعذيب آل جعيدي من أجل الاعتراف:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
أسرعت قوة من الهجانة إلى دار جعيدي فأمسكوا به وشدوا وَثاقه إلى الخَيل، وساقوه إلى المركز تحت وابل لا ينقطع من وقع السياط، وحُمل صديقه عاشور من فراشه حملاً، وحاصرت قوة أخرى دار العمدة محمد بك وسيق بدوره إلى التحقيق.
وصدر الأمر إلى الهجانة فإذا بهم يُحيطون ببيت آل جعيدي ويأمرونهم بالنزول إلى المركز، فنزل الجد المُحطم، والأب، والأبناء، والأعمام وهموا بالسير، ولكن الهجانة تساءلوا عن بقية آل البيت فأُجيبوا بأنه لم يَبقَ إلا النساء، وأُنزلت النساء بدورهن وساقهن الهجانة مع الرجال إلى دار المركز، فكانت الإهانة البالغة التي لا يَرى الصعيدي أبلغ منها، حريمه يُسقن علنًا في الأسواق وكانت قوة أخرى من الهجانة تمثل نفس الدور لدى بيت عاشور، ولبثوا على هذه الحالة الرهيبة أيامًا.
- تجريد النساء من ملابسهن وربطهن بالحبال:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
لمَّا لم يقع الاعتراف المنشود، استعرض الحكمدار المحبوسين وأخرج من بينهم أحمد وعاشور، وأعاد عليهما السؤال فأنكرا الاتهام، فكانت منه إشارة، فانقض الجنود على أثرها على أم أحمد، وأم عاشور، وخلعوا ملابسهما حتى أصبحتا عاريتين، وأخذ الجنود يطلون وجهي المرأتين بمادة بيضاء، ونادى مناد بأنَّ جميع نسوة الأسرتين سوف يُسقن عاريات في الأسواق مُلطخات الوجوه مربوطات في الحبال، وواصل الجنود خلع الثياب عن النساء فأطبق والد أحمد في رقبة ابنه يَطلب إليه أنْ يعترف فورًا سترًا لهذه الفضيحة التي لا تمحوها السنون.
وصاح أحمد إذ رأى أمّه عارية أمام الرجال، وصاحَ صديقه عندما رأى أمّه وأخواته عاريات أمام الرجال، صاحَا معًا يقولان: نعترف، دَعوا النساء، وافعلوا بنا ما تشاءون، واعترف الشابان.
- متى فكر جعيدي في القتل:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
ويضيف جنيدي: كنا ستة وثلاثين شابًا وضعهم مأمور البداري في السجن جعلهم مشبوهين لا يغادرون السجن إلا ليدخلوا إليه من جديد، كان من بينهم صديقي حسن، وكان هؤلاء هم الذين وجدوا أنه لا سبيل لإنقاذ أبناء البداري إلا بالتخلص من هذا المأمور، وأقسمنا جميعًا على المصحف، ولكنني رأيت أن أقوم أنا وحسن وحدنا بالمهمة ليكون لنا شرف غسل العار بالتخلص من المأمور المستبد، وأعددنا بندقيتين، واحدة خرطوش حتى لا تخطئ الهدف، والأخرى "أرمنتوه" حملت الأولى وحمل حسونة الثانية ورحنا نراقبه كل يوم حتى عرفنا كل شيء عن عاداته، كان يزاول هوايته في المشي ساعة الغروب هو ومهندس الري، وكان لا يصطحب معه حرسًا كثيرًا إمعانًا في التحدي والغرور، وذات مساء أدينا مهمتنا.
أطلقتُ رصاصة إلى قلبه، وأنا أقول: خُذها يا ظالم، وأصيب هو والمهندس صديقه، وذهبنا إليه لنتأكد من موته، أشفقنا على المهندس فتركناه حيًا لأنه لم يكن له ذنب، واتجه كل منا إلى بيته، اغتسلنا، جلسنا كل منا يتناول عشاءه في هدوء، فقد انزاح الكابوس، وزال رمز الطغيان، تنفس الجميع الصعداء، هبت علينا نسمات الحرية.
