أمل الكردفاني- لماذا جاء المسيح؟

هو سؤال كثيراً ما طرحته على نفسي، لماذا جاء المسيح؟ إن فكرة تخليص البشرية المطروحة، غير مقنعة، لأن البشرية لم تنل خلاصها أبداً، لا بالمسيح ولا بغير المسيح، لكن الأجدر أن نفهم الفكرة من خلال البحث عن أسباب منطقية لظهور المسيح كيهودي بين اليهود (رغم أن فراس السواح شكك في كون المسيح من أحد أسباط اليهود). فالمسيح لم يكن يملك شيئاً جديداً ليقدمه لبني إسرائيل. فهم أساساً يؤمنون بوجود إله واحد، وفوق هذا لديهم كتاب مقدس، يتضمن تعاليم شاملة، بدءً من الطهارة، مروراً بالعبادات، والقيم الأخلاقية، والقوانين المنظمة للمعاملات والقواعد الجنائية. فما الجديد الذي قدمه المسيح لليهود؟ معجزات المسيح نفسهاً ليست شيئاً يذكر، فقد حصل اليهود منذ موسى على معجزات أقوى، فأذا كان المسيح يحيي الموتى، فموسى أحيا الموتى، بل أن بني إسرائيل انفسهم أماتهم الله وأحياهم مباشرة دون وسيط، وطوال تاريخ أنبياء بني إسرائيل كان لكل نبي منهم معجزته الخاصة، فبعضهم أوقف الرب له الشمس، وبعضهم جاء بالتابوت، هذا فضلاً عن شق البحر وخلافه. إذا كان المسيح له طرح أخلاقي، فاليهود ليسوا بحاجة له، إذ تعج أسفارهم بأطروحات أخلاقية وأهمها الوصايا العشر. ومنذ ظهور المسيح وحتى صلبه (وفق الرواية المسيحية)؛ فإن اليهود لم يجدوا منه ما هو جديد. بل أن قصة صلبه نفسها غامضة ولا تكشف عن مبررات منطقية، تماماً كالحكم بموت سقراط بالسم بتهم ضعيفة وغير منطقية، حتى أن المسيح نفسه أعترف بأنه لم يأتِ ليغير ناموس موسى وإنما ليتممه، وفي الواقع، لم يحدث أي تتميم لشريعة موسى، لأن المسيح لم يضع أي تشريع، بل لم يكتب حرفاً بيده. ولم تستمر دعوته سوى ثلاث سنوات فقط، بحيث ما كان بإمكانه سن تشريعات تخالف تشريعات موسى. ويبدو أن هناك طرحاً واحداً من قبل المسيح هو الذي مس اليهود مساساً مباشراً وهو الطرح الإشتراكي، ورفضه للرأسمالية، إذ كان المسيح يدخل إلى المعابد ويحطم صناديق الصيارفة، وينعت اليهود بالمرابين، وربما كان يكره التجارة بصفة عامة. كما كان يهتم بالبلوريتاريا، ويطوَّبهم، ويغسل أقدامهم، فهو يزور قاطع الطريق، ويقرب إليه إمرأة ذات ماض، وهكذا، كانت تعاليمه كلها تصب في إتجاه تزهدي، رافض للمال. إذاً، قد يكون الصراع بين اليهود والمسيح هو صراع آيدولوجي، كصراع الإتحاد السوفيتي وأمريكا إبان الحرب الباردة. لو صحَّ ذلك، فهو مبرر جيد لتآمر اليهود عليه وصلبه. إذ ظلت التجارة (المال) هي السبب الأول لمعاداة أي طرح إصلاحي، فالرسول محمد (ص)، لم يواجه بعداء أهل مكة لأنه طرح ديناً جديداً، ففي مكة نفسها كانت هنالك أديان عديدة، كالحنيفية والنصرانية، وأوثان متعددة. ولكن رأسماليي أهل مكة رأوا في الدعوة الجديدة تهديداً لإقتصاد مكة، وكانوا يتصورون أن مكانة مكة التجارية ستنهار حينما يتم تهديد مكانة اصنامهم التي يترادف إليها الحجيج من كل فج عميق، أكثر من باقي الكعبات الأخرى في الجزيرة العربية.
إذاً؛ فمن المنطقي أن المسيح ووجه بعداوة الرأسمالية اليهودية، ولكنه بغير ذلك لا مبرر لصلبه، فهو لم يأت بجديد يذكر بالنسبة لهم. وربما كان عدم وجود جديد يذكر هو الذي دفع بالمسيحيين إلى إيجاد فارق جوهري بين اليهودية والمسيحية، وهو مركزية (يسوع) نفسه. إذ أصبح يسوع (كلمة الله) وبما أنه كذلك، فيجب الإيمان به هو نفسه كأقنوم من أقانيم الرب الثلاثة. فالمسيح لو كان نبياً فقط، فلن يملك الجديد، فلليهود إلههم الواحد، وكتبهم المقدسة ومعجزاتهم...الخ كما أسلفنا. لذلك كان الحل الوحيد هو تأليه المسيح. وهكذا لا يكفي فقط الإيمان بالرب وإنما أيضاً الإيمان بالمسيح. وسنجد أن هذه المعضلة قد فرضت نفسها على الكهنة المسيحيين، الذين حاولوا تأكيد الألوهية من خلال أسفار اليهود، فضموها كبشارات بظهور المسيح إلى الكتاب المقدس المسيحي. ولكن أسفار اليهود كانت بها مشاكل خطيرة، من ضمنها أنها تضمنت تعاليم عنيفة جداً، لا تتسم بالسلمية، ففي العديد من تلك الأسفار هناك أوامر إلهية مباشرة بإرتكاب جرائم حرب وإبادات جماعية لا تطال الذكور فقط من الأعداء بل حتى الإناث والأطفال والعجزة والشيوخ والحيوانات الأليفة. في حين ينادي المسيح بأن يدير المرء خده الأيسر لمن يصفعه على خده الأيمن. كان ذلك تناقضاً خطيراً، إذ لم يستطع المسيحيون التخلص من وصمة الإرهاب، وفي نفس الوقت لا يستطيعون التخلص من ضرورة ربط المسيحية باليهودية. خاصة أن الأناجيل القانونية الأربعة ليست في الواقع سوى سيرة ذاتية لحياة المسيح مع الحِكَم التي كان يقولها لتلاميذه، فهي أشبه بصحيح البخاري والسِّيَر النبوبة عند المسلمين. ولم تتضمن أي أحكام تتعلق بالمعاملات البشرية بل ولا حتى العبادات وشكلها وأنواعها، بل على العكس تماماً لقد كان المسيح يرفض شكلانية العبادة، كالتسبيح بأعداد محددة، ويرى فيها تناقضاً بين الصلاة التي هي إتصال روحي بالله، وتلك الشكلانية التي تجعل الرب آلة حاسبة تمنح الأجر بحسب كِبر أو صِغر أعداد التعبد. مع ذلك، وبما أن المسيح لم يستن أي طقوس، فقد جاء المسيحيون واختلقوا طقوساً شكلية، فبنى بولس الكنائس، ووضع القواعد التعبدية الشكلية. مؤسساً للمسيحية اليهودية الجديدة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
ملفات تعريف الارتباط (الكوكيز) مطلوبة لاستخدام هذا الموقع. يجب عليك قبولها للاستمرار في استخدام الموقع. معرفة المزيد...