وانتشر الخبر بسرعة البرق: المأمور مات، المأمور قُتل، وانطلقت الحكومة كالأسد الهائج، الذي لا يجد من يفترسه، قبضت على كل أعيان البلد وشبابها، وكان أول أل 36 شابًا الذين أطلق عليهم وصف "المشبوهين".
- جعيدي يصف إجرام المأمور:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
عن مأمور مركز البداري يقول أحمد جعيدي: كان إنسانًا غريبًا، متجردًا من كل رحمة، بل من كل عاطفة، كان أشبه بقراقوش لا يطيق أن يرى إنسانًا سعيدًا، كان إذا رأى - مثلاَ - رجلاً يرتدي ملابس أنيقة أمر عساكره بإحضاره إلى المركز ليُمزقوا أمام عينيه تلك الملابس، كان يتلذذ من رؤية الناس وهم يتعذبون بأيدي رجاله، وفي حالات كثيرة كان بعض من يقوم بتعذيبهم يموتون، فيلقي بجثثهم بعيدًا عن القرية حيث يذهب أهاليهم لحمل تلك الجثث ودفنها.
وكان يقف في الطرق العامة أمام العربات التي تسافر من البداري حاملة المواطنين الذين يريدون السفر خارج البلدة لقضاء حوائجهم فيأمر بعودة تلك العربات حتى لا يجدوا ما يقتاتون به.
وفي السجن كان يقوم هو ورجاله بالكثير من الأفعال الفاضحة التي تهدر إنسانية المسجونين وآدميتهم، وبعد تلك "الأفعال الفاضحة" كان يأمرهم بالاستحمام ببول الخيول، وكان يمنع عنهم الطعام والشراب، ويأمر كل واحد منهم بأن يصيح بأعلى صوته "أنا مَرَة".
- حكم محكمة جنايات أسيوط:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تقدم الشهود يدلون بأقوالهم، وتم التحقيق وقدمت القضية إلى محكمة جنايات أسيوط، بوصف القتل العمد مع سبق الإصرار والترصد، فقضت بمعاقبة المتهم الأول بالإعدام، والآخر بالأشغال الشاقة المؤبدة.
- استدلال محكمة جنايات أسيوط على سَبق الإصرار يؤدي إلى نَفيه:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
قالت محكمة جنايات أسيوط عن ظرف سبق الإصرار الموجب للحكم بالإعدام، إنه واضح من الضغينة التي يحملها المتهمان للقتيل بسبب إنذارهما مشبوهين، وإمعانه في تشديد المراقبة عليهما، ومعاملتهما بالشدة فكان يربطهما من رجليهما في محل الخيل، ويُضربا ويُهانا إهانة كثيرة، مما أذكى حفيظتهما ضدّ القتيل؛ فصمما على التربص له وقتله". وهي أسباب لا تؤدي إلى التفكير الهادئ المتروي الذي هو سبق الإصرار!
بل قالت المحكمة "إنَّ القتيل كان يؤدّي واجبًا بمطاردته هذين الشقيَّين اللذين عاثا في الأرض فسادًا، فإقدام هذا الآثم على قتله؛ مما يدعو المحكمة إلى أخذه بالشدّة بدون رحمة ولا شفقة، وإن القصاص هو الجزاء الأوفى".
وبعد ذلك أحالت الأوراق للمفتي ثم حكمت على الطاعن بالإعدام وعلى زميله الطاعن الثاني بالأشغال الشاقة المؤبدة".
- الطعن بالنقض:
ـــــــــــــــــــــــــ
طعن المتهمان بالنقض على حكم محكمة جنايات أسيوط، كان رئيس الجلسة هو القاضي الأديب عبد العزيز باشا فهمي رئيس محكمة النقض، الذي سَطر بحروف من نُور أحد أهم وأخلد أحكام القضاء المصري، وإحدى الدرر الأدبية القضائية، والذي اشتهر بـ (حكم مأمور البداري).
- حكم محكمة النقض: (2).
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تَبينت محكمة النقض بجلاء، أنَّ جريمة القتل كان سببها ما قام به المأمور من تعذيب قاتليه وهتك عِرضهما، فأصدرت حكما خطيرًا، برئاسة عبد العزيز فهمي باشا قالت فيه:
(إنَّ الحكم الصادر بالإعدام قد جاء مُجحفًا، وإنَّ ما قام به المأمور هو إجرام في إجرام، وشٌذوذ وليس أداء لواجب، بل من أشدّ المَخازي إثارة للنفس واهتياجًا لها ودفعًا بها إلى الانتقام، وأنَّ هذه المعاملة كان مِن وقائعها ما هو جناية هتك عِرض يعاقب عليها القانون.
ولما كان الطاعنان يتخوّفان من تكرار ارتكاب أمثال هذه المُنكرات في حقهما، فلا شك أنَّ مثلهما الذي أوذِي واهتيج ظلمًا وطغيانًا والذي يَنتظر أن يتجدّد إيقاع هذا الأذى الفظيع به، لا شك أنه إذا اتجهت نفسه إلى قتل مُعذِّبهِ؛ فإنها تتجه إلى هذا الجُّرم مَوتورةً مما كان، مُنزعجةً واجمةً مما سيكون، والنفس الموتورة المنزعجة هي نفسٌ هائجةُ أبداً لا يدَع انزعاجها سبيلاً لها إلى التبصر والسكون؛ حتى يُحكِّم العقل - هادئا متزنًا متروّيًا - فيما تتجه إليه الإرادة من الأغراض الإجرامية التي تتخيلها قاطعة لشقائها، ولا شك بناء على هذا؛ أنْ لا محلَّ للقول بسبق الإصرار، إذ هذا الظرف يستلزم أن يكون لدى الجاني من الفرصة ما يسمح له بالتروّي والتفكير المطمئن فيما هو مُقدم عليه.
- أفعال المأمور شاذة شذوذا إجراميا فظيعا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وأضافت المحكمة: إن المأمور المجني عليه أتى في معاملة الطاعنين بضروب من المُنكرات، كربطهما في زرائب الخيل، وقص شواربهما، ووضع لُجَم من الليف في فيهما، وإدخال العِصىّ في دبرهما، تلك المنكرات التي تدل على أنَّ هذا المأمور كان قاسيًا في معاملته لهما قسوة خارجة عن حدّ القانون، بل شاذًا فيها شذوذًا إجراميًا فظيعًا.
- المحكمة تريح ضميرها بكلمة للتاريخ، وتأسف لحكم أول درجة:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وتضيف محكمة النقض قائلة: إنها وإنْ ترى أنَّ محكمة الموضوع قد عَللت شدتها في الحكم تعليلاً مَعكوسًا يقتضي بذاته الرأفة لا الشدّة، إلا أنها من الوجهة القانونية لا تستطيع إلا احترام هذا الحكم ولا تجرؤ على المساس به (بسبب توافر ظرف الترصد وهو كاف للحكم بالإعدام).
لكنها من وجهة العدل والإنصاف، تجد من الواجب عليها إراحة لضمائر أعضائها، أنْ تلفت نظر أولي الأمر إلى وجوب تلافي هذا الخطأ القضائي الذي لا حيلة قانونية لها فيه، ولو كان الأمر بيدها، وكانت هي التي تُقدّر العقوبة لَما وَسِعها أنْ تعاقب الطاعنَين كليهما بمثل تلك الشدّة، بل لعامَلتهما بما توجبه ظروف الدعوى من الرأفة والتخفيف.
وحيث إنه لجميع ما تقدم، لا ترى هذه المحكمة في احترامها للقانون سِوى رفض الطعن على مَضض!!
- أسباب حكم النقض تزلزل مصر:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
تثور مصر كلها لدى صدور ذلك الحكم، حتى مجلس النواب الذي شَكلت أغلبيته حكومة إسماعيل صدقي يَغضب ويثور، ويُقدم بعض أعضائه أكثر من استجواب، وتُحرَج الحكومة.
صار الهُجوم ضاريًا على المأمور وسياسة الشرطة في التعامل مع السياسيين والمواطنين، ولم يكن هذا الهجوم بالقطع لوجه الله الكريم، ولا الصالح العام، وإنما لمصالح شخصية بَحتة، يبتغيها كل طرف بغض النظر عن مصلحة البلاد.
وإذا بأحد أقطاب النظام - علي ماهر - وكان وزيرًا للحقانية لا يَملك بعد أنْ أصدرت محكمة النقض والإبرام حُكمها الخطير والرهيب، لا يَملك إلا أن يتقدم ببضعة مَطالب لمُعالجة الآثار السيئة للحادث، فلما رفضتها الحكومة أو رفضت بعضها استقال، واستقال معه زملائه الأمر الذي دفع رئيس الحكومة صدقي باشا إلى أن يرفع استقالة الحكومة كلها، ويُعيد تأليفها من جديد(3).
- أنصار الحكومة يُهونون من شأن الحادث:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
راح أنصار إسماعيل صدقي يُهونون من شأن حادثة البداري، وأنها ليست إلا واحدة من حوادث "التعذيب الإداري" التي يلجأ إليها رجال الإدارة في كل عصر وزمان لتدعيم الأمن واستتباب النظام وحفظ هيبة الحكومة من عبث العابثين ومروق الخارجين على سلطان القانون.
- استغلال الحكم سياسيا:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
يقول الدكتور يونان لبيب رزق: كان الجو السياسي مُهيئًا لردود الفعل التي نتجت عن حكم محكمة النقض، ولو كانت الظروف عادية لأمكن النظر إلى هذه الواقعة بحسبانها حادث بين رجل إدارة غالَى في قسوته وبين مُشتبه فيه ذهب بعيدًا في انتقامه، غير أنَّ الجو السياسي العام كان يقود إلى غير ذلك.
- حزب الوفد:
ـــــــــــــــــــ
فمن ناحية كان حزب الوفد قد فترت معارضته لحكومة صدقي من جرَّاء الانقسام الذي عرفه خلال تلك الفترة بين أغلبية مؤيدة لفكرة الحكومة القومية‏،‏ وأقلية تضم مصطفي النحاس باشا‏ ومعه سكرتير عام الحزب مكرم عبيد‏،‏ ترفض الفكرة‏ حتى انقسم الحزب، ولما استرد عافيته وكان مُتشوقًا لمعركة تؤكد عودته لحالة المقاومة التي التزم بها ضد حكومة صدقي، قدَّمت له حادثة البداري المَيدان المطلوب لهذه المعركة‏.‏
ومن ناحية أخري، فإنَّ الحزب الكبير الآخر‏، الأحرار الدستوريين‏، الذي كان قد ائتلف مع الوفد في مقاومة عهد الوزارة الصدقية‏،‏ قد خرج عن هذا الائتلاف مع فكرة الحكومة القومية‏،‏ غير أنه ما لبث أن خاب أمله وعاد إلى صفوف المعارضة،‏ وكان بدوره في حاجة إلى مناسبة ليؤكد على موقفه من الحكومة المَلكية.
ولذلك نجد جريدة الأهرام تنشر في عددها الصادر في أول يناير عام‏1933‏بيانًا طويلا تحت عنوان (من الوفد المصري إلي الأمة المصرية الكريمة‏) دار حول سياسات حكومة صدقي عمومًا‏، وإن كان قد خصص جانبًا كبيرا لحادثة البداري كان مما جاء فيه:
‏"أيها المصريون، إنَّ تلك الروح الخبيثة التي كشفت عنها حادثة البداري والتي أفضت إلي الفوضَى، وما هو شر من الفوضى، فجعلت محكمة النقض تلتمس العذر للناس إذا ما انتقموا لأنفسهم وبأنفسهم‏، تلك الروح إنما هي ظاهرة من مظاهر الاستبداد المضروب علي أعناقكم، ولقد رأيتم كيف عاد عهد الكرباج لتحصيل الأموال الأميرية، في الوقت الذي أجدبت فيه أراضيكم، واشتدت بفعل الوزارة الضائقة المالية، فأكلت ما بقي لكم من زرع وضرع‏، وذهبت الأموال المجلوبة من عَرق جبينكم إلي خزائن المستعمرين وشركائهم، وَمن إليهم من الأعوان والمناصرين‏".‏
- حزب الأحرار الدستوريين:
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ،
ولم يتخلف حزب الأحرار الدستوريين‏ عن استغلال الحادث فنشر في جريدته يقول: "واليوم يحق لنا أن نتساءل‏:‏ أمأساةٌ مسألة البداري أم مَهزلة‏، فهي في حكم محكمة الجنايات وفي حكم محكمة النقض مأساة، يقف لها شعر الرأس، وتضطرب من هولها القلوب والأفئدة‏، وهي في بيان وزير الحقانية مسألة تافهة لا تزيد علي أن أحد المحكوم عليهم ضُرب في فبراير‏1932‏ ضربًا لم يترك أكثر من كدم في عينيه‏،‏ ورُبط بحبل في مَربط الخيل إرهابًا لغيره من المشبوهين، فأي الأمرين أصدق؟‏!‏ هل نبتسم علي أنها مهزلة تافهة يقع من مثلها كثير‏؟!‏ أم تضطرب نفوسنا لأنها مأساة أهينت فيها الكرامة الإنسانية، وأهين فيها العدل والقانون شر إهانة‏؟!‏
فضلاً عن ذلك فإنَّ الحكومة نفسها قد عرفت نوعًا من الانقسام‏، إذ بينما كان رئيس الوزراء ومعه أغلبهم يقفون على جانب، كان عليّ ماهر‏ وزير الحقانية‏ يسانده عبد الفتاح يحيي باشا الذي كان يتطلع إلى رئاسة الوزارة يقفان في الجانب الآخر‏,‏ ومرة أخري قَدمت حادثة البداري المَيدان المناسب لتفجير المشاكل الكامنة بين الوزراء‏.‏
فكان أول ما فعله وزير الحقانية أنْ أمر بمعاملة الجناة معاملة المسجونين العاديين،‏‏ وبناء علي ذلك نُزعت الأغلال التي كانا مُقيَدين بها‏، كما خُلعت الملابس الحمراء التي يرتديها المحكوم عليه بالإعدام عادة بعد الحكم عليه‏، ثم اتفق بعد ذلك مع وزير الداخلية علي أن تَشرع النيابة في التحقيق مع رجال الإدارة في المركز الذين رُفعت فيه الشكاوى ضدهم بتهمة التعذيب، خاصة وأن الشيخ أحمد جعيدي والد المحكوم بإعدامه، قد تقدم بشكوي إلي النيابة يتهم فيها الإدارة في مركز البداري ‏باضطهاد ولده الأكبر‏، وهو شقيق المحكوم بإعدامه فأنذره البوليس كمتشرد وأمره أن يَبيت كل ليلة في المركز‏. ‏
وكشفت التحقيقات عن الوجه السياسي من الحادثة، والتي بدأت بسبب الخصومة بين آل جعيدي وبين آل همَّام بسبب العُمدية، ويبدو أن الأخيرين كانوا مناصرين للحكومة الصدقية مما نتج عنه تعيين عمدة منهم على جزء من البداري، فبدأت الشرطة في اضطهاد أفراد من آل جعيدي‏‏ وفي مقدمتهم المحكوم بإعدامه، فلفقت إليهم تهم السرقة وغيرها، وأثناء ذلك وقعت الحوادث المنسوبة إلي مأمور البداري وإلى آخرين من رجال الإدارة‏.
وبدت الأزمة الوزارية التي تسببت فيها القضية بعد أن تقدم نائبان في مجلس النواب عبد الرحمن البيلي، وإبراهيم زكي، بسؤال لوزير الحقانية عن النتائج التي ترتبت على التحقيقات، وكان من المتوقع أن يُلقي الوزير بيانًا يُبرئ فيه ساحة رجال الإدارة أو على الأقل يُخفف من مسئوليتهم وهو ما لم يفعله علي ماهر.
ولكنه قال في بيانه: "إنه مهما يُقال من صِحة رأي محكمة الجنايات، ومن أنَّ حكمها مجرد قصور عن إبراز اعتقادها وتصوير مُرادها، فلا شك أنَّ الأذهان يبقي فيها أيضا شبهة أنَّ هذا التحقيق ربما لم يصل إلي كشف الواقع علي حقيقته‏، وأنَّ مجرد قيام تلك الشبهة، يُلقي غشاوة علي عدالة الحكم من جهة تقديره للعقوبة، ولا يجعل النفس مطمئنة تمام الاطمئنان، إلا إذا خففت في حق المحكوم عليهما، فبالنسبة لجعيدي لأن عقوبته هي الإعدام، ومتي نُفذت استحال الرجوع فيها، وبالنسبة لحسن عاشور فقد ظهر حدوث اعتداء عليه قبل ارتكابه الجريمة‏"(4).
- أمر ملكي بتخفيف الحكم:
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وفى هذه الظروف صدر أمر ملكي بتخفيف الحكم علي جعيدي من الإعدام إلى الأشغال الشاقة المؤبدة، وتخفيف العقوبة علي حسن عاشور من الأشغال الشاقة المؤبدة إلى الأشغال الشاقة لمدة خمسة عشر عامًا‏،‏ وهو ما بدا استجابة لحكم محكمة النقض والإبرام‏، وفى ذات الوقت للتخفيف من بيان على ماهر.
ثم قدَّم صدقي باشا استقالته وعزاها إلى ما أصاب الوزارة من وهَن‏ مما ترتب عليه استعصاء قيامه بواجبه الوطني، وأعقب ذلك إعادة تأليف الوزارة بعد إخراج كل من علي ماهر وعبد الفتاح يحيى منها‏.‏
والصفحة الأخيرة من القضية كتبها صدقي باشا نفسه عندما ألقي في اليوم التالي لتأليف الوزارة بيانًا في مجلس النواب، نفي فيه ما جاء في بيان علي باشا ماهر من أن الوزارة قد طلبت منه تغيير شيء في إجابته، أو أنه حِيلَ بينه وبين إلقاء الرد الذي كان قد أعده‏.‏
وكانت قضية مركز البداري ليلة‏ 19‏ مارس عام ‏1932‏ قد أضعفت أحد جبابرة السياسة المصرية‏ إسماعيل صدقي باشا‏،‏ مما كان إيذانًا بسقوطه النهائي بعد أقل من تسعة شهور‏، ومن ثم فقد نالت من الحكومة، بَيْدَ أنها لم تستطيع النَيل من القضاء، ذلك أنه غير ذي مصلحة على الدوام، ولا يعُلى سوى شأن العدل والتطبيق المجرد للقانون بغض النظر عما يُمكن أن يثيره المُغرضون من زوابع لا شك أنَّ غُبارها يَتبدد أمام نقاء سريرته.
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
- الهوامش:
(1) صبري أبو المجد: سنوات ما قبل الثورة، الهيئة العامة للكتاب 1987 الجزء الأول صـ 159 وما بعدها.
(2) الطعن رقم 2421 لسنة 2 ق جلسة 5/12/1932 مكتب فني السنة 31 صـ 45.
(3) صبري أبو المجد: سنوات ما قبل الثورة، نفسه، صـ 158.
(4) د. يونان لبيب رزق: جريدة الأهرام حول حادثة مأمور البداري: ملفات الأهرام: السنة 127 العدد 42731
- ملاحظة: عبد العزيز فهمي باشا رئيس محكمة النقض والإبرام الذي أثار بحكمه العنيف في قضية البداري كل تلك الضجة المدوية هو أحد كبار رجالات السياسية المصرية، وأحد أبطال يوم 13 نوفمبر 1918 عندما ذهب وزميلاه، سعد زغلول باشا، وعلي شعراوي باشا إلى السير ونجت المعتمد البريطاني في مصر، طالبين الاستقلال في وقت كانت فيه كلمة الاستقلال غير واردة على الإطلاق في قاموس السياسة البريطانية، واختير عبد العزيز فهمي ليكون ثالث الزعماء الثلاثة بوصفه نقيبا للمحامين، وأحد زعماء الجمعية التشريعية التي كانت تقوم مقام البرلمان قبل الحرب العالمية الأولى صـ 172.
ويصبح بعد ثورة 1919 أحد أقطاب الثورة، وأبرز أعضاء الوفد ثم يستقيل من الوفد بعد الانقسام الذي حدث بين عدلي يكن وسعد زغلول ليأخذ جانب عدلي، ثم يصبح رئيسا لحزب الأحرار الدستوريين ويدخل الوزارة ليستقيل أثر أزمة الشيخ علي عبد الرازق وكتابه "الإسلام وأصول الحكم" ويرفض عضوية مجلس الشيوخ لأنها جاءت من قبل السراي


تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...